الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مظاهر الطرقية (1). وقد نعود إلى الحديث عن التنظيم الاجتماعي والسياسي لبني ميزاب في فصل آخر.
الطريقة القادرية
كان بالإمكان أن نرتب علاجنا للطرق الصوفية حسب الأهمية التي كانت عليها أثناء الاحتلال والدور الذي لعبته إيجابا وسلبا، وقد خطر لنا أن نلجأ إلى معالجة ظهورها زمنيا في المجتمع الجزائري، إذ لا شك أن هناك طريقة قديمة الظهور وأخرى حديثة، كما أن هناك الطرق الأصلية التي ظهرت في الجزائر وتفرعت فيها وفي خارجها، وهناك العكس، وهو تلك الطرق التي هي فروع لأصول موجودة خارج الجزائر، سيما في المغرب الأقصى وفي المشرق، ثم إننا نجد الطرق الكبيرة ذات الآلاف من الأتباع الذين تشملهم خريطة البلاد كلها، والطرق الصغيرة المحدودة الأتباع والمكان، وقد استقر بنا الرأي على معالجة الطرق حسب قدمها أو ظهورها، لأن بعضها متفرع عن بعض في أغلب الأحيان، وأول هذه الطرق في الظهور هي الطريقة القادرية، وسنكتفي غالبا بدور كل طريقة ونشاطها ورجالها وزواياها زمن الاحتلال، محيلين على الجزء الأول من كتابنا بخصوص نشاطها خلال العهد العثماني، تنسب القادرية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (الكيلاني) المتوفى في بغداد سنة 561 هـ، وهو يعتبر عند المتصوفين سلطان الأولياء، وقطب الأقطاب، والغوث، وعضد الإسلام، وله كرامات وخوارق تنسب إليه، وأتباعه يحلفون بجاهه، ويلقبونه أيضاب (مولى بغداد). والشيخ الجيلاني عالم وله تآليف منها (لطائف الأنوار). وله عشرة أولاد، مات بعضهم بالقاهرة، وانتقل آخرون منهم إلى الأندلس والمغرب العربي، ومعهم انتقل أيضا نسب الأشراف، سيما من الساقية الحمراء، وهذا الشرف، حسب السلسلة، يرجع إلى فاطمة الزهراء والإمام علي (2).
(1) انظر رين، مرجع سابق، الفصل من ص 138 - 156، وقد رجع بتاريخ الإباضية إلى زمن ظهور الخوارج على عهد الخلاف بين الإمام علي ومعاوية.
(2)
هناك أيضا كتابان في نسب أشراف القادرية، وهما كتاب (النسب) للعشماوي وكتاب =
والزاوية الأم للطريقة توجد في بغداد، ولها فروع في الجزائر، وكل فرع مستقل عن الآخر، وأصحاب هذه الفروع يتصلون مباشرة بالأصل في بغداد، إذ أن الإجازة والسلسلة تردان من هناك، وعلى كل فرع من فروع الزاوية مقدم، وقد كنا ذكرنا أن أول من أسس فرعا للقادرية في الجزائر هو الشيخ مصطفى بن المختار الغريسي سنة 1200، والواقع أن فروع هذه الطريقة كانت موجودة من قبل في مختلف المدن، ولها زوايا وأضرحة وقباب ومساجد في الجزائر وتلمسان وقسنطينة، وبجاية وغيرها، ولها أوقاف كثيرة، كانت ترسل مع الحجاج إلى الزاوية الأم ببغداد، وقد بقي الحال كذلك في العهد الفرنسي أيضا، مع قيود سنذكرها.
والسلسلة القادرية ترجع إلى آدم عليه السلام، وهناك وثيقة ترجع إلى 1875 (1292 هـ) تذكر شجرة النسب الشريف للقادرية وسلسلتها، وعنوان الوثيقة (لا إله إلا الله، والشيخ عبد القادر شيء (كذا) الله). وتصل بالنسب إلى الإمام علي ثم إلى آدم، كما ذكرنا.
والذكر عند القادرية هو ذكر الله وحده، وهو ما فعله الشيخ الجيلاني نفسه، والإكثار من الصلوات، وقد أضاف بعضهم:(أستغفر الله، أو اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي، وذكر محمد بن علي السنوسي (مؤسس الطريقة السنوسية) أن أهل القادرية (المقربين) أثناء الحضرة يقرأون أيضا الفاتحة بعد الصلوات الخمس، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، عدد 121 مرة في شكل جماعي، كما أخبر أنهم يذكرون عبارة (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) 121 مرة أيضا، ويقرأون سورة ياسين، وغير ذلك من الأدعية والقراءات، وجاء في الكتب الفرنسية أن زعماء القادرية الذين كانوا يفدون على الجزائر كانوا يقولون: إذا سألت عن الطريقة (القادرية) فهي العلم والأخلاق والصبر والاتقان، وإذا سألت عن
= (العرف العاطر) ل عبد السلام - القادري؟ - وقد ترجم القسيس الفرنسي جياكوبيتي الكتابين ونشر الترجمة في (المجلة الإفريقية) سنة 1908 على حلقات،
الواجبات عند الطريقة فهي ذكر الله، والصدق، والابتعاد عن شؤون الدنيا، وأن تحب الناس وتخاف الله، ولخصوا تعليم القادرية بأنه مستمد من أفكار أخلاقية وفلسفية مشتركة بينها وبين الطرق الصوفية الأخرى، ومن ثمة كانت القادرية قاعدة لمختلف الطرق التي جاءت بعدها، حتى تلك التي استقلت عنها بقيت على صلة بها، ولا تمنع القادرية أتباعها من أن يجمعؤا بينها وبين طريقة أخرى (1). وهذا طبعا عن الجانب النظري في هذه الطريقة، أما الجانب العملي فسنرى أن هناك عدة ثغرات كانت الطريقة تعاني منها.
حاول البعض أن ينسب المقاومة على عهد الأمير عبد القادر إلى الطريقة القادرية (2). وهذا من الخطأ الجسيم في نظرنا، حقا إن سمعة الحاج محيي الدين (والد الأمير) قد لعبت دورا في تجميع المقاومة حول شخصه، باعتباره زعيما روحيا محترما في المنطقة وباعتباره ضحية الباي حسن بن موسى قبل الاحتلال، ولكن مبايعة ابنه (الأمير) والتفاف الجماهير من حوله، مهما كانت عقيدتهم الصوفية، جعل القضية تخرج عن نطاق الطريقة إلى النطاق الوطني، ولكن دعاية الحرب الفرنسية عندئذ كانت تبذل قصارى جهدها لتفريق الصفوف حول الأمير مدعية أنه إنما كان يحارب باسم طريقته الصوفية، وأنه كان طموحا سياسيا، وقد صدق ذلك أمثال الشيخ مصطفى بن إسماعيل، زعيم الدوائر، كما صدقه الشيخ محمد الصغير التجاني، زعيم الطريقة التجانية، واستمر الفرنسيون في الضرب على هذا الوتر حتى بعد هزيمة الأمير وحدوث تطورات أخرى.
ولكن القادرية استمرت على نشاطها إلى جانب المقاومة عندئذ، فلا شك أن تأييد الحاج محيي الذين لابنه له أثر في التفاف إخوان الطريقة من حوله، وبعد وفاة الحاج محيي الدين تولى ابنه محمد السعيد (أخو الأمير) شؤون الطريقة فهو (خليفة) والده بالمصطلح الصوفي، وهو الابن الأكبر له، وكان الفتى أحمد بن محمد السعيد من أوائل من استشهدوا عند أسوار وهران
(1) رين، مرجع سابق، ص 179 - 180.
(2)
هنري قارو، مرجع سابق، ص 162، وهو يذهب إلى أن الأمير حمل السلاح باسم (القادرية). وقال إن بوعمامة (قادري) أيضا،
سنة 1832، وكان في سن المراهقة، وتعاونت الطرق في عهد الأمير (من رحمانية، ودرقاوية، وطيبية، وشيخية). ولم يفرق الأتباع بين صوت المجاهدين، فكلما دعا الداعي استجابوا بقطع النظر عن مصدر الصوت، وبعد هزيمة الأمير سافر معه أخوه محمد السعيد وسجن معه، ثم استقر الأخوان بالمشرق، كما هو معروف، ولكن الجديد هو أن الشيخ محمد المرتضى بن محمد السعيد (حفيد الحاج محيي الدين) هو الذي أصبح خليفة الطريقة القادرية في بيروت، وهو الذي كان في آخر القرن الماضي الشيخ الذي يقصده الجزائريون للبركة، ويستقبل منهم الزيارات والمال، وله في الجزائر أتباع واتصالات (1). كما سنرى.
هذا عن الفرع الذي بدأ المقاومة من القادرية، وبعد انتقال زعمائها إلى فرنسا والمشرق بقيت بقايا الطريقة في الجزائر في ظل بنادق الفرنسيين، وتفرقت في قيادات صغيرة اتخذت شكل الأسطورة، وانتشرت في مختلف أنحاء القطر، فكان من رموزها سيدي محمد بن عودة، في نواحي زمورة (ولاية غليزان) الذي يعتبر حامي حمى سهل مينة، والذي يعتقد فيه أهل البادية والحاضرة، والمعروف أن زاوية شلاطة كانت قادرية الأصل، وكذلك بعض الرموز في بني عباس بزواوة، وظهر شخص يدعى ابن النحال في زاوية الفجوج في نواحي قالمة ووادي الزناتي (2). ولم تفقد القادرية في نواحي وهران تأثيرها الكبير، إذ أصبح الشيخ بوتليليس (شعبة وادي اللحم) صاحب شأن وتأثير في المنطقة، وكان هو الخليفة (أو المقدم) للقادرية بعد أن جاءه
(1) لا نستغرب أن يكون محيي الدين بن الأمير عبد القادر قد جاء إلى الجزائر سنة 1871 - 1870 لإثارة شعبها ضد فرنسا، تحت تأثير أخيه محمد السعيد شيخ القادرية، وهو جانب لم يتعرض إليه الباحثون مكتفين بغضب والده عليه من المحاولة، والمعروف أن محمد المرتضى هو ابن أخيه الشقيق، وكلاهما من الجيل الثاني في الحرب والطريقة، عن محمد السعيد والمرتضى انظر أيضا فصل المشارق والمغارب، وانظر ليون روش (اثنان وثلاثون سنة). ج 1، باريس 1884، وكتاب (تحفة الزائر). ج 1.
(2)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 367،
التعيين من المشرق (من محمد المرتضى). كما انتعشت زاوية شلافة (قرب هليل) التي كانت سنة 1897 تحت مشيخة سي الأحول عبد القادر، وكانت تجمع حوالي خمسين مقدما، وبضعة آلاف من الأخوان (1).
وكانت زاوية سي الأحول هذه ذات أهمية روحية، وهي واقعة في وادي الخير الذي يصب في وادي الشلف، بين مستغانم وغيليزان، وقيل إن الشيخ الأحول عبد القادر كان قد نصب خيمة من الشعر وسط الزاوية على أنها ملتقاه مع الشيخ عبد القادر الجيلاني، وينسب الناس الكرامات إلى الشيخ الأحول ويتبركون به، وكانت الزاوية مدرسة للعلم والقرآن أيضا، ولكن عدد الطلبة فيها كان قليلا (2).
ولعل أحد أولاد الأحول هو الذي دعا الجزائريين سنة 1939 إلى مساندة فرنسا في حربها ضد الألمان، وقال لهم إن الساعة قد حانت لإعلان الولاء لها والدفاع عن (أم الوطن). وقد فعل ذلك أسوة أيضا بموقف شيخ زاوية الهامل وغيره من شيوخ الطرق، وزعماء الاندماج، أمثال الدكتور ابن جلول والدكتور الأخضري، ورجال الدين الموظفين عند الإدارة الفرنسية (3). كما انتشرت القادرية ناحية تيارت (تيهرت) والجنوب الغربي، ومن زعمائها هناك بلعربي عبد القادر بن قدور، وكانت زاويتها هناك سنة 1844، مدرسة لتعليم الأطفال القرآن والدين، وكان قد أسسها قدور بن مسعودة، جد المقدم المذكور، وكانت هناك قبة تعرف بقبة سيدي بلقاسم حيث رفات قدور بن مسعودة وأحفاده، وفي الناحية مرابطون بارزون يحترمهم الناس مثل آل تريش وآل سيدي علي، وأولاد سيدي خالد، ولجميع هؤلاء، بما فيهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، موسم سنوي لإطعام الطعام وذبح الخرفان، ويكون ذلك يوما من الفروسية والنشاط والزيارات، يحضره أيضا بعض
(1) نفس المصدر، ص 312 - 315.
(2)
ابن بكار الهاشمي (مجموع النسب). 158 - 159.
(3)
(إفريقية الفرنسية). غشت/ سبتمبر، 1939،
الإداريين الفرنسيين الذين كانت توجه لهم الدعوة، وفي هذه الحفلة السنوية يشعر الفقراء بالاندماج في المجتمع وبالحرية والأخوة حيث لا طبقية، ويقوم البراحون في الأسواق بدعوة الناس لوضع زياراتهم (تبرعاتهم المالية) عند الشيخ أو المقدم (1). وقد أشرنا إلى ملاحظات مالك بن نبي في نفس الفترة على نشاط القادرية في ناحية آفلو.
وظهرت فروع أخرى في شرق الجزائر وجنوبها، كان لها دور بارز أثناء غزو فرنسا للصحراء في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي هذا الصدد نذكر زوايا عميش (الوادي) والرويسات (ورقلة). كما نذكر زاوية نفطة وزاوية الكاف، وكلتاهما بتونس ولكن لهما نفوذ بالجهات المجاورة في الجزائر، كما نذكر زاوية منعة بالأوراس، المعروفة بزاوية بلعباس، وفي مذكرات مالك بن نبي إشارات هامة إلى نشاط وتحولات القادرية في تبسة ونواحيها.
ومعظم زوايا الشرق الجزائري والجنوب ذات صلة بزاويتي نفطة والكاف القادريتين، ومؤسس زاوية نفطة هو أبو بكر بن أحمد الشريف، وهو تلميذ الشيخ المنزلي (نسبة إلى منزل بوزلفة - تونس). وقد تطورت الزاوية بفضل جهود الشيخ إبراهيم بن أحمد الشريف النفطي، حتى قال بعضهم إن تأثيره سنة 1897 وصل إلى غدامس وغات والجزائر وعين صالح وتوات وتيديكلت، وله أتباع في بلاد الطوارق، وعلى رأسهم الشيخ عابدين، وكان عابدين هو مقدم الشيخ محمد بن إبراهيم، وقد ترك الشيخ إبراهيم أولادا تقاسموا بركة والدهم على النحو التالي: الأكبر منهم، وهو محمد، تولى الزاوية الأم بنفطة، وأسس الهاشمي زاوية في عميش بوادي سوف، وأصبح (نائبا) لأخيه، ونشط الهاشمي في تجنيد الأتباع ونشر الطريقة إلى أقصى الجنوب، وربط علاقات مع السودان وغات، وجند العديد من
(1) هنري بارليت (مونوغرافية إقليم تيهرت). في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية S، G، A، A، N 1912، ص 337 - 338،
أهل سوف الذين يمارسون التجارة الصحراوية، وأما أخوهما، محمد الطيب، فقد نشر الطريقة في ناحية ورقلة، وأسس زاوية في الرويسات، وكان له أتباع في الأغواط وغرداية وبين الشعانبة، ولهم أخ رابع اسمه الحسين، أسس زاوية بقمار (وادي سوف). بينما أسس الأخ الخامس زاوية في تبسة، والسادس، وهو محمد الإمام، زاوية في صحن الشعانبة (بسوف أيضا). أما في تونس فإن الأخوة أسسوا بالإضافة إلى نفطة، زوايا من المدن الآتية: قفصة (محمد العربي). الكاف (محمد الأزهر). قابس (الحاج أحمد). وهكذا فنحن نرى أن زاوية نفطة القادرية قد تفرعت إلى هذه الفروع الصغيرة الكثيرة، والتي ترجع في الواقع إلى عائلة واحدة، ولا شك أن انتشار هذه الفروع كان بإذن وترخيص من الفرنسيين، وتتصل زاوية نفطة بالسلسلة القادرية عن طريق الشيخ علي بن عمار المنزلي الشائب، ولها ورد طويل قد يطول عن ورد الطريقة ببغداد (1).
أما زاوية الكاف فقد أسسها محمد المازوني (الميزوني)(2). وقد لعبت دورا متعدد الجوانب، كما سنرى.
وللقادرية أيضا زوايا في الجنوب الغربي من البلاد، فزاوية كنته قادرية الأصل، ومن أبرز رجالها الشيخ المختار الكنتي المتوفى سنة 1826، وقد استمر أتباعه على دربه، واستعملوا مؤلفاته العديدة، والشيخ الكنتي يذهب إلى أنه من نسل الصحابي الفاتح عقبة بن نافع، وتمتد سمعته إلى المغرب والسودان وكذلك بين طوارق الصحراء (3). ومن مراكز القادرية أيضا زاوية أحمد البكاي في تومبكتو (؟). ولكن تأثيره قد امتد نحو الجنوب الغربي.
(1) نفس المصدر، ص 305 - 312.
(2)
يذكر محمد البهلي النيال (الحقيقة التاريخية) ص 323 أن مؤسس هذه الزاوية مغربي، وأنه سبق له أن أسس أخرى في الديوان بعاصمة تونس سنة 1845، انظر العمارية لاحقا.
(3)
عنه انظر إسماعيل حامد (الأدب العربي الصحراوي). في مجلة العالم الإسلامية R، M، M (1910). وقد درس محمد حوتيه نشاط زاوية كنته فى رسالة ماجستير حصل عليها بمعهد التاريخ، جامعة الجزائر،
وكان للقادرية على يده انتشار كبير، كما أنها قاومت التسرب الأجنبي.
وقد حدث للقادرية ما حدث لكل الطرق في آخر القرن الماضي، فقد أصبحت جميعها تقريبا تحت رحمة المخابرات الفرنسية والضغط المتعدد الجوانب لكي تعمل وفق إرادة المحتل، كما وظفت في عدد من المناسبات عن علم أو جهل من زعمائها، ولا سيما عند حاجة الفرنسيين إلى نفوذ هذه الطرق في الصحراء حين خططوا لاكتشافها واحتلالها وربطها بمستعمراتهم الإفريقية، وتذكر المصادر الفرنسية أن مقدم القادرية في ورقلة محمد الطيب هو الذي رافق بنفسه بعثة المستكشف الفرنسي، فلامان Flumand، إلى تيديكلت، سنة 1899، فقد أخذ المقدم محمد الطيب معه عشرين شخصا مسلحين لحماية القافلة، وهم من خدمه، وقد تعرضت البعثة إلى هجوم كبير من عرب الصحراء قاده حوالي 75 شخصا، كما تذكر نفس المصادر أن محمد الطيب (وهو نائب أخيه محمد) قد اعتمد عليه الحاكم العام جول كامبون، سنة 1895 لتمهيد تيديكلت للتأثير الفرنسي، وهذا يدل من جهة أخرى على ما لهذا الفرع القادري من نفوذ في الصحراء النائية (1). وكان المقدم محمد الطيب قد قتل في إحدى هذه المعارك، وهو كما عرفنا أخ لعدد من أولاد إبراهيم بن أحمد الشريف الذين تقاسموا بركة أبيهم وأسسوا زوايا قادرية في الجزائر وتونس.
وفي هذا الصدد يذكر الجنرال لاروك Laroque أن للقادرية عددا كبيرا من الأتباع وينصح بلاده بالاستفادة من نفوذهم، ولا سيما من زاوية عميش بقيادة الشيخ الهاشمي وزاوية الرويسات بقيادة أخيه محمد الطيب، ويقول الجنرال (سنة 1879) إن كليهما يحتفظ بعلاقات جيدة مع الفرنسيين، وأنهما قدما لهم خدمات في الصحراء لما لهما من تأثير، ورغم أنهما لا يلعبان دورا من
(1) انظر مجلة جمعية الجزائر وشمال إفريقية، S، G، A، A، N (1899 - 1900). رقم 5 - 5، 12، وكان (فلامان) أستاذا في مدرسة العلوم (كلية) بالجزائر، ومتخصصا في الجغرافية، وقد أخذ معه أيضا المستشرق الإسكندر جولي A، Joly للقيام بمهمة علمية - جغرافية،
الدرجة الأولى إلأ أنهما استطاعا رد الثائرين إلى الطريق والهدوء في عدة مناسبات، ويذهب هذا الجنرال (لاروك) الذي كان المسؤول العسكري على إقليم قسنطينة، بما فيه الصحراء الشرقية، إلى أن القادرية تقف حائلا دون تسرب السنوسية من الشرق والجنوب، وفي سنة 1894، كما يقول، جاء عدد من الطوارق إلى شيخهم، محمد الطيب، في ورقلة، يطلبون منه المساعدة على تكوين مجموعة من الغزاة للثأر من هجومات الفزانيين المدفوعين من السنوسية، والجنرال لاروك لا يتحدث فقط عن القادرية كحائل ضد السنوسية ولكن عن التجانية وبعض فروع الرحمانية أيضا، فكل هذه الطرق يجب أن تجعل منها فرنسا، في نظره، (عملاء) للاستعلامات، لأن لها مراسلات مع آلاف الأتباع في الزوايا المنتشرة من إفريقية إلى الهند، ومن ثمة تستفيد منها فرنسا في بث فكرها وحضارتها (1).
والواقع أن هناك شخصية غريبة تداخلت في الوضع بين الطرق الصوفية واستعملت إلقادرية لحساب فرنسا، ونعني بذلك الضابط ديبورتر Deporter الذي أصبح يدعى (المواطن الصحراوي) والذي عمل سنوات في صحراء الجزائر وتونس، سيما في بسكرة ووادي سوف وغرداية وتوزر وقابس وقبلى، وكان ديبورتر من مواليد فرنسا، وهو ابن أحد المستوطنين الفرنسيين في قسنطينة، وتعلم ديبورتر العربية في الوادي وتوزر حتى أصبحت كأنها لغته الأصلية، وتطوع في فرقة الرماة وعمره سبعة عشر عاما، وشارك في الحملات ضد الجزائريين في زواوة وفي الجنوب، ثم دخل مصلحة الشؤون الأهلية وتولى إدارة المكتب العربي في برج بوعريج، ثم في بسكرة، ثم في الوادي سنة 1881، ومن هناك شارك في الحملة ضد تونس واحتلالها عن طريق الجريد وتمغزة، وعمل فترة في جهاز الاستخبارات بتونس.
وأثناء عمله في الوادي وتوزر ربط علاقات (صداقة) مع الشيخ محمد الكبير بن إبراهيم، شيخ زاوية نفطة القادرية، وحصل منه على دبلوم مقدم كان
(1) روى عنه ذلك ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 274، 288،
يستخدمه عند الحاجة حتى اعتقد فيه العامة أنه مسلم قادري الطريقة، وفي المقابل رخص ديبورتر لأبناء إبراهيم بفتح فروع لهم في عدة أماكن بالجزائر، منها عميش (بقيادة الهاشمي) التي كانت فيها زاوية قادرية قديمة أسسها أحمد الشريف جد الهاشمي، ومنها الرباح حيث أسس سليمان بن إبراهيم زاويته، وقمار حيث أقام الحسين بن إبراهيم، والرويسات حيث أسس محمد الطيب زاويته كما ذكرنا، وأشهر هؤلاء الأخوة هو محمد الهاشمي الذي اعتبره الفرنسيون شخصية جذابة ولكنها (متعبة) لهم، لطموحه وتقلباته في نظرهم، كما اشتهر منهم محمد الطيب الذي اعتبره الفرنسيون أفضل أخوته عندهم لخدماته التي أداها لهم في تيديكلت حين نجح في اعتقال قتلة الماركيز دي موريس MORRES، كما أن محمد الطيب قد مات في توات حيث كان يحارب إلى جانب الضابط الفرنسي بأن PEIN، ولذلك كافأته فرنسا على خدماته، وأثناء إقامة ديبورتر بالوادي أنشأ فيه قبيلة من الشعانبة (شعانبة الوادي) إذ جاء بهم من شعانبة بوروبة قرب ورقلة، وعندما أصبح ديبورتر في غرداية تراجع عن المسألة مما سبب اضطرابات في الجهة، فعزلوه عن وظيفته، وقد مات بالإسهال سنة 1892 في ولاته حين كان يقوم برحلة بمساعدة الطريقة القادرية أيضا مستخدما دبلومها في أغراضه الاستعمارية (1). وسنرى أن الضابط بوجا Pujat قام بتوظيف الطريقة التجانية المنافسة للقادرية، في نفس الوقت لخدمة الأغراص الاستعمارية أيضا (2).
وفي نطاق العمالة والجوسسة اللتين يتحدث عنهما الجنرال لاروك، جاءت أحداث المغامرة، إيزابيل ايبرهارت E، EBERHDT الشهيرة، ولا حاجة إلى ذكر تفاصيل حياتها، فقد ألفت فيها الكتب، وألفت هي نفسها الكتب والمقالات، وكتبت عن الإسلام وعن اعتناقها له، وحبها الشديد لحياة البادية
(1) انظر (الكتاب الذهبي) تأليف بيرونيه، R، Peyronnet، Livre d'or، II، Alger، 1930، p 391، وقد نثر ديبورتر كتابا بعنوان (الجنوب الأقصى للجزائر). فونتانة، الجزائر سنة 1890.
(2)
انظر الطريقة التجانية بعد قليل،
والصحراء ووقوعها في غرام سليمان هاني (حني؟) وغيره من عشاقها، ومغامراتها في وادي سوف والعين الصفراء (1). لقد ادعى الفرنسيون أنها كانت جاسوسة عليهم، وأنها كانت تعمل لحساب ألمانيا، فاهتموا بها، من وزارة الخارجية إلى الحاكم العام بالجزائر إلى قائد المناطق العسكرية، إلى آخر (بيرو عرب) - مكتب عربي - في أقصى الجنوب، ودارت بينهم المراسلات السرية بشأنها، وهي المراسلات التي لا يعرف المواطنون ولا حتى السياسيون عنها شيئا والتي ما تزال في الأرشيف تنتظر النشر والتحليل، ماذا قالوا؟ إن هذه الآنسة التي كانت تتكلم عدة لغات، ومنها العربية، وتعتنق الإسلام وتعشق الأصل العربي، وتؤلف الكتب والرسائل، وتلبس لباس الشاب العربي، وتتمنطق بالسلاح، وتمارس الفروسية، هذه الآنسة كانت غير عادية طبعا، وها هي في وادي سوف، تدخل الطريقة القادرية عن طريق المدعو عبد العزيز عثمان، صديق محمد الطيب، مقدم زاوية الرويسات، وقد أعطيت ذكر الطريقة، والسبحة، واللباس الخاص، وصامت هناك رمضان، وكان الحسين بن إبراهيم مقدم قمار، هو الذي أدخلها في الطريقة، وكان عشيقها سليمان هاني أيضا قادريا.
وحضرت إيزابيل في تقرت حفلة استقبال أقيمت للشيخ الهاشمي مقدم زاوية عميش، الذي كان عائدا من باريس، وكان الحفل مرخصا به طبعا، وحضره مئات الفرسان والفضوليين، والإخوان، كما حضره ممثلو الطرق الأخرى كالرحمانية والعيساوية والطيبية، لأن أصولها جميعا قادرية، ورفعت الأعلام الخضراء والصفراء والحمراء، وارتفع صوت البارود إلى عنان السماء، وها هو الشيخ الهاشمي بعمامته الخضراء والقندورة الخضراء أيضا يشق صفوف الجماهير، وكان كوفي Gaston Couvert رئيس المكتب العربي في الوادي يتابع الأحداث ويحركها، ورأى أن وجود إيزابيل مشبوه، فأمرت السلطات بنقل صاحبها سليمان إلى باتنة، وحاولت هي منع ذلك، وتوسلت
(1) من آخر ما صدر عنها كتاب مفصل بعنوان (إيزابيل - حياة إيزابيل ايبرهارت) تأليف أنيت كوباك A، Kobak، نيويورك، 1989،
بكل الوسائل، ثم التجأت مع صاحبها إلى الشيخ الهاشمي وإخوته، أليست من القادرية؟ وبينما كانت في قرية البهيمة مع بعض أتباع القادرية تقرأ عليهم رسالة، تقدم منها شخص يدعى عبد الله محمد بن الأخضر وضربها ضربة بسيف أصابت رأسها وكتفها ولكنها ضربة غير قاتلة، وحملت للعلاج في مستشفى الوادي على يد المكتب العربي نفسه وطبيبه الخاص (1). وقد أعلن الهاشمي بنفسه اتهام الطريقة التجانية بتدبير الحادث، وطلب اعتقال الجاني الذي ثبت أنه كان من أتباع التجانية، وهذه أحداث تثلج صدور الحكام الفرنسيين وتعطيهم الفرصة للتحرك والسيطرة.
وماذا يهم؟ إن الفرنسيين يريدون أن يستفيدوا من كل الطرق الصوفية وليس من طريقة واحدة، ويريدون إضعاف الجميع حتى لا تتقوى ضدها بالتضامن، أن فرنسا تستفيد من القادرية، كما تستفيد من التجانية، ولكنها تريد منهما عدم التفاهم ضدها، ولذلك فسر الفرنسيون أن ضرب الآنسة المغامرة داخل في التنافس بين الطريقتين، وذهبت الخيارات إلى أن الآنسة كانت على علاقة خاصة مع الشيخ الهاشمي، وأن (التعصب الديني) هو الذي كان وراء الحادث الذي حدث لها، ولعل هذه الأحداث كلها كانت من نسيج المكتب العربي بالمنطقة وتحريك أصابع المخابرات الفرنسية.
وكانت للشيخ الهاشمي بن إبراهيم مراسلات مع الزعيم الليبي.
(1) وقع الحادث في 29 يناير 1951، كانت إيزابيل قد توسلت بالهاشمي كما ذكرنا، وذهبت إليه مع صاحبها سليمان، فأعطاهما 170 ف، ولم يجدا فائدة في تدخله، ولا في تدخل أخيه الحسين أيضا، وكان الشيخ الهاشمي يستعد لأداء الزيارة لأخيه محمد بن إبراهيم بنفطة عند وقوع الحادث، ولا نعلم لماذا ذهب الهاشمي إلى باريس؟ وقد قامت السلطات الفرنسية أيضا بإبعاد السيد عبد القادر بن سعيد، المعلم بإحدى المدارس، وصديق الهاشمي، إلى ورقلة، انظر كوباك، المرجع السابق، ص 136 - 140، 152 - 155، وكان زعيم زاوية قمار التجانية عندئذ هو الشيخ محمد العروسي، وتوجد بالكتاب المذكور صورة الأخوين محمد الطيب والهاشمي، مأخوذة سنة 1900 عن نهاية المغامرة ايبرهارت، انظر فصل مذاهب وتيارات،
سليمان الباروني باشا أثناء حرب طرابلس 1911 - 1912، وكان واسطة هذه المراسلات هو السيد سالم بن أحمد، ووجدنا أن سليمان الباروني قد طلب من الشيخ الهاشمي الفاتحة (البركة) والإجابة السريعة عما طلبه منه، وهو غير معروف، وقد يكون بعض المساعدات أو التدخلات لدى جهات أخرى، ومن الملاحظ أن الشيخ الهاشمي كان معدودا عند سليمان الباروني من أنصار الدولة العثمانية المتحمسين (1). ومعنى ذلك أنه كان في نظر الفرنسيين من أنصار حركة الجامعة الإسلامية.
ولكن مزاج الشيخ الهاشمي بن إبراهيم تحول إلى الطرف الآخر (فرنسا) عند إعلان الحرب العالمية الأولى، فقد وجه نداء أيضا، مثل مختلف الطرق الصوفية في الجزائر، إلى إخوانه يبشرهم فيه بانتصار فرنسا وانكسار ألمانيا، وحكم ببلادة الأتراك (وقلة بصارتهم (كذا)) لأنهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، ولا علم لهم بكتاب الله، وقال الهاشمي في ندائه إن مسلمي الجزائر وإخوان الطريقة لا يفرطون في (خدمة دولتنا الفرنسوية العزيزة)(وهذه الجملة واردة حرفيا تقريبا في مختلف النداءات (النصائح) الصادرة عن الطرق الصوفية عندئذ حتى كأن كاتبها واحد). ونجد نفس العبارات مكررة أيضا كإحسان فرنسا للجزائريين ووجوب رد الجميل إليها (؟) وكون الأتراك ظلموا الجزائريين قديما ظلما (تتفطر منه الأكباد) بينما في العهد الفرنسي أصبحت الجزائر وقد (شيدت فيها المساجد والمدارس ونورتها بالعلم وفتحت طرق السعادة)(2).
هذا هو الهاشمي الذي ستتهمه فرنسا بالثورة ضدها (3).
وتظهر الأبحاث الجديدة أن الهاشمي قد استطاع أن يجند كثيرا من
(1) زعيمة الباروني (صفحات خالدة). ص 133، 184، وقد كتبنا بحثا عن سليمان الباروني، انظره في مجلة الثقافة، 1995.
(2)
مجلة العالم الإسلامي R، M، M، ديسمبر 1914، ص 240 - 242.
(3)
انظر ما كتبه حمزة بوكوشة عن (ثورة) الشيخ الهاشمي،
الأتباع لطريقته خلال الحرب العالمية، وسبب نجاحه يرجع إلى معارضته لمنع الفرنسيين التجارة مع غدامس، كما أن الهاشمي قد (تورط) في مظاهرة معايدة للفرنسيين في نوفمبر 1918 عندما كان هؤلاء يجندون العمال للخدمة في فرنسا، وانطلقت الإشاعات على أن هؤلاء المجندين سيلحقون بالجيش فور وصولهم إلى فرنسا، وكانت المظاهرة أمام مكتب القائد الفرنسي بالوادي، وكان الهاشمي شخصيا على رأسها، وقد نفاه الفرنسيون إلى تونس بعض الوقت، وتوفي سنة 1923، وقيل إن ابنه قد توفي أيضا بعد قليل، ثم تولى ابنه الآخر عبد العزيز الذي توصل إلى تفاهم مع التجانية، وبذلك خفت حدة التوتر بين الطريقتين بعد اختفاء الشيخين المتنافسين مدة طويلة: العروسي (التجانية) والهاشمي (القادرية)(1).
فقد قام عبد العزيز بن الهاشمي بالانضمام إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1937 وفتح مدرسة باسمها في زاويته وتوجيه الدعوة إلى وفد من الجمعية لزيارة المنطقة، فكان ذلك من أسباب زيارة الشيخ عبد الحميد بن باديس لوادي سوف ولزاوية عميش سنة 1937، فما كان من السلطات الفرنسية هذه المرة إلا أن اعتقلت الشيخ عبد العزيز وزملاءه المعلمين المصلحين، وأعلنت حالة الطوارئ في المنطقة، متهمة إياهم بالإعداد لثورة بالتواطؤ مع جهات أجنبية (إيطاليا - ألمانيا). وهذه الأحداث هي التي غطاها ابن باديس بعدد من المقالات، سيما بعد اعتقال الشيخ عبد العزيز وعبد القادر الياجوري وعلي بن سعد في سجن الكدية بقسنطينة، وقد وضعت السلطات الفرنسية شيخا آخر من العائلة على رأس الزاوية، واتهمت الشيخ عبد العزيز بالجنون.
إننا نذكر هذه الأحداث مختصرة لنقول إن استفادة السلطات الفرنسية من بعض فروع القادرية كان مؤقتا، وكان لأغراض آنية يستفيد منها الطرفان.
(1) كلنسي - سميث (ثائر وقديس). مرجع سابق، عن عبد العزيز، انظر أيضا فصل التعليم في المدارس الحرة،
وإذا كانت هذه السلطات استفادت من تنافس القادرية والتجانية، والوقوف ضد تقدم السنوسية، وبقاء العامة مخدرين ببركة الشيوخ، فإن هؤلاء قد استفادوا أيضا من تأكيد تأثيرهم ونشر نفوذهم واستفادوا مالا، ومنهم من استعمل المال في التعلم، حتى أنه يروى أن الشيخ الهاشمي قد علم أولاده في جامع الزيتونة واشترط أن لا يتولى بعده أمر الزاوية إلا من نال شهادة التطويع من الزيتونة، وقد عرفنا أن الشيخ عبد العزيز قد ناصر حركة الإصلاح وفتح مدرسة بزاويته القادرية، وانتهى به الأمر إلى السجن المضيق (1).
وليست كل فروع القادرية كانت على هذا النحو، فزاوية الكاف، رغم أهميتها كانت لها أدوار، وقد حكم الباحث محمد البهلي النيال على دورها الذي صادف احتلال تونس (1881) فقال إنها زاوية مشكوك فيها وفي صاحبها، إذ قيل إنها لم تؤسس إلا لأغراض سياسية عسكرية، وكان الجاسوس الفرنسي (روا) يقوم بأعمال فيها قبل احتلال تونس، ثم صار بعد احتلالها هو الكاتب العام للحكومة التونسية المحمية، وكانت له اتصالات متبادلة مع شيوخ زاوية الكاف القادرية (2). ونحن لا نستبعد هذا الدور للزاوية، لأن المصادر الفرنسية تكثر من الإشادة بها والاعتماد عليها، ويبدو أن بعض الشيوخ كانوا إما غافلين ساذجين وإما أنانيين طماعين.
كنا أشرنا إلى علاقات القادرية (الخارجية). فهي من الطرق التي ليس لها زاوية أم في الجزائر، وتكثر المصادر الفرنسية من التركيز على هذه العلاقة الخارجية باعتبارها مصدر قلق بالنسبة إليها، فهي لا تستطيع أن تسيطر على الرأس كما تفعل مع بعض الطرق المحلية، إن الأمر بالنسبة للقادرية يتقرر في بغداد أو بيروت، وهذا يحتاج إلى أيادي كثيرة ووسائل عديدة، ثم أن هناك
(1) انظر مقالتنا عن (الشيخ عبد القادر الياجوري) في مجلة الثقافة، 1995، والياجوري كان أحد زملاء عبد العزيز بن الهاشمي، وكان قد سجن معه واضطهد اضطهادا شديدا.
(2)
النيال، مرجع سابق، ص 323، وقد توفي محمد المازوني سنة 1296 (1878) ودفن بالكاف،
أموالا تخرج من الجزائر أمام أعين الفرنسيين متوجهة إلى شيوخ القادرية في بلدان أجنبيه، وهذا استنزاف لا ترضاه السلطات الفرنسية، وتذكر هذه السلطات أن الزاوية الأم ترسل بالسلسلة القادرية إلى بعض المقدمين في الجزائر لتعتمدهم، وذلك عن طريق الحجاج أو الزائرين للمشرق، كما أن بعض المقدمين من هذه الطريقة يأتون إلى الجزائر، ويسمى هذا الزائر (رقابا) وهو وأمثاله كانوا تحت الرقابة المشددة من الفرنسيين، وكانوا ينزلون في المدن الساحلية كتجار يحملون الأوراق الرسمية والصحيحة، ولكن لهم علاقات وطيدة مع شخصيات معروفة لدى الفرنسيين، يتخذونها غطاء لتحقيق مهمتهم، والرقابون لا يظهرون، خلافا للطرق الأخرى، أي اهتمام بالصدقات والتبرعات المالية - الدينية، وهذا يزيد في رفعتهم عند الناس.
وقد اكتشف الفرنسيون في العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي أن الأموال كانت ترسل من الجزائر إلى بيروت، بطريق الحوالات البريدية ونحوها، إضافة إلى تلك التي كانت تذهب إلى بغداد، وكان الفرع الجديد، بزعامة محمد المرتضى بن محمد السعيد بن محيي الدين (والد الأمير). فقد عرفنا أن والده، محمد السعيد، هو الذي تولى شؤون الطريقة أثناء كفاح أخيه (عبد القادر). وقد ظل على ذلك حتى بعد هجرة العائلة إلى الشام، ولمحمد السعيد مريدون، وله بعض المؤلفات المذكورة في كتب التراجم، ونعته أحد مترجميه بأنه (شيخ الطريقة القادرية) في المغرب (الجزائر)(1). وقد ترك ولدين هما محمد المرتضى وعبد الباقي، تولى الأول شؤون الطريقة في بيروت وتولى الثاني فتوى المالكية في دمشق، وبعد مدة من وفاة والده (1278 هـ) انتقل محمد المرتضى إلى بيروت، وكان قد زار إسطانبول بنصيحة من الأمير عبد القادر (عمه). ورتب له السلطان راتبا ماليا، وحج مع عمه (الأمير) سنة 1281، وبعد رجوعه عكف على نشر العلم وأوراد الطريقة القادرية، وكان له تلاميذ في دمشق وبيروت، وله نظم
(1) زكي مجاهد (منتخبات تواريخ دمشق). 2/ 696، وقد دفن الشيخ محمد السعيد بجبل قاسيون، بدمشق،
في المديح النبوي، ودروس في الوعظ والإرشاد، وقد توفي في بيروت سنة 1316 (1902)(1).
وقد وجدت السلطات الفرنسية أن الذين يرسلون المال للشيخ محمد المرتضى فيهم أيضا بعض الموظفين الرسميين عندها، ولعل خوف الفرنسيين يرجع إلى كون القادرية كانت جسرا للدعاية العثمانية وحركة الجامعة الإسلامية، وهم يعتبرونها من الطرق المعادية للمسيحيين، سيما وأن الذين ينشطونها هم من أسرة الأمير ومن مواليد الجزائر، كما أن القادرية، تاريخيا، من الطرق القريبة من السلطة العثمانية، كما عرفنا.
ويقدر الفرنسيون عدد أتباع الطريقة القادرية في الجزائر كما يلي:
1882
…
14، 574 إخوانيا
…
268 مقدما
…
29 زاوية (2)
1897
…
24، 578 إخوانيا
…
558 مقدما
…
33 زاوية
(ويذكر المصدر الأخير أيضا ما يلي: وكيل واحد، و 521 من الطلبة، وأربعة شيوخ، كما يذكر أن من ضمن مجموع الإخوان، هناك 2، 695 امرأة أو خونية)(3).
1906: 25، 555، إخوانيا (منهم 2، 800 من النساء) و 33 زاوية (4).
(1) نفس المصدر، ص 793 - 795، انظر أيضا سهيل الخالدي (دور المهجرين الجزائريين في المشرق ..). مخطوط، ص 381، ومحمد المرتضى ولد بالقيطنة (معسكر) سنة 1245 (1829). وقرأ على عمه الأمير، وعلى والده محمد السعيد وغيرهما، وكان متزوجا من إحدى بنات عمه الأمير.
(2)
رين، مرجع سابق، 201، عندما كان رين يكتب (1884) كان جزء من الجنوب غير محتل بعد.
(3)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 213 - 315.
(4)
هنري قارو، مرجع سابق، ص 162، وهذا المصدر هو الذي ركز على عداوة القادرية للمسيحيين في المغرب والسنغال،
وقبل أن نختم الحديث عن القادرة نود أن نشير إلى نقطتين: الأولى أنها أم الطرق على العموم، والثانية ذكر دعاء القنوت الذي يردده أتباعها، أما كونها أما للطرق على العموم فنحن سنلاحظه من دراستنا للطرق الأخرى التي يبدأ أصحابها بالانتماء إليها، ثم يجمعون بينها وبين طريقتهم الجديدة، وقد أخذ محمد بن علي السنوسي أوراد القادرية، رغم أن الفرنسيين، لجهلهم، كانوا يريدون أن يجعلوا بعض شيوخ القادرية ضد السنوسية، بتشجيع الغيرة والحسد، وكون هذا من الداخل وذلك من الخارج، يضاف إلى ذلك أن الداخل في القادرية لا يمنعه دخوله من الانضمام إلى طريقة أو طرق أخرى، لأن الطرق كلها في الأساس تدعو إلى الله، كما عرفنا وتدافع عن الدين، ولكن الجاهلين هم الذين وظفوا الأتباع ليتضاربوا أحيانا لا من أجل مبدأ ولكن من أجل فرنسا، وقد كان الأمير عبد القادر أخذ، بالإضافة إلى القادرية، الطريقة المولوية بدمشق، على يد الدرويش صبري، كما أن الأمير أخذ الطريقة الشاذلية بمكة أثناء حجه، على الشيخ محمد الفاسي (1). وكان قدور بن سليمان يجمع بين الشاذلية والتجانية، وكذلك قاضي تلمسان شعيب الجليلي كان يجمع بين عدة طرق.
أما دعاء القنوت، فالمعروف أن للطريقة القادرية أذكارا عامة وأذكارا خاصة، أما العامة فتتمثل في أن يردد المريد 165 مرة كلمات الشهادة (لا إله إلا الله) عقب كل صلاة، وأما الأذكار الكبيرة فهي ترديد العبارات التالية مائة مرة لكل منها إلا العبارة الأخيرة فخمسمائة مرة، حسب بعض المصادر، وهذه العبارات هي: أستغفر الله العظيم، سبحان الله، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والأخيرة هي الشهادة (لا إله إلا الله). هذا عن الأذكار العامة، أما الدعاء الخاص، فهو دعاء القنوت، وهو الذي أعطاه المقدم في بغداد إلى بعض الحجاج الجزائريين سنة 1896، وعبارته هي: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونخنع لك
(1) محمد الهاشمي ابن بكار (كتاب مجموع النسب). الجزائر 1961، ص 37 - 38،