المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٤

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

سيما بعد وفاة الشيخ محمد الموسوم (1883). فقد كان فرع قصر البخاري وفرع غريب وفرع أندات وفرع عنابة الذي كان يشرف عليه بلقاسم بوقشبية، تتنافس فيما بينها ولا تعترف بشيخ واحد لها.

‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

كان طبيعيا أن يتنادى الجزائريون من أجل المقاومة لمواجهة الاحتلال الفرنسي، وقد عقدوا لذلك عدة مؤتمرات تدل على التجاوب الوطني وروح المسؤولية الدينية والسياسية، من ذلك اجتماع البرج البحري 1831، واجتماع متيجة 1832، وبوخرشفة 1833 و 1839، هكذا استمرت الاجتماعات التي كانت عبارة عن مؤتمرات شعبية - وطنية لدراسة مستقبل البلاد والإجراءات اللازمة لمواجهة الخطر الأجنبي، ثم هناك الاجتماعات الإقليمية كالذي عقده الحاج أحمد باي قسنطينة إثر رجوعه من العاصمة بعد سقوطها، وقد أعلن مع كبار رجال دولته على العفو العام وإسقاط الضرائب الإضافية وإجراءات أخرى تساعد على الوحدة والتضامن من أجل القضية المشتركة، ولعل أكبر تجمع وطني ديني على مستوى إسلامي هو مبايعة الحاج عبد القادر بن محيي الدين أميرا للمؤمنين في معسكر سنة 1832، وهي المبايعة التي رجعت بالأذهان إلى طريقة السلف من الخلفاء الراشدين (1). وعلى أثر المبايعة أصدر الأمير تعليماته بوجوب الطاعة، وتعهد بإجراء العدل على سنة الله ورسوله، واحترام الشريعة والعمل على طرد العدو، ثم أعلن الجهاد في سبيل الله والوطن، والجهاد قد دعا إليه أيضا الداي حسين وغيره ممن كانوا يعملون على تحرير الجزائر من الاحتلال، ولكن مبايعة الأمير قد نظر إليها عندئذ على أنها صادرة من طريقة صوفية هي القادرية، وإذا كان الحاج أحمد قد استعمل الجهاد أيضا مثل الداي حسين.

(1) انظر ذلك في (تحفة الزائر) للأمير محمد، ط 10، الإسكندرية، 1903، ص 96، وكذلك شارل هنري تشرشل (حياة الأمير عبد القادر). ترجمة أبو القاسم سعد الله، ط، 2، الجزائر، 1982، ص 69،

ص: 33

فإن ذلك من شأنهما لأنهما من رجال السيف والحكم والحرب، أما أن تصدر الدعوة إلى الجهاد من طريقة صوفية فذلك هو عين التعصب الديني والطموح الشخصي، حسب تعبير المصادر الفرنسية (1).

والواقع أن الفرنسيين أنفسهم حاولوا استغلال الطرق الصوفية لصالحهم منذ البداية، ففي سنة 1831 وقع اتفاق هو الأول من نوعه بين قائد الجيش الفرنسي الجنرال (بيرتزين) والحاج محيي الدين بن مبارك، مرابط مدينة القليعة، وكان ذلك بنصيحة الناصحين أو المستشارين الذين أشاروا على الجنرال بأن الذي سيهذئ من المقاومة هو إعطاء أحد المرابطين قيادة المناطق المجاورة للعاصمة، فأعطى الجنرال لقب (الآغا) إلى الحاج محيي الدين وكلفه بتهدئة الأوضاع وبمهمة الوساطة بين العرب والفرنسيين، ولكن عهد الجنرال بيرتزين لم يطل وجاء بعده (الدوق دورفيقو) بعقلية الغطرسة والتحكم، وقضى على آمال الواسطة، وعادت المقاومة كأشد ما تكون، وهرب الحاج محيي الدين إلى مليانة حيث سلطة الأمير عبد القادر، وخدم الأمير إلى أن مات حوالي 1834، والذي يهمنا هنا هو أن قيادة المرابطين والطرق الصوفية أخذت تلعب دورا رئيسيا في الأحداث بل الدور الأول، وذلك في الوقت الذي تخاذلت فيه السلطة الزمنية على يد الزعماء العثمانيين من أمثال الداي حسين، والباي حسن بن موسى (وهران) ومصطفى بومزراق (التيطري). وعلى يد رجال المخزن أمثال مصطفى بن إسماعيل في غرب البلاد وفرحات بن سعيد في شرقها، وبعد احتلال قسنطينة (1837) سيظهر أيضا بشكل أجلى تخاذل السلطة الزمنية في أمثال المقرانيين وأولاد ابن قانة، وقيام الطرق الصوفية، سيما الرحمانية التي تحالفت مع الأمير عبد القادر إلى هزيمته 1847، ثم تولت هي (الرحمانية) المقاومة والجهاد بعده، في زواوة

(1) البحث الذي كتبه مجهول بعنوان (الجهاد أو الحرب المقدسة عند المسلمين) والذي نشر في مصدرين مختلفين وفي زمنين متفاوتين، أحدهما (سجل الإحصاءات - طابلو - لسنة 1839). ص 251 - 258، والثاني في (المجلة الشرقية والجزائرية) سنة 1852، ص 448 - 451، نقلا عن أرشيف وزارة الحربية،

ص: 34

(850 1 - 1857). ثم 1871.

لكن الفرنسيين يعرفون أن الطرق الصوفية لم تستسلم وإنما انهزمت أمام القوة، وهم يعرفون أن المواطن قد خاب أمله، في آخر القرن الماضي، في دعاة الجهاد الذين لم يحققوا النصر، رغم ادعاء الكرامات وخوارق العادات، فالأجنبي ظل جاثما على صدر الجزائر، والمرابطون والأشراف انهزموا الواحد بعد الآخر، وأخذ المواطن يبحث عن منقذ آخر، فلا داي ولا باي ولا أمير ولا مرابط ولا جواد (1) استطاع أن ينقذ البلاد، إذن فليرتم هذا المواطن في أحضان الصوفية، وليعش في عالم الروح وعالم التخيلات، ومن ثمة نفهم لماذا تعلق المواطنون تعلق الغريق بالطرق الصوفية وشيوخها، واتبعوها مذعنين في ممارساتها ومطالبها، مهما كانت، حتى شاع عنهم التعبير الشهير (ما يأمرني به الشيخ أعمله، ولو أمرني بالإفطار في رمضان لفطرت) متيقنين أن الخلاص سيكون على أيدي الشيوخ المتصوفة، الخلاص الدنيوي من القهر والحرمان والخلاص الروحي بما فيه من جنة ونعيم، ولكن الطرق الصوفية، قد ظهرت على هذا النحو في وقت انسدت فيه أبواب الخلاص، وانقطعت فيه وسائل المقاومة، ووقعت فيه الجزائر فريسة لجيش عرمرم وقوة استيطانية تجذرت وتشابكت مصالحها مع الخارج، وإدارة مباشرة تسمى إدارة المكاتب العربية وقوانين استثنائية جائرة، ومخططات ترمي إلى سلب الجزائري المسلم هويته ودينه عن طريق تغيير الحالة المدنية، ونشر تعليم اندماجي وإفساد مقصود للأخلاق والطبائع، فماذا تفعل الطرق الصوفية؟ لقد تحولت هي أيضا إلى جهاز استغلالي في يد السلطة الفرنسية، بواسطتها تحكم وتتحكم.

لقد استطاع الفرنسيون أن يسيطروا على أعيان السياسيين والمحاربين

(1) الجواد مفرد (الأجواد) وهم رجال الحكم والسيف، ويستعمل أحيانا، سيما في شرق الجزائر لفظ الذوادي (الذواودقة). في مقابل رجل الدين من مرابطين وأشراف وشيوخ طرق، ويحلو للفرنسيين (والأوروبيين عموما) إعطاء لقب نبلاء السيف للفريق الأول ونبلاء الدين والشرف للفريق الثاني،

ص: 35

منذ السنوات الأولى، ففرقوا شملهم كما فعلوا مع ابن العنابي وحمدان خوجة (العاصمة) أو أسكتوهم بالوظائف كما فعلوا مع علي بن عيسى وابن الحملاوي (قسنطينة). أو نفوهم إلى خارج البلاد كما فعلوا مع مصطفى بومزراق والأمير، أو قتلوهم في الميدان مثل محمد بن علال وبوزيان الزعاطشي والشريف بوبغلة، أو غيبوهم في السجون أمثال إبراهيم بن مصطفى باشا والشريف بومعزة وشريف ورقلة، والذين قبلوا التوظف من العائلات الكبيرة زرعوا بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتحدوا ضدهم، وراقبوهم عن كثب حتى لا يتصلوا، وعآقبوا المخالف منهم العقاب الصارم حتى يتعظ به الآخرون، فلم يبق للمواطن أمل في زعيم ولا رجاء في خلاص، غير أن غشاوة اليأس كان يرفعها من وقت لآخر من يسميهم الفرنسيون (الأشراف المزيفين). أولئك الأفراد المجهولون عادة والذين يتخذون صفة (المهدي) أو رجل الساعة، فهؤلاء الأشراف والمهديون هم الذين كانوا يظهرون ليردوا الفار من الزحف، ويرفعوا شعلة الحماس والجهاد، ويعطوا للعامة روح الأمل، كان على الفرنسيين أن يتصدوا لهذه الشخصيات الصاعقة التي تضرب وتختفي، كانت شخصيات شبحية تثير الرعب في العدو بعد أن يظن أنه قضى على آخر المقاومة وخلد إلى الراحة، انتهى إذن دور السياسيين والمحاربين، وانتهى دور الطرق الصوفية المكافحة، ودور المرابطين، وبقي فارسان، أحدهما هؤلاء الأشراف المجهولون، وثانيهما هؤلاء الشيوخ الرابضون في الزوايا يحملون البركة وأسرار الدعوة إلى الجهاد، رغم أنهم في ظاهر الأمر كانوا مستسلمين.

بعد الأمير عبد القادر ظهرت شخصيات عديدة مجهولة تقول إنها شريفة الأصل وأخذت تقود انتفاضات جماهيرية خطيرة على العدو، كم من (شريف) عرفته الجزائر خلال القرن الماضي وما يزال تاريخه مجهولا إلى الآن؟ من هو بومعزة؟ من هو بوبغلة؟ من هو بوزيان؟ من هي لاله فاطمة؟ من هو ذلك المداح في كل سوق؟ من هو لابس القشبية؟ ومن هو بوبرمة؟ ومن هو بوعود؟ ومن هو بوسيف؟ ومن هو محمد بن عبد الله؟ فإذا استطعنا

ص: 36

أن نكشف حياة هؤلاء وأمثالهم فإننا نكون قد عرفنا الكثير من تاريخ الجزائر المجهول.

إنهم جميعا انتفضوا وفشلوا، لقد كانوا روح الشعب المقاومة التي لا تموت، يظن الفرنسيون أنها انتهت ثم تنتفض ثانية وعاشرة، فإذا هم يسفهون بعضهم البعض، هذا يقول إن المقاومة انتهت ولن تقوم لها قائمة، والآخر يقول إن (روح التعصب) لم تمت أبدا، إننا نعيش على فوهة بركان، والرأي الأخير هو رأى (الكولون) الذين كانوا يحقدون على الجزائريين بقدر ما يحقد الجزائريون عليهم، لأنهم رمز الاستعمار الذي أخذ الأرض واغتصب أموال الأوقاف الدينية، كان الكولون، رغم تطرفهم، هم الذين يدركون حقيقة (الأهالي) لأنهم على اتصال دائم بهم، أما السياسيون الفرنسيون وبعض الضباط والكتاب فينظرون إلى (الأهالي) من البرج العاجي، وكانوا مهتمين بالرسالة الحضارية لفرنسا أكثر مما كانوا مهتمين بالحياة اليومية، وفي نظري أن جوزيف ديبارمي المستشرق والباحث الأنثروبولوجي، كان يفهم روح المواطن الجزائري أكثر مما كان يفهمها أي حاكم رغم أن هذا هو الذي كان يمثل السلطة الفرنسية، فقد درس ديبارمي انتفاضات المواطنين على يد الأشراف، ودرس أشعار المداحين، وتعمق في فهم الألغاز والرموز التي يستعملونها كناية أو تقية (1). استمرارا لعقيدة المقاومة، ولو بالسكوت.

إذن، فلنستمع إلى رأي الكتاب الفرنسيين في حركة المقاومة على يد الأشراف بعد الأمير عبد القادر، فهم يقولون عنهم إنهم كانوا يخرجون الأعلام من زوايا المرابطين، ويرفعون الهلال على الصليب، فوق كوخ تهزه ريح الجهاد، هناك على قمة جرجرة، يلعلع صوت للاله فاطمة وهي بالحائك الأحمر، واقفة على ضفة الوادي، ولكن فرنسا (المتحضرة) كانت تتقدم دائما، رغم المقاومة الدامية واليائسة، لقد أصدر الجنرال ميسيا Maissiat أمره لجنوده: اهجموا! فلم يمنع صوت فاطمة الصفوف المقاومة من

(1) سندرس آراءه في مكان آخر من هذا الكتاب انظر فصل اللغة والنثر،

ص: 37

التصدع، لقد وجد الجنود الفرنسيون المسبلين في الخنادق، في لباس قصير، متواثقين بحبل حول ركبهم، كان عليهم أن يموتوا جميعا بسنكى البنادق الفرنسية، إنهم المسبلون المحاطون بالمرابطين والمستعدون للموت عن آخرهم في سبيل الأرض المقدسة، أرض أجدادهم، كان ذلك سنة 1857، وفي 1871 سجل المؤرخون نفس المشهد: 300 مسبل في عين الحمام سقطوا عند عتبة السور، مسجلين بدمائهم عذاب هذه المعركة الفاصلة التي أوحت إلى خيال عدد من كتاب الروايات والمغامرات (1). وعندئذ ظهر المداح والشاعر الشعبي يعلن أن المرابطين والأشراف فشلوا وأن النصر سيأتي من جهة أخرى.

يذهب رين إلى أن المرابطين غير خطرين خطورة الأشراف (المزيفين). المرابط حكيم ولا يغامر، في نظره، أما الشريف فهو شخص متآمر، وبعض الأشراف كانوا مزيفين ولكنهم أذكياء، وهم ينتمون إلى النخبة، ويعرفون كيف يستغلون طيبة العامة، ويقول إن هؤلاء ليسوا خطرين، أما الخطرون فهم نصف المتعلمين منهم، وهم الذين تجعلهم الخرافة الشعبية أشرافا وذوي كرامات، والشريف المزيف في نظره، لا ينتمي إلى طريقة صوفية معينة، لأن انضباط هذه الطرق يمنع من أن يغامر أحد أتباعها بمصيرها ومصير شيوخها، ويستعد الأشراف للقيام بدور المتقشفين والزهاد، وجلب الكرامات كوسائل لإقناع العامة، وبالتواطؤ مع بعض الأتباع، واللجوء إلى الرؤى المنامية، وإرسال الرسائل الغامضة بإمضاء مجهول، وهم في ذلك يتفقون مع المرابطين الذين اتبعوا الزهد والكرامة والرؤى ونحوها، ولكن المرابطين أثبتوا ذلك بالحياة المثالية، والأخلاق والخلوة والمعارف، أما الأشراف المزيفون، في نظر رين، فقد انكشف أمرهم بثوارتهم الفاشلة، ودورهم الذي كان سياسيا أكثر منه دينيا، وهم خطرون حقا، ولذلك كانت الإدارة قاسية

(1) يشير المرجع إلى الكاتب هوق لورو H، Le Roux الذي كتب رواية عنوانها (مولى الساعة) المستوحاة من ثورة 1871، باريس 1897، انظر ديبون، وكوبولاني، مرجع سابق، ص 178، وكلمة (مسبلين) تعني الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله استعدادا للشهادة، وقد شاعت الكلمة نفسها زمن الثورة الأخيرة 1954 - 1962 أيضا،

ص: 38

عليهم، فهي تراقبهم دائما، لأنهم كانوا وراء الثورات، وهم مهيجون للعامة (1). وهو لم يذكر الثورات، مكتفيا بذكر زعمائها، عدا واحدة (2). ولكننا نعرف هذه الثورات التي كانت في نظر (رين) من فعل الأشراف المزيفين، فهي كل الانتفاضات التي قادها رجال مجهولون، مكتفين بألقاب وأسماء حربية، كالشريف فلان، أو محمد بن عبد الله، ويبدو أن رين يحبذ أن يبقى الجزائريون هادئين وادعين مادين رقابهم للذبح بدون بعبعة، وبذلك يزول الخطر ويحلو المقام للفرنسيين.

هذا هو وضع الأشراف عندما كانوا يجدون في الساحة مجالا، أما بعد المراقبة الإدارية المشددة، وبعد فشل الانتفاضات، فقد اختفى (المغامرون) وسكن العاديون، ورضوا ظاهريا على الأقل، بالحياة المقدرة، وقد فقد الباقون منهم استقلالهم حتى لم يبق منهم في آخر القرن الماضي من يمكن اعتباره مستقلا (3). وكان للأشراف التاريخيين مدرسة وزاوية وأوقاف، ونعني بالتاريخيين أولئك المنحدرين من نسل فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب (4). ومن أبرز العائلات الجزائرية في هذا الميدان، عائلة الشريف الزهار التي انضم جدها للمقاومة وخدم تحت لواء الأمير عبد القادر ثم توجه إلى المغرب، واختطف الفرنسيون ابنه (علي الشريف) عند واقعة الزمالة

(1) رين، مرجع سابق، ص 128.

(2)

وهي ثورة واحة العمري سنة 1876، ويذهب رين إلى أن محمد بن العايق كان فيها أداة في يد أحد السياسيين، وهو محمد بن يحيى الذي عزل من وظيفته، ومن ثمة تكون الثورة ذات أسباب سياسية، في نظره، كما روى أن هناك رسائل ضبطت سنة 1875 تدعو للجهاد جهة سطيف، وتشير إلى اسم الشيخ الريحاني، قيم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وذكر أحداث سيدي عقبة سنة 1880، ووجود رئيس الرحمانية هناك ضد أحد الموظفين الرسميين، وكتب أحدهم (وهو عمارة بن أحمد السوفي الطرودي) رسالة على أنها من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رئيس الرحمانية، انظر ص 137، وربما كان كل ذلك من اختلاقات وتخيلات المخبرين وهم الذين كان يروي عنهم (رين) أخباره.

(3)

ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة.

(4)

انظر الجزء الأول من هذا الكتاب،

ص: 39

(1843)

. وهربوه وهو صبي إلى فرنسا، وربوه على طريقتهم إلى أن أصبح ضابطا في الفرسان (الصبائحية). أما أخوه الشريف الزهار فقد تولى القضاء للفرنسيين سنوات طويلة، كما ستعرف، وهذا النوع من الأشراف هم الذين يعتبرهم (رين) غير خطرين لأنهم غير متآمرين ولا مغامرين.

وإذا كان فشل الثورات قد أدى إلى ظهور الشاعر الشعبي أو المداح، وظهور الطرق الصوفية المدجنة التي أصبحت أداة للإدارة الفرنسية في السيطرة على المواطنين، فإن هناك ظاهرة أخرى لجأ إليها التعبير الشعبي قبل عصر الأحزاب السياسية والمنظمات والنوادي، ونعني بها الدروشة والدراويش، والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست غريبة على المجتمع، فقد عرفنا منها حتى في العهد العثماني النصيب الكبير، وإذا شئت فراجع كتاب عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) ورحلة الحسين الورتلاني وغيرهما، إنما نعني بالدراويش هنا أولئك الذين جمعوا بين الدين والسياسة بالمستوى الشعبي، فهم في لحظة يائسة يدعون الكرامة بعدم اختراق الرصاص لأجسادهم، أو بعدم إصابتهم بالأمراض أو بأي سوء، وقد سبق القول إن العامة كانت لا تفرق بين الشريف والمرابط والدرويش، فكلهم مرابطون ما داموا يأتون بالكرامات والمعميات، وقد كان الفرنسيون يراقبونهم خشية أن يتحولوا إلى مهيجين للعامة، مستغلين الجهل والخرافة.

ولكن الفرنسيين كانوا يريدون في نفس الوقت الإبقاء على هذه السذاجة من الجميع، لأن الفطنة تترتب عليها الصحوة وطلب الحقوق، وهناك قصص لدراويش ظهروا خلال القرن الماضي ذكر منهم بعض الباحثين جملة، مثل سي علي بن الأخضر من قبيلة أولاد علي بن يحيى، دائرة تبسة، الذي ادعى سنة 1866 أن السلاح لا يخترقه، فمات به في قصة مروية، ومثله سي أحمد القوري الصدراتي المتوفى سنة 1900 الذي شفي بعد أن جرح، وبلقاسم بن الحاج سعيد (بوقشبية) الذي توفي سنة 1912، وكان بلقاسم هذا مقدما لإحدى الطرق قرب اليدوغ (عنابة). أما سيدي أبو التقى فقد اشتهر أمره ببرج بوعريريج سنة 1836، وكان قد جاء من المغرب الأقصى، ودرس على

ص: 40

الشيخ سعيد بن أبي داود بزاوية تاسلنت، وتوفي سنة 1838 وله قبة، وكان من أتباع الرحمانية، كما نذكر بلقاسم بن قربة، وهو من التلاغمة، وكان من الرحمانيين أيضا (1).

وهناك شخصيات اهتمت بالعلم والتصوف السني والزهد، ومع ذلك اعتقدت فيها العامة الدروشة والإتيان بالكرامات، أو هي تدخل إلى قلوب العامة عن طريق هذه الأفعال بدل النهي عنها، وستعرف نماذج من هؤلاء في شيوخ الطرق الصوفية التي سندرسها مفردة، فمن جهة هناك شيخ الطريقة أو مقدمها، وهناك أفعال الدراويش والخرافات والبدع التي تضطهد عقول الناس وتساعد سلطات العدو على التمركز والتحكم، وإذا كانت أفعال الخرافة ربما مقبولة من شيخ قليل العلم غامض التصرف مثل الحاج مبارك بن يوسف، زعيم الطريقة (البوسنية) جهة قالمة، فإنها غير مقبولة حين تنسب إلى شيخ قامت سمعته على العلم والذكاء وقوة الحفظ والذاكرة، مثل الشيخ محمد بن أبي القاسم، شيخ زاوية الهامل.

ولكن ليس كل الجزائريين يؤمنون بالتصوف أو لهم طرق صوفية، ففي ميزاب ليس للناس دراويش ولا مرابطون، بالمعنى السابق، وليس لهم طرق صوفية، وإنما لهم مشائخهم المحترمون الذين يطيعون أوامرهم، ولهم مجالسهم الدينية والدنيوية، ولهم روابط روحية ورموز، كالحلقة، والإمام، فمجلسهم الديني الشرعي يضم مجموعة من المشائخ يتقاسمون فيما بينهم المسؤوليات، كالعدالة، والتعليم، والصلاة، ويرأس المجلس أحد الشيوخ الأكثر علما وورعا والأكثر حرمة واحتراما، وهم متقشفون ذاتيا، ومتطهرون دينيا، ولهم علماء وفقهاء، يخلدون ذكراهم، كالإمام القطب محمد بن يوسف أطفيش، وليس لهم عقيدة في الواسطة كما هو الشأن في المسلم الصحيح، ولأهل ميزاب عقيدة خاصة في الإمامة، ولهم جوامع ولكن ليس لهم زوايا، ومن ثمة ليس لهم أن يفعلوا شيئا من الحضرة والذكر وغيرها من

(1) عن هؤلاء وأمثالهم، انظر أشيل روبير في (روكاي). 1924، ص 256 - 276، وعن أبي التقى انظر حديثنا عن عاشور الخنقي، فصل الشعر،

ص: 41