المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ج - فرعا تماسين وقمار: - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٤

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

‌ج - فرعا تماسين وقمار:

هذا عن فرع التجانية في عين ماضي، أما فرعها في تماسين الذي أشرنا إليه في عدة مرات، فقد كان أكثر استقرارا واستمرارية بفضل شخصية الحاج علي وأولاده وأحفاده، فقد أسس هذا الفرع الحاج علي الينبوعي الذي جاء أجداده، حسبما هو الشائع، من (ينبع) بالحجاز، في ظروف مخير معلومة، وقد ولد لأبيه الحاج عيسى، في تماسين، سنة 1180، ونشأ على التصوف ويبدو أن تعليمه كان بسيطا، ذهب الحاج علي عدة مرات لزيارة الشيخ أحمد التجاني (مؤسس الطريقة) في عين ماضي ثم في فاس، مرة سنة 1204 وأخرى سنة 1214، وآخرها كان عند وفاة الشيخ التجاني في فاس، وفي إحدى المرات ذهب لأخذ الوصية منه لكي يكون هو حامل البركة بعده في الجزائر وراعى ابنيه، كما سبق، وقد بنى الشيخ علي زاوية تماسين منذ 1214 - في ضاحية تعرف بتملاحت، ورغم الخلاف بين عائلة بني جلاب (سلاطين تقرت) والحاج علي على النفوذ (السلطة الزمنية والروحية). فإننا لا نعرف أن السلطات العثمانية قد تدخلت في تماسين كما تدخلت في عين ماضي، كما لا نعرف أن الحاج علي كانت له وثائق (حماية) من حكام قسنطينة، كما جرت العادة مع بعض المرابطين والأشراف وحتى رؤساء الطرق الصوفية، ولعل ذلك راجع إلى تنافس بايات قسنطينة وبايات تونس على وادي ريغ وسوف، وكان الحاج علي يحبذ الفلاحة فشجعها مما أدى إلى عمارة تماسين بالنخيل والأشجار المثمرة، وبعد بلوغه ثمانين سنة توفي سنة 1260 (1844)(1).

ولدينا أوصاف عديدة لشخصية الحاج علي ودوره إبان الاحتلال

= والسوافة). في مجلة جغرافية الجزائر وشمال إفريقيا (S.G.A.A.N)(1934).

ص 252، وحسب التقويم الجزائري للشيخ كحول لسنة 1912 أن الشيخ البشير توفي في رجب 1329، وخلفه ابنه محمد الملقب الكبير، ونرجح أن يكون محمد الكبير من امرأة أخرى غير أوريلي.

(1)

مفتاح، أضواء، مرجع سابق.

ص: 219

الفرنسي، يقول دو فيرييه: إن من عقائد الطريقة أن دعوات الحاج علي هي التي جعلت الجزائر تسقط في يد الفرنسيين عقابا للأتراك الذين قتلوا ابنه (1). ويخبر دو فيرييه، الذي كتب بعد سنوات قليلة من احتلال تقرت ووادي سوف، أن الحاج علي هو الذي أخبر أهالي وادي سوف ووادي ريغ والزيبان بتقدم الفرنسيين نحو بسكرة وقال لهم: إن الله هو الذي أراد أن يعطي الجزائر إقليمها للفرنسيين، وهو الذي مكن لهم فيها، فأبقوا مسالمين، ولا تطلقوا البارود عليهم

فاتركوا الفرنسيين وشأنهم يفعلون ما يريدون، لأنهم اتخذوا في الظاهر طريقا عادلا وحكيما

والواقع أن هذه القصص عن الحاج علي ليست خاصة بدو فيرييه، بل إن زملاءه الذين جاؤوا قبله وبعده رددوها أيضا، ونحن لا ندري صحة ذلك ولا صحة صدوره عن هذا الشيخ، إنما نذكره كرأي للفرنسيين في أعدائهم وحلفائهم من الجزائريين عند تقدم احتلالهم، فهم يبنون على أقوال الحاج علي استيلاءهم على جنوب إقليم قسنطينة (بدون مقاومة)(2).

ويذهب ديبون وكوبولاني أنه كانت لدى الحاج علي وصية وهي أنه بعد موته تكون الخلافة على الطريقة متبادلة اختيارا بين أبنائه وأبناء الشيخ أحمد التجاني، وعلى هذا الأساس ترك الحاج علي الوراثة للشيخ محمد الصغير بن أحمد التجاني، كما أشرنا، وكان للحاج علي اثنان وعشرون ولدا، وما دام الشيخ محمد الصغير حيا فإن أبناء الشيخ الحاج علي لا حق لهم في الوراثة، لذلك انفتح المجال أمامهم سنة 1853، سنة وفاة شيخ عين ماضي، سيما وأن ابنه الكبير قد توفي أيضا وأن الولدين المنسوبين إليه صغيران، فآلت الوراثة إذن إلى أحد أبناء الحاج علي وهو الشيخ محمد

(1) لا نعرف ذلك ولم يذكره أحد غير دو فيرييه، ولعله من نسج خيال الأسطورة، وقد أشاع الفرنسيون مثل هذه التنبؤات، ونسبوا بعضها إلى الدراويش والصالحين، مثل الحاج عيسى الأغواطي الخ، انظر دو فيرييه (اكتشاف الصحراء). مرجع سابق، ص 309.

(2)

دو فيرييه، مرجع سابق، ص 309.

ص: 220

العيد، وقد ولد هذا الشيخ سنة 1230، وتشيد به المصادر الفرنسية المعاصرة له، سيما دوفيرييه الذي عرفه وصوره وحمل رسائله، كما عرفه رين الذي ألف كتابه تسع سنوات بعد وفاته، وتقول بعض المصادر: إن محمد العيد كان على ثقافة طيبة واستعداد لأداء دور رئيس الزاوية، وأنه حج عن طريق تونس، ويصفه دوفيرييه (1859) أنه كان وفيا لتقاليد الطريقة التجانية، وأنه رجل ممتاز ومتعلم وخير وورع، ولذلك كان موضع احترام الجميع، وكان يلقب (بالولي). ويشهد له دوفيرييه أنه هو الذي ساعده، بوصية من الجنرال ديفو، القائد العسكري لإقليم قسنطينة، على الدخول بكل أمن وأمان إلى بلاد الطوارق رغم معارضة مقدمي الطريقة السنوسية، وقد أعطاه محمد العيد لقب التابع للطريقة وهو (الأخ). لحمايته من الأذى، وقلده سبحة الطريقة، فسافر محميا، على أنه عضو في الطريقة التجانية، واستقبله أتباعها وأنصارها على أنه منها فعلا (1).

ويقول رين (1884) إن محمد العيد قد سار على نفس النهج الذي سارت عليه الطريقة التجانية بالنسبة للفرنسيين، وأظهر كل التفهم والإخلاص، وكان تأثيره في سوف ووادي ريغ قد سهل كثيرا مهمة الجنرال (ديفو Desvaux) سنة 1854 في تأسيس السلطة الفرنسية (الاحتلال) بهذه المنطقة، ولما يمر عليه سوى عام على تقلده شؤون الطريقة، وأنه هو الذي منح دوفيرييه سنة 1860 سبحته ووصية إلى إخوانه، وبفضل ذلك حقق دوفيرييه رحلة ناجحة في بلاد الطوارق، ويصفه رين أيضا بأنه كان يدير زاوية تملاحت (تماسين) بحذر وحنكة كبيرين، وكان رئيسا روحيا ناجحا للطريقة، وظل موقفه من فرنسا هو هو، محترما وصحيحا، وكانت له في بلاد الطوارق سياسة حكيمة، وبفضل ورعه وفضائله الشخصية كان يلقب بـ (صديق الجميع). وقد كان موقفه إبان ثورة 1871 صريحا وسلوكه واضحا فلم يقع بين إخوانه عصيان على سلطته، ولكن تأثير التجانية بين 1860 و 1881 على

(1) نفس المصدر، أورد دو فيرييه صورة للشيخ محمد العيد تحتل صفحة كاملة من كتابه.

ص: 221

الطوارق قد ضعف نتيجة نشاط السنوسية في المنطقة إذ كان نفوذ هذه الطريقة يزداد هناك منذ 1860، ومنذ ثورة 1864 فصل التجانيون قضيتهم عن قضية أولاد سيدي الشيخ الذين كان عدد كبير منهم قادريين، وهكذا فإنه كان للفرنسيين مؤشرات Indications ثمينة من زاويتي عين ماضي وتماسين، ضد أولاد سيدي الشيخ (1). وقد ذكرنا أن الشيخ محمد العيد قد توفي سنة 1875.

وقد وصف دو فيرييه زاوية تماسين في عهد الشيخ محمد العيد بأنها كانت أعظم زوايا الجزائر، وقال إنك حين تدخلها تحس بعظمة المؤسسة وحكومتها القوية، فيها مسجد للصلاة، وعدد من المنازل للأتباع والخدم، وقصر ضخم لإقامة الشيخ يحتوي على مرايا جيء بها من البندقية، كما تحتوي على الأرائك المزينة على الطراز الأوربي، وكل ذلك من الضخامة بحيث لا تظن نفسك في مدينة صحراوية، والغريب أن دو فيرييه أضاف، بعد أن ذكر أن الزاوية قد أبقت على العلاقات الطيبة مع السلطات الفرنسية، بأنها كانت مركزا كبيرا وأنها كانت تحت حماية حكام فاس وتونس (2). وقال: إن

(1) رين، مرجع سابق، ص 430، وكانت وفاة الشيخ محمد بن علي السنوسي سنة 1859.

(2)

ثبت من بعض الوثائق التونسية أن للشيخ محمد العيد يدا في إلقاء القبض على الثائر علي بن غذاهم، سنة 1864، وقد أشار إلى القصة ابن أبي الضياف في كتابه بدون توضيح، لكن أحد الكتاب، وهو عمر القروي، أضاف على نسخته من (الإتحاف) أن محمد العيد قد كاتب أثناء أدائه الحج (سنة 1864) علي بن غذاهم ووعده بالشفاعة والأمان باسم القطب الرباني أحمد التجاني، فلما قدم عليه طلب منه وضع سلاحه لأن ذلك من شروط التوبة والأمان والطاعة وطلب الشفاعة، ثم كاتب الوزير في الحين بوجود علي بن غذاهم في قبضته، ولم يذكر له مكتوب الشفاعة، فبعث الوزير من اعتقل ابن غذاهم، وأخذ محمد العيد جائزة على فعله، وكان محمد العيد قد نزل بهنشير خلاد، قرب مدينة قربص، انظر النيال (الحقيقة). مرجع سابق، ص 331 - 332، ويذكر (رين). ص 450، أن محمد الصادق (باي تونس) كان تجانيا، وأن عدة شخصيات من قصر باردو كانوا ينتمون إلى الطريقة التجانية أيضا.

ص: 222

نفوذها يمتد إلى تمبكتو والسودان ومصر ومكة، وأن بعض أمراء وملوك الزنوج في إفريقية أعضاء في الطريقة التجانية وهم يقومون بحملات ضد الوثنية في إفريقية الوسطى (1).

وهناك رواية أخرى تتحدث عن الشيخ محمد العيد ودوره في المنطقة بطريقة تختلف في تفاصيلها، ونعني بذلك حديث الضابط فيرناند فيليب سنة 1874، أي بضعة شهور فقط قبل وفاة الشيخ، وكان فيليب هذا في حملة الجنرال ليبير ضد الصحراء، وكان ليبير عندئذ هو قائد المنطقة الشرقية التي مقرها قسنطينة، فحين تقدم الموكب الفرنسي من تملاحت (تماسين) وجد في استقباله الشيخ محمد العيد وأخاه معمر، راكبين على بغلين، وقد نزلا عن المركوب تحية للزوار، وتأسفا على أن الموكب لم يقبل دعوتهما لزيارة الزاوية، ولكن لماذا لم يزر الجنرال ليبير الزاوية إذن؟ يقول فيليب: إن الجنرال كان يشك في أن للزاوية التجانية ضلعا في مقتل العربي المملوك، قائد وادي سوف، ولذلك اكتفى بالتوقف بتملاحت (2). وبعد التحية المعتادة حمل الخدم الشيخ وأركبوه على بغلته ودخل تماسين، أما أخوه معمر الذي كان مكلفا بالحياة المادية والدبلوماسية للزاوية، فقد رافق الموكب الفرنسي إلى بلدة عمر.

يصف فيليب الشيخ محمد العيد بأنه كان في نحو الستين من عمره عند وفاته، وكان رجلا بدينا جدا، وله بشرة داكنة السمرة (وكذلك تظهر صورته في كتاب دو فيرييه) ولحية قصيرة وكلها بيضاء تقريبا، وكان له وجه لا يعبر، إذا تأملته، عن أي شيء، ولكنك تعترف عندما تراه أنه الرجل الذي إذا أراد شيئا تحقق فورا لعدم وجود الوقت لديه، أما أخوه معمر فقد كان أصغر منه سنا

(1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 310، مع صورة لزاوية تماسين.

(2)

عن حادثة مقتل العربي المملوك، انظر الحركة الوطنية ج 1، لم يكن معروفا عن زعماء التجانية الخروج لاستقبال رجال الدنيا، وقد عرفنا تصرف محمد الصغير في عين ماضي مع الجنرال ماري سنة 1844، فلماذا خرج محمد العيدلاستقبال الجنرال ليبير؟.

ص: 223

وأطول منه قامة وله بشرة مهجنة وعينان جاحظتان، يمتاز بالذكاء والأنف المفرطح، وله شفتان كبيرتان وشهوانيتان، وكان معمر رجلا حيويا أيضا وهو الرجل الرئيسي في العائلة، حتى أن أخاه محمد العيد، على سمو مقامه الديني والروحي، يتبع نصائحه ويشاوره في أموره، سيما فيما يتعلق بالفرنسيين.

وسلطة محمد العيد الروحية، حسب رأي فيليب، كانت قوية في الجنوب إذ يمتد نفوذه إلى جبل الهقار، كان محمد العيد يبتعد عن المسيحيين بغرض المحافظة على سمعته الدينية عند أتباع الطريقة، فهو لا يتصل بالفرنسيين في المسائل الإدارية، تاركا ذلك لأخيه معمر الذي يقوم بمختلف شؤون الدنيا، ويقول فيليب: إن محمد العيد قد حقق غرضه من سياسته، ذلك أن الطرق المنافسة للتجانية لم تجد ثغرة تدخل منها لنقدها أو نقده على صلته بالفرنسيين، بينما أخوه معمر هو الذي كان يتصل بالفرنسيين، وهو ليس شيخ زاوية أو مقدمأ للطريقة، رغم أن الجزائريين الآخرين الذين يسميهم الفرنسيون متعصبين وحسادا وأطهارا كانوا ينعتون معمر بأنه الرجل المتعامل مع الكفار، ولذلك حكم فيليب على أن معمر هذا لا يمكنه أن يكون، من أجل ذلك، مقدما للطريقة التجانية، فهو يتناول العشاء مع الجنرالات الفرنسيين، يستقبله الضباط السامون، ويحصل على زيارات (جبايات) الأحباب في الطريقة، ولكنه، حسب رأيه، لا يمكن أن يطمح إلى أن يكون شيخ الطريقة (1). غير أن رأي فيليب كان في غير محله، فقد رأينا من الشجرة العائلية أن معمر هذا قد تولى لفترة قصيرة مشيخة الطريقة مع ذلك، سنة 1892، ولعل ذلك هو السبب الذي جعل الفرنسيين يرشحون زاوية عين ماضي لتقود الطريقة التجانية من جديد ابتداء من سنة 1897، حين رخصوا للبشير التجاني، الزوج الثاني لأوريلي الفرنسية، ليكون هو حامل البركة بعد أن مز جيل على حادثة الوراثة ونسيها الناس إلا القليل منهم.

(1) فيرناند فيليب (مراحل صحراوية). الجزائر، 880 1، ص 44 - 48.

ص: 224

وقد عثرنا على بعض الرسائل المرسلة من بعض شيوخ زاوية تماسين في الثمانينات، إلى مدير مدرسة تقرت السيد جان لاقليز Lagleyz. من ذلك رسالتا اعتذار من الشيخ معمر إلى لاقليز عن حضور حفل بالمدرسة، الأولى بسبب وجود الجنرال الفرنسي قائد الناحية العسكرية في تقرت وضرورة حضوره، وهي بتاريخ 12 مايو 1885، والثانية اعتذاره لمرضه بالزكام وذلك بتاريخ 30 ديسمبر 1887، ويبدو أن الحفلة الأخيرة كانت بمناسبة رأس السنة الميلادية تحت عنوان نزهة (حفلة؟) المكافآت. وهناك رسالة من الشيخ محمد الكبير إلى لاقليز أيضا، وهي مرسلة إليه من تماسين في يناير 1887 لشكره على الدواة التي وصلته منه، وتعهد له الشيخ بجلب الأشجار التي طلبها لاقليز من توزر، وفي هذه الرسالة بعض العبارات الفرنسية (1). ولا ندري من هو محمد الكبير بالضبط، فهل هو محمد بن محمد العيد، شيخ الزاوية نفسه عندئذ؟.

على أثر وفاة محمد العيد اجتمع المقدمون وانتخبوا خليفة له يوم 19 نوفمبر 1875، فكان هو أخاه محمد الصغير بن الحاج علي، وكان محمد الصغير هذا مقدما على زاوية قمار بوادي سوف، وتذكر المصادر الفرنسية أن هذا الانتخاب قد سبب دهشة في أوساط الناس وأحرج أحمد التجاني في عين ماضي كثيرا، ذلك أن المعتقد العام هو أن الوراثة للبركة متبادلة بين العائلتين والزاويتين، وأن ذلك يعني أن الدور الآن على الشيخ أحمد التجاني، ويذهب رين، وهو صوت السلطات الفرنسية المعاصر للأحداث والخبير بدقائقها، إلى أن هذا الانتخاب، كان مع ذلك موفقا، وهذا بالطبع رأي السلطات الفرنسية التي كان في إمكانها أن تغير الأوضاع لو أرادت لمكانتها ولمصلحتها في الزاويتين، بل يضيف رين: إن الانتخاب كان (منطقيا وجيدا). لماذا؟ لأن معظم الطرق كانت تلجأ إلى هذه الوسيلة، وتقدم مصلحة الطريقة العامة على المصالح الفردية الخاصة، وهو المبدأ الذي يخضع له الجميع، هذا من

(1) انظر (كتاب الرسائل) لبلقاسم بن سديرة، ص 180 - 183.

ص: 225

جهة، ومن جهة أخرى، فلأن الشيخ أحمد التجاني لم يكن الرجل المؤهل لهذا المنصسب (الخليفة أو الشيخ) لعدة أسباب، منها، في نظر رين، (سوابقه) أي تداخله أيام ثورة أولاد سيدي الشيخ، و (سلوكه). ونحن لا ندري إلى أي شيء يشير (رين) بذلك، ولعله كان يلمح إلى ما أشيع من أن الشيخ أحمد كان يتناول الخمر في قصره أو إلى موقفه المشبوه أيام ثورة 1864، وأخيرا فإن عمره لم يكن سوى أربع وعشرون سنة، ولا ندري لماذا لم يذكر رين أيضا كون الشيخ أحمد كان متزوجا من الفرنسية أوريلي بيكار، وخلاصة رأي رين، الذي هو رأي السلطة الفرنسية، أن الشيخ أحمد لم يكن الرجل الذي يتوفر على (القوة المعنوية) لأخذ أمور الطريقة بين يديه وادارتها بسلطة ونجاح (1).

كان محمد الصغير بن الحاج علي في الخامسة والستين من عمره حين تولى مشيخة الطريقة التجانية في زاوية تماسين، وقد جاء في وقت كان فيه نشاط الطريقة السنوسية في الجنوب الشرقي وفي ليبيا وإفريقيا كبيرا ويشكل خطرا على السلطات الفرنسية، وكان على التجانية أن تبذل جهدها بالتعاون مع فرنسا لوقف تقدم السنوسية ووقف دعاية الجامعة الإسلامية، ولذلك كان لا بد من اختيار شخصية ناضجة ومتفهمة وحكيمة، وهذه الأوصاف تتوفر، حسب المصادر الفرنسية في محمد الصغير بن الحاج علي، فقد جمع، حسب قولهم، كل الخصائص المطلوبة، من ورع وعلم وفضيلة، وهو أيضا رجل متسامح في فكره، وبسيط في مظهره، رقيق الحاشية، كما أنه أظهر، مثل أخيه محمد العيد، إرادة خيرة نحو الفرنسيين وإخلاصا كاملا لهم، ولكي لا يتداخل شخصيا في الأمور السياسية والعلاقات العامة، جعل أخاه، معمر بن الحاج علي، سندا له وعينه للقيام بدور السفير والمتحدث الرسمي باسمه ورئيس المراسيم، كما كان معمر يقوم بشؤون الموظفين وكل القضايا المادية، ويلاحظ رين على معمر أنه كان ذا قيمة ثقافية، ولكنه كان خشنا في ظاهره.

(1) رين، مرجع سابق، ص 438.

ص: 226

وكان دميم الخلقة ولكن يعترف له بالدبلوماسية والقدرة (1).

وكانت بين السلطات الفرنسية والطريقة التجانية بفرعيها مراسلات متبادلة، وكانت السلطات الفرنسية تحتاج في كثير من المناسبات إلى تدخل الزاويتين أو إحداهما في إفريقية حيث الثورات والقيادات المتصارعة المنتمية إلى هذه الطريقة الصوفية أو تلك، وكانت فرنسا عندئذ تخوض حربا ضد الحركة الإسلامية بقيادة الحاج عمر وابنه في غرب إفريقية، وكان الحاج عمر من زعماء الطريقة التجانية بعد أن كان قادريا، واستعملت فرنسا نفوذها لدى التجانية في الجزائر للتأثير على التجانية المحاربين لها في إفريقية، وقد جاء رين بعدد من الرسائل المتبادلة بين السلطات الفرنسية وزاويتي عين ماضي وتماسين، منها رسالة من لويس تيرمان، الحاكم العام للجزائر يطلب فيها تزكية مهمة السيد بورنبي - ديسبورد الذاهب إلى سيقو وفوتا، حيث الحركة الإسلامية المعارضة للتسرب الفرنسي، رغم أنهم من أتباع التجانية، وتظهر الرسالة التي كتبها الاخوان: محمد الصغير ومعمر، ابني الحاج علي، روح التسامح، كما قال رين، وكلمة (التسامح) تعني التساهل مع المسيحيين وتقبلهم والابتعاد عن الجهاد ضدهم، وهي كلمة تستعمل في مقابلة (التعصب) التي يصف بها الفرنسيون من كانوا ضدهم أو جاهدوهم (2). وهناك رسالة أخرى مماثلة صادرة عن الشيخ أحمد التجاني من عين ماضي، إضافة إلى رسالتين أخريين من الزاويتين موجهتين في نفس المعنى، إلى الشيخ احمادو بن الحاج عمر، بسيقو (3).

(1) رين، مرجع سابق، ص 439.

(2)

رين، مرجع سابق، ص 439، والرسالة بين صفحات 436 - 438، ومؤرخة في 27 محرم، 1300 (8 ديسمبر 1882). ورسالة شيخ التجانية تاريخها 8 ذو الحجة 1300.

(3)

نفس المصدر، ص 438 - 439، ويذكر كامبون (حكومة الجزائر). ص 66، أنه طلب من أحمد التجاني أن يوصي حكام سقوطو وبورنو بمسافرين فرنسيين إلى =

ص: 227

إن العلاقات بين السلطات الفرنسية والطريقة التجانية ليست محصورة في الجزائر دافريقية، ولو كان أمرها متعلقا بالجزائر لربما عاملتها فرنسا كما عاملت الطرق الأخرى، ولكن المصلحة البعيدة اقتضت أن تكون بين الطرفين معاملات خاصة، فلا الدرقاوية/ الشاذلية ولا الرحمانية، ولا حتى القادرية كان يمكنها أن تلعب الدور الذي لعبته الطريقة التجانية في إفريقية وداخل الحركات السياسية هناك، وقد لاحظ دو فيرييه أن للتجانية زاوية بين طوارق الأزجر وطوارق الهقار، وهي تقع في مكان يسمى (تيماسينين). وكان قد أنشاها الحاج الفقي حوالي 1700. ومن الأكيد أنها لم تكن زاوية تجانية عندئذ لأنها (التجانية) لم تؤسس إلا في آخر القرن 18 م، وقد عرفت هذه الزاوية عدة مقدمين، منهم الحاج البكري، الذي قال عنه إنه عاش 108 سنوات، وتوفي 1831، والحاج عثمان، والأخير هو الذي لقيه دوفيرييه، وسيرد اسمه في هذا الكتاب، فقد رافق هذا المقدم (الحاج عثمان) دو فيرييه إلى غدامس وأوصى عليه اخنوخن الذي أوصله إلى مرزوق، وكان للتجانية زاوية أخرى في القورارة بمنطقة توات، ومقدمها هو الحاج محمد الفجيجي، وانتشر التيجانيون في إفريقية الوسطى وبورنو وتمبوكو وبلاد الفوتا، وخص دو فيرييه مدينة الوعاد EL-OUAD وتماسين وشنقيط بالنشاط التجاني (1). ونظرا لذلك كله كانت فرنسا في حاجة إلى دعم التجانية، ولكي تحصل على هذا الدعم القوي، عليها أن تحافظ على وحدة الطريقة وقوتها أيضا.

فرغم التوتر الذي شهدته الزاويتان منذ انتخاب محمد الصغير سنة 1875 فإن الانفصال الفعلي لم يقع بينهما، ولو حدث ذلك التوتر في طريقة أخرى لشجعه الفرنسيون وكونوا للطريقة الواحدة عدة رؤوس، كما لاحظنا، ولكننا هنا أمام مسألة خاصة، كان الشيخ أحمد التجاني يعتبر نفسه هو

= النيجر، ففعل التجاني ذلك (عن طيب خاطر) ونعته بأنه (رجل مخلص لنا).

(1)

دو فيرييه، مرجع سابق، ص 310.

ص: 228

القائد الأعلى الحقيقي للطريقة وليس محمد الصغير في تماسين، ولم يكن يعترف بسلطته ولم يقبل بانتخابه، ولكنه أبقى على علاقة مجاملة معه، لأن فرنسا لم تعطه الضوء الأخضر للانفصال، فاكتفى بالإشراف على زاوية عين ماضي وعلى المقدمين الواقعين غرب خط الجزائر - الأغواط، فأصبح للطريقة فرعان في واقع الأمر، يشرف على كل منهما شيخ، أحدهما منتخب والثاني يرى نفسه هو الأحق بالخلافة، وتذكر مصادر الفرنسيين أن هؤلاء كانوا يتراسلون مع كليهما على قدم المساواة، أي دون سحب الاعتراف بأي من الشيخين، لأن مصلحة فرنسا السياسية تقتضي ذلك (1). وكانت الزيارات متبادلة بين الزاويتين، فقد زار البشير التجاني تماسين لبضعة أسابيع سنة 1884، وقد عرفنا أن أحمد التجاني نفسه قد ذهب بعد وفاة الشيخ محمد الصغير، إلى قمار لإيجاد صيغة للوراثة ترضي الطرفين، ولكن الوفاة أدركته هناك.

ويبدو أن هناك حادثة جرت ناحية تماسين سلطت بعض الظلال على العلاقات بين فرنسا وفرع تماسين، في أوائل عهد محمد الصغير (1878). والحادثة في ظاهرها عائلية ولا تستحق كل الاهتمام الذي أعطى لها، ولكن تطوراتها وتفريعاتها وتوقيتها جعلت منها حادثة سياسية أيضا، فقد تزوج المسمى محمد بن بلقاسم، وهو من أولاد السائح القريبين من تماسين، من أخت معمر بن الحاج علي، الرئيس الزمني للزاوية، وأنجب منها أربعة أولاد، وكان معمر لا يميل إلى أبناء أخته، فلم يهتم بتربيتهم ولا بسلوكهم، فهام اثنان منهم، وهما محمد الصغير وأحمد، في الأرض وأخذا يجمعان الزيارات (النقود

) باسم شيخ الزاوية، مستغلين علاقة القرابة، وتداخلا مع الطوارق، واعتقدت السلطات الفرنسية أن الزاوية نفسها متورطة في ذلك، وأجرت السلطات التحقيق وتبينت براءة الزاوية، أو هكذا انتهى التحقيق، وظهر أن الزاوية كانت تشكو من تصرف الولدين، وطالبت بتسليط العقوبة عليهما، ولما علم الوالدان بذلك هربا إلى تونس، وبعد حين رجع

(1) رين، مرجع سابق، ص 441، كان البشير كثير التردد على زاوية تماسين وقمار.

ص: 229

أحدهما، وهو محمد الصغير إلى الجزائر فسجنته السلطات في بريكة، ثم كتب سنة 1880 رسالة إلى خاله معمر، يعلن توبته وخضوعه لشروط الزاوية، باسمه وباسم أخيه الذي بقي في تونس، فأطلق الفرنسيون سراح محمد الصغير، ورجع الوئام بين الزاوية والأخوين، ولكن الفرنسيين بقوا حذرين من هذا (الوئام) فقد أقام الأخوان زاوية جميلة وكبيرة في الطيبات (مقر أولاد السائح) القبلية وسكنا فيها، ورأى الفرنسيون أن معمر قد يكون اكتفى بعدم التعرض لزاوية نائشة، وأن الأفضل نسيان ما حدث من ابني أخته، ولكنهم (الفرنسيين) كانوا يتوجسون خيفة من انفصال هذه الزاوية عن زاوية تماسين، كما حاولت هذه الانفصال عن عين ماضي (1).

وهناك حادثة أخرى وقعت في زاوية تماسين لعلها أكثر أهمية لما لها من آثار على العلاقات مع زاوية عين ماضي أيضا، ونعني بذلك الانقسام الذي حدث بعد موت الشيخ محمد الصغير سنة 1892، فقد تولى أخوه معمر، شؤون الزاوية الروحية والزمنية لمدة سنة واحدة (2). ثم وقع انتخاب محمد بن محمد العيد خليفة له، دون إعادة هذه الخلافة لزاوية عين ماضي برئاسة أحمد التجاني، ويفهم من المصادر الفرنسية أن عائلة الحاج علي نفسها لم تكن متفقة على هذا الانتخاب، فإذا كان موقف زاوية عين ماضي معروفا وقديما منذ انتخاب محمد الصغير سنة 1875، فإن ما حدث بزاوية تماسين يعتبر جديدا ويحتاج إلى معالجة حكيمة قبل أن يستفحل ويظهر للعيان، يقول ديبون وكوبولاني إنه بعد انتخاب محمد بن محمد العيد زعيما روحيا للطريقة التجانية كلها، خرج البعض وشكلوا حزبا في تماسين، بعضهم لم يعترفوا ببركته (عهدته) والبعض الآخر لم يعترفوا إلا ببركة زاوية عين

(1) رين، مرجع سابق، ص 440 - 441.

(2)

يبدو أن سبب التغيير السريع هو وفاة معمر المذكور، سنة 1310 هـ (1893). انظر وصف (رين) وفيليب له فيما بعد.

ص: 230

ماضي (1). وقد بقيت الأمور على ذلك النحو من الانقسام وسوء التفاهم إلى سنة 1897، سنة وفاة الشيخ أحمد التجاني وتولى أخيه البشير التجاني الذي حمل البركة أيضا (بالتقاسم) مع محمد بن محمد العيد، ويظهر أن السلطات الفرنسية كانت تستفيد من هذا الانقسام المزدوج أكثر من ذي قبل، إذ أبرزت الأحداث شخصية جديدة لعبت دورا من الدرجة الأولى، ونعني بذلك الشيخ محمد العروسي.

والشيخ محمد العروسي كان من نتاج هذه الفترة، فهو محمد بن محمد الصغير بن الحاج علي، قرأ القرآن على طالب شنقيطي اسمه محمد الطالب، ثم قرأ الفقه على قاضي قمار، الأخضر بن أحمد، والتصوف على والده (2). وكان متعلما ذكيا، وله ولع بالعلوم والمعارف، وله طموح وتطلع إلى لعب دور قيادي، وقد ذكرنا أن والده كان شيخا لزاوية قمار، ولعل محمد العروسي يكون قد ولد لأبيه فيها، ومهما كان الأمر فقد تولى في عهد أبيه وظيفة مقدم زاوية قمار، وهو الذي جعل من هذه الزاوية محط الأنظار لرجال زاوية تماسين وعين ماضي، وكذلك لرجال السلطة الفرنسية الذين سال لعابهم لتأثير الشيخ محمد العروسي في النواحي الجنوبية بدل رؤسائه في تماسين، كما كانت الزاوية في عهده مدرسة لتدريس العلوم، على الأقل لعدد محدود من أبناء الزاوية وأصدقائها، وقد صادف وجوده على رأس الزاوية في قمار اهتمام السلطات الفرنسية بمنطقة الهقار والتعرض لتقدم السنوسية، أي فترة العشرية الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن، وعاصر الشيخ العروسي عهدي جول كامبون وشارل جونار وشارل ليتو، الحكام العامين على التوالي في الجزائر، وتوفى سنة 1920، وصفه ديبون وكوبولاني سنة 1897 بأنه في الوقت الذي تعاني فيه زاوية تماسين الانقسام حول دور الشيخ محمد بن محمد العيد، أصبح الشيخ محمد العروسي هو الشخصية التي غطت على الجميع في مقره بزاوية قمار، فهو شخص له

(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 436.

(2)

مفتع (أضواء). مخطوط.

ص: 231

مؤهلات متميزة، ومتعلم، وورع، غير متعصب، وذكي، ونشيط، ثم إنه الشخص الوحيد من عائلة الحاج علي، الذي له علاقات مع الأتباع البعيدين عن الزاوية الأم (تماسين) سواء في الصحراء أو في السودان.

وقد تعرضت عدة مصادر فرنسية إلى دور الشيخ العروسي آخر القرن الماضي في الجزائر والصحراء وإفريقية، ولنقل إن رئيس المكتب العربي عندئذ في سوف وتقرت هو الضابط - المهندس بوجا Pujat الذي اهتم بالمباني والمياه، وفي الوقت الذي كان فيه زميله ديبورتر يفضل التعامل مع زعماء القادرية (انظر سابقا). كان بوجا يفضل التعامل مع التجانية، ومن أبرز زعمائها حينئذ هو الشيخ العروسي بدون شك، فقد اعتمد عليه بوجا في حل مشاكل الصحراء وتسهيل مهمة الضابط فورو وغيره من (المستكشفين الفرنسيين). والتعاون مع زعماء قبيلة الأزجر مثل الشيخ عبد النبي (1).

وبدوره ذكر الحاكم العام، كامبون، الأحداث التي وقدت في عهده في الصحراء، فنوه بدور التجانية لمساعدتها في بعثة فلاترز رغم فشل البعثة ومقتل زعيمها مع مقدم التجانية الذي كان يرافقه، وفي آخر 1892 جاء عبد النبي على رأس (ميعاد) تارقي إلى العاصمة، واستقبلهم هو (الحاكم العام) بمظاهر كبيرة من الفخفخة، وتعهد الميعاد - أو الوفد - بتمهيد احتلال عين صالح وتيديكلت، وفي سنة 1893 جاء ميعاد تارقي آخر ونزل بقمار واستقبله هناك الجنرال دولاروك قائد الناحية العسكرية الشرقية، وقد طلب الميعاد حماية فرنسا من (الطرابلسيين). وفي 1895 جاء عبد النبي على رأس خمسة خيام تارقية من قبيلة ايفوغاس وطلبوا النزول في وادي سوف فرارا من (الشعانبة المتمردين). وقد سمح لهم بالبقاء فترة في برج بلحيران. وتعهدت قبائل الأزجر بالسماح للمسافرين الفرنسيين بالمرور بمنطقتهم بشرط أن تدفع فرنسا لهم تعويضات عن إبلهم التي أخذت منهم، وكان ذلك الطلب

(1) روبير بيروني R.Peyronnet (الكتاب الذهبي) الجزائر، 1930، ص 470 - 474، وفيه حياة بوجا وسياسته في المنطقة.

ص: 232

بتدخل من فورو، فقبل الحاكم العام الشرط إذا جاء أصحابه لقبض تعويضهم في الوادي، ولكن التوارق (لا يحترمون إلا القوة) حسب ملاحظة فورو، ولذلك قام الفرنسيون ببناء برج في تيماسنين (1).

وكان فورو (خونيا) من أتباع التجانية، بناء على وثيقة سلمها له الشيخ العروسي، واستطاع فورو بذلك أن يشق طريقه في الصحراء إلى السودان، كما رافقه في ذلك المقدمون التجانيون الذين طلبهم فورو من الشيخ العروسي، واعترف فورو بأنه لولا هؤلاء المقدمون لما استطاع عبد الحكيم بن الشيخ، رئيس الشعانبة الذي رافقه في كل الرحلة ورجع معه إلى فرنسا، ومن هؤلاء المقدمين نذكر: عبد النبي، وأحمد باي، وعبد القادر بن هيبة، محمد بن بلقوم ومحمد بن قدور، الأولان من التوارق، والثالث من الشعانبة، والرابع والخامس من وادي سوف، وقد زودهم الشيخ العروسي بمجموعة كبيرة من الرسائل إلى الأعيان في كل محطة، ومنها خمس عشرة رسالة سلمها فورو إلى عبد النبي الخبير في المنطقة، ولكن بعض المقدمين لقي حتفه مع ذلك، مثل أحمد باي الذي قتله، كما قيل، جماعة من التوارق في صيف 1899، وكانت هذه البعثة تضم أكثر من ثلاثمائة رجل معظمهم جنود جزائريون، ومنها 28 أروبيا، وكان مسؤول الجزائريين ضابطا اسمه بلقاسم بن الهلالي، ولعله من نواحي الزاب (2).

وقد استغلت السلطات الفرنسية هذه (المؤهلات) التي تميز بها الشيخ محمد العروسي، فعن طريقه جرت المراسلات وإعداد وفد (ميعاد) بزعامة عبد النبي بن علي، وهو ابن أخ الشيخ عثمان (3). ونزل الوفد في ضيافة الشيخ

(1) جول كامبون (حكومة الجزائر). ص 415 - 416.

(2)

عن هذه البعثة ودور الشيخ العروسي والتجانية انظر: ف، فورو F.Foureau (من الجزائر إلى الكونغو عن طريق تشاد). باريس، 1902، ط. 1990.

(3)

الشيخ عثمان هذا هو زعيم إحدى الزوايا التجانية في بلاد الطوارق، وقد جاء إلى الجزائر لأول مرة سنة 1856 وكان مرفوقا بعدة أشخاص، وهو الذي رافق دو فيرييه إلى غدامس، 1860. وذهب سنة 1862 إلى باريس، انظر لاحقا.

ص: 233

محمد العروسي والزاوية التجانية بقمار، وأعلن الوفد (وهو نوع من السفارة) أنه جاء ليعرف شروط ومطالب وعروض الفرنسيين في نواحي الهقار، وأبدى استعداد قومه لمعاقبة الذين قتلوا البعثة الفرنسية التي كان يقودها العقيد (فلاترز). وأخبرت الصحف الفرنسية أن الوفد (التارقي) قد اندهش من الكرم الذي وجده من السلطات الفرنسية من خلال الزاوية، ومن الاهتمام بلغة الطوارق وعاداتهم من قبل الفرنسيين، والمعروف أن الذين كانوا يتولون (الربط) والترجمة هم المستشرقون الفرنسيون، أمثال (ماسكري) و (موتيلانسكي). وقد وصف (ماسكري) الحفل الذي أقيم للميعاد التارقي في قمار، والموائد والخيام ونحو ذلك، تحت إشراف المكتب العربي طبعا، وبعد الاستراحة والتعرف على الشروط والعروض من الطرفين توجه الميعاد إلى مدينة الجزائر لمقابلة الحاكم العام، كامبون، وترأس الشيخ محمد العروسي بنفسه هذا الميعاد، خلال أكتوبر 1892، وأثناء حفل أقامه كامبون بالعاصمة خطب هذا كما خطب الشيخ محمد العروسي أيضا وقام بالترجمة عليه (موتيلانسكي). وقد جرى الحفل في قصر مصطفى باشا حيث مقر الحاكم العام، وفي وصفه للحفل قال (ماسكري) إن فرنسا وجدت دائما الولاء من الطريقة التجانية وأن الفضل في هذه المرة يرجع إلى الشيخ محمد العروسي، وكان الشيخ العروسي قد ذهب بنفسه إلى بلاد الطوارق، حسب تقرير كتبه (رولان). وأثر فيهم وجاء (العروسي) معهم إلى الجزائر، وأشاد رولان أيضا بدور العروسي الشخصي في الموضوع (1).

كان الفرنسيون يعتقدون أن نهاية بعثة فلاترز 1881 ليست ضربة للمصالح والسمعة الفرنسية فقط ولكن لدبلوماسية الطريقة التجانية أيضا، ذلك أن البعثة قد هلك فيها مقدم التجانية أيضا، ولذلك لجأ الفرنسيون إلى

(1) انظر مجلة إفريقية الفرنسية (A.F). أكتوبر، 1892، ص 5 - 7. أما ديبون وكوبولاني، ص 272، فيذكر أن أن الشيخ العروسي قد بعث أحد المخلصين له إلى الطوارق، وهو أحمد بن محمد بن بلقاسم، وحثهم على أن يأتوا إلى فرنسا كحلفاء لا كأعداء.

ص: 234

شخصية قوية ولها علاقات مثل الشيخ محمد العروسي، وهو الذي ربط بينهم وبين زعماء الطوارق ووظف سمعته وسمعة الزاوية لهذا الغرض، وتكررت (الميعادات) القادمة من الهقار إلى الوادي ثم الجزائر، كما تكررت البعثات الفرنسية المنطلقة من الوادي نحو الهقار، من ذلك ميعاد 15 نوفمبر سنة 1893 الذي جاء لشكر الحكومة الفرنسية على حسن استقبالها لوفد عبد النبي، ومناقشة قضايا إدارية وغيرها مع السلطات، مثل الإبل المسروقة، والغارات (السنوسية). وقد طلب الوفد أيضا من الجنرال (لاروك) معاونته على خصومهم، وتعويضهم عن خسائرهم، ثم وضعوا أنفسهم تحت الحماية الفرنسية، وهكذا، جاءت إلى قمار حوالي أربعة وفود تارقية في ظرف سنتين، ثم انطلقت بعثة فرنسية، من ورماس (الوادي) نحو الهقار، في 13 يناير 1894 (1).

ومنذ تولاها الشيخ محمد العروسي اكتسبت الزاوية التجانية بقمار مكانة مرموقة، وكانت للتجانية أيضا زاوية أخرى بتاغزوت ولها مقدم ونفوذ، ولكن لم تبلغ سمعتها ما بلغته جارتها في عهد الشيخ العروسي (2). وقد عرفنا أن شيخي زاوية عين ماضي قد زارا الشيخ العروسي، وهما الأخوان: أحمد التجاني سنة 1897، والبشير سنة 1911، ولا شك أن من بين أسباب زيارتهما إصلاح العلاقات بين زاويتي عين ماضي وتماسين

(1) نفس المصدر (A.F) عدد فيفري، 1894، ص 9. في كثير من المرات يشير ديبون وكوبولاني إلى عداوة الأمير عبد القادر لفرنسا أثناء حديثهما عن التجانية سنة 1897 (؟) وإلى عداوة السنوسية لها، وقالا بصراحة إننا نريد من التجانيين، وهما يشيدان بجهود الشيخ العروسي، أن يكافحوا دعاية (إخوانهم) المعادية لفرنسا في مراكش والسودان الغربي، ص 288، ذلك أن موقف التجانية في الجزائر ليس هو نفسه موقفها في كل من المغرب الأقصى وإفريقية.

(2)

أحد أبنائه هو الشيخ السائح بن محمد العروسي، الذي ولد سنة 1266، وكان السائح من المثقفين، ومن شيوخه الحاج علي بن القيم ومحمد الصالح بن الخوصة، ومبارك بن مبارك ومحمد بن سويسي، والطيب بن الأخضر، وله شعر وأدب، وعاش إلى سنة 1945، وهو مدفون بقمار، كوالده، انظر مفتاح (أضواء). مخطوط.

ص: 235