المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الماضيين أيضا بشيء من التحليل الجديد، فأرخوا له ودرسوا حياة - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٤

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: الماضيين أيضا بشيء من التحليل الجديد، فأرخوا له ودرسوا حياة

الماضيين أيضا بشيء من التحليل الجديد، فأرخوا له ودرسوا حياة المتصوفة، ووقفوا من ذلك موقف المتفلسفين أحيانا والحائرين أحيانا أخرى، ونحن لا نزعم أننا سنأتي بدعا في تناولنا للطرق الصوفية، كما أننا لا نزعم أننا سنعالجها في عمومياتها، وفي مختلف مناطقها وعلاقاتها، ذلك أن خطتنا هي دراسة الطرق الصوفية في الجزائر منذ حوالي قرن ونصف، ودراسة تفاعلها مع الأحداث وتطوراتها مع الزمن المتغير، وقد كنا درسنا أصول التصوف وبعض الطرق في الجزء الأول من هذا الكتاب (1).

‌مصطلحات وتعاريف

وقبل أن نتناول تطور الطرق الصوفية وتفاعلاتها، نود أن نتعرض في البداية لبعض المصطلحات والتعريفات والمسائل المشتركة بينها، إن هناك عدة تعريفات للتصوف في الماضي والحاضر، وسنكتفي بتعريف ابن خلدون، إذ قال عن أصل طريقة القوم (التصوف):(وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيها مما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة)(2). وكان ذلك معروفا في الصحابة والسلف، حسب رأيه، ولما أقبل الناس على الترف في الدنيا، اختص الذين تمسكوا بالعبادة باسم الصوفية، فالتصوف عند ابن خلدون، إذن، عبادة ومجاهدة للنفس ومحاولة لإدراك الحقيقة.

وقد قال في مكان آخر (ص 864)(ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي النهاية المطلوبة للسعادة). وقد سمى المقام الذي أشار إليه (مقام التوحيد والعرفان). أي أن غاية المتصوف هو التوحيد والمعرفة، وفي مكان آخر ذكر ابن خلدون أن

(1) الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي، ط، 2، 1985.

(2)

عبد الرحمن بن خلدون (تاريخ العلامة ابن خلدون) المجلد الأول، ط، 2 بيروت، 1961، ص 683،

ص: 8

أصل التصوف (ويسميه الطريقة أو طريقة القوم) هو محاسبة النفس على الأفعال والتروك، ص 865.

أما رجال الطرق أنفسهم فيختلفون حول تعريف التصوف حسب الوسائل التي يستعملونها للوصول إلى هدفهم، إن البعض يراه في الممارسات والوسائل التي توصل إلى الحقيقة، وهي ممارسة التطهر والتقشف والقيام بالواجبات الشرعية على أتم وجه والتحلي بالأخلاق والفضائل وتجنب كل الشبه والمزالق، بينما يراه آخرون منهم في الوصول إلى الإلهام والكشف والرؤى والسرحان في عوالم الأسرار الغامضة، ولكن النتيجة واحدة تقريبا، فهي التسامي والتطهر للوصول إلى الدرجة العليا في القربى إلى الله ونيل رضاه، وفي تعريف الأمير عبد القادر لأحوال المتصوفة وأذواقهم مثال على رأي آخر حديث نسبيا (انظر تناولنا لكتابه (المواقف) في جزء آخر من هذا الكتاب).

وقد نفى أحد الباحثين الأجانب أن يكون التصوف إسلاميا أو مسيحيا أو هنديا، فهو في نظرة لا هذا ولا ذاك، إنه ليس فلسفة قائمة بذاتها، وليس فرقة دينية معروفة ومحددة بمذهب معين، بل إن التصوف عنده مجرد نمط من العيش في حالة طهر وصفاء كاملين، كما نفى هذا الباحث أن يكون التصوف عقيدة أو قاعدة ثابتة، أو تفكيرا عقليا معللا، ذلك أن التصوف الحقيقي لا يظهر إلا في الشعور والإلهام والانطباع وغيرها من المعطيات الغامضة (1).

وهذا أحد المتصوفين في القرن الماضي، وهو الشيخ محمد الموسوم (الميسوم). قد عرف التصوف بأنه القيام بالواجبات الشرعية من صلاة وصوم وحج، ومعرفة الله وشكره وحمده والتضرع إليه في كل وقت، وهو ترديد الشهادة (لا إله إلا الله) كلما أمكن ذلك، ومن واجبات المتصوف عنده الابتعاد عن مغريات الحياة الدنيا التي يعيش فيها، وأن يضع نصب عينيه دائما

(1) لويس رين، مرابطون وإخوان، ص 68،

ص: 9

الحياة الأخرى ويستعد لها، كما عليه أن يتخلى عن الحسد والفخر بالنفس، وأن لا يكلف نفسه ما لا طاقة له به وأن لا يلقي بنفسه إلى الهلاك، ويعمل الصوفي جهده للبحث عن مكان (خلوة) يمارس فيه عبادته ونشاطه الروحي بإتقان وخشوع وسط جو من الحرية والإرادة، أما من لا يفعل ذلك فهو ليس من المتصوفة في شيء بل هو مزيف في نظر الشيخ الموسوم (1).

ويمكن الحكم على رأي الشيخ الموسوم بأنه رأي معتدل بالنظر إلى ممارسات البعض من أدعياء التصوف، فمنهم من كان يبالغ في الممارسات الظاهرة كالرقص والتواجد والتضارب، ومنهم من كان يبالغ في الانقطاع والانعزال والتضحية ليس بنفسه فقط ولكن بأخذ غيره من الأتباع بذلك، ومنهم من كان يبالغ في أرقام الأدعية والأوقات، كما سنرى، حتى تصبح الحياة كأنها ما خلقت إلا لكي يقضيها في طقوس يحددها الشيخ للأتباع، ولعل هذا الفريق هو أقرب إلى الدراويش منه إلى المتصوفة، وربما هو أقرب في ذلك إلى المشعوذين، حقا أن هناك أيضا مرابطين يمارسون التعاليم الدينية ويتطهرون ويتقشفون ويفعلون الخير طمعا في حياة أخرى مثالية، وأملا في أن يكونوا أولياء الله، صالحين في نظر الناس بعد موتهم، ولكن هؤلاء رجال صالحون وليسوا متصوفة، كما أنهم ليسوا من رجال الطرق الصوفية المعروفة.

وإضافة إلى المتصوف والدرويش والمرابط والشيخ هناك الشريف، وهذا هو الذي ينتسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق ابنته فاطمة، ويسمي البعض هؤلاء بأنهم أشراف الأصل، وقد ظهر الأشراف في القرن الماضي ظهورا سياسيا وغير سياسي، وكان بعضهم وراء الثورات، ولكن أيضا كانوا يعلمون الناس الطقوس والممارسات القريبة من التصوف، ويظهرون لهم الكرامات وخوارق العادات، قبل أن يطلبوا منهم القيام بأي عمل آخر، وسنرى أن الجهاد كان أحد وسائلهم، ولكن بعض الأشراف كانوا مسالمين

(1) روى ذلك عنه لويس رين، نفس المصدر، ص 69 - 70،

ص: 10

مكتفين بحفظ شجرة النسب الشريف، وكانوا أقرب إلى الفقر منهم إلى الغنى، ما عدا أولئك الذين توظفوا أو هاجروا من البلاد، وقد أطلق بعض الباحثين اسم (الأشراف المزيفون) على الذين قاموا بالثورات ضد الفرنسيين، كما سنرى.

ولنعرف الآن كل فريق تعريفا قصيرا بقدر الإمكان: فشيخ الطريقة (ويسمى أيضا خليفة الورد، ومولى الطريقة) هو حامل البركة التي عرفها بعضهم بأنها الكثرة والعندية والقناعة المعنوية، وهو الذي يرث إمام الطريقة أو المؤسس، وقد يكون الشيخ وليا صالحا أو عالما شهيرا كالشيخ عبد الرحمن الثعالبي في الجزائر وأبي مدين في تلمسان، وذهب بعضهم إلى أن الشيخ قد يكون من الجن، سواء كان له اسم أو لا، وقد يكون شخصية مجهولة إلى حد كبير، ولكن الشيخ المتعارف عليه في الأزمنة المتأخرة عند أهل الطرق الصوفية، هو الذي يعطي البركة لغيره، وهو الذي يعين خليفته ومقدميه ويمنح الإجازات، وتكون إقامة الشيخ عادة عند قبر مؤسس الطريقة أو في الزاوية الرئيسية، ويعتبر (الشيخ) هو ظل الله في الأرض والنائب عنه في نظر البعض، وعلى (الإخوان)(الأتباع) الطاعة، لأن الله يحكم بطريق الشيخ.

وتظهر العقيدة في الشيخ في أشكال مختلفة، في القباب والأضرحة والخلوات والزوايا والأحجار التي تقام أو تنصب إيمانا به، وتمسكا بتعاليمه حقيقة أو خرافة، وستظهر لنا في الممارسات عند الحديث عن بعض الطرق وشيوخها، كما تظهر العقيدة في الشيخ في شكل الخرق المحفوظة والمعلقة وفي الشموع والمصابيح، والأعلام والأشجار، وحول الكهوف ومنابع المياه، ويقوم المعتقدون في الشيخ بأعمال وممارسات تعبر عن تعلقهم به، وذلك بالتبخير، والصلوات والأدعية، والزغاريد، والقرابين، والقيام بألعاب وحركات معينة، وإلقاء الخطب، والالتجاء إليه، والتداوي عنده، وبعض هذه الأعمال تكون فردية أو جماعية، ومن الأعمال الجماعية تلك الاحتفالات الموسمية الكبيرة التي لها دور اجتماعي كالتضامن والتقارب

ص: 11

والتغافر والاشتراك في التراث والعادات والتقاليد، وإنشاد الأناشيد والأغاني الدينية، وإطعام الفقراء، والتلاقي بعد افتراق طويل (1). ولهذه المواسم أسماء عديدة، حسب الطريقة الصوفية وشيخها، مثل الحضرة، والزردة، والوعدة.

والشيخ هو الذي يعطي الإجازة، وهي على أنواع، منها الإجازة المفصلة المسلمة للخليفة (أو النائب عند بعض الطرق). وقد تكون بالمراسلة، والإجازة هي شهادة ووصية أيضا، فالشيخ يكتب ويوصي ويشهد بأن خليفته هو فلان، وأنه قد منحه بركته وأورثه إياها، وأن هذا الخليفة هو محل ثقته وهو مكلف من قبله بإعطاء الإجازة لغيره وكذلك إعطاء الأوراد وإدخال المريدين في الطريقة، وعليه أن ينشر الطريقة وأن يحافظ على سمعتها ومبادئها وأموالها، والخليفة عادة يكون من أقرب الناس إلى الشيخ كابنه أو صاحبه أو تلميذه، وتحمل الإجازة العبارات الدينية والسلسلة الصوفية وكيفية إدخال الناس في الطريقة، أما الإجازات للمقدمين فتكون عادة مختصرة وتقتصر على خلاصة تعاليم الطريقة كما تلقاها الشيخ، وقد يكتب الشيخ مجرد رسائل للتزكية والتوصية (2). وتختلف طريقة إدخال الراغبين في الطريقة من واحدة إلى أخرى، فمنهم من يأخذ يدي المريد بين يديه، ومنهم من يأخذ يدا واحدة منه بين يديه، ثم تكون القراءة بعده لعبارات محفوظة (سنعرفها) ثم الذكر، وإذا كانت امرأة فإن الشيخ أو خليفته يطلب من السيدة وضع يدها في إناء من الماء، ومنهم من يجعلها تمسك فقط طرف السبحة، وهناك من يكتفي فقط بطلب ترديد الفاتحة والذكر خلفه، ومهما كان الأمر فإن على المريد الطاعة المطلقة (كالميت بين يدي غاسله) حسب العبارة المستعملة، وجرت العادة أن يكون للشيخ أو الخليفة زاوية يشرف عليها، ومعه هيئة كاملة من الشواش والخدم والطلبة الخ (3).

(1) انظر بير منغان، مدخل إلى الجزائر، Initiation 1957، ص 258.

(2)

عن الإجازات انظر العلوم الدينية.

(3)

أوكتاف ديبون واكسافييه كوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية). الجزائر، 1897، =

ص: 12

وقد تداخلت في الأعوام الأخيرة لفظة المرابط، فأصبحت تطلق بعمومها حتى على الدراويش والشيوخ ورجال التصوف والشعوذة، وهذا الاستعمال أقرب إلى الاستعمالات السياسية منه إلى التاريخ، فكلما نقم البعض على أهل الدين أو لاحظوا بعض التخلف في التفكير قيل لفلان هذا إنه (مرابط). يعني أنه رجل دين متخلف أو خرافي، والواقع أن لفظ المرابط له معنى تاريخي وسياسي بعيد، فهو يعني المجاهد (1). لأنه أصلا جاء من كلمة (رباط). والرباطات قامت أساسا في الثغور وأماكن الخطر التي يهجم منها الأعداء، وهكذا كانت الرباطات قلاعا وحصونا لمنع الخطر الأجنبي، وكان المرابطون هم المجاهدين الذين يحمون الثغور ويتصدون للأعداء، وبعد تولي العثمانيين الدفاع على الثغور انحصر نشاط المرابطين في أعمال البر والتعليم وإصلاح ذات البين وتأمين الطرق، وقد بنوا لأنفسهم أو بنى لهم الناس زوايا، بدل الرباطات، أو تحولت الرباطات إلى زوايا ومعاهد.

إن المرابط الذي يعنينا الآن هو أيضا من رجال الدين، ولكنه ليس بالضرورة من أهل الطرق والصوفية أو له طريقة صوفية، وسنرى أنه بالنسبة لموضوعنا فإن المرابط كان خلال فترة طويلة، مستقلا عن رجال الدين الرسميين (الفقهاء والقضاة) وعن رجال الطرق الصوفية (2). فكان ملاحظا عن بعد مستقلا في إدارة شؤونه وتفكيره، ولكن بعد توسع الاحتلال وإخضاع كل البلاد ونظمها وقادتها، ضعف استقلال المرابط ووظفت السلطات الفرنسية نفوذه وعلمه لصالحها بطريقة سنعرض إليها، وقد قال حمدان خوجة المعاصر لبداية الاحتلال: إن المرابطين في جميع أنحاء الجزائر محترمون سواء كانوا أمواتا أو أحياء، لأن مهمتهم هي إطعام الطعام للفقراء والغرباء، لإطفاء الفتن بين الناس، وتأمين الطرق للسابلة (3). ورغم أنه لم يذكر التعليم

= ص 193، وهنا وهناك.

(1)

انظر الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي.

(2)

انظر فصل السلك الديني والقضائي.

(3)

جمال قنان، نصوص سياسية، الجزائر، 1992، ص 56 نقلا عن خوجة،

ص: 13

فإنه كان أحد مهام المرابطين أيضا، أي تعليم الناس قواعد الدين وقواعد اللغة، ومبادئ العلوم.

ونظرا لعلاقة المرابط بالجهاد قديما ولتأثيره بين الناس حديثا اهتم به الفرنسيون اهتماما خاصا، وقد وجد باحثوهم أن النفوذ، في الريف تتقاسمه ثلاث قوى محلية هي المرابطون والأجواد والأشراف، وعرفوا المرابطين، على طريقتهم، بأنهم نبلاء الدين وأن هذا النبل عندهم وراثي، ونظرا لمكانتهم فإن الناس قد أوقفوا على زوايا المرابطين الأوقاف (الأحباس) الكثيرة (1). وقد كان لبعضهم زوايا عظيمة، وأملاك كثيرة، وبعضهم كانت له زوايا صغيرة، وكانوا يعيشون في فقر وبؤس، بتقدم الزمان.

وبعد خمسين سنة من الاحتلال (1880) وجد أحد الباحثين أن عدد عائلات المرابطين في الجزائر لا يتجاوز 115 (مائة وخمس عشرة عائلة). منها 20 في إقليم وهران، و 55 في إقليم الجزائر، 40 في إقليم قسنطينة، (دون ذكر الجنوب لأنه كان غير محتل بعد في عدد من أجزائه). ولاحظ هذا الباحث أن لهؤلاء المرابطين نفوذا عظيما يفوق أحيانا نفوذ الأجواد أو الرؤساء الذين يمارسون السلطة الزمنية كموظفين عند فرنسا، ولكن المرابطين لم يكونوا متساوين في السلطة أو في الوضع الاجتماعي أو في الثقافة، فمنهم، كما سبق، من كان صاحب زاوية غنية ورثها عن آبائه وأجداده، وورث معها سمعة دينية يعيش عليها، سمعة كانت لأحد أجداده سواء كان شريفا بالنسب أو جاءته سمعته من التدين والعلم والورع، بينما كان بعضهم مرابطين صغارا لهم زوايا فقيرة، وسمعة محدودة، ويعيشون على الصدقات إلى جانب ضريح قديم فيه رائحة القداسة لأحد الأجداد (2).

وهناك ميزات لهذه الفئة من المرابطين يجهلها عامة الناس، فقد عرفنا

(1) ألبير ديفوكس، (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر). الجزائر، 1878، - المقدمة -، عن الأجواد والأشراف انظر لاحقا، وكذلك بعض الفصول الأخرى.

(2)

رين، مرجع سابق، ص 14، وما بعدها،

ص: 14

أن الأصول ترجع إلى الجهاد والسمعة والتدين، ولذلك فإن (المرابطية) هنا تأتي عن طريق الميلاد وليست وراثية، ولا يمكن للشخص أن يكون مرابطا أثناء حياته، لأن المرابطية ليست صفة مكتسبة، وهناك أعراش كاملة تتصف بصفة المرابطية مثل عرش الشرفة وعرش أولاد سيدي الشيخ، ويلاحظ أنه ليس للمرابطين من الأتباع والأخوان ما للطرق الصوفية، وإنما لهم تلاميذ تخرجوا على أيديهم، وقد يكون لهم أنصار يساندونهم أو أناس يخدمونهم دينيا، وللمرابط حق الزيارات التي يعرف كيف يأتي بها إذا تأخرت، رغم أنها في ظاهر الأمر اختيارية، وهي تخضع لثروة الزائرين وطاقتهم، وقد عرفنا أن للمرابط زاوية، وتكون سكناه عادة قرب هذه الزاوية أو في مكان قريب من ضريح أو قبة جده حيث يلتمس الناس التطهر الروحي، وهناك تقام الحفلات الموسمية كالوعدة ونحوها، وكلما ازدادت المكانة الاجتماعية للمرابط ازدادت تأثيراته وامتدت سمعته، رغم أن تقديس الناس لذكرى المرابط الأصلي واستمرارهم على ذلك قد تكون هي السبب في انتشار السمعة وازدياد النفوذ (1).

وبذلك يؤلف المرابطون فئة مستقلة ذات نفوذ على الناس، وهم دعاة مهرة وغير منتمين إلى الطرق الصوفية، كما ذكرنا، وبهذه الصفة حاول الفرنسيون في وقت لاحق (بعد الثمانينات) أن يؤثروا فيهم وأن يجلبوهم إلى خدمتهم، وهذه نقطة سنعالجها عند الحديث عن العلاقات السياسية بين المرابطين والفرنسيين.

وهناك مجموعة أخرى من الدراويش والحمقى والمرضى عقليا .. ومجموعة أخرى من زعماء الطرق الصوفية الذين تسميهم العامة جميعا (مرابطين). فحديثنا السابق إذن هو عن الصنف الأول، وليس على هذين الصنفين، (الدراويش وبعض زعماء الطرق).

تتفق الطرق الصوفية في كثير من التقاليد والممارسات، ومن ذلك حفظ

(1) نفس المصدر، ص 17،

ص: 15

السلسلة، أو السند، فلكل طريقة سندها الذي يرجع بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. إما عن طريق السيدة فاطمة، وبذلك يكون صاحب الطريقة (الشيخ) شريفا أو منتسبا للشرف، وإما عن طريق آخر، مثل طريق أبي بكر الصديق (ض) وعمر بن الخطاب (ض). والإمام علي (ض). ومن الطرق التي تنتسب إلى الشرف الطيبية والتجانية والعيساوية والزيانية والقادرية والسنوسية، والسند يذهب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ثم إلى الله سبحانه، وكل الطرق تقول إنها تملك السلسلة (السند) الذهبية التي تربطها بالمؤسس الأول، مرورا بالأولياء والصالحين ورجال الطرق الأخرى الذين نقلوا إليها الحقيقة، غير أن بعض الطرق تخرج عن هذا التقليد وتدعي الكشف المباشر، أي التلقي من الله دون واسطة، ومعنى ذلك أن صاحب هذه الطريقة أو مؤسسها يزعم أنه قد فتح الله عليه الغطاء وأزال عنه الحجاب فرأى ما لا يراه الآخرون، وأن الله قد خصه بعنايته دون غيره، وأطلعه على أسراره وعوالمه الخفية، وإذا كان أصحاب الطريقة يؤكدون ذلك على أنه كرامة لصاحبهم فإن من كان خارج الطريقة لا يكاد يصدق ما يدعون، وهناك من قال إنه كان يملك الاثنين: السلسلة والكشف المباشر، ومن ثمة تزداد شعبية المكشوف له بين العامة، وتتميز الطرق الرحمانية والتجانية والعيساوية والخضرية، بالسلسلة والكشف (1).

وعقيدة الاتصال المباشر تكون بأحد طريقين: إما الرؤى مناما أو يقظة، وإما بواسطة الخضر، وإذا كانت المرائي كثيرة في أخبار المتصوفين، وفيها مؤلفات ومدونات بأقلامهم، فإن الخضر يعد عند البعض، من الأنبياء الذين شربوا من منبع الحياة واستثني من الموت، وله شخصية متعددة الجوانب، ويعيش في عمق البحر، وهو الواسطة العادية بين الله والإنسان الصوفي، فهو الذي يكشف للصوفي حجاب المستقبل أو الغيب، ويمنحه البركة والقدرة على التصوف والإتيان بالكرامات وخوارق

(1) نفس المصدر، ص 59، والواقع أن معظم فروع الرحمانية المعروفة لا تدعى الكشف المباشر، وهي تعتمد فقط على السند،

ص: 16

العادات (1). ويذهب الباحث (رين) إلى أن المسلمين يقرون بعقيدة الاتصال المباشر، سواء عن طريق الرؤيا أو عن طريق الخضر.

وجميع الطرق تتفق أيضا في الحرص على تنفيذ الوصايا الخمس التي لا تتناقض في جوهرها مع الكتاب والسنة، وهذه الوصايا هي: الخوف من الله تعالى، وعدم حب الناس أو كرههم إلا لله وفي الله، والرضى بما حكم وقدر الله للإنسان، وترك كل شيء لله يصرفه لأن كل شيء من عنده خيرا أو شرا، والعمل طبقا للسنة النبوية، والذين يعملون بهذه الوصايا يدخلون في الفرقة الناجية التي توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستكون الوحيدة من بين الـ 73 فرقة التي ستنقسم عليها الأمة الإسلامية بعده، وأغلبية الطرق تتمسك بتعاليم القرآن كأساس لها، ولكنها تبالغ في عقيدة شيخها وتعلن أنها تدعو إلى الله وحفظ دينه، وأن هدفها هو هداية الإخوان إلى الطريق المستقيم، طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. الذي هو طريق الله سبحانه.

وللطرق مصطلحات شائعة بينها وتكاد تتفق فيها جميعا، وإذا اختلفت ففي بعض التفاصيل، فهي (طريقة)(طريق) موصلة إلى النجاة والسعادة، والطريقة في هذه الحالة ليست سلما للوصول فقط ولكن أيضا مجموعة من الشعارات والممارسات والأذكار التي قد تختلف فيها كل طريقة عن الأخرى في العدد والأزمنة، وتسمى الطريقة أيضا (وردا). والورد هو المنبع وهو الوصول، وهو أيضا الدخول في الطريقة، ويقال ورد أو دخل الطريقة على حد سواء، على أن الداخل في الطريقة يأخذ الورد من الشيخ أو خليفته أو مقدمه، وعلى هذا يصبح الورد هو تعاليم الطريقة وعقيدتها أو مذهبها، وفيه أيضا معنى التقديم والإدخال إلى الطريقة.

وهناك مراحل يمر بها المريد، وهي تبدأ من دخول الطريقة إلى مرحلة الجذب، وهي أعلاها، وهذه الظاهرة تكاد تتوفر لدى كل الطرق أيضا، وقد

(1) نفس المصدر، والمعروف أن (رين) قد استقى معلوماته في معظمها من متصوفة زمانه، انظر لاحقا،

ص: 17

أوصلها بعضهم إلى سبع مراحل، وكلها تقوم على تطهير النفس وتصفية القلب، والمجاهدة وترديد الذكر وإتقان الواجبات، ويمكن في المراحل الأولى لمختلف فئات الإخوان أن يصلوا إلى هذه الرتبة بعد السلوك الصارم في الحياة، حسب تعاليم الطريقة، ثم تأتي بعد ذلك درجات أخرى من الأذواق التي تؤدي إلى مرحلة الجذب: كالجذب العاطفي والجذب القلبي، والجذب النفساني، والجذب الصوفي، وأخيرا جذب التملك، وتتلخص كلها في الوصول إلى ما يسميه ابن خلدون بالمقام، وما يسميه البعض بالحال، أو الحق، ولا يتوصل إلى هذه الدرجة إلا عن طريق التقشف ونكران الذات، والحرمان من الملذات، والقسوة على النفس بالصوم والتهجد والتيقظ القلبي ومراقبة الله في السر والعلانية.

وهذه مصطلحات الدخول إلى الطريقة التي هي أيضا مصطلحات شائعة بينها، ولا تكاد تختص بها واحدة دون الأخرى، فـ (التلميذ) هو الحاضر بالذات الذي جاء يبتغي الدخول في الطريقة، و (المريد) هو الذي أصبح داخلا في الطريقة ولكنه ما يزال في بداية الطريق إلى الله، فهو الراغب في الله الساعي إلى حرمه الآمن، وإذا تقدم المريد في ممارسات الطريقة وتعاليمها يصبح (فقيرا) بالمعنى الصوفي للكلمة، والفقير هنا هو الذي اختاره الله لحبه وجنابه، ولكنه إذا ازداد قربا من الله ووصل إلى حد المكاشفات التي لا يعرفها كل الناس، فإنه يصبح (سالكا). وقد فسروا ذلك بأنه هو الماشي في طريق الله، أي الذي وجد الطريق الحق وأخذ يسير فيه، فهو مهتد لأنه قد هدي إلى الصراط المستقيم، أما الأكثر قربا إلى الله في هذا السلم فهو (المجذوب). والمجذوب هو الذي يرى الرؤى غير الطبيعية، حين يفقد الإنسان التوازن بين الروح والمادة وتشعر النفس بالانجذاب إلى الله أكثر من انجذابها إلى متاع الدنيا، وهي حالة يترجمها البعض بالجنون، فالمجذوب الصوفي هنا هو المجنون أو الدرويش عند العامة، إنه شخص من الناس جسميا ولكنه ليس منهم روحيا.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن هناك علاقة بين ما يمكن أن يترقى إليه

ص: 18

الإنسان في عالم التصوف هذا وبين التأثيرات الأخرى من المذاهب والعقائد، إذ إن الدرجة التي تأتي بعد الجذب هي أن يصير عندهم (محمديا). أي أن روح محمد صلى الله عليه وسلم قد حلت فيه وأصبح خارج الحياة المادية، ومن ثمة أصبح لا ضرورة عنده لممارسة الواجبات الدينية لأنه مغفور له مثل المحمدين الآخرين، إذ لا يستطيعون فعل أكثر مما فعلوا، وأما الحالة الأخيرة فهي حالة (التوحيدي) أو حالة (المعرفي). أي الذي أصبح يتنعم بروح الله مندمجا فيها، وهي الحالة التي أشار إليها ابن خلدون بقوله:(مقام التوحيد والعرفان) أو (التوحيد والمعرفة)(1). وفي هذه الحالة يفقد الإنسان فرديته ويقع الحلول والاندماج، وهو ما يطلق عليه (النيرفانة) الهندية (2).

وكثير من الطرق الصوفية تقبل في صفوفها النساء والرجال، وهذه الطرق الرحمانية والقادرية والتجانية وغيرها، تقبل النساء كأخوات (خونيات). وحتى مقدمات، وفيهن من تميزن بذكاء حاد وقدرة على التنظيم والزعامة ونشر الطريقة، والشيخ هو الذي يعطيهن الورد أمام العموم، كما سبق، وهن يحضرن الاجتماعات مع الرجال، لكن متجنبات، وقد لعبت بعض النسوة أدوارا هامة سياسية أو غيرها داخل الطريقة الصوفية، ويسري عليهن ما يسري على الرجال في وجوب الطاعة الكاملة وممارسة الطقوس، وحفظ أسرار الطريقة والتضامن، وهذا التضامن يظهر في الصلاة الجامعة، والطاعة، والتشارك في المصالح العامة حتى تصبح أخوتهم كأخوة الدم، وما يقدمونه ليس للشيخ وحده ولكن للجميع.

ورأى البعض أن دخول النساء للطرق الصوفية يعتبر من علامات الحرية والديموقراطية عند المجتمع الصوفي، فهو مجتمع (أخوي) يعمل بالمساواة بين مخلتف أفراده رجالا ونساء.

وقد فصل البعض أصناف المريدين إلى ثلاثة، وهي: المريد خيار

(1) ابن خلدون، مرجع سابق.

(2)

رين، مرجع سابق، ص 62 - 68،

ص: 19

الخلوة، والمريد الخيار، ومريد العامة، كما فصلوا أنواع الممارسات على النحو التالي: العزلة عن الناس، والاختلاء، والسهر في العبادة، والصيام، وحضور الحضرة والزردة وغيرهما من التجمعات، ثم أداء الزيارة (الصدقات والعطايا) وتقديم الهدية للشيخ أو خليفة زاويته أو مقدمه وممارسة الذكر على النحو المخصوص عليه في كل طريقة (1).

(والزيارة) ظاهرة أخرى مشتركة بين مختلف الطرق، وأيضا لدى المرابطين، وهي تعني التوجه إلى شخص مقدس أو مكان معظم دينيا، وقد تكون الزيارة لأضرحة، وهي عادة مرفوقة بالعطاءات، من دراهم وغيرها، وقد ارتبطت الزيارة بالدراهم حتى أصبحت هذه لا تذكر صراحة، والزيارة (الترحم) بالنسبة للطرق تصبح واجبا على الإخوان، إنها في الواقع نوع من الضريبة تدفع للمقدم علامة على الإخلاص والطاعة، كما يدفع المواطن الضريبة للدولة علامة لخضوعه لقوانينها وأداء لواجباته المدنية والسياسية، فالزيارة عند الطرق واجبة ومحددة، والمقدم يرسل الشاوش إلى من تخلف في الدفع، والإخوان يدفعون ما عليهم عن طيب خاطر، وأما الزيارات للمرابطين فقد تتخلف أحيانا ولكن المرابط القوي يعرف كيف يطلبها ويحصل عليها، وهي تدفع له من أجل سمعته وأعماله التي يقوم بها، وهي واجبات تطوعية، خلافا لإخوان الطرق الصوفية (2). وقد أصبحت هذه (الزيارات) هي المفتاح الذي تتحكم فيه السلطات الفرنسية في الطرق الصوفية وفي المرابطين معا، فمن شاءت وفرت له الزيارات وسمحت له بها فاستغنى وتنفذ وسكت، ومن شاءت منعتها عنه فافتقر وغلب على أمره ولجأ إلى حيل أخرى أو اختفى.

(1) نفس المصدر، ص 93.

(2)

وصف مالك ابن نبي خداع ومكر وشيطنة (في نظره) رجال الطرق الصوفية في الحصول على المال من العامة خلال العشرينات من هذا القرن، وهم يعرفون كيف يبتزون المال بالظهور في شكل مواكب ذات أعلام ملونة وإظهار الكرامات، انظر (مذكرات) ط، دمشق، ص 181، 185،

ص: 20

ومن بين الواجبات على الإخوان أيضا دفع الهدية لخزينة الطريقة، والهدية على هذا النحو تفرض على الإخوان الذين أخلوا بواجباتهم التي ينص عليها النظام الداخلي أو لم يمارسوا الشعائر المطلوبة منهم، فهي في الواقع نوع من الغرامة أو العقوبة، وهناك هدايا يدفعها حتى بعض الرؤساء الزمنيين (الحكام) إتقاء للعنة الشيخ أو المقدم، تلك اللعنة التي قد تحصل بالاغتيال أو حرق الممتلكات أو التسمم أو نحو ذلك من الجوائح، ويقول السيد (رين) إن الرؤساء الذين يدفعون الهدايا هم الذين لم ينضموا للثورة التي دعت إليها الطريقة، فإذا صح هذا، فإن الشواهد عليه كثيرة في تاريخ الثورات وحتى في زمن السلم، وسنعرف أن بعض الرؤساء الزمنيين دفعوا سنة 1901 هدايا ثمينة إلى شيخ الطريقة الرحمانية بخيران (قرب خنشلة) بمناسبة زواج ابنه، كما أن ثورة 1954 - 1962 قد شهدت ربما تصرفات عديدة على ذلك النحو.

وإلى جانب الزيارات والهدايا تتلقى بعض الطرق ما يسمى بالغفارة، والغفارة واجب على الإخوان نحو الطريقة يدفعونه في شكل خدمات دينية، كما هو الحال في الطريقة الشيخية (أولاد سيدي الشيخ). والغفارة هي مجموعة الحيوانات والبضائع والأموال التي تحددها الطريقة وتفرضها على كل قبيلة أو جماعة، وقد عرف الشيخ مبارك الميلي الغفارة بأنها ضرب من النذر، بل اعتبرها من أقبح النذر، وذكر أنها منتشرة في غرب الجزائر ووسطها أكثر من شرقها، والغفارة عنده (وظيفة مالية (لزمة؟) يلتزم بهاء امرؤ بأدائها كل سنة لمن اعتقد فيه جلب منفعة أو دفع مضرة، وينسحب هذا الالتزام على ورثة الملتزم لورثة الملتزم له، وبطول المدة وانتشار النسل تصبح الغفارة ضريبة لقبيلة موصوفة بميزة دينية على أخرى منعوتة بالخدمة والطاعة لتلك، فيقولون هذه القبيلة يغفرها (بالتضعيف) أولاد سيدي فلان) (1). أي يأخذون منها الغفارة، وهذا التعريف ينطبق على أولاد سيدي

(1) مبارك الميلي (رسالة الشرك ومظاهره). ط، 2، 1966، ص 251،

ص: 21

الشيخ أكثر من غيرهم نظرا لمكانتهم في الشرف والقبيلة ثم لقيامهم بأدوار سياسية تارة ضد الفرنسيين وأخرى معهم، وقد ألزموا عددا من القبائل المحتمية بهم (الموالي) بدفع الغفارات المتنوعة، وكان الميلي يعرف ذلك من خلال إقامته الطويلة في الأغواط.

وهناك اجتماعات دورية للطريقة، فكل شيخ يجمع إليه المقدمين مرة أو مرتين في السنة، وقد عرفنا أن المقدم مكلف بإعطاء ورد الطريقة بواسطة الإجازة والسلسلة التي حصل عليها من شيخه، والمقدمون مكلفون بجمع الزيارات التي يعطيها الإخوان للطريقة، ثم يسلمونها إلى الشيخ أو خليفته، ويكون الاجتماع مع الشيخ فرصة لمناقشة الأمور العامة والخاصة التي تهم الطريقة وأتباعها وزاويتها، والمقدمون من هذه الناحية كأنهم سفراء شيخهم أو طريقتهم، فهم يقدمون التقارير ويبدون الآراء ويقترحون الحلول، حسب الوضع في البلاد وموقف السلطات، وموقف الطرق الأخرى، وأخبار الداخل والخارج، ولذلك فإن المقدم إذا لم يستطع الحضور بنفسه، عليه أن يكلف غيره بالحضور بدله، بشرط أن يكون هذا الشخص محل ثقة وبموافقة الشيخ على ذلك، ولهذا الاجتماع الكبير اسم معروف وهو (الحضرة). وأثناء الحضرة تدرس أيضا أحوال الميزانية، وتسمية المقدمين الجدد، وتكتب الرسائل إلى الإخوان والأعيان، وحتى إلى السلطات، إذا لزم الأمر.

وحين يرجع المقدم إلى مقر نشاطه يجمع بدوره إخوان الطريقة ليطلعهم على ما حصل في اجتماع الحضرة، ويسمى هذا الاجتماع (زردة). والبعض يطلق عليه (جلالة). والمشهور أن الزردة عبارة عن موائد تصف، ويحضرها العامة من إخوان الطريقة، وأن الزردة فرصة لممارسة أنشطة صوفية من رقص وضرب دفوف وإنشاد وضجيج، وهذا هو الوجه الظاهري لها، أما الوجه الآخر فهو أن المقدم يطلع الإخوان على ما جرى بالحضرة، ويقرأ عليهم رسائل الشيخ ويثير حماسهم إلى الطريقة والانتماء إليها، ثم يقوم باستعراضهم الواحد تلو الآخر عندما يأتون لتقبيل رأسه، وهو جالس، ويسلمون إليه ما جاؤوا به من دراهم الزيارة فيضعونها في طبق يكون عادة

ص: 22

موضوعا أمام المقدم، كما يقع في هذا الاجتماع قبول الداخلين الجدد في الطريقة، كل ذلك يتم حسب طقوس خاصة، ثم يحثهم المقدم على التمسك بالإسلام والطاعة للشيخ والطريقة والصوم والعبادة، وقبل التفرق تقرأ الفاتحة جماعيا (1). بذلك يتضح أن الزردة عبارة عن مؤتمر خاص بأهل الطريقة، وعبارة (الوعدة) من مصطلحاتهم أيضا، وهي من الوعد بفعل شيء إذا حدث كذا، فهي كالنذر، ولكن في مصطلحات بعض الطرق، الوعدة عبارة عن زيارة لضريح الشيخ، والتضحية عنده بشاة أو بقرة أو عجل أو حتى دجاجة، والوعدة أيضا طريقة تقليدية لزيارة العائلة أو القبيلة تقوم بها شهريا أو سنويا في أمكنة ذات تقديس واحترام، وليست بالضرورة هي ضريح الشيخ، بل قد تكون منزلا معينا أو شجرة أو حتى مغارة، وأحيانا تأخذ الضحية صفة معينة كالماعز الأحمر، وتسمى (نشرة) بضم النون.

بعض الشيوخ كان يسمي خليفته قبل وفاته، وبعضهم يترك اختيار الخليفة للمقدمين يختارون من بينهم أفضلهم، تقليدا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الطرق التي يرجع مؤسسوها إلى أصل شريف، يسمى الشيخ خليفته أو وريثه بنفسه، وهو عادة من العائلة نفسها، ويعتبر الخليفة عند التجانية وريثا للطريقة، أما عند القادرية فالخليفة هو المبعوث من بغداد أو الحامل للسلسلة من هناك أو الوصية أو الشجرة، وكذلك فعلت الطريقة الطيبية، ولكن الغالب عندهم هو اجتماع الشيخ في مناسبة محددة بعد الصلوات والخلوة، بكبار المقدمين وموضع سره منهم، للتشاور في الخليفة، فإذا اختار هو ذلك فإنهم غالبا ما يوافقون بالإجماع، كما فعل محمد بن عبد الرحمن الأزهري مع محمد بن عيسى المغربي، وإذا تم الاتفاق تحرر الوثيقة وتبقى محفوظة إلى وفاة الشيخ، عندئذ تعلن باعتبارها وصية مقبولة منه، وتسمى في المصطلح (إجازة).

وسنرى أن هذا التقليد قد اختل أحيانا، فافترقت الطريقة الواحدة إلى

(1) رين، مرجع سابق، ص 86،

ص: 23

عدة طرق فرعية نتيجة عدم الاتفاق على خليفة واحد، وقد حدث ذلك للرحمانية بعد نفي الشيخ الحاج عمر والقضاء على الزاوية الأم في آيت إسماعيل 1857، ثم بعد ثورة 1871 وموت الشيخ الحداد، أما الشيوخ الذين يختارون خلفاءهم أثناء حياتهم فهم بذلك يقلدون أبا بكر الصديق (ض) إذ أوصى بعده بالخلافة إلى عمر بن الخطاب (ض). وجرت العادة أن يكون اختيار الخليفة موفقا، فهم يختارون الأعلم والأكبر سنا والأتقى والأقدر على جذب الناس للطريقة وحفظ الأخوان، وهم يراعون في ذلك مصلحة الطريقة قبل كل شيء، فالمنصب تكليف لا تشريف، وقد حكى أحد الفرنسيين أن القليل فقط من السفارات الأوروبية تملك محررين مهرة في فن الدبلوماسية يضاهون محررات ومراسلات شيوخ الطرق الصوفية، فهم من أرقى الناس ذوقا في فن القول واختيار الألفاظ المناسبة والمعاني الدقيقة والعبارات البروتوكولية المهذبة (1).

ولكل طريقة ذكر يردده أتباعها بطقوس خاصة، وهم يستندون في ذلك إلى الآية الكريمة:{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ..} ، والإخوان يذكرون الله فرادى أو جماعات، والعدد يختلف من مرة إلى ألف، وهم يكثرون من ذكر اسم (الله) وحده أو عبارة الشهادة (لا إله إلا الله). أو عبارة الاستغفار (أستغفر الله). أو قراءة آيات من القرآن، أو سورة الإخلاص، ولكن كلما كان اللفظ أو الذكر قصيرا كثر ترديده، ولكل طريقة عبارة تركز عليها في ذكرها، وهي التي تحدد عدد المرات، وأوقات الذكر، وعبارات الأدعية، ثم أن لكل طريقة لباسا مخصوصا، وعمامة وحزاما وهيئة وأعلاما وألوانا، ونحو ذلك من المظاهر التي سنشير إلى بعضها.

وقد حاول بعضهم أن يعطي ميزة لكل طريقة بين الأخريات، فوجد أنها فعلا تتميز عن بعضها في التفاصيل أثناء الممارسات الصوفية، فالقادرية تتميز بالإحسان والصدقة، والرحمانية بالعزلة والانفرادية (الخلوة). والعيساوية

(1) نفس المصدرة وكذلك ديبون وكوبولاني، ص 194 - 195،

ص: 24

بالغموض والتصرف الخشن بما يوحي بعدم أهمية الإحساس البدني عندها، والدرقاوية بتفضيل الفقر والابتعاد عن طلاب السلطة، والطيبية تلح على احترام آل البيت والإخلاص إليهم، والتجانية عرفت بالتسامح والاعتدال، والسنوسية بإعطاء الأولوية للسلطة الدينية والدعوة للجامعة الإسلامية، أما الطريقة البكداشية، وهي لا توجد في الجزائر الآن، وكان لها تأثير ما في العهد العثماني، فقد لاحظ هذا الباحث أنها تتميز بإذلال النفس وإخضاعها وحرمانها من الشهوات (1). ولا شك أن هذه الأحكام قد تصدق بالنظر إلى مواقف كل طريقة إزاء السلطة الفرنسية خلال القرن الماضي أو إلى 1884 حين كان هذا الكاتب (رين) يؤلف عمله ويدرس تفاعلات الطرق الصوفية مع السياسة الفرنسية، أما مواقفها إزاء الدين والعامة وإزاء بعضها البعض فسنراها عند الحديث عن كل منها.

وإذا كانت هناك درجات في سلم الانتماء إلى الطريقة، مثل الشاوش، والفقير، والصاحب، والخادم، والأخ، ومثل أصحاب الطريقة، وأصحاب الفتوى، وأهل الطريقة، الخ، فإن هناك أيضا درجات في سلم المشيخة، وهي عادة درجات تذكر في السلسلة أو السند، وتبدأ بالغوث وتنتهي بالولي، وهي درجات تصنف كالتالي: الغوث، والقطب (وقطب الأقطاب). والوتد (جمع أوتاد). والأخيار، والأبدال، والنجيب، والنقيب، والولي، وتمتلئ كتب الصوفية، وسلسلاتهم وإجازاتهم بذكر شيوخهم وأساتذتهم الذين يلقبونهم بمثل هذه الألقاب التي لها، كما لاحظ البعض، أصول في الفلسفة، ولكن الجاهلين اليوم لا يربطون بينها وبين أصولها ويأخذها رجال منعزلون، معتمدون فقط على حفظ السلسلة ولا يضيفون جديدا من عندهم، بل يرفضون كل تجديد، معتبرين ذلك بدعة وزندقة (2).

ولكل طريقة زاوية، والزاوية بالمعنى الصوفي هي خلوة للعبادة، وقد

(1) رين، مرجع سابق، ص 76.

(2)

يذهب (رين). ص 54 إلى أن هذه الألقاب - القطب، والغوث، الخ، متصلة بالأقنوستوكية والمزدكية، Mazdians، والأفلاطونية الجديدة،

ص: 25

كانت أساسا رباطا للجهاد، كما سبق، وقد كثر استعمال كلمة الزاوية (وهي الخانقاه في المشرق) حتى أسيء استعمالها أحيانا، وهذا أحد الباحثين يقول إن الزاوية لا تخرج عن ثلاثة أنواع: زاوية مطلقة أو منسوبة لمكان ما، بنيت للعلم وأفعال البر والإحسان، ولا تنسب إلى شخص معين (وهذه أحسن أنواع الزوايا). ثم الزاوية المنسوبة إلى شخص ميت تقدسه العامة وتحيي ذكراه، وهو مدفون بالزاوية وتنسب إليه، وفي هذه الحالة تأتي العامة إلى الزاوية زائرة وطالبة للبركة لا للعلم ولا للإحسان، أما النوع الثالث، وهو موضوعنا، وهو الزاوية المنسوبة إلى إحدى الطرق الصوفية، وهي إما زاوية الطريقة الأم وإما فرع لها ولكن تنسب إليها (1). وسنرى أن بعض الزوايا كانت منطلقا لإعلان الجهاد، وبذلك كانت تقوم بدور الرباط المعهود.

ويفرق بعض الباحثين بين الزوايا القديمة أو زوايا المرابطين، وزوايا الطرق الصوفية، فالنوع الأول مؤسس، في نظره، للطلبة ونشر العلم، أو هو لاستقبال الغرباء والبؤساء والمحرومين الذين يبحثون عن ملجإ، أو هو مكان للزوار الذين يأتون لتقديم الصدقات، والمسافرين المقطوعين، والمشردين، وهذا النوع من الزوايا موجود لدى العائلات المرابطة القديمة، ومن ثمة نرى الصلة بينها وبين الجهاد والعلم وخدمة الفقراء والغرباء، أما النوع الثاني فهو زوايا الطرق الصوفية، والتي قيل عنها إنها غير ذات أهمية خارج المناطق الإقليمية والدار الأم، وقد وجد أن بعضها في الواقع ما هي إلا أكواخ يعطي التعليم بالقرب منها في الهواء الطلق، وهي زوايا للاجتماع الدوري لأصحاب الطريقة (2).

وقد فرق السيد ديفوكس بين زوايا الأرياف وزوايا المدن، فقال إن الأولى مبنية حول قبر لمرابط غير معروف كثيرا، ويوجد القبر في دوار تقطنه إحدى القبائل، وفي الدوار أحفاد المرابط، وقال إن هذا التجمع يطلق عليه

(1) محمد علي دبوز (نهضة الجزائر المباركة). 1/ 47.

(2)

رين، مرجع سابق، ص 14،

ص: 26

زاوية، وللزاوية أوقاف كبيرة من أراض وبساتين، تطعم منها الطعام للفقراء والضيوف، وحق الزاوية هو العشر (العشور) من غلة الجيران، وهذا هو نصاب الزكاة، فإذا أرادت القبيلة عدم الدفع فلها ذلك، ومن العادة أن القائم على الزاوية هو حفيد المرابط، ومن احتمى بها فهو آمن ولا يتابع، وتقوم الزاوية بالتعليم، ولا يقوم المرابطون ولا حفداؤهم بالأعمال اليدوية لأنهم متخصصون في التعليم وتربية الأطفال، وهذا النوع من الزوايا منتشر بكثرة في الأرياف، ونلاحظ أن هذه المعلومات لا تتحدث إلا عن زوايا المرابطين وليس عن زوايا الطرق الصوفية، في الفترة التي كتب فيها دوفوكس، وهي منتصف القرن الماضي.

أما في المدن فالزاوية عبارة عن بناية كبيرة لإيواء المشردين والطلبة والعلماء الغرباء، وتتوفر فيها الإضاءة والماء، وقد تصبح الزاوية مدرسة عليا إذا تخصص لها أو ألحق بها مدرس شهير لتدريس العلوم العالية، وتحمل الزاوية اسم مؤسسها أو الحي الموجودة فيه، وأحيانا اسم المرابط التابعة له (1). وفي التعريف المذكور نلاحظ أن هناك خلطا بين الزاوية عموما وزاوية الطريقة الصوفية.

وشبيه بذلك تعريف شيربونو، للزاوية العمومية أيضا، دون زاوية الطرق الصوفية، إذ قال إنها مؤسسة دينية لا نظير لها في الغرب (أوروبا). فهي مقر لعائلة المرابط الذي أسسها، وهي مسجد للصلاة الجامعة، ومدرسة تدرس فيها مختلف العلوم، وهي أيضا ملجأ يهرع إليها الهاربون من العدالة، أو الفارون من العدو، فيجدون فيها الأمن والنجاة (2).

وهناك من رأى أن الزوايا عبارة عن أماكن للتعليم والضيافة والعبادة، وهذا وارد في كل أنواع الزوايا تقريبا، ولكنه أضاف أن الزوايا عبارة عن مكان يجد فيه المسلمون (الإخوان) الفكرة الدينية المتعصبة، التي من

(1) دوفوكس، مرجع سابق، المقدمة، تناولنا الزاوية - المدرسة، في فصل التعليم.

(2)

شيربونو، مجلة (روكاي). 1856 - 1857، ص 133، هامش 1،

ص: 27

خصائصها الجهاد الدائم ضد الكفار (الفرنسيين). يضاف إليها فكرة المهزوم الحاقد (الجزائري) على الهازم والسيد (الفرنسي). وفي نظره أن الزوايا لن تتوقف عن النفخ في روح الجهاد أبد (1).

ورغم هذا الاختلاط في تعريف الزوايا، فإن الطرق الصوفية وحدها اشتهرت بزواياها التي قد ينطبق عليها التعريف السابق تماما، وقد لا ينطبق، ذلك أن بعضها لم يؤسس للتعليم أصلا كما كان الحال في السابق، ولم يكن لها من المال والوقف ما تطعم به الفقراء والغرباء، ومع ذلك ظلت زوايا قائمة في المصطلحات، وكأنها أصبحت مرادفة لاسم الشيخ أو المقدم، كما أن السلطات الفرنسية قد قلصت من دور الطرق الصوفية بمراقبة زوارها وعدم إعطاء الرخص لهم للزيارة، مما شل حركة الزوايا الاجتماعية والتعليمية، كما سنرى.

عدد الطرق الصوفية الفاعلة في الجزائر بلغ أكثر من ستة وعشرين (26). منها فقط حوالي أربعة أنشئت في العهد الاستعماري، كالسنوسية والعليوية، والباقي كان موجودا منذ العهد العثماني، ومن هذا العدد ما هو مؤسس في الجزائر كالرحمانية والتجانية، وما هو مؤسس في المغرب كالطيبية والعيسوية والدرقاوية، وما هو مؤسس في المشرق كالقادرية، كما أن الشاذلية بدأت في تونس ولكن تأسست في المشرق، أما الشابية فقد عرفت في تونس، وهناك المدنية التي نشأت في طرابلس، وانتماء أهل الجزائر إلى الطرق الصوفية ليس وليد العهد الفرنسي، كما قد يفهم، فقد لاحظنا في الجزء الأول من هذا الكتاب اهتمام الناس بهذه الطرق ودخولهم فيها، لأسباب ذكرناها، وكان يدخلها العامي والتاجر والمثقف والحاكم، كل لغرض في نفسه، وقد عزا بعضهم المقاومة الشديدة التي وجدها الجيش الفرنسي إلى انتماء الناس إلى هذه الطرق الصوفية التي كانت تحمس للجهاد

(1) هنري قارو، (الحركة الإسلامية) في مجلة جمعية جغرافية الجزائر وشمال إفريقية (S، G، A، A، N). 1906، ص 175،

ص: 28

وتدعو للمقاومة، حتى قال هذا الباحث: إن كل سكان الجزائر (ويقصد أهل المدينة - العاصمة، ولكن التاريخ الذي سيذكره يجعل كلامه شاملا). كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية، وهم بذلك يشكلون جيشا صلبا متدربا بمهارة، مستعدا دائما، للدفاع عن البلاد ضد الأوروبيين، وهذا ما يفسر، في نظره، صعوبة تغلب الجيش الفرنسي عليهم، إذ بقي مدة ثلاثين سنة (1827 - 1857) في حرب متواصلة معهم، قبل إيقاع الهزيمة بهم (1).

وهناك كتب عديدة تناولت إحصاءات الطرق الصوفية وأتباعها وزواياها ومقدميها وشيوخها، ومن هؤلاء السيد لويس رين، الخبير في الشؤون الجزائرية مدة طويلة والمؤلف لعدة أعمال حول الجزائر، وقد عمل سنوات مستشارا للحكومة العامة، فقد ذكر فى كتابه (مرابطون وإخوان) المنشور سنة 1884 أنه بينما كان عدد الجزائريين (الأهالي) هو 2، 846، 757، فإن عدد الزوايا فيهم قد بلغ 355 زاوية منتشرة عبر القطر كله، كما هناك 1، 955 مقدما، و 167، 019 من الإخوان أو التابعين المعروفين للفرنسيين، وهم منظمون ومنضبطون تحت إشراف الطرق الصوفية، أما الشيوخ فقد وصل عددهم إلى عشرين شيخا من الكبار، وكلهم تقريبا، حسب رأيه، من الغرباء (أي ليسوا جزائريين؟) الذين يتلقون الإيعازات والتعليمات والإشارات من رؤسائهم البارزين في العالم الإسلامي، سواء في المشرق أو في المغرب الأقصى (2).

(1) أشيل روبير، (الدين الإسلامي) في مجلة (روكاي). 1918، ص 282، لاحظ أن سنة 1827 تمثل ضرب الحصار الفرنسي ضد الجزائر، وسنة 1857 تمثل احتلال زواوة، ولاحظ أيضا أن المؤلف (أشيل روبير) مختص في شؤون الجزائر فهو إداري رئيسي للبلدية المختلطة، ورئيس شرفي، ومراسل وزارة التعليم.

(2)

نقل ذلك شارل طيار (الجزائر في الأدب الفرنسي). 1925، ص 400، إضافة إلى مؤلف رين، ومؤلف ديبون وكوبولاني المذكورين، هناك مؤلفات أخرى فرنسية تنبهت للطرق الصوفية ودورها، من ذلك:

1 -

دي نوفو De Neveu (الطرق الصوفية عند مسلمي الجزائر). 1845، أعيد طبعه سنة 1913، وكان دي نوفو من كبار المسؤولين في الشؤون الأهلية، ومن =

ص: 29

ظلت كل طريقة متماسكة فيما بينها، لها شيخ أو خليفة يعترف به بقية المقدمين والأتباع، ومن ثمة كانت كل طريقة لها وزنها وخطرها، سيما إذا كانت شهيرة الشيخ، قوية السمعة، كثيرة المال والأتباع، وهي بهذا الحجم والصفة كانت تخيف كل حاكم، عثمانيا أو فرنسيا، وقد عرفنا أن بعض الطرق كانت تخيف الحكام العثمانيين، وأشرنا إلى الثورة الدرقاوية بقيادة ابن الأحرش وابن الشريف، وثورة التجانية وهجومها على مدينة معسكر وتمردها نواحي عين ماضي وشلالة وبوسمغون، وكان هؤلاء الحكام قد خشوا نفس المغبة من الطريقة القادرية (رغم أنها في الشرق كانت حليفة للعثمانيين عموما) فاعتقلوا شيخها محيي الدين وابنه عبد القادر (الأمير) أثناء توجههما إلى الحج، وهذه الطرق هي التي واجهت الاحتلال الفرنسي، وكان عليها أن تتولى هي الجهاد دفاعا عن الإسلام والأرض والعرض بعد استسلام السلطة المركزية وهزيمة الجيش الرسمي، فكان الحاج سيدي السعدي في متيجة، والحاج محيي الدين ثم ابنه في نواحي وهران ومعسكر، ثم ظهرت أسماء أخرى مثل موسى بن حسن الدرقاوي، ومحمد بن عبد الله (بو معزة) وهو من الطيبية، وكل هؤلاء شيوخ ومقدمون ومبعوثون للطرق الصوفية.

وقد بقي الفرنسيون مدة تزيد على خمس عشرة سنة وهم لا يدركون أهمية دور هذه الطرق ولا أسرارها وألغازها إلى أن ألف لهم الضابط دي

= المنتمين للحركة السانسيمونية، وقد تزوج من جزائرية مسلمة.

2 -

بروسلار Brosselard (الأخوان)1859.

3 -

هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل والعادات القبائلية). باريس، ط، 2 1893.

4 -

دوتيه Doutte (المرابطون).

5 -

هنري دوفيرييه H، Deveyrier (اكتشاف الصحراء: طوارق الشمال). 1864، كشف عن أهمية الطرق الصوفية بالصحراء ودورها سيما التجانية والسنوسية.

6 -

لوشاتلييه (الطرق الإسلامية في الحجاز). وهو من ضباط المكاتب العربية في ورقلة ثم أستاذ بكوليج دي فرنسا بباريس ومؤسس لـ (مجلة العالم الإسلامي). وقد ربط بين بعض الطرق في الحجاز والجزائر، وصدر كتابه المذكور سنة 1887،

ص: 30

نوفو، الكتاب الذي ذكرناه، ولعله استقى معلوماته من زوجته الجزائرية ومن دوره في المكاتب العربية، ومن (أصدقائه) الجزائريين الساذجين، وكان على الفرنسيين أن يتصدوا لهذه الطرق التي اعتبروها عدوهم الذي لا يقهر، فجندوا لها الجيش ولكن بأسلحة أخرى لتشتيت الصفوف وتمزيق الوحدة داخل الطريقة الصوفية الواحدة، والكشف عن أسرارها بجلب ضعاف النفوس إليهم من بعض الطرق، واستعمال العصا والجزرة معا، وشراء الذمم، وتحالف بعض الطرق معهم، وتزويج بعض رجالها من فرنسيات، ونحن نذكر هذه العموميات هنا لأننا سنرى ذلك مفصلا عند الحديث عن كل طريقة وكيف تعاملت هي أو تعامل معها الفرنسيون للوصول إلى ذلك الهدف، وهو القضاء على الثورات من جهة والتحكم في سير وتطوير المجتمع الجزائري من جهة أخرى.

ومن الإجراءات الأولى التي اتبعها الفرنسيون هو اللجوء إلى ضعضعة وحدة الطريقة الخطيرة في نظرهم، بجعلها تتفرع إلى فروع، وعدم تبعية فروعها إلى شيخ واحد (قائد واحد، إذا شئت) يصدر التعليمات في الحرب والسلم، وكان ذلك بالخصوص هو مصير الرحمانية بعد 1857 و 1871، كما ذكرنا، وكذلك هو مصير القادرية والدرقاوية، سيما وأن الأولى ترجع بسلساتها الذهبية إلى بغداد والثانية إلى فاس.

ولم يأت آخر القرن (سنة 1897) حتى أعلن المختصون الفرنسيون أن الرحمانية قد تمزقت إلى 25 فرعا، لا يعترف أحدها بالآخر، أي كل فرع كان له شيخ مستقل، رغم الأصل الواحد (وهو زاوية آيت إسماعيل التي خربها الفرنسيون سنة 1857) والمبادئ الواحدة، ومن هذه الفروع:

1 -

فرع الهامل (بوسعادة) وشيخه محمد بن أبي القاسم.

2 -

فرع طولقة، وشيخه علي بن عثمان.

3 -

فرع وادي العثمانية، وشيخه ابن الحملاوي.

4 -

فرع أقبو، وشيخه محمد بن أبي القاسم البوجليلي،

ص: 31

5 -

فرع نفطة (تونس). وشيخه مصطفى بن عزوز البرجي.

6 -

فرع وادي سوف، وشيخه سالم بن محمد الأعرج السالمي.

7 -

فرع قسنطينة، وشيخه محمد السعيد باش تارزي (وهو الذي يفترض فيه الإشراف على جميع هذه الفروع للإجازة، التي كان يحملها). إضافة إلى فروع أخرى كانت في خنقة سيدي ناجي، وخيران، وأتباع ابن طلحة في السمندو، وأتباع عمارة بوديار بالناظور (1).

وتفرعت أيضا الطرق الدرقاوية والقادرية والتجانية والشاذلية وغيرهاإلى فروع ضعيفة لا تعترف ببعضها، بل تتنافس مع بعضها بفعل اكتشاف السلطات الفرنسية لنواحي الضعف فيها: فالدرقاوية تفرعت إلى ثمانية فروع أو أكثر، والقادرية إلى ستة فروع على الأقل، وكان للتجانية فرعان في الجزائر وثالث في المغرب، وفرعا الجزائر غير مستقلين تماما عن بعضهما بحكم بقاء المشيخة في فرع واحد فقط دواليك بين عين ماضي وتماسين، ولكن الفرنسيين لاحظوا أن كل رئيس لفرع كان يجمع الأموال لنفسه من الأتباع ولا يبعث بها إلى الفرع الآخر (2).

وفي تلك الأثناء (1897) كانت زاوية قمار أو فرعها، قد أخذت مبادرات تدل على استقلالها أيضا بقيادة الشيخ محمد العروسي، وكان فرع عين ماضي عندئذ يحاول استعادة مكانته واسترجاع منصب (الشيخ) الذي فقده منذ وفاة محمد الصغير التجاني سنة 1853، وكانت وفاة أحمد التجاني بقمار سنة 1897، قد جاءت أثناء محاولته استعادة اللقب المذكور لنفسه، ولكن السلطات الفرنسية كانت تبذل جهدها لتبقى خلافات الفرعين (تماسين وعين ماضي) مخفية لحاجة الفرنسيين إلى نفوذ الطريقة في الصحراء وفي إفريقية، كما سنرى.

كذلك كان للطريقة الشاذلية فروع عديدة في وسط وغرب الجزائر.

(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 247.

(2)

نفس المصدر،

ص: 32