المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: ‌نماذج من القضاة

ذلك أيضا نقل قضاة الجهة الغربية، سيما معسكر وغريس وما جاورهما إلى الجهة الشرقية - قسنطينة، سطيف، تبسة، الخ .. ويحضرنا في ذلك الآن عائلة أبي طالب أبناء عم الأمير عبد القادر، وقد أصبح بعض هؤلاء أيضا من نوع محمد الشاذلي في تملق الفرنسيين، خصوصا القاضي أبا بكر بن أبي طالب، صاحب كتاب (نزهة الأفكار).

ومن القضايا العامة حول القضاة أيضا صلتهم بالطرق الصوفية المعاصرة، إن الانتماء للطرق الصوفية من قبل العلماء والقضاة لم يكن دائما من أجل حب الشيخ وخضوعا لبركته، ولكنه كان حماية للنفس عند الحاجة ودفعا للعزلة عند الخطر، وقد وجدنا ذلك شائعا لدى رجال السلك الديني والتعليمي من أئمة ومفتين ومدرسين، وحتى بين رجال القضاء والسلطة الإدارية، كالقياد والأغوات، وكانت الطرق الصوفية عندئذ كالأحزاب السياسية اليوم، لها وسائل إعلامها ودعايتها، ولها محاموها، ولكن ليس بنفس الحداثة الموجودة اليوم، ومعظم الطرق كانت لها خيوط مع السلطة الفرنسية أيضا، وسنذكر أن بعض القضاة كانوا موالين للحنصالية أو التجانية أو لغيرها تمشيا مع الفكرة المذكورة، كما نلاحظ أن عددا من القضاة جعلوا مهنتم وراثية في أولادهم وأحفادهم، كما كان الحال في عهد العثمانيين.

‌نماذج من القضاة

ولنتحدث عن نماذج من هؤلاء القضاة باختصار، مكتفين في الترجمة الطويلة لاثنين منهم (1):

1 -

أحمد المجاهد بن محمد عبد القادر بو طالب: كان من القضاة الذين عاشوا في الجزائر والمغرب الأقصى وتونس والمشرق، ولهم صلات قربى بعائلة الأمير عبد القادر، ونشأوا في نواحي معسكر، ولكنهم عملوا في شرق الجزائر، وتركوا أولادا تولوا أيضا القضاء، كما كانوا على صلة بالطرق

(1) سنخص بالترجمة الطويلة الشيخين حسن بريهمات وشعيب بن علي.

ص: 483

الصوفية، فقد ولد أحمد بوادي الحمام قرب معسكر، سنة 1252 (1836). وأدت المقاومة الوطنية إلى بعثرة الأسرة، إذ كان أبناء بو طالب مختلفين مع ابن عمهم، الأمير عبد القادر، فهاجر محمد بو طالب والد أحمد المجاهد، إلى طنجة التي أصبحت مأوى لعدد من المهاجرين الجزائريين، ثم انتقل والده إلى فاس، مدينة العلم، وقد تثقف أحمد على يد شيوخ ذكرهم الحفناوي في ترجمته له (1). كما توجه مع أبيه إلى تونس وأخذ بها عدة علوم على شيوخ الزيتونة، وكانت المصاهرة بين عائلتي الأمير وعائلة أبي طالب، فقد تزوج والد أحمد المجاهد من ابنة أخ الأمير، وهو محمد السعيد، ولذلك وجدنا أحمد المجاهد مع جده في الشام.

تولت أسرة أبي طالب وظيفة القضاء للفرنسيين مبكرا، بدأ ذلك أحمد بن علي بن أبي طالب، عم أحمد المجاهد، الذي تولى القضاء في سطيف، وبعد استتباب الأمور في الجزائر رجع إليها عدد من الذين هاجروا منها أمثال أحمد المجاهد ووالده، وتولوا بها الوظائف للفرنسيين، ولعل ذلك كان بتحريض وتدخل من الأمير نفسه، بعد فشل المقاومة، تولى أبوه محمد بوطالب القضاء في سطيف ثم قسنطينة، وعندما خلا منصبه في سطيف تولاه ابنه الذي كان قبل ذلك في مستغانم، ثم انتقل من سطيف إلى الأربعاء، قرب العاصمة، وكان وجود والده في قسنطينة ووجوده هو بسطيف قد جعله قريبا أيضا من عبد القادر المجاوي الذي جاء من الغرب (تلمسان). وهو صهرهم، وكانوا جميعا في طنجة وفاس قبل ذلك، ثم حلوا جميعا بولاية قسنطينة.

كانت صلة أحمد المجاهد بالتصوف قوية أيضا، فقد كان جده عبد القادر بو طالب درقاويا، وعارض الأمير عبد القادر لأسباب تبدو صوفية، وقد عاش عبد القادر بو طالب خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وأثناء وجود أحمد المجاهد في الشام تعمق في التصوف أيضا، فقد

(1) الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف). ج 2، ص 72.

ص: 484

كان جده، محمد السعيد قادري الطريقة، وهو الذي كان قد حافظ على الزاوية بالقيطنة أثناء كفاح أخيه الأمير عبد القادر، وبقي على ذلك بعد الهجرة أيضا، وكان محمد المرتضى بن محمد السعيد قد واصل طريقة والده محمد السعيد وجده محيي الدين، وانتقل بالزاوية إلى بيروت، كما عرفنا في فصل الطرق الصوفية، وكان أحمد المجاهد قد أخذ العلم والتصوف على كليهما (محمد السعيد ومحمد المرتضى) أثناء وجوده بالشام خلال الستينات، وبعد أن حل بسطيف وقسنطينة يبدو أنه تقرب من الطريقة الحنصالية التي كانت سائدة هناك، وكذلك في العلمة، وقد عرفنا أن الدرقاوية والحنصالية متفرعتان عن الشاذلية، ووجد بعض الدارسين أن أتباع الحنصالية كانوا فقط حول مدينة معسكر، فيما عدا منطقة قسنطينة، وكان شيخ الحنصالية عندئذ في قسنطينة هو أحمد المبارك الذي تولى التدريس والقضاء في العهد الفرنسي أيضا.

إن هذه الصلات الصوفية والعلمية والعائلية قد جعلت أحمد المجاهد من الشخصيات البارزة ليس في القضاء فحسب ولكن في التأليف أيضاوفي قضايا الوقت، فهو صهر عبد القادر المجاوي الذي كان في قسنطينة يساهم في تنوير الأفكار ويبث العلم ويخرج القضاة من المدرسة الكتانية ثم المدرسة الشرعية - الفرنسية، وتنطبق على هذه الأسرة مقولة الشاعر (وكل غريب للغريب نسيب). فكلهم اقتلعوا من الجهة الغربية وزرعوا في الجهة الشرقية، وقد نشط قلم أحمد المجاهد في سطيف، فألف بعض التقاييد، سنعرض إليها في جزء آخر، كما ساهم في المهاترات التي حدثت بين المفتي علي بن الحفاف ومحمد المصطفى المشرفي حول مسألة خلافية تتعلق برمضان، وقد انتصر أحمد المجاهد لابن الحفاف، كما عرفنا، وعندما انتقل للعمل في الأربعاء تمكن من الاتصال بعلماء العاصمة أمثال حميدة العمالي وابن الحفاف، وأخذ عنهما، وقد حضر دروس الأول وأخذ التجويد والتصوف على الثاني.

توفي أحمد المجاهد في سطيف التي جعلها دار إقامة والتي تذكره بجو معسكر، سنة 1308 (1890). ودفن بضريح الشيخ سيدي سعيد الزراوي.

ص: 485

وقد ترك أولادا تولوا أيضا القضاء مثله، ومنهم محيي الدين وأبو بكر ومحمد المأمون، تولى الأول القضاء في إقليم قسنطينة والثاني في عدة أماكن، منها البليدة، أما الثالث فقد كان نائب القاضي (باش عدل) في وهران (1). وكان أحمد المجاهد من المثقفين بمفهوم ذلك الوقت، فإلى جانب تكوينه المشار إليه في الجزائر وطنجة وتونس والشام، كان يقرض الشعر، وقد مدح به عددا من الشيوخ من رجال العلم والتصوف، وسنذكر ذلك في مكانه، فهو من القضاة المخضرمين الذين لم يتكونوا في المدرسة الفرنسية ولكنهم عاصروا المتخرجين منها، وكانوا عندئذ متقاربين في التكوين والتفكير.

2 -

الطيب بن المختار بن البشير: وهو يعتبر كأحمد المجاهد من عدة وجوه، فهو أيضا من مواليد معسكر، ومن أقرباء الأمير عبد القادر، كما هاجر إلى الشام، وعاش هناك فترة، إلى جانب أبناء موطنه وغيرهم من المهاجرين، ثم عاد إلى الجزائر، ربما بتحريض من الأمير، الذي هو ابن عمه، كما يقول، وتولى الطيب بن المختار القضاء للفرنسيين وعاش في الجزائر، ولكنه عاود الزيارة إلى دمشق، وتوفي بالجزائر سنة 1307، ويهمنا من ذلك وظيفته في القضاء، فقد درس في معسكر على شيوخها عندئذ، ومنهم مصطفى بن التهامي، خليفة الأمير وصهره، وابن عبد الله سقط

(1) سنعرض لمؤلفات أحمد المجاهد في جزء آخر، انظر عنه (تعريف الخلف) 2/ 72، وكذلك كريستلو (المحاكم ..). ص 213، 281، وهو الذي جعل تاريخ الوفاة 1308، أما الحفناوي فجعله 307، انظر أيضا ابن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 127، وكان أخو أحمد المجاهد، وهو زين العابدين بن محمد بوطالب قد تولى أيضا القضاء في عدة أماكن (سطيف، غليزان، القليعة، بجاية، الخ ..) ولكنه عزل منه لأسباب نجهلها، سنة 1883، وقد جاء في بعض المراجع أنه كان يطالب السلطات الفرنسية بإعادته إلى وظيفه مستشهدا بولائه وتكوينه في العلوم الشرعية (كان عمره عندئذ 37 سنة ومتزوجا) وبصلته بالأمير عبد القادر، وكان يكتب في ذلك لوزير العدل والأديان، انظر ابن سديرة (كتاب الرسائل) مرجع سابق، وتاريخ الرسالة 12 يناير 1884 في قسنطينة (عند قاضي قسنطينة).

ص: 486

المشرفي، ثم سافر (الطيب بن المختار) إلى القرويين، ربما لأسباب ترجع إلى الأمن والسياسة، في جملة المهاجرين الجزائريين، وهناك أخذ العلم عن أبي عبد الله المجاوي - والد عبد القادر المجاوي - الذي كان مدرسا فيها بعد هجرته من تلمسان مع القاضي محمد بن سعد.

تولى الطيب بن المختار القضاء للفرنسيين في غريس مدة طويلة، وعمل أيضا في مجلس قضاء معسكر أواخر الخمسينات، وكان عضوا في لجنة (قاستنبيد) التي درست موضوع القضاء الإسلامي واختصاص القضاة المسلمين، وفي سنة 1865 ذهب إلى مرسيليا لمقابلة الأمير، وكان ذلك برضى السلطات الفرنسية طبعا، وكان متزوجا من عائلة بو طالب، وهي تمثل فرعا آخر من عائلة الأمير، وله أخ (محمد الصغير) تولى أيضا وظائف في محاكم معسكر، وكلاهما بقي في القضاء إلى تقاعده سنة 1881، أما عن قرابة الطيب بن المختار للأمير، فهو دائما يسمى الأمير (ابن عمنا)، وقد مدحه بقصيدة أجابه الأمير بمثلها، وسنعرض إليها في فصل الشعر، وكان الطيب يمثل رابطة متواصلة مع أسرة الأمير المهاجرة، على أن هناك من قال إن الطيب بن المختار من أولاد أحمد بن علي، وبعضهم قال إنه قريب بالمصاهرة من أولاد سيدي فريحة بن خاطر، وكان متهما بقتل ابن عم له عندما دخل مجلس قضاء معسكر، وقد ترجم الطيب بن المختار لأعيان غريس في كتابه (القول الأعم). ويبدو لنا أنه كان مثل أحمد المجاهد، من العناصر المخضرمة ومن بقايا المتكونين بقوة في المواد الشرعية، فهو من الفقهاء الذين يجمعون بالمفهوم القديم بين الفقه والتأليف والأدب والشعر (1).

3 -

محمد الشرقي: من أبناء عم الأمير عبد القادر أيضا، وكان منافسا له ولم ينضم إليه عند كفاحه، وتولى الفتوى والقضاء في معسكر

(1) انظر عنه ابن بكار (مجموع النسب) مرجع سابق، 143، وكريستلو، (المحاكم) مرجع سابق، 52، 277، وسنعرض إلى بعض إنتاجه لاحقا.

ص: 487

للفرنسيين، وبالتدرج رأى أن سلطة القاضي وصلاحياته قد أخذت منه ومن غيره وأعطيت للقاضي الفرنسي، فهم بالهجرة وترك الوظيف، ويبدو أن الشرقي قد هاجر إلى مكة والمدينة، لأن من ذكره قال إنه رفض الهجرة إلى الشام، حيث الأمير عبد القادر، قائلا: سأهاجر إلى من يشفع فينا معا، ويعني بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا ندري هل هاجر فعلا، ويقال إن الأمير سر عندما بلغه ذلك عنه (1). ونحن هنا أمام نموذج من القضاة الذين تأثروا بنزع السيادة عن القضاء الإسلامي.

4 -

علي بن الحاج موسى: وهو من عائلة علمية قديمة في العاصمة، كانت أيضا تشتغل بالشؤون الدينية، ومنها القضاء، أبوه هو أحمد بن الحاج موسى الذي وجدنا اسمه يتكرر في مراسلات بعض المفتين مع السلطات الفرنسية في منتصف القرن الماضي، ولد الشيخ علي سنة 1833، وتثقف على بقايا الشيوخ أمثال مصطفى الحرار، وعاصر حسن بريهمات والعمالي والحفاف، وتولى القضاء للفرنسيين في عدة مراكز منها مليانة وتلمسان وتنس، وكان ذلك خلال الستينات، وهو عهد المملكة العربية، حين كان للقاضي بعض الصلاحيات، ولكننا رأينا أن قانون 1866 قد مس أيضا هذه الصلاحيات، ولا ندري إن كان ذلك وراء استقالته من القضاء وتفرغه للعبادة والتأليف، فقد كان الرجل أميل إلى التصوف منه إلى القضاء، وله تأليف سماه (ربح التجارة) في سيرة الشيخ أحمد بن يوسف الملياني، وربما ألفه وهو قاض بمليانة، وتولى بعد تفرغه من القضاء وكالة ضريح الشيخ الثعالبي، وقد ذكره محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار). وكان يتراسل مع قاضي تلمسان شعيب بن علي ومع عبد الحي الكتاني في المغرب الأقصى وغيرهم، وله ولوع لالإجازات أخذا وعطاء، وقد توفي سنة 1913 عن ثمانين سنة، وتدل سيرته في القضاء على أن بعض القضاة كان لا يطاوعهم ضميرهم على العمل مع الفرنسيين مهما كان الثمن، وسنعرض لحياته العلمية في غير هذا.

(1) ابن بكار (مجموع ..). ص 143.

ص: 488

5 -

محمد بن الحاج حمو: ولد بمليانة حوالي 1778، ونشأ بها. وبها حفظ القرآن الكريم، وقرأ على مشائخها العلوم المتوفرة عندئذ من أمثال سيدي الطيب بن الحسين الذي قرأ عليه مختصر الشيخ خليل، كما درس على آخرين العلوم العربية، وكان يتردد على العاصمة ولما يبلغ العشرين سنة، فأخذ بها صحيح البخاري على المفتي علي بن الأمين، ولازم علي الانجلاتي الذي كان هو المفتي المالكي وقت الاحتلال، كما قرأ على حمودة المقايسي ومفتاح الدين العجمي ومصطفى الحرار، وقد درس في الجزائر الحديث وأصول الدين والفقه والنحو والمعاني والبيان والمنطق والعروض والفلك، وكان نموذجا للطالب الناجح في ذلك الحين، ثم رجع إلى مليانة وتولى بها أمور الفتوى والتعليم إلى أن حدثت كارثة الاحتلال الفرنسي.

كان عمره سنة 1830 حوالي 52 سنة، وقد اضطربت أحوال الجزائر عندئذ، فكر بعض أهلها في سلطان اسطانبول الذي عجز عن حمايتهم، وفكر آخرون في سلطان المغرب، وكانت الناحية الغربية قد عينت وفدا من أعيان العلماء للتوجه في ذلك الأمر إلى سلطان المغرب، فكان من بينهم الشيخ محمد بن الحاج حمو، وقد أطال البقاء في المغرب الأقصى وقابل السلطان، وكان هذا يحب اختبار العلماء ويتبع طريقة آبائه في ذلك، وبعد أن سرحهم السلطان وأمدهم بجيش وحامية وخليفة عنه، رجع الشيخ حمو إلى بلاده، ولكنه ظل يتراسل مع بعض المسؤولين المغاربة مثل الوزير محمد بن إدريس.

وبعد إعلان دولة الأمير عينه هذا أمينا على خزائن بيت المال، ومكلفا بالتموين العسكري، وهي مهمة خطيرة تقوم مقام وزير المالية والتسليح اليوم، وكانت مليانة ضمن دولة الأمير، وعليها محيي الدين بن المبارك خليفة عنه قبل أن يتولاها محمد بن علال، وأثناء هذه الوزارة الخطيرة كان الحاج حمو قد أقام تجارة واسعة مع أحد القناصل وهو (قراييني)(1) لشراء

(1) أو قرافيني، وكان يشغل قنصل أمريكا أيضا في الجزائر في نفس الوقت، وقد عينه =

ص: 489

السلاح والقماش والكبريت والرصاص وأحجار الزناد وورق النحاس الخاص بضرب النقود (السكة) المحمدية التي سكها الأمير. (إلى غير ذلك مما يلزم العساكر من الأدوات الواجبة للقيام بهم)، وكان الأمير يقدره ويستشيره ويستمع إلى كلامه.

ولكن دولة الأمير قد دالت بسقوط الزمالة 1843 رغم أنه ظل يكافح إلى نهاية 1847، وقد تفرق عنه الأنصار وكثر الخصوم، وجندت فرنسا ضده كثيرا ممن كانوا أعوانا له في مختلف الوظائف ومنها القضاء، وضاقت السبل بالبعض فلم يدروا أين يتجهون، فالعدو قد سيطر والصديق قد انهزم، فإلى أين النجاة؟ فر الحاج حمو بنفسه إلى الجبال المنيعة، جبال بني مناصر، وأخذ أهله معه كما أخذ كتبه ودفاتره. (وبقي يتردد بين شعابها وأوديتها والعساكر الفرنساوية تشن الغارات على المهاجرين (الهاربين)، فاحترقت كتبه ودفاتره، وضاعت أسبابه وأمواله)، وما أشدها لحظات على عزيز النفس! فكر الحاج حمو في الحل، فاتصل بصديق له، هو سليمان بن صيام الذي تولى للفرنسيين على مليانة، كاتبه الحاج حمو يطلب تدخله للحصول على الأمان من العدو، فاتصل ابن صيام بالضابط سانطارنو الذي كان مسؤولا على المنطقة والذي كان المسؤول أيضا على مجزرة غار الظهرة سنة 1845، فوافق سانطارنو على إعطائه الأمان، ورجع الشيخ الحاج حمو إلى أملاكه فوجد الفرنسيين قد صادروها كما فعلوا مع أملاك ابن الحفاف وغيره ممن انضموا للأمير، ويقول المصدر الذي استفدنا منه هذه المعلومات، ان السلطات الفرنسية قد أعادت إليه أملاكه وأعانته ببعض الثيران والحبوب للزراعة، ولا ندري متى كان ذلك بالضبط، ولكن نعلم أن الفرنسيين قد ولوه وظيفة القضاء سنة 1258 هـ (1842). وقد استمر على ذلك إلى سنة 1274 حين تجاوز الثمانين سنة وتولى بعد ذلك خطة الإمامة والفتيا إلى وفاته سنة

= الأمير قنصلا عنه بعد التافنة (1837) في مدينة الجزائر لدى الفرنسيين، ولكن هؤلاء رفضوا هذا التعيين، فبقي قرافيني يتعامل مع الأمير تجاريا الخ، انظر (رحلة إلى معسكر الأمير) التي كتبها بيربروجر، وقد ترجمناها، باريس، 1839.

ص: 490

1285 (1868). وقد دفن بمليانة، بالغا من العمر تسعين سنة.

وكان الحاج حمو يتردد على العاصمة، وقد وصفه حسن بن بريهمات الذي أبنه بأنه كان حلو الفكاهة، حاضر الجواب، متضلعا في العلوم العقلية والنقلية، كثير الحفظ، وكان يحفظ مقامات الحريري، عارفا بالسير والشواهد والتواريخ، وله باع طويل في فن الإنشاء، كما كان ينظم الشعر، وله مشاركة في الموسيقى، وكان ينكر على المغالين في الدين، ويدعو إلى تعلم معارف الفرنسيين، وفي هذا النطاق أدخل ابنه (عبد الحق) إلى المدرسة العربية الفرنسية (الكوليج) بالجزائر، ووقعت له مخاصمات مع بعض أقاربه حول الأرض فأعيدت إليه عن طريق المحكمة العليا (محكمة الاستئناف الفرنسية)(1).

إن مصير محمد بن الحاج حمو الملياني لم يكن منعزلا، فقد عاشه عدد آخر من القضاة بعد أن شردوا وتبدلت بهم الحياة غير الحياة الأولى، ولكن يبدو لنا أن هذا الشيخ كان من أقوى معاصريه تكوينا وذكاء وإخلاصا، وكانت السلطة الاستعمارية تعرف من تجلب إلى خدمتها ومن ترفض، وقد اعتمدت على الكثيرين في بادئ الأمر من هذه العناصر الجيدة التي كانت مع الأمير ثم ضاقت بها السبل فرجعت تخدم أعداءها وأعداءه، وقد رأينا معاملة ديلابورت لابن الحفاف بعد رجوعه إلى العاصمة إذ قال عنه إننا نعرف أنه عدو لنا ولكن الإدارة ستستفيد من خدمته، ذلك أن هذه الإدارة تريد من ورائه كسب المؤيدين له أو الذين يثقون فيه، وكان الحاج حمو خبيرا حقا في شؤون الدين والقضاء واللغة، وكان أمثاله قليلين، سيما في فترة الخمسينات والستينات، وكثير من جيله قد انتهوا مشردين ومهاجرين ومنفيين، أما موقفه من سلب القضاء الفرنسي صلاحيات القضاء الإسلامي فقد عبر عنه في مشروعه الذي قدمه إلى السلطات الفرنسية (2).

(1) من الكلمة التي أبنه بها حسن بن بريهمات ونشرها في المبشر، عدد 627، 31 ديسمبر 1868، وكان الحاج حمو معاصرا وصديقا لوالد حسن بن بريهمات.

(2)

انظر كريستلو الذي قال إنه قدم مشروعا في ذلك، والغالب أن ذلك كان قاضيا آخر =

ص: 491

6 -

الحاج قدور الشريف الزهار: وشبيه بسيرة الحاج حمو نجد سيرة الحاج قدور الشريف الشهير بالزهار، وحياة هذه العائلة معروفة إلى حد ما، فهي عائلة قديمة في مدينة الجزائر ترجع إلى القرن العاشر الهجري، وزاويتهم ظلت قائمة بعد الاحتلال رغم تعرض أملاكها للمصادرة كغيرها، كما خضعت لضيق وتضييق شديدين (1). وقد شاركت العائلة في كفاح الجزائر إلى أن ضاقت السبل بأبنائها فرجع بعضهم إلى قبول الوظيف من العدو، وكان جد العائلة هو محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد

الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي والسيدة فاطمة، وقد توفي محمد الشريف سنة 948 هـ، ولهذه العائلة أيضا نسب مع الشيخ أحمد بن يوسف الملياني (2). وكانت فيها نقابة الاشراف بالجزائر.

ويهمنا من هذه العائلة الآن دورها في القضاء في العهد الفرنسي، وبالذات دور الحاج قدور الشريف الزهار، كان والده أحمد الشريف الزهار، من الذين انضموا للمقاومة الوطنية وخدموا الأمير عبد القادر بإخلاص إلى أن وقعت كارثة الزمالة (1843). فتفرق الشمل وأسر من أسر وقتل من قتل وهاجر من هاجر، وكان لأحمد الشريف ابنان: علي وقدور، أما علي فقد أسره الفرنسيون، وكان فتى في حوالي الثالثة عشر من عمره، وهربوه إلى فرنسا كرهينة وأدخلوه إلى مدارسهم ليعلموه ويجعلوه وسيلة للتأثير فيما بعد، ولم يكن وحده في ذلك فقد أخذوا معه مجموعة من الفتيان، ومنهم قريبه محيي الدين بن علال، وأحمد بن رويلة ابن كاتب الأمير قدور بن رويلة، وغيرهم، وتكون بعضهم في مدرسة سان لويس بفرنسا بعيدا عن أهلهم ورغم أنفهم، كان مصير علي الشريف الزهار خدمة السلطة الفرنسية إذ

= باسم الحاج حمو، وقد يكون من نفس الأسرة، لأن الحاج حمو الذي نحن بصدده، قد توفي سنة 1868، والمشروع قدم للفرنسيين في 1892.

(1)

انظر الزوايا، في فصل المعالم الإسلامية، وكذلك أحمد توفيق المدني (مذكرات الشريف الزهار).

(2)

تعريف الخلف، 2/ 476.

ص: 492

تخرج جنديا ثم ضابطا في الجيش الفرنسي ومترجما احتياطيا، ووجدناه سنة 1910 من الضباط المتقاعدين (تقاعد سنة 1863) الذين يعيشون على ماض حزين، خططه له قادة الاحتلال الفرنسيين وعلى رأسهم المارشال بوجو، وقد أصبح علي الشريف مستشارا عاما في مجلس ولاية الجزائر.

أما أخوه قدور، موضوع حديثنا الآن، فقد حمله والده إلى المغرب الأقصى مهاجرا، ولا ندري المدة التي بقياها، ولعل الفتى قد تعلم في فاس أو في غيرها ما أهله لتولي الوظائف الدينية والقضائية، ثم رجع مع والده إلى الجزائر، وتولى والده، أحمد الشريف، نقابة الأشراف بتاريخ لا نعلمه الان، ثم توفي سنة 1289 وقد ناهز الثمانين، كما جاء في كناش العمالي، وواصل قدور دراسة اللغة العربية وحده وعلى من وجد من بقايا العلماء، كما اشتغل بالفلاحة، وأتيحت له فرصة الحج فأداه مع والدته السيدة خديجة بنت الشيخ محيي الدين بن علي مبارك القليعي (1). وكان حجه مع صهره علي بن الحفاف الذي تولى الإفتاء بالعاصمة، كما عرفنا، وقد توفيت والدته خديجة في طرابلس، دون أن نعرف هل كان ذلك أثناء الذهاب أو الرجوع من الحج، ومن ثمة نعرف هذه المصاهرة بين عدة عائلات في المنطقة: عائلة الشريف الزهار، وابن الحفاف، وسيدي أحمد بن يوسف الملياني، وسيدي علي مبارك، وابن رويلة.

وعند فراغ وظيف المعاون الأهدي (القاضي المسلم) في المحكمة الفرنسية بالجزائر عين الحاكم العام (شانزي) فيها الحاج قدور الشريف، وكان ذلك في تاريخ غير محدد، قد يكون 1875، وعند وفاة أبيه، أحمد الشريف، أصبح الحاج قدور هو النقيب أيضا، كما كان إماما في مسجد زاويتهم (سيدي محيمد الشريف). وقد استمر في وظيفة المعاون المسلم في

(1) هو محيي الدين بن علي مبارك الذي تولى وظيفة (آغا العرب) في عهد الجنرال بيرتزين 1831 - 1832، وكان من المرابطين، من عائلة سيدي علي مبارك بالقليعة. وهو أول من تولى ذلك الوظيف للفرنسيين، وفي عهد روفيقو (1832 - 1833) هرب محيي الدين إلى مليانة حيث تولى للأمير عبد القادر وظيفة الخليفة هناك.

ص: 493

المحكمة الفرنسية فترة طويلة دون أن نعرف متى انتهت، لأنه تقاعد قبل وفاته سنة 1910، وكافأته السلطات الفرنسية بوسام جوقة الشرف ووسام الأكاديمية، وقد بقي يشتغل بالأعمال الخيرية والدراسة إلى وفاته، وهكذا استطاع الفرنسيون أن يجعلوا من هذه الأسرة الدينية - السياسية وسيلة للتأثير المعنوي وأن يذوبوا غضبها في بوتقة التقارب بينهم وبين الجزائريين، فأعطوها الأوسمة والوظائف، والاعتبارات الزائفة، من ذلك ما قيل من أن علي الشريف الزهار، أول ضحية لهذه الأسرة تسقط في يد الفرنسيين سنة 1843، قد أصبح ضابطا متقاعدا، وآغا شرفيا، وحاملا أيضا لوسام جوقة الشرف مثل أخيه قدور، ورئيسا للديانة الإسلامية بالعاصمة Culte Musulmane، وعضوا في التعليم العمومي (وهو وسام). وبذلك تكون خطة المارشال بوجو قد نجحت نجاحا باهرا.

وفي نطاق هذه التشريفات والشكليات أقيمت للحاج قدور جنازة رسمية عند وفاته سنة 1910، لم يترك الفرنسيون والمسلمون المقلدون شيئا يناسب المقام إلا فعلوه، فقد رفعت الأعلام الخضراء على مآذن الجزائر، حدادا عليه، باعتباره نقيبا للأشراف، وحضر الجنازة أعيان البلاد، ويهمنا منهم شاب ما يزال في الخدمة ولكن مصيره لن يكون مصير الضابط المتقاعد، علي الشريف، ونعني بذلك الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر، وكان الأمير خالد عندئذ من ضباط الصبايحية (الخيالة). وحضر أيضا بوطيبة النائب المالي وعضو المجلس الأعلى في حكومة جونار، وابن صيام المستشار العام والنائب المالي أيضا، وأفراد من عائلة بو طالب أقارب الأمير عبد القادر، كما حضر ابنا الفقيد وهما محيي الدين الشريف، الذي كان متوليا القضاء في البليدة، ومحمد الشريف الذي يبدو أنه خلف والده كمعاون أهلي في المحكمة الفرنسية، ومن أفراد العائلة أيضا محمود الشريف، وأحمد الشريف بن علي الشريف (الضابط المتقاعد). الذي كان متوليا القيادة على بني بو يعقوب، وبعد الصلاة عليه في جامع صفر دفن في مقبرة الزاوية برخصة خاصة من الحاكم العام جونار، لأن الفرنسيين كانوا قد منعوا الدفن

ص: 494

في مقبرة الزاوية منذ 1830، أما الشخص الذي ألقى كلمة التأبين فهو الدكتور زروق بريهمات حفيد حسن بن بريهمات الذي سنترجم له بعد قليل (1).

رغم مكانة هذه العائلة لدى المسلمين ولدى الفرنسيين، ورغم دور أحمد الشريف الزهار صاحب (المذكرات) والمناضل مع الأمير عبد القادر، فإنها لم تستعمل نفوذها في أي مجال للدفاع عن قضية الدين الإسلامي، سيما في ميدان القضاء الذي رأت أيدي الفرنسيين تنتهبه انتهابا، وقد رضيت بالمناصب المادية والأوسمة الشرفية والاعتبارات المعنوية التي تخصها هي وحدها، بينما لا نجد لها، حسب علمنا، تدخلا أو موقفا لصالح القضية الوطنية الكبيرة، ونحن إنما نتحدث عن عهد الحاج قدور وأبنائه، وعلي الشريف وأبنائه، إن المجتمع الحق هو الذي يلعب فيه أمثال هؤلاء الأعيان دورهم في ترسيخ التقاليد الحميدة والقيم النضالية من أجل المحافظة على الذاتية الوطنية في وجه كل الغزاة، فاذا تحول أعيان المجتمع إلى جماعة من الانتهازيين سهل على العدو افتراس كل المجتمع والقضاء عليه وعليهم أيضا.

7 -

عبد الرزاق الأشرف: لم نعثر له على ترجمة وافية، رغم تردد اسمه في علماء وقضاة الجزائر أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، تولى التدريس في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية مدة لا ندري كم هي، وقد وجدناه في هيئة تدريسها سنة 1896 أي بعد إعادة تنظيمها، وكان معاصرا

(1) روت خبر الوفاة وما جرى في التابين والحضور (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، يونيو (جوان) 1910، ص 323 - 325 بتوقيع (م). ويغلب على الظن أن هذا الحرف يشير إلى اسم ماسينيون، الذي بدأ حياته في الاستشراق بالكتابة في هذه المجلة قبل إنشاء (حولية العالم الإسلامي) حوالي سنة 1925، عن علي الشريف الزهار انظر تقارير ديمواينكور الذي عينه بوجو للإشراف على الشبان الرهائن، في رقم 1571 - F 80 وكان علي الشريف من مواليد 1829، واشتغل بالترجمة بعد تخرجه، انظر شارل فيرو (مترجمو الجيش الإفريقي). مرجع سابق، ص 309.

ص: 495

فيها لعلي بن سماية والد الشيخ عبد الحليم، كما كان الأشرف عضوا في الجمعية التي أنشأت (مجلة جغرافية الجزائر وشمال إفريقية) والتي تأسست سنة 1896، وكان يرأسها الحاكم العام، جول كامبون، شرفيا، وكان الأشرف من الأعضاء الجزائريين القلائل في مثل هذه الجمعيات التي كان هدفها خدمة التوسع الاستعماري في إفريقية أيضا، ويبدو أنه كان صاحب كلمة مسموعة لدى المثقفين والسياسيين الفرنسيين، إذ رشح لهم بعض زملائه للعضوية في الجمعية وقبلوا ترشيحه لهم (1).

والظاهر أن عبد الرزاق الأشرف قد تخرج من إحدى المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، فقد كان يعرف الفرنسية، وتدل عضويته في الجمعيات الفرنسية على ذلك، ولكنه كان يحسن العربية أيضا، فقد عهد إليه في بداية هذا القرن بتصحيح (الجواهر الحسان). وهو تفسير القرآن الكريم الذي ألفه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، وقد وجدنا اسمه على بعض الكتب الصادرة عن مكتبة ومطبعة رودوسي قدور بالعاصمة، ولا ندري إن كان قد ألف أعمالا ذاتية، كما وجدنا له مراجعات لبعض الكتب بالفرنسية نشرت في المجلة الإفريقية وغيرها، ولكن مساهمته في ذلك قليلة.

أما في ميدان القضاء فلا نعرف بالضبط متى دخله، وغاية الأمر أننا وجدناه قاضيا في نقاوس سنة 1903، وهذا يعني أنه خرج من التدريس إلى القضاء في الأماكن النائية، لأن نقاوس التي كانت تمثل بلدية أولاد سلطان، كانت من المراكز البعيدة المعزولة عندئذ، فهل هو الذي فضل ذلك أو كان ذلك نوعأ من النفي له، وقد حكى عنه صديقه وزميله في مدرسة الجزائر الشرعية، الإسكندر جولي A.Joly، إنه قد عاونه في ترجمة وفهم الشعر الشعبي الذي جمعه (جولي) من إقليم قسنطينة، وقال جولي أيضا: إن

(1) انظر العدد الأول من المجلة المذكورة S.G.A.A.N (1896)، ص 51. فقد اقترح الأشرف ترشيح السيد كسوس محمد بن يوسف فقبل رسميا في جلسة 11 نوفمبر 1896. وكان السيد كسوس يشغل وظيفة خوجة (كاتب) في بلدية الطاهير، انظر أيضا المجلة الإفريقية R.A، 1905، ص 478.

ص: 496

الأشرف قد جمع له بعد ذلك مجموعة أخرى من الشعر الشعبي وأبدى له بعض التعاليق والملاحظات الدقيقة وأرسل إليه ذلك بالبريد، وشهد له جولي بأنه كان يتقن العربية والفرنسية (1). وفي مكان آخر وجدنا أن الأشرف قد تولى القضاء أيضا في بسكرة، فهل تعين فيها بعد أن قضى فترة في نقاوس؟ لكن المهم أننا وجدناه قد رجع قاضيا في مدينة الجزائر على المذهب الحنفي سنة 1912 (2). وكان الأشرف من الذين استشارهم الفرنسيون في تدوين الفقه الإسلامي فأيدهم في ذلك، وقد أشير إليه فقط بقاضي نقاوس دون ذكر اسمه (3).

ولكن رغم تكوينه المزدوج وثقافته التي تبدو متقدمة، فإنه لم يترك تأليفا، وليس له مواقف من القضاء الإسلامي سوى ما نسب إليه من تأييد حار لتدوينه، معتبرا ذلك، كما قال، شرفا لفرنسا، ولعله كان من بين أولئك القضاة الذين طلبوا من جونار زيادة الراتب سنة 1912، فإذا صح كل ما وجدناه عنه وما نسب إليه، فإن عبد الرزاق الأشرف، رغم مكانته، كان من ذلك الصنف الذي يعيش لذاته مسخرا علمه لخدمة الدولة المستعمرة وليس لخدمة الشعب الذي أنجبه.

8 -

أحمد لعيمش: عرف أنه قد ترجم القرآن الكريم، مع زميله، ابن داود، إلى الفرنسية، وهذا الموضوع سنعالجه في فصل الترجمة، إنما نريد الآن أن نتحدث عن أحمد لعيمش القاضي أو المحامي، كان في البداية مدرسا في مدرسة تلمسان، ثم أصبح محاميا في محكمة الاستئناف بالجزائر، وقد وصفه جوزيف ديبارمي بأنه قد عالج موضوع اللغة الفرنسية عند الأهالي في محاضرة له ألقاها سنة 1930، وقال فيها: إن اللغة الفرنسية هي لغة الحضارة بالنسبة إليهم، وقد ترجم أحمد لعيمش أيضا (بداية المجتهد) لابن

(1) الإسكندر جولي، المجلة الإفريقية، R.A، 1904، ص 6، هامش 1.

(2)

التقويم الجزائري للشيخ كحول، 1912.

(3)

ايميل عمار (مشروع تدوين الشريعة الإسلامية) في مجلة العالم الإسلامي R.M.M (1908). أكتوبر، ص 362 - 369.

ص: 497

رشد إلى الفرنسية مما يدل على تمكنه من اللغتين ومن الدين والفقه بالخصوص، وعينه الفرنسيون عضوا في لجنة تدوين الفقه الإسلامي خلال العشرينات، كما سنرى.

ويبدو من وظيفته كمحامي، ومن ترجمته لبداية المجتهد، وعضويته في لجنة موريس فيوليت (1) لتدوين الفقه الإسلامي أن أحمد لعيمش كان من الشخصيات الجزائرية التي بإمكانها أن تلعب دورا في ميدان القضاء الإسلامي المضطهد، ولكن يبدو أنه كان مهتما بجانب الاندماج الحضاري عندئذ، وهو شعار النخبة المتفرنسة، أكثر من اهتمامه بعلاقة القضاء بالوطنية والذاتية الإسلامية للشعب الجزائري، غير أننا لا نستطيع أن نحكم عليه حكما نهائيا الآن لأننا لا نعرف كيف انتهى أمره حول هذه القضية (2). وقد رأينا أنه اختار سنة الاحتفال المئوي إلقاء محاضرته عن أهمية اللغة الفرنسية للجزائريين.

9 -

أحمد بن محمد دغمان: ولد ونشأ بقمار، وادي سوف، وحفظ القرآن فيها ودرس بعض العلوم، ثم انتقل إلى الجريد التونسي، ولعله قد درس في زاوية نفطة الرحمانية، شأن أبناء تلك المنطقة في القرن الماضي، ومن هناك توجه إلى جامع الزيتونة حيث استكمل دراسته، وقد يكون ذلك أوائل الاحتلال الفرنسي لوادي سوف الذي حدث سنة 1854، ولم يرجع أحمد دغمان إلى سوف مباشرة بل عقم بالكاف، وهي أيضا مدينة تونسية

(1) موريس فيوليت M.Violette تولى حكم الجزائر خلال العشرينات، وألف كتابا اشتهر به وهو (هل ستعيش الجزائر؟). وهو صاحب مشروع دمج النخبة الجزائرية في المجتمع الفرنسي خلال الثلاثينات، وهو المشروع الذي فشل فيه رغم تبني رئيس الحكومة الفرنسية، ليون بلوم L.Blum له سنة 1936.

(2)

عنه انظر أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر). ص 319، وجوزيف ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في S.G.A.A.N، عن محاضرة أحمد لعيمش حول اللغة الفرنسية والأهالي انظر نفس المصدر، رقم 96، وعن ترجمة القرآن انظر ماريس كنار M.Canard في R.A المجلة الإفريقية، عدد 74 سنة 1933، ص 366 - 368، وسنعرض إلى ذلك في فصل الترجمة.

ص: 498

حدودية، وفيها الطرق الصوفية، وأبرزها عندئذ القادرية، ثم رجع إلى قمار وتولى القضاء في الزاوية التجانية هناك حيث بقي أربع عشرة سنة، ولعله كان يعلم أيضا أبناء الزاوية إذ كانت شؤون القضاء في قمار ليست ثقيلة، وربما كانت علاقة الزاوية بالسلطة الفرنسية خلال الثمانينات هي التي رشحته أيضا لتولي القضاء بالوادي لدى المكتب العربي الذي كان يسير شؤون المنطقة كلها، ومهما كان الأمر فقد وجدنا أحمد دغمان قاضيأ بالوادي سنوات 1293 - 1295، وتوفي سنة 1308 (1890)(1).

وكانت بين الشيخ أحمد دغمان والمكي بن عزوز مراسلات وتبادل أفكار، ولعله قد تعرف عليه في زاوية نفطة العزوزية حيث كان الشيخ المكي مدرسا بها قبل أن يرحل إلى تونس ثم المشرق، ولم يساهم الشيخ دغمان في ميدان القضاء فقط بل في الأدب والشعر، وله بعض التقاييد، ولعل أكبر مساهمة له هي تخريج عدد من المتعلمين إذ كان يدرس للطلبة أثناء ولايته القضاء، وكان في وقته قد اشتهر بالعلم والصلاح، ويعتبر من فقهاء الريف الذين ظلوا بعيدين عن التأثير الفرنسي، كما ظل محافظا على القضاء الإسلامي في روحه الأولى، غير أن تدخل السلطات الفرنسية في القضاء الإسلامي جعل مهمة الشيخ دغمان منحصرة في الأحوال الشخصية وتقديم رأي استشاري للمكتب العربي (العسكري) فيما يخص القضايا الأخرى.

10 -

معمر بن الحاج الزردومي: في 25 مايو، 1913 نشرت جريدة (الأخبار) بالجزائر هذا الخبر (حضر إلى العاصمة حضرة الوجيه الفقيه الأديب السيد زردومي معمر بن الحاج رابح، قاضي قمار، والمحرر بهذه الجريدة سابقا)، ونفهم من هذا أن القاضي الزردومي، كما أصبح معروفا، كان محررا بجريدة الأخبار قبل أن يتولى القضاء، ولم يكن وحده في ذلك، فقد مر بالصحافة عدد من المدرسين والمفتين والقضاة في بداية حياتهم.

(1) الشيخ محمد الطاهر التليلي (تقاييد). مخطوط، وعبد الباقي مفتاح (أضواء)، مرجع سابق، مخطوط، انظر أيضا عادل نويهض (معجم أعلام الجزائر).

ص: 499

وكان ميدان الصحافة الرسمي هو جريدة (المبشر). ولكن جريدة (الأخبار) أنشأت منذ حوالي 1907 قسما بالعربية أسندته إلى الشيخ عمر بن قدور، فهل القاضي الزردومي كان محررا في هذا القسم أو في القسم الفرنسي الأصلي؟، إننا نرجح الأول.

تولى معمر الزردومي القضاء في قمار سنة 1911 وبقي فيها إلى سنة 1913 (1329 - 1331). ومعنى ذلك أنه قد عمل في الجريدة المذكورة قبل 1911، وإذا عرفنا أنه كان من نواحي تبسة وأن قبيلته (الزرامة) يقطنون بحيرة الأرنب جنوب تبسة، علمنا أنه ما ذهب للعمل في الجزائر إلا لكونه قد تخرج من القسم العالي بمدرستها الشرعية - الفرنسية، رغم أننا لا نملك دليلا واضحا على ذلك، والغالب أنه قد درس أولا في مدرسة قسنطينة التي تستقبل أمثاله من طلبة الإقليم الشرقي، وأكمل في القسم العالي بمدرسة الجزائر، وهو القسم الوحيد على مستوى القطر، والصورة المتواترة على هذا القاضي أنه من النوع الذي وصفه محمد بيرم الخامس (1). ومهما كان الأمر فإنه لم يساهم برأي أو موقف من معاملة الفرنسيين للشريعة الإسلامية، وعندما كان قاضيا في قمار كان عليه أن يرضي جهتين ليبقى في وظيفه: الزاوية التجانية بقمار، وقد كان على رأسها الشيخ محمد العروسي، والمكتب العربي بالوادي، وقد كان على رأسه العقيد كوفي، وفي هذه الأثناء وقع اغتيال عباس بن حمانة (1914) في تبسة، وقد ذكرت بعض المصادر أن محمد (وليس معمر) بن الحاج رابح الزردومي قد ساند ابن حمانة (2).

(1) بيرم (صفوة الاعتبار). ج 4.

(2)

عن معمر الزردومي انظر جريدة الأخبار 25 مايو، 1913، ورسالة خاصة من الشيخ محمد الطاهر التليلي بتاريخ 4 ابريل، 1977. ودبوز (نهضة) 2/ 264، والغالب أن محمد هو معمر لأن كتابة الاسمين قد تختلط، عن الزردومي انظر أيضا فصل التعليم العربي الإسلامي، وقد وجدنا اسم الزردومي مدرسا في بسكرة سنة 1932. وذكر ريتولت الفرنسي أنه استعان به في الحفريات حول وادي جدي قرب بسكرة، فهل هو =

ص: 500

11 -

الحنيفي بن عبد الله: من متعلمي مدينة معسكر، وكان صغير السن عند الاحتلال، فلم يعرف ثقله إلا بعد أن نضج، ودخل الوظيف القضائي صغير السن أيضا، فتعلم بذكائه الفرنسية من مخالطة الفرنسيين، دون مدرسة، في ظاهر الأمر، وقد ساعده ذلك على شق طريقه في الإدارة والمعاملات معهم، وهكذا تولى عدة وظائف أولها كاتب (خوجة) مجلس المكتب العربي في معسكر، والمجلس هنا هو المجلس القضائي كما عرفنا، وذلك سنة 1854، وكان الحنيفي يقوم أيضا مقام الشاهد في المحكمة إذا احتاجت إليه، ثم ترقى لوظيف معاون (أساسور). في محكمة معسكر (تريبونال) بعد ذلك، وهي الوظيفة التي أصبحت مخصصة للقاضي المسلم وسط القضاة الفرنسيين، وقد مكنته معرفة اللغة الفرنسية من الوصول إلى مستشار في المجلس الولائي بوهران C.G، وهو منصب استحدث سنة 1858، ولكن لا ندري هل تولاه عندئذ أو بعد ذلك، ومنذ 1886 وإلى وفاته بمعسكر سنة 1892 كان الحنيفي يشغل وظيفة قاضي مدينة معسكر، وهي الوظيفة المخصصة للأحوال الشخصية والميراث بالتفصيل الذي ذكرناه، طبقا لقانون 1889 (1).

12 -

أبو راس المازوني: كان في نفس المجلس الذي فيه الحنيفي بن عبد الله خلال الخمسينات، ولعله هو ابن (أو حفيد) المؤرخ الحافظ أبو راس الناصر الشهير، وقد تولى وظيفة نائب قاضي (باش عدل) لمدة عشرين سنة، وقد حكم بعض الدارسين أنه كان ضعيف المواهب لأنه لم يتغير حاله خلال تلك المدة الطويلة في القضاء، واستشهد هذا الباحث على ضعف أبي راس أيضا أنه لم يستطع أن يمنع إتلاف كتاب ألفه والده (أو جده). وهو يعني بذلك كتاب أبي راس عن أشراف غريس، ويقول هذا الباحث أن للكتاب أهمية سياسية، لأنه يتعرض لتاريخ الأعيان والأشراف ويذكر علاقاتهم

= معمر الزردومي أو من عائلته فقط؟ انظر مجلة S.G.A.A.N، 1933، ص 55.

(1)

كريستلو (المحاكم). مرجع سابق، ص 60.

ص: 501

ومكانتهم، ولكن بقاء أبي راس الابن (أو الحفيد) في نفس الوضع خلال مدة طويلة يرجع أيضا إلى تصرفات السلطة الفرنسية مع الذين معها والذين ضدها، فلعله كان متجانبا لهذه السلطة، مكتفيا بالقليل، وقد نعود إلى قصة المخطوط المذكور في فصل آخر (1).

13 -

محمد الخبزاوي: من قبيلة الهزج بالقرب من سيدي بلعباس. تولى القضاء في سيدي بلعباس، ثم المحمدية، وأصبح عضوا في المجلس الأعلى للفقه الإسلامي الذي تأسس في السبعينات وبقي فيه إلى التسعينات، وكانت بينه وبين القاضي شعيب بن علي مرارة قوية إذ قام هذا، كما يرى البعض، بجهد شخصي ضد الخبزاوي، مما جعله لا يستطيع تولى القضاء في تلمسان، وكان الخبزاوي هو الباش عدل في محكمة شعيب بن علي، ولعل الخبزاوي كان يحس أنه أولى بوظيف القضاء من زميله ما دام هو عضوا في المجلس الأعلى المذكور، ويروى السيد كريستلو أن شعيب بن علي قد أخبر الفرنسيين عن الخبزاوي أنه كان ينصح العامة بالتطهر كلما قرأوا رسالة من (رومي). وهكذا بقيت المرارة بين الرجلين طوال حياتهما، إذ كان الخبزاوي يرى أن شعيب بن علي هو الذي عرقله في سلم الترقي، وقد ظهر أثر ذلك في كتابة الحفناوي في (تعريف الخلف) عن الخبزاوي (2).

14 -

محمد بن سعد: من قضاة تلمسان أوائل الاحتلال، ولكنه لم يتول للفرنسيين، كان من علماء الوقت الذين درسوا العلوم الدينية والعربية وتمكنوا منها، ويقول القاضي شعيب بن علي أن محمد بن سعد درس على أبي طالب المازوني، وهذا درس على الشيخ محمد عليش المصري، ولعل

(1) كريستلو (المحاكم). مرجع سابق، ص 59.

(2)

نفس المصدر، ص 204 - 205، ومن أبرز قضاة هذا العهد منوار عبد الرحمن ولد بومدين، ولد سنة 1850 في أولاد سيدي علي بن يوب، ودرس في مدرسة تلمسان الشرعية، ثم دخل ميدان القضاء في الجزائر ومستغانم، وأصبح مستشارا بلديا في وهران، حصل على أوسمة من فرنسا وتونس والسويد، نفس المصدر، ص 277.

ص: 502

محمد بن سعد كان قد درس أيضا في فاس لأن من عادة علماء تلمسان استكمال دراستهم في القرويين كما يفعل علماء قسنطينة مع جامع الزيتونة بتونس، ويدل على صلة محمد بن سعد بالمغرب الأقصى توليه القضاء في تلمسان أثناء عهد ما يسميه الفرنسيون (الحكم المغربي) وهو عهد الأمير عبد القادر الأول، وكان محمد بن سعد هو عم (أو خال) القاضي شعيب المذكور، وكان عالما بالعربية والبلاغة والمنطق.

وكانت علاقة القاضي محمد بن سعد بالمقاومة الوطنية وبالتدخل المغربي في تلمسان قد جعلته لا يبقى في هذه المدينة إذا تغلب عليها الفرنسيون، وهكذا كان يخرج منها ويعود إليها تبعا للظروف السياسية، ويقول السيد (كور) إن عبد الرحمن بن هشام سلطان المغرب، هو الذي سمى محمد بن سعد قاضيا في تلمسان سنة 1831، ولعله كان قاضيا فيها قبل ذلك، والمعروف أن حركة المقاومة عندئذ كانت بزعامة الشيخ محيي الدين والد الأمير مرابط القيطنة، وبعد ظهور الأمير بقي القاضي محمد بن سعد في وظيفته أثناء خلافة محمد البوحميدي على تلمسان، ولكن كلوزيل قام بحملة ضد هذه المدينة آخر سنة 1835 فهرب منها القاضي المذكور ولجأ إلى المغرب الأقصى، ولكن تلمسان رجعت إلى حضن دولة الأمير بعد معاهدة التافنة، فرجع إليها القاضي محمد بن سعد من جديد، ويبدو أنه استمر في وظيفه الأول، فقد أرسل رسالة إلى السلطان عبد الرحمن بن هشام فعرف محتواها من رد السلطان عليها، ومما جاء في هذا الرد أن السلطان اتصل برسالته التي يخبره فيها عن هناء الوطن وأمنه وتطهيره من (الرجس والنجس) - يقصد الفرنسيين - وقد تاقت نفسك للرجوع إليه، والقدوم بالأولاد والحشم عليه، لما جبلت عليه نفس الإنسان من حب الأوطان، وفي الحديث حب الأوطان من الإيمان).

وقد بقي القاضي محمد بن سعد في تلمسان طيلة حكم الأمير فيها، أي من 1837 إلى 1842. ولكن المارشال بوجو غزاها في هذه السنة كما غزا معسكر، فخرج أهل تلمسان من جديد، وفيهم القاضي محمد بن سعد

ص: 503

ومحمد بن عبد الله المجاوي (والد الشيخ عبد القادر) وأبو طالب المازوني، وغيرهم من أعيان تلمسان، وقد توجهوا إلى المغرب الأقصى من جديد، ويقول كور: إن الفرنسيين هم الذين (طردوا) محمد بن سعد من تلمسان سنة 1842، وأن هذا القاضي قد مات بعد ذلك بقليل بمدينة فاس في بؤس وفقر مدقع (1) Une Grande Misère، ولا شك أن كور يريد أن يبالغ في مصير الذين لم يرضوا بالاحتلال الفرنسي، ونحن نتفق معه أن كثيرا من القضاة والعلماء قد أصبحوا في بؤس شديد بعد الاحتلال لكونهم كانوا مع قضية الجهاد والوطنية، ولكن البؤس أصاب أيضا القضاة والعلماء الذين بقوا في (ظل) الاحتلال الفرنسي، وقد وجد الجزائريون عندئذ من أهل المغرب الأقصى كل ترحيب ورعاية.

15 -

إبراهيم العوامر: من قضاة الوادي ومن المؤلفين في التاريخ والتصوف، ومن المدرسين أيضا، ولد بوادي سوف سنة 1881، وهي السنة التي احتلت فيها تونس، ونشأ في عهد الحاكم العام البغيض، لويس تيرمان، وهذا الحاكم كان أول حاكم في مستواه يزور سوف، ثم نشأ في عهد جول كامبون الذي اهتم باستعمار الصحراء، وكان الضابط (كوفيه) عندئذ هو رئيس المكتب العربي بالوادي، وعاصر العوامر أيضا التنافس الشديد بين الطريقتين التجانية بزعامة الشيخ محمد العروسي الذي كان مقره في قمار، والقادرية بزعامة الشيخ الهاشمي بن إبراهيم الذي كان مقره في عميش، ونتيجة لذلك التنافس برزت قضية ايزابيل ايبرهارد في سوف، وفي شبابه كانت الدروس المسجدية قد سمح بها الفرنسيون، وكان الوادي مركزا لنشاط خاص تمثل في

(1) اغوست كور (الاحتلال المغربي لتلمسان) في المجلة الإفريقية، R.A، 1908، ص 29 - 73. ونص رسالة السلطان إلى القاضي محمد بن سعد وترجمته يقعان في ص 62 - 64، والرسالة بتاريخ 14 ربيع 2، 156 (1840). عن محمد بن سعد انظر أيضا الكتاني: سلوة الأنفاس، ج 3/ 78، وقد تحصل كور على بعض الوثائق، ومنها الرسالة المذكورة، من القاضي شعيب بن علي، انظر أيضا ك 48 (الخزانة العامة - الرباط).

ص: 504

اهتمام الفرنسيين بالجنوب والمعاملات مع بلاد السودان والحد من نشاط السنوسية، كما أن في عهده المبكر حدثت حرب طرابلس، وربما كان ذلك أيام دراسته في تونس، وكانت تونس عندئذ تشهد أيضا نشاطا سياسيا على يد بعض شيوخ الزيتونة وحركة الشباب التونسي، وأخيرا نذكر معاصرته للحرب العالمية الأولى وظهور الحركة الإصلاحية والتجمعات السياسية بعدها.

فلا غرابة أن يتأثر العوامر بكل ذلك في وظيفه وتأليفه، درس على شيوخ الوادي ومنهم عبد الرحمن العمودي ومحمد العربي بن موسى، وفي تونس دخل الزيتونة ودرس على الشيوخ: محمد النخلي ومحمد الخضر حسين، وكلاهما كان من المتنورين، وهما من شيوخ ابن باديس أيضا، ولا ندري تواريخ إقامته في تونس ولا تواريخ توظيفه، إنما نعلم أنه توظف في القضاء بمحكمة الوادي التي كانت تحت إشراف المكتب العربي (العسكري). وشارك في النشاط الثقافي بتأليفه في العروض والمواريث والتاريخ والتصوف (1). ويبدو أنه كانت له علاقة أو إعجاب بالشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة فقد شرح العوامر له نظمه في العروض وشطر قصيدة له، ونشر ذلك في جريدة (الفاروق). وكانت القصيدة في ذم البدع والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، وكان ابن الموهوب من أنصار دعوة الشيخ محمد عبده، واهتم العوامر أيضا بالطرق الصوفية التي كانت متنفذة ومنها في الوادي: التجانية والقادرية والرحمانية، وقد انضم إلى جميعها رغم ما بينها من اختلاف في المواقف السياسية، وكانت التجانية هي طريقة والده والقادرية طريقة والدته، أما الرحمانية فقد يكون أعجب بها من خلال شيخه محمد الصالح شيخ زاوية سيدي سالم بالوادي، وقد خص العوامر شيخه محمد الصالح بتأليف، ولعله انتمى لهذه الطرق للاحتماء بها فقط لأن بعضها كانت ذات نفوذ لدى السلطات الفرنسية، ومما يلاحظ عليه أنه انضم إلى قادرية الجريد (توزر) بزعامة الشيخ المولدي بدل قادرية الوادي بزعامة الشيخ

(1) عن تآليفه انظر فصل التاريخ.

ص: 505

الهاشمي، ويبدو أنه لم يكن على علاقة طيبة مع الشيخ الهاشمي أو أنه تفاداه، لأن الشيخ الهاشمي كان في صراع واضح مع الشيخ العروسي، فكان العوامر يذهب سنويا إلى توزر لزيارة الشيخ المولدي.

قام العوامر بالتدريس تطوعا في جامع النخلة بالوادي، ولا شك أن ذلك كان تحت رقابة المكتب العربي، وشملت دروسه العلوم الدينية، خصوصا التفسير ومختصر الشيخ خليل، والعلوم اللغوية كالنحو والصرف، ومن تلاميذه الشيخ حمزة بوكوشة، وتولى أيضا الفتوى بطريقة غير رسمية، فكان متسامحا في آرائه ولا يلتزم بالمذاهب الأربعة، ودافع عن اللغة العربية بعد أن رأى انتشار التعليم الفرنسي، وكان متأثرا بكتيب ينهي مؤلفه المسلمين عن إرسال أولادهم إلى مدارس الفرنسيين (1). والفتاوى التي كان يصدرها إنما عبر عنها في المحكمة التابعة للمكتب العربي، وقد طال عهده في القضاء، ولكنه لم يمارسه في سوف فقط، فقد عين أيضا في أولاد جلال ثم في تقرت حيث توفي سنة 1934، ولا ندري إن كان إخراجه من الوادي عقابا أو أنه كان داخلا ضمن حركة القضاة، وكانت رتبته سنة 1926، هي باش عدل، وكان إلى هذا التاريخ ما يزال في الوادي (2). ورغم ميل العوامر إلى الإصلاح فإننا لا نعلم أنه انضم لجمعية العلماء التي تأسست سنة 1931.

16 -

شعيب بن علي الجليلي: من القضاة الذين خبروا الإدارة الفرنسية وخبرتهم، واستفادوا منها واستفادت منهم، نحو أربعين سنة، إنه شخصية لعبت أدوارا وتطورت أطوارامع الزمن والحاجة، تكون في عهد الاحتلال وتطور معه دون ضجة، قرأ في المدرسة الشرعية - الفرنسية وتولى الإمامة ثم القضاء، وألف في عدة فنون، وحذق الفقه والتصوف والشعر

(1) هو (إرشاد الحيارى وتحذير المسلمين من تعليم أولادهم في مدارس النصارى)، تأليف يوسف النبهاني.

(2)

جريدة (صدى الصحراء) عدد 13، 29 مارس، 1926. وحمزة بوكوشة وحسني الهاشمي، مقدمات كتاب (الصروف)، ط، 1977.

ص: 506

والموسيقى، وشارك في مؤتمر المستشرقين باستكهولم (السويد). وتعامل مع الفرنسيين ضد بعض الموظفين، وترك أحد أبنائه يتبع خطاه ويسير على هداه، فهو شعيب بن علي بن محمد فضل الله الجليلي، ومن بلدة (الفحول) القريبة من تلمسان، ولد حوالي 1835، كان والده من أغنياء الوقت، دخل مدينة تلمسان وأصبح فيها معلما ومالكا للأرض، عاش في تلمسان عيشة الغني الدخيل، وعند وفاته ترك لابنه شعيب اثني عشر سكاس Sakkas من الأرض بينما كانت أحسن العائلات لا تملك سوى واحد أو اثنين فقط، كما ترك له عددا من المنازل والبساتين، درس شعيب في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية أثناء مرحلتها الأولى عندما كانت لا تعلم إلا بالعربية، وكان الفرنسيون مكتفين بمراقبتها ووضع برامجها فقط، وكان من شيوخها عندئذ محمد الزقاي، وقد درس عليه وعلى غيره، جماعة سنذكرهم، كما أخذ شعيب العلم بطريقة الإجازة والعصامية، فالظاهر أنه كان قوي الذاكرة طموحا، وله استعداد قوي.

قرأ عدة علوم ذكرها في كناشه الذي ال إلى الشيخ عبد الحي الكتاني. وليس من السهل تتبع هذه العلوم جميعا، فقد قرأ القرآن الكريم على عبد القادر بن دح، وغيره. وأخذ مختصر الشيخ خليل على محمد بن دحمان ومحمد بن العيدوني، والألفية والفقه على القاضي محمد بن سعد (وهو قريبه كما ذكرنا). والمنطق والبلاغة على القاضي أحمد بن أبي مدين بن الطالب، ومنظومة الاستعارات للطيب بن كيران على القاضي إدريس بن ثابت، والتوحيد وغيره على محمد الزقاي، والفلك على محيي الدين شبي العامري.

أما الإجازات فله منها نصيب وافر. بعضها كتابة وبعضها مشافهة، بل إن بعضها منامية، والإجازات المكتوبة معظمها في التصوف والأوراد، عندما تقدمت سنه وتوسع في العلاقات مع المعاصرين، وأما ما كان منها في غير التصوف، كالفقه والنحو والتوحيد والحديث، فذكر أنه أخذها عن شيخه

ص: 507

أحمد بن البشير بن عبد الله، ومن الذين أجازوه بالمراسلة: المكي بن عزوز، ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، وعبد الكبير الكتاني، وعلي بن الحفاف، وسنذكر علاقته بالتصوف بعد قليل.

هذه الحصيلة من العلوم والمعارف، إضافة إلى ماضي العائلة إذ يذكر أن جده هو مؤلف كتاب (تنبيه الأنام) في التصوف، وهو جد أسرة المجاوي أيضا، وإلى ثروته - كل ذلك جعل الشيخ شعيب يصعد السلم بسرعة ويتمتع بسلطة قلما حازها قاض في العهد الفرنسي، فبعد تخرجه من المدرسة عينوه إماما رسميا في جامع سيدي بومدين الغوث، وهو وظيف يجلب مالا وسمعة، وبعد أربع سنوات في هذا الوظيف ولوه القضاء سنة 1869، فبقي فيه إلى تقاعده أو وفاته أوائل هذا القرن، وكانت ولاية القضاء تشمل أيضا بلدته الأصلية وعددا من أضرحة أجداده، كان عمره 34 سنة عندما أصبح قاضيا، وعند ولايته كان القاضي ما يزال يتمتع ببعض الصلاحيات وقد عاش شعيب بن علي (يكتب بنعلي أحيانا) كل مراحل انتزاع تلك الصلاحيات في عهد الجمهورية الثالثة دون أن نحس بتحركه ضد تلك الإجراءات أو نسمع له صوت احتجاج فرديا أو جماعيا، بالعكس فإن القاضي شعيب قد اضطهد عددا من نوابه، مثل محمد الخبزاوي، وبلغ به التنفذ لدى الفرنسيين أنهم كانوا يسمعون قوله وينفذون إرادته في زملائه، كالاستغناء عن البعض وتعويضهم بآخرين، بل إن الفرنسيين قد سجنوا بعضهم، ولا ندري إن كان ذلك بإشارة منه، وكان يتهم زملاءه بالجهل والفساد، ويقول إنهم لا يعرفون حساب التركات إلا باستعمال الأصابع، وقال عن الخبزاوي إنه يعرض بالفرنسيين عندما ينصح الناس بالتطهر إذا قرأوا رسالة من (رومي). ويقول السيد كريستلو: إنه وعد في الوثائق ما يدل على أن الشيخ شعيب بن علي كان يتجسس للفرنسيين على زملائه حتى خارج تلمسان، سيما أيام ثورة أولاد سيدي الشيخ - بوعمامة - (1881) وأثناء احتلال تونس.

وعند عزل زملائه (غشت 1896) وسجنهم، ملأ هو الفراغ بأشخاص آخرين عينهم بنفسه، ومن أبوز هؤلاء إدريس بن ثابت وهو من عائلة ملكية

ص: 508

تلمسانية، حسب الشائع، ولعل إدريس بن ثابت هذا كان أحد شيوخ شعيب إذ في أوراقه ما يدل على ذلك، وكان ثابت قاضيا في تلمسان ومدرسا في الفقه خلال الخمسينات، وقد واصل مهمته إلى 1865 حين قارب العمى فسمح له بالهجرة إلى فاس مع عائلته، وكان الشيخ ثابت هذا صاحب نفوذ وتأثير في فاس، وبعد أن عرف ابنه إدريس أن ثروة العائلة قد تبددت في فاس رجع إلى تلمسان، ولكن قبل ذلك جرب التعليم في وجدة، وفي سنة 1869 (وهي السنة التي أصبح فيها شعيب بن علي قاضيا) دخل إدريس بن ثابت امتحان القضاء ونجح، وكان ترتيبه ما قبل الأخير من 18 فائزا، دخل إذن سلك القضاء، ولكنه لم يتعين قاضيا إلا بعد ثلاث سنوات (1873) وبمساعدة شعيب نفسه (1).

ومنذ تعيينه تعهد شعيب بن علي إلى الضابط الفرنسي بأنه سيبذل جهده في مهمته، والاجتهاد في السيرة الصالحة (طبقا لرغبتك وطبقا للسنة والشريعة). وعندما اقترح على الضابط عزل زملائه جميعا في المجلس القضائي قال له إنه فعل ذلك (خوفا من الله ومنك). وهذا الموقف من الزملاء ومن التعامل الخاص مع الفرنسيين هو الذي جعل الشيخ شعيب غير محترم من بعض القضاة، فقد قيل: إن قاضي الغسول، وهو عبد القادر بن عبد الرحمن قد ناشد الضابط الفرنسي ألا يسمح لشعيب بالجلوس في المجلس الذي كان يراجع أحكامه سنة 1878، ولا شك أن السلطات الفرنسية كانت تستغل هذه الحساسيات الشخصية والتحاسد والتنافس بين القضاة لصالحها، كما كانت تفعل مع الفئات الأخركما، وهي تسمى ذلك عملية (الصفوف)، أي ضرب صف بصف أو جهة بجهة أو شخص بشخص.

ولعل مكانة القاضي شعيب العلمية وخيوطه الكثيرة مع رجال العلم والتصوف في وقته، بالإضافة إلى علاقته الخاصة بالمستعربين الفرنسيين هي التي رشحته ليكون ضمن الوفد الفرنسي في مؤتمر المستشرقين الثامن الذي

(1) كريستلو (المحاكم)، ص 204.

ص: 509

انعقد في استكهولم (السويد) سنة 1889، ولم يكن دوره بارزا في هذا المؤتمر، وإنما ألقى قصيدة لا ندري قيمتها الأدبية، مدح فيها ملك السيد (أوسكار الثاني) والمؤتمرين، وقد تعرف هناك على الوفود العربية والإسلامية، وهي ليمست كثيرة، ومنها محمد أمين فكري باشا المصري ورئيس محكمة الاستئناف المصرية، ومدحت باشا (تركيا). وسفير إيران، ومحمود شكري الألوسي، وقد تحدث فكري باشا عن القاضي شعيب في بعض العبارات المقتضبة ووصفه (بوافد الجزائر) وقال إنه قد يكون تجاوز الستين سنة وأن ملابسه صوفية بيضاء، ومما ذكره فكري باشا أيضا أن أحد المرافقين لشعيب، واسمه الشيخ البشير، كان هو المترجم لشعيب، وهو (البشير) يشغل وظيفة كاتب في محكمته (1). ونحن نرجح أن تكون وظيفة هذا المرافق هي تسجيل ما يجري أيضا، وهو أمر لا يغيب عن ذهن القاضي شعيب، وواضح من ذلك أن القاضي شعيب كان لا يعرف الفرنسية.

ومع ذلك فقد كانت للشيخ شعيب علاقة حسنة مع المستشرقين الفرنسيين، ويقول السيد كريستلو: إنهم كانوا يرونه نموذجا للقاضي المسلم، وكانوا يطلبون نصيحته (فتواه). وقد استحق على ذلك أوسمة عديدة، ومن ذلك التعاون أنه ساعد الضابط سينييت على ترجمة مختصر الشيخ خليل، وأثناء انعقاد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905، نظم القاضي شعيب قصيدة رائية (2) مدح فيها الحاكم العام جونار، والجزائر والمؤتمرين، وقد ألقاها ابنه، أبو بكر عبد السلام، نياية عنه، وربما كان ذلك لتقدمه في السن أو لمرض ألتم به، إذ وجدناه يشتكي حالته الصحية في مراسلاته عندئذ، وكان يتبادل الشعر والمراسلة مع رئيس محكمة

(1) محمد أمين فكري باشا (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا). القاهرة، 1892، ص 608.

(2)

نصها غير واضح في مخطوط ك 48، فيه شطب وحروف ممحوة، وعليها تعاليق في الهامش قد تكون للكتاني، وهي عبارة عن مسودة، ومطلعها تارة:(العلم قد طلعت له أقمار) وتارة: (العلم قد سطعت له أنوار) الخ.

ص: 510

الاستئناف بالجزائر، السيد (زيس) Zeys، ومن ذلك أن زيس نفسه قد أرسل إليه قطعة شعرية رائية، جاء فيها اسمه صراحة في البيت الثاني عشر، واخر بيت فيها هو:

من ناء عن الخلان والقلب عندهم

(زئيس) رئيس الشرع سكنى الجزائر (1)

أما قصيدة القاضي شعيب في المؤتمر الأخير فقد نعرض إليها في فصل الشعر.

هذا عن مكانة القاضي شعيب لدى الفرنسيين، أما مكانته لدى العرب والمسلمين فالظاهر أنها كانت علمية دينية لا سياسية، وكل الأوراق التي اطلعنا عليها حول حياته تذكر أنه كان معروفا لعدد من العلماء ورجال الفكر، ولكن الذين أشادوا به وبعلمه قليلون، وأكثرهم من أهل التصوف، ولذلك نجد الإشارات إليه هكذا:(ذكره فلان) و (أثنى عليه فلان) ونحو ذلك دون وجود النصوص الدالة على ذلك والمفصلة، وقد رأينا حديث محمد أمين فكري باشا عنه، وقد قيل إن الشيخ محمد عبده قد أثنى على بعض قصائده، وأن محمد فريد بك قد ذكره في رحلته (من مصر إلى مصر). وأن المهدي الوزاني، مفتي فاس، قد ذكره أيضا في رحلته التي سجل فيها زيارته للجزائر وتونس، وممن نوهوا به في الإجازات ونحوها: محمد بن عبد الرحمن الديسي الذي شرح نظمه في التوحيد، وكذلك عبد السلام اللجائي الفاسي الذي شرح أيضا نفس النظم، ومدحه الاغا حمزة (والد محمد بن رحال؟). بقصيدة، وكذلك فعل محمد بن سعيد، حفيد شيخه القاضي محمد بن سعد الذي سبقت إليه الإشارة، وعلي بن الحاج موسى، وراسله عدد ممن ذكرنا، وترجم له الحفناوي في تعريف الخلف، وقرظة أحمد سكيرج المغربي.

(1) مخطوط ك 48 (الخزانة العامة - الرباطا). وجاء مع القصيدة أنها ضمن رسالة كتبها (رئيس الشرع بريزيدان لاكور دابيل)(أي رئيس محكمة الاستئناف) في الجزائر. انظر أيضا عن قصيدة المؤتمر وحضور الابن دون الأب، المجلة الإفريقية، R.A، 1905، ص 325 من مقالة للشيخ محمد بن أبي شنب عن المؤتمر.

ص: 511

وكان الشيخ شعيب كثير الاهتمام بنفسه ولفت الأنظار إليه، فعندما طبع (عقيدة التوحيد) أخذ يرسل منها النسخ إلى العلماء والمعاصرين ويجيز بها من يطلب الإجازة، وقد أرسل 75 نسخة من (العقيدة) إلى مدير جريدة الحاضرة التونسية، وهو علي بوشوشة (هدية للمتعلمين مثلي من أبناء القطر، سائلا غض الطرف عنها من مثلكم، فضلاء العصر). وحملها إلى تونس بعض الشبان التلمسانيين (1).

كما كان الشيخ شعيب يمنح الإجازات لغيره في مختلف العلوم بما فيها التصوف، واستنجد به البعض لمكانته وسماع كلمته، فوجدناه قد أجاز عبد الحليم بن سماية، وعبد الحي الكتاني، والهاشمي بن أحمد (وكذلك أولاده وأحفاده).

وجاءه الشيخ محمد الشافعي النفطي (تونس) لزيارته في داره في تلمسان فلم يجده، وقبل الزيارة بعث إليه بقصيدة ورسالة (عام 1330). وكتب إليه عبد الله الشريقي بن حسن قصيدة وقطعة نثرية يتملقه، وطلب منه محمد بن عيسى بلله (؟) التدخل من أجل الحج سنة 1321، وراسله مفتي مستغانم عبد القادر بن قار مصطفى يشكو له العجز والانشغال.

كان القاضي شعيب منشغلا بالتصوف أيضا، ويبدو لنا أنه لم يكن (متصوفا) بالفعل والقلب وإنما كان يتخذ رجال التصوف والطرق لأغراض اجتماعية أخرى أو باعتبار ذلك بضاعة العصر، فهو لم يكن مرابطا ولا رئيس طريقة ولا حتى مقدما، ونستدل على ذلك أيضا من كونه جمع بين طرق كثيرة، وحتى ما كان منها لا يجمع مع غيره، في وقت واحد، وهذا ما جعل عبد الحي الكتاني يكتب إليه كراسة سماها (المرفوعات الحسان) يسأله أسئلة تبدو محرجة عن أخذه أوراد الطريقة من هنا وهناك، وعن بعض الإجازات التي لم تكن مسنودة، كما جرت العادة، ومهما كان الأمر فإن القاضي شعيب يروي أن له رؤى منامية متعددة وهو يقصها بالوصف المفصل، وقال إنه أخذ

(1) مخطوط ك 48، والرسالة بتاريخ 11 ربيع 2، 1322 (؟)(لعله 1333).

ص: 512

أوراد الشاذلية عن الحبيب بن موسى الخالدي، المتوفى سنة 1287 (1). ثم عن الحاج عبد الله بن عدة الشويرف، المتوفى سنة 1298، ثم عن قدور بن سليمان المستغانمي، أما دلائل الخيرات فقد أخذه عن قاضي وهران (الآن) الشيخ أحمد بن حسن الشريقي المختاري، وذكر شعيب أنه شاذلي/ درقاوي منذ 1283، كما أخبر أنه أخذ الطريقة التجانية أيضا عن الشيخ علي بن عبد الرحمن مفتي وهران (يسميه علي الوهراني). ولما حاججه الكتاني في ذلك وسأله كيف يجمع بين هذه الطريقة وغيرها وكان شيوخها لا يأذنون فيها إلا لمن انسلخ من غيرها، أجابه شعيب جوابا غير دقيق فقال إنه كانت له دالة على الشيخ علي بن عبد الرحمن (يسميها تدللا ولا ندري سبب ذلك التدلل) فأذن له فقط في (صلاة الفاتح) من غير عدد الخ، وأضاف شعيب أنه أخذ الطريقة التجانية أيضا عن شيخه قدور بن سليمان المستغانمي الذي هاجر إلى الحجاز، وكان قدور هذا وكذلك الشيخ الموسوم (وهما شاذليان) يأذنان في التجانية ولا يشترطان الانسلاخ من غيرها، وكذلك كانت بينه وبين أحمد سكيرج علاقات وطيدة، وكان يلتقي به في الزاوية التجانية بتلمسان ويمدحه، وهو (سكيرج) من أقطاب التجانية (2). وقد تكون للقاضي شعيب انتماءات أخرى.

وقد ألف القاضي شعيب عددا من المؤلفات، وليس من بينها كتب أو رسائل في التصوف، بل إن جميعها تدل على عقلانيته ودنيويته، وهي تتراوح من علم التوحيد إلى علم الموسيقى، وشارك في نظم الشعر ولكنه لم يكن

(1) قال عنه إنه كان من أهل التصريف (الكرامات) حين هاجر بنو عامر إلى المغرب هاجر هو إلى سبخة وهران، ولما رجعوا رجع، واعتبره من أساطين الطريقة الشاذلية (الدرقاوية). وكان الشيخ الخالدي يرى أن الهجرة الصورية (البدنية) انقطعت، أما الهجرة الروحية فباقية ببقاء الدنيا، ك 48 مخطوط، وقد دفن شرقي وادي مكرة من أرض بني عامر.

(2)

انظر مخطوط ك 48، وقد قرظ سكيرج (الكلمات الشافية) وهو شرح العقيدة الذي وضعه الديسي وأثنى على الناظم (شعيب) والشارح، ومن جهته مدح القاضي شعيب التجانية ودعا بعمارة زاويتها وتكثير عدد أتباعها.

ص: 513

شاعرا، وإنما استعمل الشعر على عادة الفقهاء القدماء، وقد حافظ على تقاليد جيدة في ذلك، فكان استثناء بين معاصريه، كما شارك في حل الألغاز وتبادل القطع الأخوانية، وله رسائل عديدة لا تدل على مهارته في النثر، ولكنه كان متين الأسلوب، وإذا عرفنا ظروف الدراسات العربية والإسلامية في الجزائر أكبرنا جهده في ذلك، وقد كان شعيب في تلمسان من نوع المجاوي في قسنطينة والعاصمة، غير أن هذا كان مدرسا فقط والآخر قاضيا فقط، فكان تلاميذ المجاوي أكثر من أتباع شعيب، وكلاهما من نفس المدينة ومن نفس الأصل، وكانت تلمسان في عهده تنافس العاصمة وقسنطينة في الاهتمام بالدراسات العربية، رغم أن الشيخ شعيب كان يعمل خارج إطار المدرسة الشرعية - الرسمية، وسندرس تآليفه في جزء آخر.

قلنا إنه لم يكن للشيخ شعيب تلاميذ، لكن يجب تدارك ذلك، إن تلميذه الوحيد البارز هو ابنه أبو بكر عبد السلام، فقد كان نسخة من أبيه تقريبا في العلم والسلوك، ويقول السيد كريستلو: إن القاضي شعيب قد أعد ولده ليكون قاضيا بعده، وقد تكون أبو بكر تكوينا شبيها بأبيه فتخرج من مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، ثم من مدرسة الحقوق بالجزائر وهي التي أصبحت كلية بعد إنشاء الجامعة (1909). وفي حياة والده شق طريقه أيضا على نفس النهج، فبدأ عدلا في جهة عمي موسى، ولكن يبدو أنه مال عن القضاء إلى التدريس، فالتحق بمدرسة تلمسان التي تخرج منها، في عهد إدارة المستشرق الفريد بيل، وكان أبو بكر كوالده أيضا يتقرب من المستشرقين الفرنسيين وينشر في مجلاتهم ويحدثهم عن عادات وتقاليد العرب والمسلمين ويدافع عن الحضارة الإسلامية، وسندرس آثاره في غير هذا، إنما نضيف أنه ناب عن والده في مؤتمر المستشرقين بالجزائر سنة 1905، فألقى قصيدته المشار إليها، كما ألقى أبو بكر عبد السلام نفسه بحثا عن (تصنيف العلوم الإسلامية) قال عنه محمد بن أبي شنيب إنه عملية ليس من السهل تلخيصها، وفي 1900 حضر أبو بكر مؤتمر علم الاجتماع الكولونيالي وفاخر فيه بثقافة الجزائر القديمة، ولكنه جعل عنوان بحثه (دمج

ص: 514

أهالي الجزائر المسلمين) ودعا فيه إلى ضرورة إلحاق الجزائريين بالأوربيين، ورغم أنه يقرأ العربية جيدا فإنه كان يكتب ويؤلف بالفرنسية لأن الخطاب موجه إلى الفرنسيين وليس إلى الشعب الجزائري (1).

17 -

حسن بن بريهمات: يمكننا أن ننظر إلى حسن بن بريهمات على أنه من خيرة إنتاج المدرسة الفرنسية في الجزائر ومن بواكيرها، ولو أخرجت هذه المدرسة الكثير من أمثاله لكانت قد قدمت فائدة كبيرة للبلاد، ولكن العدد كان ضئيلا والنماذج منه أقل من القليل، وبصفته من نتاج المدرسة الفرنسية كان حسن بن بريهمات ممثلا لجيل بل أجيال كانوا يداهنون ويراوغون ويحاولون الجمع بين رضى أهلهم واسترضاء المستعمرين، بين رضى الله ورضى الحاكم الفرنسي، وقد أنجب حسن أولادا كانوا أقل منه قدرة على أسلوب الاسترضاء ودون مستواه في العلم التراثي الإسلامي، فأخذوا يذوبون في غيرهم، رغم علمهم ومكانة والدهم، إلى أن اختفوا أو كادوا، وكانوا درسا قاسيا لأنصار الاندماج والذوبان.

ولد حسن بالعاصمة في تاريخ مجهول قد يكون أول القرن التاسع عشر (حوالي 1821)(2). وكان من أوائل الجزائريين الذين دخلوا المدرسة العربية - الفرنسية (الابتدائية) التي أنشئت سنة 1836، كان والده من الحضر، يكتب لوكيل الحرج (وزير البحر والخارجية) خلال العهد العثماني، وستكون وظيفة حسن شبيهة بوظيفة والده، ولكن مع الفرنسيين، وكان والده صاحبا في القراءة الأولى للشيخين: محمد بن الحاج حمو ومصطفى الحرار، ولكن العقد قد انفرط بالجميع، ويبدو أن والد حسن قد توفي مبكرا، وكانت

(1) كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 205، وكذلك المجلة الإفريقية، R.A، 1905، ص 325. وبالإضافة إلى ما ذكرنا عن الشيخ شعيب، انظر تعريف الخلف.

(2)

استنتجنا ذلك من كونه سيقول لتلاميذه (سنة 1861) إن له أربعين سنة لم يفرح بالعيد فرحه بالعيد الذي كانوا فيه معه (انظر لاحقا).

ص: 515

العاصمة عند نشأة حسن تعج بالوجوه القديمة والجديدة، فعاصر عهدين مختلفين تماما وشاهد استبدال سلطة بأخرى بطريق العنف والجبروت، وقد يكون له في العائلة والأقارب والجيران من طوحت بهم الأقدار بالنفي والإبعاد، فتكونت في نفسه كراهية الفرنسيين والخوف منهم وضرورة مجاملتهم إذا كان سيعيش في الجزائر ولا يكون مصيره مصير العلماء الذين سيقوا كالمجرمين إلى السفن المهاجرة عبر البحر.

كان المكتب العربي في البليدة يبحث عن قاض فوجده في حسن بن بريهمات، شاب عرف المدرسة الفرنسية في باكورتها، وصهر لعالم متصوف هو مصطفى الحرار، (مدرس في جامع صفر). وابن لأحد الخوجات السابقين. وكان الفرنسيون يقدمون من يعرف لغتهم ومن عاش في عهدهم على غيره، مهما كانت المؤهلات الأخرى، فوجدوا في هذا الشاب ضالتهم، وقد يكون ذلك أول وظيف رسمي له، ومهما كان الأمر فقد ظل يترقى في سلم الوظيف حتى وصل إلى عضوية المجلس الشرعي ومدير المدرسة الرسمية، وكان حسن من مستقبلي نابليون الثالث حين زار الجزائر، كان توليه القضاء في البليدة في 15 ابريل 1853 بتعيين من الحاكم العام راندون، خلفا لمحمد الدلسي، وكان القضاء عندئذ منصبا سياسيا عند الفرنسيين لأن القاضي لا يمثل الشرع الإسلامي في الحقيقة ولكنه يمثل الدولة الفرنسية، كما أن سلطة القضاة المسلمين ما تزال ممتدة إلى المنازعات والتركات والتجارة ونحوها، ومن ثمة فالقاضي إنما هو رمز للسلطة الفرنسية (1).

ولكن وظيفه في القضاء كان دورة فقط، اكتشفه فيها الفرنسيون، ولاحظوا عليه الذكاء والمهارة والطموح، فاقترحوه لوظيفة أخرى ذات أهمية أوسع، سيما وأنهم كانوا مقبلين على تنظيم القضاء الإسلامي بما يناسب إدارتهم وسلطتهم، وفي اقتراح رئيس القطاع العسكري له سنة 1855 ليكون

(1) عن تعيينه انظر المبشر عدد 135، ابريل 1853. وكذلك رسالة الباحث إبراهيم الونيسي.

ص: 516

مديرا لمدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، لاحظ الضابط أن حسن بن بريهمات سهل الانقياد وذكي، وأنه يحب الأفكار التقدمية ويعرف كيف يوائم بين الواجبات الدينية ومتطلبات التقدم، فهو في نظر الضابط (أداة طيعة منقطعة النظير) وظل رأي الفرنسيين فيه ثابتا حتى بعد أن وصفوه بالمسلم الصادق في إسلامه وبالتعامل الضروري مع الفرنسيين أو بأنه رجل تقدمي ومعجب بالحضارة الفرنسية، وقد يكون فعل ذلك تفاديا لإثارة الغضب ضد الفرنسيين وحماية للدين والوطن، كما قال بعضهم (1).

عاش حسن بن بريهمات حوالي أربعين سنة في الوظيف الفرنسي، وتقلب مع مختلف الموجات والحكام، من راندون، إلى بيليسييه، إلى ماكماهون، وديقيدون، وشانزي، وعاش حتى جزءا من عهد تيرمان، وبينما رمت الموجات بزملائه يمينا وشمالا ظل هو يحسن السباحة والغطس والطفو دون أن يمسه سوء، فبالإضافة إلى المدرسة التي نقلت من البليدة إلى الجزائر، عهد إليه في 21 مارس سنة 1860، مع لجنة من زملائه، بترجمة القانون الخاص بتنظيم المحاكم الإسلامية في الجزائر، وهو القانون الذي أصدره نابليون الثالث في 1859، وكان من أعضاء اللجنة المفتي حميدة العمالي والصحفي السياسي أحمد البدوي ومحمد بن مصطفى، وقبل ذلك، أي سنة 1854، عين ابن بريهمات عضوا في المجلس الفقهي الذي أنشأه الفرنسيون (2). ومن الوظائف الأخرى الهامة، رغم أنها رمزية فقط، عضويته في المجلس الاستشاري بالحكومة العامة سنة 1865، وهو منصب خاص ببعض الجزائريين الذين تعينهم السلطة (لتمثيل) الأهالي.

وقد نشط ابن بريهمات خلال الستينات، فوجدناه في تونس سنة 1286 هـ (1869) في مهمة لا نعلمها، وكان يكتب المقالات في المبشر، وينوه بكتاب خير الدين باشا التونسي شعرا ويراسله به، والناس إذا رأوا

(1) آلان كريستلو (محاكم الشريعة الإسلامية)، برنستون، 1985، ص 2 - 114.

(2)

انظر سابقا.

ص: 517

شخصا طلع نجمه توجهوا إليه وقلما يسألون لماذا وكيف، وهكذا اشرأبت الأعناق إلى ابن بريهمات فكان هو العالم، والصحفي، والمدير، والقاضي، والمعلم، والشاعر، والنائب

ففي سنة 1860 استضاف حوالي 40 من تلاميذه في بيته بمناسبة عيد الفطر، وكان هؤلاء يتلقون العلم في المدرسة السلطانية التي أسميناها المعهد (الكوليج) العربي، وكان الفرنسيون يحبون هذه المبادرات التي لا تربط بين المعلم والتلاميذ ولكن بين من يمثل أفكارهم والجيل الجديد من الأهالي، حتى أن جريدة المبشر التي أوردت الخبر قالت بعد التنويه إنها مبادرة تدخل في مهمة فرنسا لصالح عامة الناس (1).

وفي السنة الموالية كرر حسن بن بريهمات نفس المبادرة ولكن بمناسبة عيد الأضحى، وبعد تناول الطعام خاطب تلاميذه فنوه بالعلم وحثهم على تقليد أسلافهم الذين رحلوا من أجله إلى الصين، وهذا أمر لا غبار عليه، ولكن المسألة كانت وراء ذلك وهي أن الفرنسيين كانوا عندئذ يشنون حملة لحمل الجزائريين على إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية الابتدائية الى 36 التي أنشأوها. وكان معظم الجزائريين يقاطعونها خوفا على أبنائهم من المسخ الفكري ونسيان لغتهم والتأثير في دينهم، ونوه ابن بريهمات كذلك بالدكتور (بيرون) مدير المدرسة (الكوليج). ودعاهم إلى حمد وشكر (سيدنا السلطان نابليون الثالث) ودعا أيضا للامبراطورة (يوجيني) بطول العمر وحفظ ابنها الوحيد (ذلك الفرقد الوقاد) حسب تعبيره، وكان موقف ابن بريهمات عندئذ كموقف ابن الموهوب بعد نصف قرن، إذ قال: على التلاميذ أن يشكروا فضل من أنشأ لهم المدرسة (الكوليج) ويسر لهم العلم (2).

وحانت فرصة أخرى ظهر فيها ابن بريهمات الشخصية العلمية الأولى في البلاد، وذلك على إثر وفاة الخليفة حمزة زعيم أولاد سيدي الشيخ، سنة

(1) المبشر، عدد 15 مايو 1860، وكذلك بحث إبراهيم الونيسي.

(2)

المبشر، عدد 319، 12 يوليو، 1861، كانت الضيفة يوم 18 جوان 1861، وكذلك رسالة إبراهيم الونيسي، وسبب ذكر نابليون وزوجته عندئذ أنهما زارا الجزائر لأول مرة سنة 1860.

ص: 518

1861، وكان اختفاء هذا الخليفة محل شبهة إذ كثرت الإشاعات والأقاويل حول موته أو قتله من قبل الفرنسيين بعد استدعائه إلى الجزائر وإثارة الشكوك حول موقفه (1). وليس هنا محل الحديث عن الخليفة حمزة، ولكن محل الحديث عن ابن بريهمات الذي عينه الحاكم العام المارشال بيليسييه للإشراف على كل مراسيم التأبين من القراءة عليه والصلاة والتجهيز والخطب والدفن وتقبل التعازي، كل ذلك بحضور العلماء الرسميين وغير الرسميين والسلك القضائي والسلطات الفرنسية، وعلى رأسها المارشال بيليسييه نفسه، وقائد القطاع العسكري وفرقة من الجيش، وكان هذا التأبين، الرسمي أكثر من اللازم، من أجل تغطية شبهة قتله وذر الرماد في العيون، وكان دور ابن بريهمات هو التنسيق بين كل هذه الأجهزة، فهو الذي أعد المدرسة الرسمية لاستقبال الجثمان، وأحضر جيشا من القراء ومنشدي قصيدة البردة ومعدي الطعام للفقراء الذين بلغوا حسب الجريدة (المبشر) قرابة الألفين، وجاء ابن بريهمات بإمام الجامع الكبير لتغسيله، وبالمفتي حميدة العمالي للصلاة عليه، وبعد دفن الجثمان في مقبرة سيدي محمد (محمد بن عبد الرحمن الأزهري) وقف ابن بريهمات يتقبل التعازي نيابة عن أسرة الفقيد التي كانت غائبة، إنها لمسرحية حبكت أدوارها بدقة، وكان الممثل الرئيسي فيها أو البطل هو حسن بن بريهمات.

وفي 1865 زار نابليون الثالث الجزائر للمرة الثانية، وكان ذلك في عهد حاكم عام جديد، هو المارشال ماكماهون، وكان الحديث قد كثر عن المملكة العربية وفرسانها، وصف ابن بريهمات وصول موكب الامبراطور إلى مدينة الجزائر بالبحر في 3 مايو 1865، وتفنن في ذلك بما سمح به قلمه، وتحدث عن شخصية نابليون وعن زيارته الأولى أيضا، وعن مراسيم الاستقبال التي أعدت له وكيف اتخذت المدينة زينتها، وعن الخطب التي ألقيت بالمناسبة، وأثناء المادبة الرسمية التي أقامها نابليون على شرف أعيان

(1) انظر تفصيل ذلك في المبشر، وقد نقله إلي الباحث إبراهيم الونيسي مشكورا من (الميكروفيلم). 8 يناير 1990.

ص: 519

الجزائر والقيادات العربية، ألقى ابن بريهمات باتفاق مع السلطات طبعا، كلمة الشرف، وكانت في مدح الامبراطور وأسرته وجلائل الأعمال التي تقوم بها فرنسا في عهده، وقال عن التآليف التي ألفت في عائلة نابليون الثالث إنها (تشهد بفضله وعدله

لو كتبت بماء العين لكان قليلا في حقها ..) (1).

وظهر قلم ابن بريهمات أيضا في تأبين شخصيتين من أعيان البلاد وأصدقاء والده، الأول منهما هو الشيخ حسن بن أحمد - أمين البنائين أو المهندس المعماري، وكان أحمد هذا هو الذي هندس وبنى عددا من حصون ومساجد وقصور الجزائر قبل الاحتلال، وشارك في بناء جامع كتشاوة، وجدد بناء جامع صفر (سفير) وجامعي القصبة الداخلي والخارجي، وكان من الذين عرفوا رئيس الطريقة الرحمانية (محمد بن عبد الرحمن الأزهري) شخصيا وأخذها عنه، وقد أشاد به ابن بريهمات أثناء تأبينه لابنه، وكان ابن بريهمات يعرف أن معظم البناءات التي بناها أحمد هذا قد هدمت، وأن جامع كتشاوة قد حول إلى كنيسة، وأن الفرنسيين قد احتلوا السراية (القصر) الخ، فلم يتعرض ابن بريهمات إلى أي شيء من ذلك رغم أنه شاهد هدم بعضها في طفولته، وهي عندئذ ما تزال قائمة، وعندما تحدث عن ابنه (حسن بن أحمد) قال إنه من حفظة القرآن ومن تلاميذ مصطفى الحرار (صهر ابن بريهمات). وقد عينته فرنسا سنة 1845 محافظا لخزانة المكتبة الرسمية (السلطانية، كما سماها). وفي 1858 عينته فرنسا أيضا إمامأ للمدرسة (الكوليج) العربية ليؤم التلاميذ المسلمين، وقد جمع بين الوظيفتين، وظل كذلك إلى وفاته سنة 1867 (2).

أما الشخص الثاني الذي أبنه وأطال، فهو محمد بن الحاج حمو، أحد العلماء، ويهمنا من ذلك أن ابن بريهمات يمر على الأحداث التاريخية الحساسة فلا يعلق عليها بشيء، ذلك أن الشيخ محمد بن الحاج حمو كان

(1) المبشر، عدد 12 مايو، 1865 ورسالة إبراهيم الونيسي.

(2)

المبشر 21 فبراير، 1867.

ص: 520

من مليانة، وكان قد التحق بالأمير عبد القادر وشارك في المقاومة الوطنية، وكان كغيره ممن تبدلت عليهم الأحوال وعاشوا الأهوال حتى أصبح هاربا بأسرته لا يلوي على شيء، وقد صادرت السلطات الفرنسية أملاكه فأصبح بدون مأوى ولا قرار، وبعد ذلك توسط بسليمان بن صيام أحد أعيان مليانة الذين سبقوه إلى الانضمام للفرنسيين فردوا له أملاكه وعينوه قاضيا وخطيبا، وقد انصب تأبين ابن بريهمات على هذا الجانب فقط، وكان ينمق كلماته ويسجع جمله (1).

أعجب ابن بريهمات بمظاهر الحضارة الفرنسية وخالط أهلها، ولا ندري ما إذا كان قد ترك كتابا أو رسالة يحلل فيها إعجابه بذلك ويبرره على ضوء الدين الإسلامي والعادات المتفشية. إن كل ما وجدناه له هذه الكلمات التي يكتبها في مناسبات معينة، وفيها يشير إلى بعض تلك المظاهر الحضارية، سيما العلم والمنشآت، أما الحياة المادية الأخرى فلا نجد له أثرا في وصفها، وكان وجوده في القضاء وفي أعلى سلطة قضائية كالمجلس الفقهي والمجلس الشرعي يدل على احتفاظ الفرنسيين به هناك لانسجامه مع أفكارهم ولكونهم لاحظوا، كما قال كريستلو وكما لاحظ الضابط الذي اقترحه، أنه يحاول التوفيق بين الالتزامات الدينية ومتطلبات الحياة المادية التي يفرضها الفرنسيون، وقد وصفه تلاميذه وعارفوه بأنه كان يحسن التكلم باللغة الفرنسية (خطابا وجوابا)، ومدحه الحفناوي بأنه كانت (له خبرة بمجريات الأحوال)(2). وهو يقصد بذلك السياسة وشؤون الحكم والعلاقات الاجتماعية.

ونعرف من عدة مصادر أنه أعجب بكتاب (أقوم المسالك في أحوال الممالك) لخير الدين باشا التونسي، وقد طبع هذا الكتاب أيام أن كان ابن بريهمات في أوج سمعته ونشاطه، ونشرت المبشر (أقوم المسالك) على

(1) المبشر 31 ديسمبر 1868، عن ابن صيام انظر فصل الرحلات، وكذلك رسالة إبراهيم الونيسي، وعن القاضي محمد بن الحاج حمو انظر سابقا.

(2)

(تعريف الخلف). 2/ 120.

ص: 521

حلقات فاطلع عليه قراء العربية في الجزائر، لأنه كان يتماشى مع الدعوة التي تدعو إليها فرنسا، وهو الإشادة بتقدم أوربا وعلومها، وتدل القطعة الشعرية التي نظمها ابن بريهمات في أقوم المسالك ومؤلفه على أنه من أنصار الفكرة نفسها التي دعا إليها خير الدين، وفيها يقول (1):

لله درك خير الدين من علم

أبدى منار الهدى للناس في القنن

نهجت نهجا قويما قل سالكه

إلى السياسة كي ينجو من الفتن

بينت طرق السداد بل وأقومها .. وقمت منتصرا للدين والوطن

حق على أمة الإسلام شكركم

ورعي تأليفكم بالقلب والأذن

فهو يعتبر (أقوم المسالك) انتصارا للدين والوطن ومن واجب المسلمين العمل به والاستفادة منه (2).

ولا ندري السبب الذي حمل حسن بن بريهمات على زيارة تونس سنة 1286 هـ (1869). وهل كانت زيارة رسمية أو خاصة، والغالب أنها كانت الأولى، لأنه كان عندئذ متوليا للمجلس الفقهي، ولعل الزيارة تدخل في التنسيق بين هذه المسؤولية وما كان يجري في تونس في مثلها، وقد تلقاه عندئذ علماء وأدباء تونس بالترحيب، ومدحه أثناءها الشيخ محمد السنوسي بقطعة شعرية، منها قوله:

فيه السياسة قد حازت رياستها

تلقاه منبسطا كالطير حين رنا (3)

ولم يكن نشاط ابن بريهمات هو هذه المسؤوليات الرسمية والتعليم والشؤون القضائية فقط، بل إنه كان أديبا وشاعرا أيضا، وكان يكتب في الصحيفة العربية الوحيدة (المبشر). وهي صحيفة رسمية لا مجال فيها

(1) القطعة بتاريخ 1284 هـ (1867).

(2)

نفس الرأي نجده أيضا عند الأمير عبد القادر حين أشاد بكتاب (أقوم المسالك). انظر دراستنا عن ذلك في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 4.

(3)

مخطوط المكتبة الوطنية - تونس، كناش السنوسي رقم 16631، والقطعة هي رقم 3 في الكناش.

ص: 522

للعواطف والأدبيات والإخوانيات، وكان العصر أيضا عصر تصوف وطرق صوفية، وكان الانتماء إلى إحدى هذه الطرق أو أكثر هو الظاهرة الغالبة على العلماء والفقهاء أيضا، فالأمر لم يكن قاصرا على الأشراف والمرابطين والمقدمين والدراويش، فما طريقة حسن بن بريهمات إن كانت له طريقة؟ لقد ذكر الطريقة الرحمانية عدة مرات بالنسبة لمن أبنهم، ونفهم أن شيخه وصهره مصطفى الحرار كان من أتباع الرحمانية، ويضيف لويس رين الذي درس الطرق الصوفية ورجالها المعاصرين أن ابن بريهمات كان قادري الطريقة، قائلا إنه قد أخذ معلومات شفوية عن القادرية منه وأنه كان أحد أتباعها (1).

هذه الشخصية المتحركة في مجالات الأدب والسياسة والعلم والقضاء في الجزائر خلال النصف الثاني من القرن الماضي، من أي مدرسة تخرجت وعلى أي شيوخ درست؟ إن الوثائق لا تتحدث عن الكثير من ذلك، ونكاد نقول إن حسن بن بريهمات قد ثقف نفسه بنفسه، فالمدرسة الفرنسية الأولى وجدته ابن خمس عشرة سنة تقريبا، وفي تلك السن كان قد حفظ القرآن الكريم وسار على عادة الحضر في العاصمة من حفظ المتون والأشعار وقواعد الدين، وكان والده من أهل الكتابة الإدارية - الديوانية، وقد تكون له مكتبة ووثائق يطالع فيها هذا الابن الذكي جدا، ومنذ 1834 أسس الفرنسيون مدرسة حضرية حاولوا أن يجلبوا بها بعض أبناء الحضر، ولكن التقارير تقول إنها بقيت فارغة، ثم أنشأوا المدرسة العربية - الفرنسية سنة 1836، ويكون ابن بريهمات قد دخلها بعض الوقت، ولم تكن تشترط سنا معينة، وربما لم تطل إقامته بها لأنها ظلت تتعثر ومعظم الحضر قاطعوها، ولذلك يبقى السؤال: كيف تثقف هذا الفتى وعلى يد من؟.

إن كبار المدرسين في العهد الذي يصادف سن طلب العلم عند حسن

ابن بريهمات هم محمد بن الشاهد، ومصطفى الكبابطي، وعلي

(1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، ص 173، هامش 3.

ص: 523

المانجلاتي وعلي بن الأمين، وأحمد بن الكاهية، ومصطفى الحرار، الخ، وقد بقي بعضهم إلى سنة 1843 مثل الكبابطي، و 1845 مثل الحرار (1). ولكننا لا ندري على من درس ابن بريهمات غير صهره الحرار، فهذا الشيخ هو الذي ذكر في إجازته له أنه لازمه عدة سنين ودرس عليه العلوم العقلية والنقلية ربما في جامع صفر الذي كان مدرسا به، وقد مدحه بأنه فاق أقرانه فيها، ولذلك أجازه في تلك العلوم إجازة مطلقة وعامة، وبالإضافة إلى ذلك أجازه الحرار بما أجازه به الشيخ محمد صالح الرضوي البخاري، وهو المصافحة وسند الحديث، وبذلك تكون معلومات حسن بن بريهمات ضيقة جدا إذا نظرنا إليها من هذا الجانب، ومع ذلك يصفه الحفناوي بأن له (اليد الطولى في الآداب العربية والعلوم الدينية

وعلم عجيب بالتاريخ وطبقات الأدباء)، وقد عرفنا أن زمن ملازمته لشيخه وصهره الحرار هو فترة الأربعينات (فترة حكم بوجو) تقريبا، عندما كان هو في العشرينات من عمره، ولم يكن الجو العلمي عندئذ صافيا ولا هنيئا، فالعديد من المدارس والزوايا والمساجد قد هدمت أو أغلقت أو عطلت، ومات بعض العلماء المذكورين وهاجر آخرون، ومع ذلك فقد برز الشاب حسن بن بريهمات من هذا الرماد كالطائر الأسطوري ليملأ الفراغ ويكون المبشر بجيل جديد.

لم يشتهر حسن بن بريهمات بأنه كان من (المدرسين) التقليديين في المساجد، لقد مارس القضاء وإدارة المدرسة وعضوية اللجان ونحو ذلك، ولكنه لم يجلس لبث المعارف والعلوم في المسجد ونحوه، ولا نعرف ما المادة التي كان يدرسها أثناء إدارته للمدرسة، ولعلها مادة الفقه، ما دام تخصصه العملي تقريبا هو الأحكام الشرعية. وقد علمنا أن (تلاميذه) كانوا يزورونه من وقت إلى آخر، كما كان يستضيفهم في المناسبات. ومن تلاميذه الذين نوهوا به هو أبو القاسم الحفناوي صاحب (تعريف الخلف). فقد قال

(1) تاريخ إجازة الحرار له هو سنة 1272 هـ (1855) وكان الرضوي قد زار الجزائر سنة 1261، انظر (الإجازات) في العلوم الدينية، من العلماء الذين كانوا أحياء عند الإجازة: محمد واعزيز، وحمودة المقايسي، ومصطفى الكبابطي الخ.

ص: 524

الحفناوي: إنه أول من ضمه إليه وعرفه بالجزائر وما فيها من خبيث وطيب، ونفهم من كلام الحفناوي أنه قد دخل (المدرسة الدولية)(أي الشرعية - الفرنسية)، أيام إدارة ابن بريهمات لها وهي التي أصبحت تسمى الثعالبية فيما بعد، وقد أضاف الحفناوي أنه قد تخرج على يديه عدد من العلماء والقضاة، وذكر منهم يحيى بن محمد الجرومي (القرومي)(1).

من المعاصرين لحسن بن بريهمات في مجال القضاء نجد المكي بن باديس في قسنطينة، وكانت لكل منهما شخصيته وتكوينه، وقد عقد السيد كريستلو الذي تخصص في القضاء الإسلامي وشخصياته بالجزائر خلال القرن الماضي، مقارنة بين الرجلين، ومن رأيه أن الذي تشدد حقا بالنسبة للقضاء وكان من المجددين فيه والأكثر شعبية وشهرة هو المكي بن باديس (وهو الجد الأعلى للشيخ عبد الحميد). فبينما كان ابن بريهمات يحتج أيام الفرنسيين بأن الإسلام ليس متخلفا نجد ابن باديس يقوم بالدفاع عن الإسلام وتفوقه، وكان يدافع عن ذلك بقوة، ويرى كريستلو أن ابن بريهمات استعار المبادئ، أما ابن باديس فقد استعار المنهج ولكنه بقي إسلاميا - أصوليا، وكلاهما له رؤية متماسكة من كيفية التحدي الأوربي، وهذا هو ما جعل كليهما متكلما فعالا باسم المسلمين، وكلاهما خرج من مركز حضاري عريق عرف بالثروة والتقاليد الثابتة، وكلاهما كان يحسن الفرنسية وحصل على وسيلة التجديد الثقافي الضرورية في العالم العربي خلال القرن 19، لكن هذا التجديد في الجزائر كان من أجل التعبير السياسي (2).

أنجب حسن بن بريهمات ثلاثة أبناء هم: إبراهيم وأحمد وعمر، وكلهم ساروا على نهجه في الازدواج الثقافي والتعامل مع الإدارة الفرنسية،

(1) كان الجرومي عندئذ (1906) قاضيا في تيزي وزو، وكان يحسن الفرنسية (تعريف الخلف) 2/ 119، وقرومة تقع قرب الأخضرية، ولاية العاصمة عندئذ، وكانت شهيرة بعلمائها في العهد العثماني.

(2)

كريستلو (المحاكم) مرجع سابق، ص 114. توفي حسن بن بريهمات سنة 1301، انظر عنه أيضا المدني (كتاب الجزائر). ص 91.

ص: 525

ولكن مصائرهم كانت مختلفة، وكان أكثرهم ثقافة وصلة بوالده هو عمر.

أما إبراهيم فقد ولد في 27 غشت 1848، وكانت حياته قصيرة لحادث حدث له أدى إلى وفاته وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولا ندري التعليم الذي مكنه منه والده في البداية، ولكننا نتصور أنه حفظ القرآن في المدرسة العربية/ الفرنسية الوحيدة في العاصمة عندئذ، ونعلم أن إبراهيم كان من أوائل الداخلين للكوليج العربي في الجزائر منذ إنشائه سنة 1857، وكان عمره عندئذ عشر سنوات، وبقي في الدراسة تسع سنوات، ولفت انتباه أساتذته الفرنسيين بتنوع معارفه وتقدم أفكاره وذكائه، ومن شيوخه فيها المستشرق شيربونو، ثم ذهب إلى فرنسا والتحق بثانوية (كلوني) ودرس فيها الأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافية، الخ .. ويبدو أنه لم ينسجم فيها لظروف عزاها المترجم فيرو إلى قسوة الشتاء على صحته، فرجع إلى الجزائر، وشارك في امتحان الترجمة فنجح فيه كمترجم عسكري احتياطي، وباشر عمله ثماني سنوات بهذه الوظيفة في أم السنام (الأصنام). ولكنه سقط ذات يوم عن ظهر الحصان فمات، يناير 1868 (1).

والابن الثاني له هو أحمد الذي تخرج أيضا مترجما عسكريا، وطالت مدته، وترك بعض الآثار سندرسها في الفصل المخصص للترجمة والمترجمين، ونعلم أنه نشر بالتعاون مع لويس رين سنة 1895 تأليفا (قاموسا؟) يخدم اللغة الفرنسية وعنوانه (اللسان يكمل الإنسان). كما نشر القسم الأول من رحلة العياشي، سنة 1880 في إحدى الدوريات، ولعله هو العمل نفسه الذي نشر سنة 1899 أيضا، ويبدو أن أحمد بريهمات كان قويا في اللغتين، ولكنه وظف جهده لخدمة الفرنسية وليس العربية (2).

(1) شارل فيرو (المترجمون العسكريون) مرجع سابق، ص 321 - 323. يذكر فيرو أن هناك ابنا آخر لحسن بن بريهمات، لم يذكر اسمه، كان متوليا شؤون الفلاحة وكان عضوا في استشارية المجلس العام بولاية الجزائر Cons.General فهو موظف آخر من العائلة في الإدارة الفرنسية العليا.

(2)

انظر فصل الترجمة.

ص: 526

أما الابن الثالث والقريب من سيرة والده، فهو عمر بريهمات، وقد ولد حوالي 1861 وتثقف كوالده ثقافة مزدوجة، ولكننا لا نعلم الآن أين تلقاها، هل في المدارس الشرعية الفرنسية بعد تنظيمها سنة 1876 أو في المدارس العربية/ الفرنسية الأخرى، والذي نرجح الآن هو الاحتمال الأول، وكان عمر أكثر إخوته إنتاجا في ميدان التأليف، وقد أصبح مدرسا بالمدرسة الثعالبية، وتخرج على يديه بعض التلاميذ، وكان معاصرا فيها للشيخين المعروفين: المجاوي، وابن سماية، ولكن الموت أدركه ولما يبلغ الخمسين من عمره، وذلك سنة 1909، وقد حصل على وسام التعليم ونيشان الافتخار (1).

ظهر عمر بن بريهمات على الأقل في مناسبتين، الأولى سنة 1896 حين أنشد قصيدة في استقبال الوزير كومبس عند زيارته مدرسة الجزائر التي كان عمر يدرس بها، والثانية نشر تأليفه في القانون الفرنسي ومقارنته بالفقه الإسلامي، سنة 1908، كانت زيارة وزير التعليم (كومبس) قد تصادفت مع إصلاح المدارس الشرعية الفرنسية سنة 1895، وفي حفل أقيم بهذه المناسبة وزعت فيه الأوسمة على مجموعة من المدرسين، منهم عمر بريهمات نفسه (وسام التعليم - الاكاديمية)، قام عمر وألقى قصيدة شكر فيها فرنسا والحاكم العام (كامبون)، والوزير (كومبس)، وهي من الناحية الأدبية فقط تدل على أن الشاعر كان له استعداد كبير لو وجد الجو المناسب، وقد جاء فيها:

قطر الجزائر قم صافح موافيكا

من أمة هي خير من يصافيكا

واصدح لهم ولها (2) بالشكر إذ جلبت

إليك كل نفيس لم يكن فيكا

وطالما كنت قبل الفتح مضطربا

والسفك يسطو على أجيال ثاويكا

أعيان قوم هم (الإفرنج) أصلا وإن

قلت الفرنسيس بالأرواح أفديكا (3)

(1) خصصت له (كوكب افريقية) مقالة طويلة، 26 فبراير 1909، ترجمتها عنها ملخصة (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، ابريل، 1909، ص 443 - 444.

(2)

(لها) الضمير يرجع على الأمة الفرنسية المذكورة قبل ذلك.

(3)

المبشر في 18 ابريل 1896، والقصيدة كاملة، فيها 23 بيتا، وقد أطلق على =

ص: 527