المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٤

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

و 21 ابريل 1866 شروطا تجعل من الصعب الحصول على التجنس بل إن التحقيقات المطلوبة في ذلك كان هدفها إبعاد الأهالي عن التجنس، في نظر بعض المؤرخين، ومن العوامل أيضا اشتراط التخلي عن التزامات الزواج والطلاق والإرث وغيرها في نطاق الشريعة الإسلامية، وهو أمر خطير في نظر المسلمين، ثم إن هؤلاء المسلمين لا يتكلمون الفرنسية، وهو أمر (خطير) أيضا في نظر الفرنسيين (1).

إن عوامل الدمج كانت متوفرة ولكن لها عراقيل في نظر الفرنسيين والجزائريين المتحمسين للاندماج، ولعل من أبرزها أيضا قضية الزواج المختلط، فرغم توفر شروطه فإن عدد الحالات كان قليلا، فقد شهدت سنة 1882 عشرين حالة، والسنة التي تليها ست عشرة حالة، والسنة التالية أربع عشرة حالة، والمقصود هنا الزواج بين المسلمين والفرنسيات (2). وهذا يعني عند دعاة الاندماج أن السكان ظلوا يعيشون منفصلين وليس هناك اختلاط بينهم، فالعرب في دواويرهم والمستوطنون الجدد في قراهم، مع مراعاة جانب الكثافة السكانية: ثلاثة ملايين مسلم إلى جانب نصف مليون فرنسي - أوربي.

‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

والواقع أن الهجوم على القضاة كان متصلا منذ الأربعينات من القرن الماضي، وقد اشتد الهجوم عليهم خلال الخمسينات، عندما ثبت للكولون أن المجالس القضائية تحاول استعادة ما فقدته، وما إلغاء المجالس سنة 1859 وتأكيد ذلك سنة 1866 إلا مواصلة لتيار الهجوم على القضاة، وجاء قانون الأرض سنة 1863 فأدى إلى سخط على القضاة من جانب المسلمين أيضا باعتبارهم يمثلون الإدارة، ولذلك حدثت بعض الاغتيالات والانتقامات في باتنة وسور الغزلان وشرشال والبويرة وقالمة. وأعلن بعض

(1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية). مرجع سابق، ص 243.

(2)

نفس المصدر.

ص: 473

القضاة أن وضعهم جعلهم هدفا كأعداء، ونتيجة لثورة 1864 في الظهرة والجنوب الغربي والبابور تزعم بعض القضاة تلك الثورات؟ ولكن بعضهم كانوا ضحية لها، والمعروف أن من أسباب ثورة 1864 هو قانون 1859 و 1863، ومن نتائج هذه الثورة (1864) عزل اثني عشر قاضيا وثمانية باش عدول، وتسعة عدول (1).

ورغم أن بعض القضاة هوجموا لظلمهم أو لأمور تتعلق بالمرأة، فإن بعضهم قد تمرد على السلطة مثل الحاج البشير بن خليل، أحد قضاة معسكر، ويشك البعض أن سبب تمرده يرجع إلى كونه أراد خلع آغا فرندة ليصبح حرا في رئاسته للمجلس، وكذلك تمرد أخوه عمار بن خليل، ومن المتمردين بعد ثورة 1864 عدد من القضاة في عمي موسى وغيليزان وأم السنام (الأصنام). وكان الحاج الطاهر بن البشير، قاضي جيجل أحد هؤلاء، فقد كان مرتبطا هو وأقاربه بثوار نواحي البابور سنة 1864، ودعوا الناس إلى رفض دفع الضرائب للفرنسيين وقايدهم (محمد بوعرور). وقد اعتقلت السلطات الفرنسية الحاج الطاهر في جيجل عندما جاء لشراء البضائع للثوار، وزجوا به في السجن، ولكنه حفر حفرة وهرب منها واتصل بقايد فرجيوة، بوعكاز (2).

ومنذ الثمانينات شنت حملات مكثفة ضد القضاة مما جعل هؤلاء يتجهون إلى السياسة أو ما سماه مالك بن نبي بالإصلاح المحلي، وأسباب الحملات ضدهم ترجع إلى عدة اعتبارات، منها الرغبة في الاندماج بينما القضاة بحكم ارتباطهم بالشريعة كانوا حجر عثرة في طريق الاندماج، ومنها رغبة الكولون في الحصول على وظائف لقضاة الصلح الفرنسيين، وقد ادعى الكولون أن المحاكم كثيرة ويجب تقليصها، وإذا تم ذلك فإن وظائف جديدة ستفتح أمام قضاة الصلح، وكان هؤلاء القضاة

(1) كريستلو (المحاكم ..). ص 178.

(2)

نفس المصدر، ص 180.

ص: 474

يأتون من فرنسا، في مرحلة الشباب، متخذين الجزائر مطية فقط للصعود إلى درجات عليا في فرنسا، وكأنهم في الجزائر إنما كانوا يقضون فترة عقوبة، وكان بعضهم ينتحرون، ولا يقضون أكثر من سنة في المركز الواحد تفاديا لاغتيالهم.

وكان البرلمان الفرنسي قد ساعد أيضا على ذلك الهجوم، فقد خفض ميرانية الشريعة الإسلامية بين 1875 - 1885 من 205، 700 إلى 95، 000 فرنك، وكان الهدف من ذلك هو توفير المال لتوظيف قضاة الصلح على حساب قضاة الشريعة، وقد كتب أحدهم باسم مستعار (عبد الله) متهما القضاة بالرشوة وابتزاز المال من المتخاصمين، وكون دور العدول أصبح شكليا فقط، كما اتهمهم بالتلاعب في الأحكام وارتكاب المظالم، وكان (سوتيرا) وهو من القضاة البارزين ومن المستعربين أيضا، قد طالب إلغاء وظيفة القضاء الإسلامي بصفة كاملة (1).

ولم تخف الحملة ضد القضاة إلا خلال التسعينات، ففي هذه الفترة برزت من جديد مسألة التجنس بالجنسية الفرنسية التي طالب بها بعض النخبة، وكان الكولون يرون هذا التجنس خطرا عليهم فعارضوه، ورأوا أن القضاة في النهاية لا يشكلون خطرا، لأنهم يؤمنون ببقاء الفصل بين المسلمين والأوربيين، ويعارضون التجنس مثلهم.

ولذلك كان القضاة يعيشون وضعا غير مريح، إن قانون 7 ابريل 1889 قد زاد من التضييق عليهم في ممارسة صلاحياتهم الشرعية، وقد اعتبره البعض هو (الضربة القاضية) للقضاء الإسلامي، ذلك أن هذا القانون لم يترك للقضاة المسلمين سوى الحضانة والزواج والطلاق والرجعة والمواريث، على أن القضاء الفرنسي يتدخل حتى في هذه الأمور أيضا، فهو قد ترك الحرية للمتخاصمين أن يحولوا نوازلهم من القضاة المسلمين إلى قضاة الصلح

(1) كريستلو (المحاكم ..). ص 229. وقنان (نصوص سياسية)، ص 178، والاسم المستعار (عبد الله) قد يكون لأحد الفرنسيين الحانقين على القضاة.

ص: 475

الفرنسيين حتى في المواريث والأحوال الشخصية، وفي المواريث لا يحكم القضاة المسلمون في نوازل العقارات أو العروض مع العقارات لأنه أصبح يدخل في اختصاص قضاة التوثيق الفرنسيين، وانتزعت نوازل الجنح والجنايات وكل أنواع التأديب وأنواع المعاملات الأخرى من أيدي القضاة المسلمين، وقد جاء في إحدى مواد هذا القانون المتعلقة بشؤون الميراث، إن حكم القاضي المسلم ماض إذا كان رأس مال النازلة أقل من 500 فرنك، فإذا تجاوز ذلك المبلغ فإن حكم القاضي المسلم يعاد إلى المحكمة الابتدائية الفرنسية وجوبا.

وكانت نظرة الفرنسيين إلى موضوع القضاة نظرة ممزوجة بالسياسة والدين، فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب السيادة حتى في الشريعة الإسلامية باعتبارهم ورثة الحكام المسلمين، ثم إن وزير العدل الفرنسي هو نفسه وزير الديانات (الأديان) أيضا، وكان الفرنسيون يدعون أنهم يأتون بالفائدة العامة للجزائر كلما وسعوا من أحكامهم فيها، ولو على حساب الشريعة الإسلامية (1). ومهما كان الأمر فإن التضييق من صلاحيات القضاة المسلمين الرسميين قد أدى إل التوسع لدى قضاة الريف الأحرار (المرابطين) الذين يصلحون بين الناس، دون الرجوع إلى المحاكم الفرنسية.

ولقد افتتح عقد التسعينات بالاهتمام بشؤون الجزائر من قبل الحكومة الفرنسية، بما فيها شؤون القضاء الإسلامي، ونشطت الجهات الجزائرية في رفع صوتها واحتجاجها على التعدي على ما رأته من اختصاصات الشريعة، ولا سيما من قسنطينة، وكانت الفرصة قد سنحت عندما زارت الجزائر لجنة مجلس الشيوخ (لجنة 18) سنة 1892، فقد قدمت إليها عرائض ورسائل الشكوى واستمعت اللجنة إلى زعماء الرأي العام الجزائري في مختلف المدن، وكان من أبرز المتكلمين أمامها محمد بن رحال (ندرومة) الذي تولى

(1) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق). 1927، ص 16 - 18، كان وزير العدل والأديان عندئذ هو السيد ريكارد، الذي لم يكن يثق في القضاة المسلمين، كما لاحظ الجلالي.

ص: 476

وظائف إدارية، وقد نافح على الخصوص في موضوعين هامين، وهما: القضاء الإسلامي، والتعليم باللغة العربية، وقد عضده في ذلك زميله الطبيب محمد بن العربي، وكان من أعيان العاصمة (1). كما قدم حميدة بن باديس عريضة هامة حول القضاء، وكتب محمد بن الحاج حمو مشروعا لإصلاح القضاء الإسلامي، وقدمه إلى اللجنة المذكورة سنة 1893، وكان الحاكم العام جول كامبون، أكثر تفهمأ من سلفه، لشكوى الجزائريين عموما، وكانت السياسة الفرنسية نفسها تمر بمرحلة مراجعة سواء في الجزائر والصحراء أو في المشرق العربي والإسلامي، ولذلك شهدنا نوعا من الترضيات خلال هذا العقد، ولكن لم تبلغ حد الاستجابة لمطالب الجزائريين (2).

وفي فاتح هذا القرن وجدنا شكوى جماعية ضد قانون 17 ابريل 1889 من القضاة المسلمين الذين قدموا عريضة إلى الحاكم العام شارل جونار حوالي سنة 1905 يطالبون فيها بضرورة رفع رواتبهم، والغريب أن هؤلاء القضاة لم يقدموا مشروعأ للإصلاح واستعادة نفوذهم في القضاء الإسلامي، ولكنهم طالبوا بزيادة الراتب فقط، ومع ذلك فقد كاكا نقدهم مرا لقانون 1889 الذي يبدو أنه ظل هو الأساس في العلاقات بين القضاة المسلمين والفرنسيين وفي موقف الحكومة الفرنسية من تطبيق الشريعة الإسلامية حتى بعد قرار فصل الأديان عن الدولة (باستثناء الإسلام).

قال القضاة في شكواهم المذكورة: إن القاضي قد انحطت قيمته وهيبته بين الناس، وتضررت مروءته وعرضه، فهو في حاجة إلى اللباس والسكن والطعام والمركوب، لنفسه ولعياله، ثم قالوا مخاطبين الحاكم العام: نطلب منك (أن ترفع جاميكتنا) إلى ثلاثة الاف فرنك لكي يرتفع عنا بذلك بعض الأضرار، وليكون رزق من دعته الحال إلى التقاعد في الحرمة شبيها بأرزاق

(1) سنتعرض لحياة الرجلين: ابن رحال وابن العربي، في فصول أخرى.

(2)

كريستلو (المحاكم) مرجع سابق، ص 222، عن الحاج حمو انظر لاحقا.

ص: 477

المتقاعدين عنها من غير القضات (كذا). وليحصل أيضا التنافس للقضات (كذا) في تحسين السيرة كي يرتقوا إلى (مستوى) قضاء المدن) (1).

واضح أن اهتمام هؤلاء القضاة كان منصبا على الجانب المادي والمعنوي لأشخاصهم، فهم لم يطالبوا باستعادة اختصاصات القاضي المسلم حتى ترجع إليهم الهيبة والحرمة، كما ترجع إلى الدين والمواطنين أيضا، وإنما رأوا أن المسألة تتعلق بأرزاقهم وعيالهم وسمعتهم ومصيرهم عند التقاعد، ولعلهم رأوا أن مسألة الشريعة في حد ذاتها مسألة سياسية، وقد مضى على قانون 1889 وغيره من القوانين المنتقصة من صلاحيات القضاة، سنوات طويلة وأصبحت الممارسات بذلك مقبولة وواقع حال، فما الفائدة من إثارة موضوع شائك كهذا؟ إن السلطات الفرنسية في نطاق استغنائها عن القضاة أو التخلص منهم قد وظفت بعضهم أيضا في التدريس بالمساجد، ذلك المشروع الجديد الذي بدئ فيه حوالي سنة 1900، وأصبحت السلطات تشترط للتوظيف التخرج من القسم العالي بمدرسة، الجزائر، وفي 1912، عند فرض التجنيد الإجباري على الشباب الجزائري، أصدرت الحكومة العامة قانونا ينص على محاكمة (رجال الشريعة الإسلامية) أمام المجالس التأديبية، إذا ارتبكوا ما يخل بحرمة وظائفهم (2). وكان ذلك أحسن رد في نظر السلطة الفرنسية، على طلبات القضاة بزيادة الراتب وضمان العيش واسترجاع الهيبة.

إن كل الدلائل قد توفرت على أن الفرنسيين قد ساروا مع القضاة المسلمين كما ساروا مع قادة الأهالي في الأرياف (القياد الخ ..) ومع رجال

(1) مخطوط ك 48 (مكتبة الكتاني، الخزانة العامة بالرباط). هو مخطوط، يبدو أنه كان ملكا للقاضي شعيب بن علي التلمساني، و (الجامكية) هي على ما يبدو، الراتب أو الشهرية، والوثيقة تقول من الواضعين أسماءهم، ولكن الأسماء غير موجودة لأنها منقولة، وقد استغنى الناقل عن ذكر الأسماء.

(2)

(التقويم الجزائري) وضع الشيخ محمود كحول ولويس بودي، سنة 1912.

ص: 478

الدين والزوايا، فقد رمى بهم الفرنسيون بعيدا على إثر الانتهاء من مهمتهم بالتدرج، لقد قضوا حاجاتهم منهم وحكموا بهم ساعة العسر واستفادوا من خدماتهم، ثم أخذوا يقلمون أظافرهم شيئا فشيئا ويأخذون صلاحياتهم حتى لم يبق لهم إلا الاسم، وبالنسبة للقضاء كانت المسألة أكثر حساسية لأنها متصلة بالدين من جهة والدنيا من جهة أخرى، فرغم أن القضاة كإطار اجتماعي وإداري قد تخرجوا من المدرسة الشرعية - الفرنسية، فإن وظيفتهم ذات طابع ديني - سياسي، وقبل أن يتجهوا إلى المعارضة السياسية، باسم الدين، جردهم الفرنسيون من نفوذهم الشرعي، وتخلصوا من المشبوهين منهم بعدة طرق انضباطية إلى أن رجع الجميع إلى الخط، ورضوا بالمأ لة في الدين والدنيا، وأصبحوا لا يطالبون إلا بالترقية وزيادة الراتب.

لم يكن القضاة على درجة واحدة من المروءة والأخلاق، ويشهد المعاصرون أنهم عرفوا منهم نماذج جيدة ونماذج سيئة، شأن كل الفئات الاجتماعية، وقد أتينا على ذكر بعض القضاة في قسنطينة ومعسكر، وسنذكر اخرين بعد حين، وقد زار محمد بيرم الخامس الجزائر في عهد الجمهورية الثالثة (1878) وترك لنا وصفا للمحكمة الجزائرية وتصرفات بعض القضاة والمترجمين، سواء بالنسبة للمحكمة الإسلامية أو المختلطة (المجلس):

1 -

بالنسبة للمحكمة الإسلامية، كان القاضي المسلم يتولى الحكم في الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والمواريث) لدى المسلمين، ومرجعهم في ذلك هو مختصر الشيخ خليل، وكان القاضي يجلس وإلى جانبه عدلان كشاهدين على المتخاصمين، وإذا غاب القاضي ينوب عنه أكبر العدلين، وليس هناك حاجة إلى الترجمة، والأحكام تسجل، وهي سريعة وغير مكلفة.

2 -

المحكمة المختلطة أو المجلس، وفيها ثلاثة قضاة فرنسيين

ص: 479

ويساعدهم قاض مسلم، وذلك في النوازل الجنائية والمعاملات، وهذه المحكمة ترجع إلى القانون الفرنسي وإلى النص المترجم من مختصر الشيخ خليل، فإذا كانت الدعوى بين خصمين مسلمين من أنواع المعاملات الاختيارية فلهما الحق في عرضها أمام المحكمة الإسلامية أو المحكمة المختلطة، أما إذا كانت الدعوى من نوع الجنايات أو كانت بين مسلم وغير مسلم فإنها تعرض وجوبا أمام المحكمة الفرنسية - المختلطة، وإذا عرضت دعوى المعاملات الاختيارية على المحكمة الإسلامية فإن للمحكمة المختلطة حق التحقق على القضاة المسلمين في أحكامهم، فليس هناك ثقة مطلقة في القاضي المسلم وأحكامه، سيما في المعاملات.

3 -

محاكم الأرياف (الإسلامية) ليست محاكم بالمعنى الحقيقي، ولكن من حق القياد والأغوات والقضاة أن يحكموا بين أهل الريف في النوازل التي تعرض عليهم، وفي ذلك تعاون بين هذا الجهاز الرسمي وبين المكتب العربي الذي يسيره الفرنسيون وهو المسؤول على الجميع، فالذي يحكم في الحقيقة هو المكتب العربي بواسطة المذكورين.

4 -

كان تعيين المترجمين ضروريا لعدم معرفة القضاة الفرنسيين في المحاكم المختلطة للغة العربية (1). وكانت هناك فرقة كاملة من المترجمين القضائيين - الشرعيين وأخرى من المترجمين المحلفين، والمفروض أن العضو المسلم في المحكمة يساعد على عدم الوقوع في الظلم، ومع ذلك فلا يحصل العدل، كما يقول الشيخ بيرم، ويكون ذلك راجعا لسوء الترجمة جهلا أو عمدا، وعدم كفاءة العضو المسلم في المحكمة، وجهل المتخاصمين بتعيين المحامي العارف بالفرنسية والمطلع على الأحكام، وكان المترجمون يهودا ونصارى.

(1) رغم أن الفرنسيين بدأوا بالعناية باللغة العربية وأمروا رجالهم بتعلمها في أول الاحتلال واشترطوها في الوظائف الرسمية، فإنهم قد تخلوا عن ذلك منذ حوالي 1870، وأصبح على الجزائريين أن يعرفوا الفرنسية، وفي هذه المرحلة الوسطى كانت الترجمة أساسية.

ص: 480

حضر بيرم محكمة عنابة متفرجا، وكانت تحاكم شخصا في دعوى جنائية، وبينما هذا الشخص يتكلم إذ تحدث المترجم مع القاضي فصدر الحكم بسجنه فورا، والمتهم ما يزال يعرض دعواه، وقد أخرج الشخص المتهم من المحكمة (باللكم واللطم والسب من أعوان المجلس) وهؤلاء الأعوان كانوا من الأهالي المكلفين بالتجسس والتدخل، ولا يتمتعون بالثقة، وقد انتقد بيرم تصرف القضاة المسلمين أيضا لعدم جدارتهم بالمنصب وسوء اختيارهم، فهم (لا يتقون الارتشاء ولا يحسنون ناموس المنصب) وقد شاهد في عنابة قاضيا يتضارب، مع الخصوم، ويجلس في الحانات مع الأراذل، وبرر لجوء العامة إلى المحاكم الفرنسية وتفضيلها على المحاكم الإسلامية لشيوع مثل هذه التصرفات عند القضاة المسلمين، وقد خشي الشيخ بيرم أن يشيع في العامة الاعتقاد بأن فساد القضاة المسلمين واستقامة القضاة الفرنسيين راجع إلى اختلاف الشعائر الدينية (1).

من حوالي مائتي قاض في الجزائر كان هناك الغث والسمين (2). هناك من بدأ حياته مجاهدا وانتهى متعاونا مع الفرنسيين لأسباب اجتماعية واقتصادية، وهناك من بدأ حياته متعاونا معهم ثم ظهر معارضا لسياستهم في بعض التفاصيل وظل شوكة في حلقهم، كما نجد الصنف الخامل الذي رضي بالوظيف وعاش به إلى أن أدركته الموت، ومن القضاة من ألف بعض الكتب وترك الرسائل والشعر، وجلس في اللجان وقدم رأيه في الفقه وغيره، وبعضهم قد تولى وظائف أخرى كالإمامة والتدريس والفتوى، ووجدنا من القضاة من أرسله الفرنسيون في مهمات، ومن قدموه في المناسبات، لمكانته من جهة وخدماته من جهة أخرى، فمن الصعب أن نحكم على فئة القضاة بمسطرة واحدة، وفي تعرضنا لحياة بعضهم صورة لما نقول.

(1) محمد بيرم (صفوة الاعتبار ..). ج 4/ 18، وفي مذكرات مالك بن نبي بعض الأخبار عن القاضي الذي كان يشرب الخمر خلال العشرينات من هذا القرن.

(2)

انظر المبشر، أوت (غشت). 1876، عن توزيع القضاة في الولايات الثلاث.

ص: 481

وقد ترجمنا نحن لمحمد الشاذلي القسنطيني فوجدناه شخصية مهزوزة إلى أبعد الحدود، وقد مثل دور القاضي الانتهازي بمعنى الكلمة، فثقافته بسيطة ومع ذلك ولاه الفرنسيون أخطر منصب عند احتلال قسنطينة وهو القضاء، وكان مقر عمله هو المكتب العربي الذي أنشأوه في المدينة تحت قيادة الضابط بواسونيه، وكان مع الشاذلي عدد من نواب القضاة، منهم المكي بن باديس ومحمد بن عزوز، كان الشاذلي مضطربا في تصرفاته، فقد مدح الأمير حتى دعاه لإنقاذ قسنطينة من الاحتلال، ثم شكر الفرنسيين على اعتقاله، وعينه الفرنسيون لمرافقة ومؤانسة الأمير بسجنه في امبواز (وربما التجسس عليه) فشغل نفسه بالزيارات والتردد على المسرح والتفكير في الزواج من فرنسية مجهولة الأصل، وكان يمدح الفرنسيين تملقا لا حبا، ويمدح قادتهم وبلادهم ومآثرهم ليجعلوه نصب أعينهم، وكان له طموح أبعد من إمكاناته، وفي 1851 أعفاه الفرنسيون من منصب القضاء وعينوه مديرا لمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية (الكتانية) حيث ظل مديرا ومدرسا بها إلى وفاته سنة 1877 (1).

وقلما كان الفرنسيون يعينون القاضي في بلده أو جهته، سيما إذا كان معروفا والبلدة صغيرة، وهو تقليد جيد، لعله كان لحماية القاضي نفسه من جهة، وإبعاد خطره من جهة أخرى، ذلك أن كثيرا من القضاة كانت لهم مصاهرات وعلاقات اجتماعية يخشى منها الفرنسيون أن تؤدي إلى التجمع والغضب السياسي، وكان هدفهم أيضا منع نفوذ أهل المدينة الكبيرة بواسطة قضاتهم، ونحن نجد أمثلة على ذلك في توظيف الشاذلي في القضاء على قسنطينة، رغم أنه دخيل عليها، وكانت عائلة العباسي وعائلة ابن باديس وعائلة ابن جلول وغيرها من العائلات الحضرية المتجذرة أولى من عائلة الشاذلي في ذلك المنصب لو بقي الحكم في يد إلبايات مثلا، ويدخل في

(1) تفصيل حياته في كتابنا (القاضي الأديب: محمد الشاذلي القسنطيني)، ط 2، 1985. وكذلك المجلة الآسيوية J.A، العدد 5، ص 116 - 118، والمجلة الشرقية والجزائرية، ج 1 (1852). ص 234 - 244.

ص: 482