الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرقاوية، كما رأينا كثيرة، و (رين) وأمثاله لم يعيشوا إلى القرن العشرين ليعرفوا كيف تصرفت بعض الطرق منذ الحرب العالمية الأولى، وقبل أن نتناول ذلك نود أن نقول كلمة أيضا عن
الطريقة المدنية
.
الطريقة المدنية
عرفنا بداية الطريقة المدنية في الجزائر ابتداء من الحاج موسى بن حسن المصري الدرقاوي الذي لعب منذ 1833 دورا بارزا في الثورات بالجزائر إلى أن استشهد إلى جانب بوزيان في الزعاطشة سنة 1849، وكما قيل عن الحاج موسى أنه انفصل عن الشاذلية بدعوته للجهاد وتدخله في السياسة، كذلك قيل عن الطريقة المدنية بأنها تخلت عن التعاليم الشاذلية في الحياد ونبذ السياسة وأصبحت أداة للسياسة في يد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ولفكرة الجامعة الإسلامية، أو كما يقول الفرنسيون أصبحت المدنية معادية للتقدم والحضارة الأوروبية (الفرنسية). فما هي الطريقة المدنية؟ ومن صاحبها؟ وأين ظهرت؟
ظهرت هذه الطريقة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر ميلادي في طرابلس، وفي مصراته بالذات، وكان الشيخ محمد بن حمزة المدني قد أخذها عن شيخه محمد العربي الدرقاوي، و (المدني) نسبة إلى المدينة المنورة، ويقولون إنها تأسست سنة 1820، وانتشرت بسرعة كبيرة، وكانت زاويتها الرئيسية في مصراته، وكانت ليبيا عندئذ تمر من مرحلة حكم إلى آخر، نتيجة التحول من عائلة القرامانليين إلى الحكم العثماني المباشر عن طريق تعيين الولاة من قبل اسطانبول، كما نشطت أثناء تأسيس ونشاط الطريقة السنوسية في جغبوب في الطرف الشرقي من ليبيا، وصادف ظهورها أيضا (أي المدنية) احتلال فرنسا للجزائر والثورات فيها ضد هذا الاحتلال ثم احتلال تونس، وهذه الظروف كلها ساهمت في الانتشار السريع للمدنية، ثم للسنوسية أيضا، لملء الفراغ الذي أحدثه الضعف السياسي في المنطقة كلها وتدهور الحكم الإسلامي فيها،
ثم تولى الطريقة محمد ظافر المدني الذي وصلت المدنية في عهده أوج سمعتها، ولد محمد ظافر في مصراته سنة 1828 (1244). وتربى في مسقط رأسه، وحفظ القرآن الكريم، وبعد ذلك ارتحل إلى القاهرة ثم الحجاز وأخذ العلم فيهما واختلط بالطرق الصوفية وعاش الأحداث السياسية التي كانت - تخض المنطقة، والتقى بالشيخين إبراهيم الرياحي ومحمد بن علي السنوسي، ثم ارتحل إلى اسطانبول عاصمة الدولة، ولقي الأمراء، وقابل سلاطين الوقت من عبد العزيز إلى عبد الحميد، وقد حضر جلوس السلطان الأخير سنة 1876، واعتقد السلطان نفسه في طريقته الشاذلية/ الدرقاوية، وأعانه هذا السلطان فأقام له زاوية (تكية) في اسطانبول، وهي الزاوية التي دفن فيها بعد ثمانين سنة من العمر (سنة 1903/ 1321). وقد ترك محمد ظافر أربعة عشر ولدا عدا البنات (1). وهناك رواية أخرى ذكرها (مارتن لانغز) وهي تفيد أن محمد ظافر المدني (بن محمد بن محمد حسن بن حمزة ظافر المدني) كان قد خرج من المدينة سنة 1807 واتجه غربا فاجتمع بالمغرب الأقصى بشيخ الطريقة محمد العربي الدرقاوي وبقي عنده تسع سنوات في بني زروال (زاوية بوبريح) وأخذ عنه الطريقة، ثم أمره الدرقاوي بالرجوع إلى المدينة، وبعد ثلاث سنوات رجع المدني إلى المغرب وبقي فيه خلال الشهور الأخيرة من حياة شيخه وحضر وفاته ثم رجع إلى المدينة، وفي طرابلس (حوالي 1821) التف حوله الناس ودخلوا طريقته الجديدة (الدرقا وية/ 1 لمدنية)(2).
ويتبين من ذلك أمران على الأقل: صلة الطريقة المدنية بالشاذلية، وصلتها بسياسة الدولة العثمانية، وتدعى المصادر الفرنسية أن محمد ظافر
(1)(الأعلام الشرقية) 3/ 125 - 127، ويذكر هذا المصدر أن من مصادر المدنية أيضا: تقويم جريدة (المؤيد) لسنة 1322، وكتاب (النفحة العلية في أوراد الشاذلية) ل عبد القادر زكي، وما كتبه أيضا إبراهيم المويلحي عنها.
(2)
مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي). بيروت، 1979، ص 69 - 71، وهو يروى عن (الأنوار القدوسية في طريق الشاذلية). اسطانبول، 1884،
المدني قد أصبح مستشارا للسلطان عبد الحميد، وأصبحت الطريقة تتشكل حسب رغبة الشيخ المدني وطموحه السياسي وطموح السلطان في نشر فكرة الجامعة الإسلامية، وليس حسب تعاليم الشاذلية - الدرقاوية، فقد ألف محمد ظافر المدني كتابا سماه (النور الساطع) ونشره باسطانبول سنة 1885، وطرح فيه مبادئ طريقته، فركز على تعاليم الشاذلية في التوحيد والتصوف، ولكنه، كما يقولون، أضاف إلى ذلك التعاليم الدبلوماسية والدعاية لجمع الأتباع لفكرة الجامعة الإسلامية، ويبدو أن محمد ظافر المدني كان من المتصوفين المثقفين بثقافة العصر السياسية فجمع بينها وبين التصوف وحاول أن يخدم كل منهما الآخر، في حين أن التصوف الذي يريده الفرنسيون هو التصوف الجامد غير المتجدد والسلبي غير الفعال والبعيد عن السياسة والتعصب الديني، كما يزعمون.
ولذلك أعلن أحدهم (رين) سنة 1884 (أي قبل نشر كتاب النور الساطع) بأن المدنية طريقة متميزة بنفسها، وهي منفصلة عن الشاذلية - الدرقاوية، ولا علاقة لها بشاذلية محمد الموسوم الذي أخبر عنه (رين) بأنه كان سكونيا لا حركيا، وحياديا لا مشاركا في الأحداث الجارية على ساحة بلاده، بل قال عنه إن كان يطلب من الإخوان عدم المشاركة في الثورات بطلب من فرنسا، وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه، شتان إذن بين فرع وفرع لطريقة واحدة، هي الشاذلية! ولكن رين يضيف جديدا عن المدنية لا يخلو من عبرة، وهو قوله إن محمد ظافر المدني قد أصبح خادما لسلطان اسطانبول وخرج عن الحياد السياسي، وهو يحاول أن يستعمل أخوانه ضد معارضي السلطان من السنوسيين والتجانيين والطيبيين والشاذليين، ثم لاحظ أن المدنية تلعب في وقته، دورا مزدوجا وخطيرا، فهي من جهة (مبيوعة)(كذا) للسلطان، وهي من جهة أخرى تخدم السنوسية، ومحتفظة في نفس الوقت باستقلالها مما يسهل مهمتها في المناورة، وكان شعار المدنية عندئذ هو (وحدة كل المسلمين لطرد المسيحيين من إفريقيا (واسيا)) (1).
(1) رين، مرجع سابق، ص 243،
لقد كان الشيخ محمد ظافر المدني يدير نشاطه من خلوته في (يلدر كوشك) في اسطانبول، وكان يوجه مبعوثيه إلى المغرب العربي وإلى الحجاز حيث ملتقى الحجاج، وتذهب المصادر الفرنسية إلى أنه كان يرسل (آلاف العملاء) هنا وهناك لربط مشاعر الشيوخ المستقلين الذين يديرون الطرق الصوفية القوية، وهذا هو الوقت الذي كانت فيه فرنسا تحاول أن تعيد النظر في سياستها الإسلامية ليس في الجزائر فحسب ولكن في كل العالم الإسلامي، ولذلك كانت ترى في أمثال المدنية والسنوسية طريقتين عدوتين لأنهما تتبنيان سياسة الجامعة الإسلامية ومحاربة الاستعمار الأوروبي، وبعد موت أخيه حمزة في طرابلس، أعطى الشيخ محمد ظافر المدني بركته لأبناء أخيه، واعتبرهم الفرنسيون عملاء للدولة العثمانية في إفريقية، ويقول الفرنسيون إن الوعود والعطاءات قد صدرت لكبار الناس وعلمائهم من قبل المدنية والعثمانيين، أما البسطاء فقد هددوا بنقمة الله عليهم إذا لم يتبعوا طريق المدنية والسياسة العثمانية.
أما التعاليم الدينية للطريقة المدنية فنراها في الإجازة التي حصل عليها أحد مقدميها في الجزائر، وهو الشيخ يحيى بن أحمد (1). كان الشيخ يحيى مقدما على أولاد نائل في الجنوب/ الوسط، وأعطاه الإجازة الشيخ محمد أحمد بن عبد الله المدني (المداني). وكان هذا قد أخذ الطريقة عن والده أحمد بن عبد الله التونسي الصفاقسي الذي أخذها بدوره عن الشيخ محمد ظافر بن حمزة المدني، وهذا أخذها عن الشيخ محمد العربي الدرقاوي، إلى آخر السلسلة الدرقاوية - الشاذلية التي تمتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء في الإجازة أن والده قد أمره بتقوى الله في السر والعلانية والإحسان إلى عباد الله، وأمره بالسياحة مع الفقراء، وقال عن يحيى بن أحمد إنني:(قدمته على الطائفة المدنية) وأجزته إجازة تامة، وجعلته في ذلك نائبا عني، ثم
(1) نص الإجازة بالعربية وترجمته الفرنسية في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 514 - 517،