الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلفاء الراشدين الأربعة، وقد أشرنا إلى الصيغة التي ارتضاها المسلمون غداة الاحتلال، وليس فيها إشارة إلى الخلفاء الراشدين، ولا عبرة بالمرجعية التاريخية التي أصبحت في الحقيقة شكلية فقط، ما دامت الخلافة نفسها قد ألغيت سنة 1924، وما دام المسلمون غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم وتطبيق شريعتهم.
وحوالي هذا التاريخ (1952) كان عدد الموظفين الرسميين في الديانة الإسلامية 573 من بينهم 25 مفتيا كما سبق، والباقون يشكلون الفئات الأخرى: الأئمة والخطباء والمدرسون والحزابة والمؤذنون، وكانوا جميعا يعينون تعيينا من قبل السلطات الفرنسية، أما عدد المساجد (الرسمية؟) فقد بلغ 174 مسجدا (1). وسواء نظرنا إلى عدد الهيئة الدينية أو إلى عدد المساجد، فإنه بالمقارنة إلى عدد السكان (قرابة العشرة ملايين سنة 1952) لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدا، ولا يدل على احترام مشاعر المسلمين ولا مكانة دينهم.
شؤون الحج
الشؤون الدينية (الديانة) في العهد الفرنسي كانت تشمل الصلوات والحج والصوم والزكاة وما تفرع منها كالعمرة والمواسم الدينية والجنائز وما يتصل بالطرق الصوفية والزوايا، ونحو ذلك، فالميدان واسع من حيث الاختصاصات، ولكن السلك الديني الذي نحن بصدده لم يسبق له من ذلك كله سوى اختصاصات محدودة تتعلق معظمها بالصلوات والعبادات الأخرى المتصلة بها، وحفظ المساجد الرسمية وإلقاء الدروس الدينية والظهور في المناسبات الدينية - والرسمية أحيانا - وإصدار رأي ديني تحتاجه السلطة، أما الشؤون الأخرى فلها جانبان: تقليدي وعملي، أما الجانب التقليدي فتتولاه الممارسات الشعبية دون الرجوع فيه إلى رجال الدين كزيارة المقابر والأولياء وإقامة الصلوات المبتدعة والأذكار وغير ذلك، وأما الجانب العملي فقد تولته
(1) ماسينيون (الحولية). مرجع سابق، ص 234.
إدارة شؤون الأهالي لما له من أهمية اقتصادية أو سياسية كالزكوات والأعشار والمواريث والديات.
فالزكاة تولتها الإدارة الفرنسية باعتبارها هي الضرائب الإسلامية، وقد أضافت إليها ضرائب أخرى مدنية، أطلقت عليها اسم (الضريبة العربية). فزكاة الحبوب والماشية كانت تجمع من قبل الجباة الفرنسيين في مواسمها، وبطريقة منتظمة، ولا دخل لرجال الدين في ذلك، وأما المواريث (التركات) فقد تولتها المحاكم الفرنسية، بعد أن انتزعتها من القضاة المسلمين.
وكان الحج قضية سياسية منذ بداية الاحتلال، من جهة كان الحج مدرسة دينية - سياسية في حد ذاتها يستفيد منه المسلمون باجتماعهم في أقدس مكان عندهم كل سنة، ومن جهة أخرى، كان بعض الحجاج الأحرار لا يعودون من الحجاز ويفضلون البقاء هناك على العيش تحت النظام الفرنسي، وكان الحجاج يركبون سفنا غير فرنسية في أول الأمر، وقد تفطن الفرنسيون إلى ذلك فأصدروا قرارا بمنع الحج في غشت (أوت) سنة 1838 سواء كان رسميا أو حرا، ذلك أن بعض الذين كانت الإدارة تنظم حجهم كانوا أيضا لا يرجعون، وتوقفت الإدارة عن إعطاء الرخص للحج الحر، وظهرت أصوات منددة بهذا المنع لإحدى الشعائر الدينية المقدسة، وقرر بعضهم الذهاب إلى الحج مهما كانت العقوبة، ومع ذلك أكد الفرنسيون في مرسوم 4 ابريل 1856 مرسوم غشت 1838، ثم وقع التخفيف الجزئي منذ 1858 إذ صدر مرسوم آخر يمنح الرخص للحجاج الأحرار بشرط الخضوع لشروط معينة، ومن هذه الشروط التحريات الدقيقة عن أصل الحاج وسلوكه وأملاكه وأخلاقه، ومعنى ذلك ضمان رجوعه إذا سافر وضمان عدم تأثره بالأفكار (الأجنبية) في الحج، فالحجاج أصبحوا عندئذ هم الذين تختارهم الإدارة بنفسها (1).
(1) رسالة إبراهيم الونيسي عن القضايا الوطنية في جريدة (المبشر). معهد التاريخ، جامعة الجزائر.
ومنذ 1847 كانت جريدة المبشر الرسمية ترغب الحجاج بعدم السفر إلا عن طريق الإدارة الفرنسية، وكانت تعلن لهم أن لفرنسا قناصل مهمتهم حماية الحجاج الجزائريين باعتبارهم رعايا فرنسيين، وهؤلاء القناصل، حسب قولها، منتشرون في مصر والشام والحجاز، وقالت إن أخذ الحاج تذكرة السفر الفرنسية (هي حمايتكم، وبها يعتزون، وفي ذلك فائدة عظيمة)(1). ويبدو أن ذلك مجرد (إعلان) رسمي فقط من المبشر، أما الإدارة نفسها فقد كانت تمنع إعطاء الرخص للحج عندئذ، ولا سبيل إليه إلا عن طريق الهروب والتعامل مع الشركات الإنكليزية وغيرها، وقد نشرت (المبشر) خبرا عن الطرق التي يسلكها الحجاج إذا سافروا مع السفن الفرنسية، فهي حسب قولها: طريق الإسكندرية، وثمن التذكرة في الدرجة الأولى 484 فرنك ونصف، والدرجة الثانية 313 ف ونصف، والثالثة 146 ف ونصف، أما طريق بيروت فتذكرة الدرجة الأولى فيه 495 ف ونصف، والثانية 338 ف ونصف، والثالثة 153 ف ونصف، وهناك أيضا طريق يافا وتذكرته الأولى 522 ف ونصف، والثانية 349 ف ونصف، والثالثة 158 ف ونصف، ثم طريق مرسيليا التي تسافر منها البواخر مرتين في الشهر (2).
وكان الحجاج الجزائريون يخضعون لضغوط مختلفة في الحجاز، فهم يجدون إخوانهم الذين سبقوهم إلى هناك واستقروا في المدينة أو مكة، كما يجدون أولئك الذين هاجروا إلى بلاد الشام مع الأمير عبد القادر أو قبله يؤدون فريضة الحج، وكثيرا ما يطلب هؤلاء من أولئك عدم الرجوع والبقاء في أرض الله الطاهرة، ولا شك أن الدولة العثمانية كانت ترغب الجزائريين في البقاء في المشرق، وكانت لها أطماع قديمة في الجزائر بعد أن ضيعتها سنة 1830، وإلى 1847 لم تعترف رسميا باحتلال فرنسا للجزائر، وفي سنة
(1) المبشر، العدد الأول، سبتمبر، 1847.
(2)
المبشر، 15 مارس، 1853.
1858 جرت مظاهرة في الحجاز ووقع أثناءها تعيير الجزائريين على خضوعهم لفرنسا، ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي أدت إلى أن يعلن نابليون الثالث أنه يحمي كل رعايا دولته حيثما كانوا.
ويزعم فايسات أن آل الفكون (قسنطينة). قد حافظوا على وظيفة أمير الركب التي كانت لهم في الماضي، إلى (سنة 1867)(1). والواقع أن هذه العائلة قد فقدت مجدها حتى قبل ولاية حمودة الفكون مشيخة المدينة على أثر الاحتلال سنة 1837، أما والده، شيخ الإسلام محمد الفكون فقد كان شيخا هرما، عندئذ وقد جيء به محولا على كرسي لمقابلة المارشال فاليه الذي دخل قسنطينة دخول المنتصرين، ثم أوقف الفرنسيون العمل بوظيفة (شيخ الإسلام). فكيف تبقى عائلة الفكون على وظيفة (أمير الركب) أي رئيس الحجاج؟ وكان أمير الركب هو الذي يحمل (صرة) ما وفرته أوقاف مكة والمدينة كل عام إلى فقراء الحرمين، ولكن الفرنسيين صادروا هذه الأوقاف وغير ها.
وإلى جانب التعللات السياسية والاقتصادية، كان الفرنسيون يتعللون أيضا بانتشار الأمراض في الحجاز ويجعلون ذلك سببا في منع الحج، وكان ذلك يتكرر بكثرة، حتى لقد أصبح أمرا مفضوحا وغير مقنع، فقد كان يخفي وراءه الخوف من المرض السياسي، وقد تغيرت الإجراءات قليلا منذ الخمسينات ومرسوم 1858.
منذ البداية كان الفرنسيون مهتمين بالحجاز لا من أجل قضايا الحج فقط ولكن من أجل التجارة والنفوذ السياسي ومزاحمة الإنكليز أيضا، وكان لفرنسا جواسيسها من الحجاج الجزائريين ومن أبنائها، وقد أصبح معروفا ذلك الدور الذي قام به ليون روش سنة 1842 في الحجاز، ولم يكن الأمر متعلقا بالفتوى الشهيرة فقط، ولكنه متعلق أيضا بدراسة أوضاع الحجاز التجارية والسياسية والدينية وتقديم صورة عنها إلى السلطات الفرنسية بعد
(1) فايسات، مجلة (روكاي). 1867، ص 258.
رجوعه، وكان قد اصطحب معه بعض رجال الدين الجزائريين الذين كانوا في واقع الأمر جواسيس أيضا لأن ذهابهم معه لم يكن لغرض ديني، (وإنما لكل امرئ ما نوى). وكانت طرق القوافل والحج موضوع دراسات فرنسية مبكرة، وكان أصحاب الدراسات يحثون حكومتهم على الاستفادة من نفوذ أعيان المغرب العربي وتجارتهم (1).
ولكن أبواب الحج كانت غالبا مغلقة لأسباب سياسية، ففي سنة 1848 (سنة قيام الجمهورية الثانية، على إثر هزيمة الأمير الذي حمل إلى سجون فرنسا) كان على الحجاج أن يحصلوا على رخصة مسبقة لتسهيل مراقبتهم، ومن شروط الرخصة أن يثبت الحاج أن لديه مالا يكفيه للذهاب والإياب، وغالبا ما كانت الرخصة مرفوضة لأن الحج في نظر الفرنسيين يزيد الحجاج (تعصبا)، وقد أعلن الأميرال ديقيدون (1871 - 1873) صراحة بأنه لن يرخص في الحج لأن الحجاج يرجعون أكثر كراهية للفرنسيين (2). وتغيرت هذه السياسة بعض الشيء في عهد الجنرال شانزي فرخص بالحج سنة 1873، وسافر الناس في أعداد راها المعاصرون كثيرة، وهي 1500 حاج، ثم توقفت الرخصة سنة 1874، 1877، للأسباب المعتادة وهي وقوع الوباء في طرابلس والحجاز، والحروب في الدولة العثمانية، ويذهب آجرون إلى أن الحج قد رخص به سنوات 1875، 1876، 1878 لكنه لا يذكر العدد ولا وسائل النقل ولا شروط الرخصة (3). والمعروف أن حركة هجرة، جماعية أحيانا، وقعت خلال السبعينات، وكانت السلطات الفرنسية تمنع ذلك خشية من تشويه سمعتها في العالم الإسلامي (4).
وفي هذا النطاق رخص الحاكم العام قريفي (1879 - 1881) بالحج
(1) انظر فورتان ديفري Fortin D'Ivry في (الجزائر) في مجلة الشرق R.de l'Orient، باريس، 1845، المجلد 8.
(2)
آجرون (الجزائريون) 1/ 298، 301.
(3)
نفس المصدر، ص 307.
(4)
انظر فصل المشارق والمغارب.
سنة 1879، ففيها سافر 946 حاجا فقط وعلى حسابهم الخاص، وكانوا موزعين، حسب أحد التقارير، على الولايات الثلاث كما يلي: الجزائر 519، وهران 279، قسنطينة 148، وقد ذكر التقرير أن العدد كان أكبر من ذلك في الأوقات العادية، ولكن وجود المرض المعدي (الوباء؟) في هذه السنة بالجزيرة العربية لم يسمح إلا بالعدد المذكور، وهذا تبرير واه لأن العدد لا دخل له في الإصابات، وليس هناك شروط تشترطها البلاد المستقبلة (1). ثم لجأ قريفي إلى منع الحج بطرق ملتوية وذلك بإصداره منشورا (1881) يقيد فيه الحج ويمنع على الحجاج الدخول في طرق صوفية معادية لفرنسا (مثل السنوسية والمدنية) أو يربطون علاقات مع المهيجين والدعاة اللاجئين في الدول الإسلامية، ولعل المقصود بهم بعض المهاجرين الجزائريين الذين أصبحوا جالية متنفذة في الشام والحجاز واسطانبول، وقد فهم آجرون أن ذلك الموقف من قريفي يعني منع الحج السري الذي يبدو أنه كان بكثرة ما دامت السلطات قد منعت الحج العلني، وقد يكون ذلك راجعا إلى قلة العدد الذي سمح له بالحج وإلى حسن (اختياره) من الإدارة، فاضطر الناس إلى الحج السري الذي اختلط أيضا بالهجرة، وكان الوباء هو الراية التي يرفعها الفرنسيون لإقناع عامة الناس برفض الرخصة (2). والمعروف أيضا أن سنة 1881 قد شهدت ثورة بوعمامة، ومؤامرة القضاة (انظر لاحقا). وفي هذه السنة أيضا كان القنصل الفرنسي روستان في الشام يحذر من (الجمعيات السرية) في البلاد الإسلامية، فمنع الحج إذن كان مرتبطا بكل هذه التطورات.
ورغم طول عهد لويس تيرمان (1882 - 1891) فإن الحج لم يقع فيه إلا قليلا، والحجة المعتادة والواهية هي وجود الوباء وتوتر الجو الدولي، ثم أضيف إلى ذلك عدم استعداد السفن الإنكليزية لحمل الحجاج، والحقيقة هي أن تيرمان كان له وجهان، ففي الظاهر كان يلجأ إلى ما ذكرنا، وفي الباطن
(1) حكومة ألبير قريفي، ص 49 (هكذا وجدت مقيدا بأوراقي وقد ضاع مني الباقي).
(2)
آجرون (الجزائريون) 1/ 310.
كان يوصي المسؤولين بعدم الترخيص للحج للأخطار التي ترجع منه على المصالح الفرنسية، وكان يعرف أن المنع الرسمي للحج غير مأمون العاقبة ولذلك كان يلجأ إلى التحايل، وكان يرى في الحج وسيلة سياسية معادية، ولذلك جعل الترخيص به مقصورا على الحاكم العام نفسه، وفي سنة 1884 احتج تيرمان بثورة المهدي ضد الإنكليز في السودان، وقيل: إن عددا من الحجاج تمكن من أداء الفريضة سنة 1880، 1888، ثم منع الحج تماما إلى سنة 1891 حين سافر 1500 حاج، بعد أن اشترط عليهم توفير المال للتذكرة ذهابا وإيابا (1).
وفتح جول كامبون الباب نحو الشرق الإسلامي باستصداره أيضا فتوى مشابهة لفتوى سلفه بوجو، وبإرساله بعثة متنكرة للتجسس أيضا على أحوال العالم الإسلامي في الحجاز (2). وفي هذه المرة كان (البطل) هو (جيرفي كورتيلمون) الذي كتب رحلة إلى مكة روى فيها مغامراته من الجزائر إلى مكة، وقد ذهب هناك في غير وقت الحج لأننا لا نجد في رحلته حديثا عن الوقوف بعرفة، وجيرفي هذا كتب دراسات عن الجزائر وتونس والمغرب الأقصى ومصر، وتخصص في الحياة الإسلامية، وكان يعيش في العاصمة ومشتغلا أيضا بقضايا الفن Editeur d'Art، وكان يعتقد أن مكة، باعتبارها عاصمة دينية وثقافية جديرة بالدراسة، لذلك قرر زيارتها سنة 1895، وقد اصطحب معه صديقا له جزائريا وهو الحاج أكلي الذي قال: إنه لا يشك في إخلاصه له ولفرنسا، وقال عن أكلي إنه قد سبق له الذهاب إلى مكة تسع عشرة (19) مرة، وما دام الأمر كذلك، فإن الحاج أكلي نفسه ربما كان يقوم بمهمات خاصة لفرنسا في الحجاز لأن الحج لم يكن مرخصا به للجميع، فما
(1) آجرون (الجزائريون) 1/ 315. قيل إن بعض الصحفيين كتبوا بأن الحجاج رجعوا بالعكس أقل تعصبا من ذي قبل عندما قارنوا حالتهم بحالة المسلمين في مصر والحجاز وحياة البدو في المناطق التي مروا بها.
(2)
يقول قوانار (الجزائر) ص 296، أن كامبون قد سمح بأربع حجات، وفي إحداها مات 2000 من 7000 حاج بالكوليرا (سنة 1893).
بالك بهذه المرات الكثيرة.
روى جيرفي تفاصيل رحلته إلى مكة رفقة الحاج أكلي، ففي جدة شكت فيه الشرطة التركية وكاد يكتشف ويقع في مأزق، ولكن الحاج أكلي تدخل وأنقذه، وبعد دخوله مكة ظل الشك يحوم حوله أيضا، وأظهر أنه طبيب وقام بعلاج بعض المرضى، وأقام علاقات صداقة في مكة وحصل من هؤلاء الأصدقاء (!) على معلومات ثمينة حول الوضع السياسي والتجاري والصحي، وقام بالشعائر وطاف مع مطوف يسمى عبد الرحمن وهو متخصص في تطويف الجزائريين، كان جيرفي، كما قلنا، مكلفا من حكومته بمهمة سرية لدى شريف مكة، وقد أنجزها، ونحن لا ندري ما هي هذه المهمة، ولعلها تلميع صورة فرنسا أو فتح بعض المجالات التجارية إلى جانب الإنكليز.
أما الملاحظات العامة التي أبداها جيرفي فهي مهمة لنا ما دامت تتعلق بالجزائريين في الحج وصورة فرنسا هناك، يقول جيرفي إن الطريق بين جدة ومكة غير آمن من هجمات البدو على الحجاج، وأن تأثير فرنسا السياسي والتجاري شبه معدوم في الحجاز، والناس هناك يتحدثون عن فرنسا كدولة تضطهد الجزائريين والتونسيين، وهم يقولون إن النحس قد أصاب الجزائر وتونس بتسلط فرنسا عليهما ووقوعهما في أيدي النصارى، ويضيفون أن عرب الجزائر وتونس قد جردوا من أراضيهم، وفرضت عليهم الضرائب الثقيلة، وهم لذلك في حالة فقر مدقع وضنك شديد، ويقولون: إن فرنسا تهمل الحجاج الجزائريين وتتركهم بدون موارد، هذه هي الصورة السوداء إذن التي وجدها جيرفي عن بلاده في الحجاز، وكان عليه أن يبيضها، كما كان عليه، وهذه مهمته، أن يربط علاقات تجارية مع هذا البلد، ولذلك أوصى بأن تنشر فرنسا في أوساط مكة مناشير حول تونس والجزائر تذكر فيها بما قامت به فيهما من تقدم، وبذلك تتطور علاقات فرنسا السياسية والتجارية مع الحجاز، ونحن نفهم من رحلة جيرفي أن حالة الجزائر كانت معروفة في الحجاز وأنها حالة سيئة، وأن فرنسا هي التي كانت تتحمل المسؤولية في ذلك، وكان عليها أن تغير هذه الحالة لكي تفتح المجال
التجاري والسياسي مع المشرق، وخاصة مع الحجاز (1).
ولا ندري إن كان ادوارد ألار Allard قد ذهب بنفسه إلى الحجاز أيضا سنة 1895، ولكننا نعلم أنه كان الطبيب المتصرف لدى الحكومة العامة في الجزائر، مكلفا بشؤون الحج، وفي هذا النطاق كتب تقريرا طويلا في السنة المذكورة عن الأمراض المعدية والوقاية منها، وكان قد نشر تقريره (أو دراسته) في مجلة متخصصة، ونقلته عنها مجلة إفريقية الفرنسية، ومن رأى (ألار) أن تمنع الحكومة العامة الحج مباشرة وأن لا تكثر من التشريعات في ذلك، بل تترك الوقت يعمل عمله، وعليها إغراء الحجاج المسلمين المتنورين بتفادي الأمراض والاختلاط بغيرهم، ومن رأيه أيضا أن على الحجاج الجزائريين البدء بزيارة المدينة المنورة قبل مكة المكرمة، لأسباب صحية (2).
وفي 1902 قام بروفاش، وهو متصرف إداري للبلديات المختلصة في الجزائر، بمرافقة الحجاج الجزائريين إلى جدة، وبعد رجوعه قدم انطباعاته عن (الحج إلى مكة) أمام العلماء المستشرقين في مؤتمرهم بالجزائر 1905، وقد ركز على نقطتين: الأخطار التي يتعرض لها الحاج الجزائري كاستغلال المطوفين والتجار له، والأمراض في مكة ومنى، أما النقطة الثانية فهي اتهام
(1) جيرفي كورتيلمون (رحلة إلى مكة). هاشيت، باريس، 1896، راجعتها (إفريقية الفرنسية). أكتوبر 1896، ص 326، وكان جيرفي قد قرأ جزءا من رحلته في مقر الجنة إفريقية الفرنسية) بتاريخ 29 نوفمبر 1895 بفرنسا، انظر إفريقية الفرنسية A.F، يناير 1896، ص 4 - 5. ومن الغريب أن صورة الحجاز عندئذ كأنها هي صورة حجاز اليوم، فقد لاحظ جيرفي أن الإنكليز هم كل شيء هناك، وأن الناس يقولون في مكة إن الإنكليز سيعتنقون الإسلام، وأنهم إذا فعلوا ذلك فإن دولة العالم ستكون إسلامية، أما اليوم فهؤلاء الناس يقولون بدون شك إن الله قد أرسل الأمريكان ليخدموا المسلمين ويدافعوا عنهم، وما علينا نحن إلا الراحة والأحلام، فماذا تغير إذن؟، عن رحلة جيرفي انظر أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل). عدد اغسطس، 1996.
(2)
إفريقية الفرنسية، يوليو، 1895، ص 229 - 231.
الأتراك هناك بصنع الكحول وشربها في مكة، وقد رد عليه في ذلك بعض علماء المسلمين الحاضرين، كما رد عليه ابن أبي شنب ضمنيا في مقاله، وكانت توصيات بروفاش شبيهة بتوصيات زميله ألار (1).
وطبقا لهذه التوصيات سارت الأمور في عهد شارل جونار الذي أظهر نوعا من التسامح مع المسلمين الجزائريين في مجال الحج، فقد كتب أحد الفرنسيين مشجعا على الحج باعتباره سيعطي نتائج إيجابية لفرنسا، وقال هذا الكاتب: إن الحجاج الجزائريين يرجعون إلى دواويرهم ويقارنون بين ما رأوا في الحجاز وما يعيشونه في الجزائر، ففي الشرق سيجدون التعصب والكحول، وسيجدون الجنود عاجزين عن وقف الهجوم على كسوة الكعبة، وهذه الصورة السيئة ستتغير عند الحاج إذا رجع إلى موطنه وعندئذ سيحمد حكم فرنسا، وهذا هو التطور البطيء الذي عناه (ألار). ولا شك أن الدعاية الفرنسية كانت تصور الشرق على النحو المذكور تمشيا مع وصية جيرفي من جهة، وإعطاء صورة متناقضة عن صورة فرنسا في المشرق، وقد أضاف المستشرق (هوداس) أن مكة ستفقد قيمتها الدينية والتجارية لدى المسلمين بتقادم الزمن!.
وفي هذه الأثناء أيضا قام الدكتور الطيب مرسلي، وهو طبيب جزائري متزج من فرنسية ولعله كان أيضا من المتجنسين بالجنسية الفرنسية، قام بجولة طويلة في الحجاز، وسجل ملاحظات لفائدة الإدارة الفرنسية (2). وهناك ثلاثة من هذه الملاحظات نود التوقف عندها، الأولى: مكانة بني ميزاب عند الشريف عون، شريف مكة، فهو يفضلهم على غيرهم من الحجاج الجزائريين، حسب هذه الرواية، حتى أنه هدم بعض آثار مكة استجابة لشكواهم سنة 1902، وكان بنو ميزاب يزاولون التجارة أيضا أثناء الحج ويربطون علاقات التجارة مع الهنود والسوريين، والملاحظة الثانية:
(1) محمد بن أبي شنب، عرض ما ألقي في مؤتمر المستشرقين 14 (الجزائر 1905). المجلة الإفريقية، 1905، ص 328 - 329.
(2)
عن الدكتور مرسلي انظر فصل الترجمة.
عن الذبائح والتبذير فيها إذ روى الدكتور مرسلي أن حوالي مائة ألف رأس قد استهلكت في ذلك، والملاحظة الأخيرة أن القاضي لم يوافق على أن يأخذ الحاج عددا كبيرا من النسوة معه إلى الميناء، وذكر من ذلك بالخصوص حجاج الضواحي العليا لمدينة الجزائر (1). إن هذه الأمور الدينية إذا أضيفت إلى الأمور الاقتصادية والصحية والسياسية تجعل الفرنسيين يعرقلون الحج ويتدخلون فيه دون الرجوع إلى الهيئة الدينية الرسمية.
كان الحاكم العام جونار قد أعلن سنة 1907 عن الترخيص بالحج وقيام الإدارة بالتزاماتها الدينية نحو الجزائريين، ونشرت الجرائد المحلية ذلك في أكتوبر من نفس العام، وبعد بضعة أشهر تغير الموقف فجأة، وأعلن نفس الحاكم العام عن منع الحج عام 1908، وسواء أكان المنع لأسباب صحية، كما جاء في الإعلان، أو لأسباب أخرى، فإن الناس لم يصدقوا الرواية الرسمية، ذلك أن من بين الأسباب الخفية حالة التذمر التي بدأت في الجزائر منذ أنشئت لجنة لدراسة فرض التجنيد على الشباب، وقد أخذت بعض العائلات والأفراد تهاجر سرأ وعلانية، كما أن تطور الأوضاع في تونس والدولة العثمانية في نفس الفترة كان يساعد على التفكير في أن السبب في المنع لم يكن كله صحيا، ومع ذلك فالبيان الصادر من الحكومة العامة قد هول الحالة، وقال: إنه قد ظهر الوباء في السواحل الجزائرية، ورغم الاحتياطات فإنه يخشى من انتشاره إذا تجمع الحجاج في الموانئ، وأضاف البيان أن الكوليرا قد انتشرت في البحر الأحمر، وأن لها ضحايا من حجاج الهند، وغيرهم، وأن البرقيات تحدثت عن ظهور الكوليرا في مكة أيضا، وأن ضحاياها بلغوا 80 ضحية، منها 50 حالة مميتة، ومن جهة أخرى أصبحت مصر مهددة أيضا حيث ظهرت الكوليرا في دمياط، وأمام كل ذلك قرر الحاكم العام (جونار) التراجع عن قراره السابق (2).
(1) من مقالة كتبها بروفاش Bruvache بعنوان (الحج إلى مكة) في S.G.A.A.N، 1905.
(2)
إفريقية الفرنسية، فبراير، 1908، ص 59. عن إلغاء الحج سنة 1908 انظر أيضا =
وبالتدرج تحول الحج الرسمي إلى مسرحية سياسية، كانت الإدارة هي التي تنظمه وتشرف عليه وتختار عناصر الحجاج من الأعيان المعروفين لديها، وتصدرهم وتجعلهم يتفوهون بعبارات الشكر والحمد، والإخلاص والموالاة، وكانت تخلط بين رجال الدين والدنيا، بل وكانت تجمع بين أعيان الجزائر والمغرب وتونس، ومن ثمة أصبح الحجاج المختارون في الواقع سفراء لفرنسا، وليس غرض هذه الفقرة تتبع كل المراحل من الحج الرسمي المنظم فذلك يخرجنا عن موضوعنا، وإنما نذكر أن السلطات الفرنسية في الجزائر قد منعت الحج طيلة السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى نظرا لأوضاع الجزائر نفسها بعد الهجرة الجماعية سنة 1911 وبعد التصديق على مشروع فرض التجنيد الإجباري وتشوش الرأي العام الجزائري، كذلك كانت حرب طرابلس (1911 - 1912). واحتلال المغرب الأقصى (1912) والانقلاب العثماني (1908 - 1909) من العوامل التي لم تساعد على حرية الحج، وعند اندلاع الحرب العالمية نفسها كانت فرنسا في معسكر والدولة العثمانية في معسكر اخر، فازداد المنع والتضييق على الحج.
وكان على فرنسا أن تجند الرأي العام الجزائري ضد الدولة العثمانية، فأوعزت إلى رجال الدين ورؤساء الطرق الصوفية أن يعلنوا عن انحراف تركيا عن خدمة الإسلام، ولم يجد النخبة حرجا في ذلك، واهتم الكتاب، مثل ديبارمي، بما أسموه برواسب التعاطف مع الدولة العثمانية في الجزائر، وقد تضرر الحجاج من كل ذلك فانقطعت السبل باتجاه الحجاز إلى سنة 1916، ففي هذه السنة قام الشريف حسين بالتعاون مع الحلفاء بالثورة على الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها، وأرسل ابنه فيصل مع لورنس الإنكليزي إلى الشام، وكان الشريف في ذلك كله مخدوعا لأن الحلفاء كانوا في نفس الوقت يضعون خريطة جديدة للعالم العربي بعد هزيمة الدولة العثمانية، وهي
= فصل الطرق الصوفية (حياة الشيخ ابن عليوة). وفي سنة 1914، وأمام الخوف من ردود الفعل الجزائرية خلال الحرب، أعلنت فرنسا أنها ستسمح بالحج بدون الطلب المسبق للرخصة، ولكن تطور الأحداث جعل ذلك مجرد ذر للرماد في العيون.
الخريطة المعروفة باتفاق سايكس - بيكو، وبالإضافة إلى ذلك كان الحلفاء يعدون اليهود بالوطن القومي في فلسطين، وهكذا فإن الفرنسيين بعد أن منعوا الحج على الجزائريين، كانوا متورطين في سلسلة من المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين والعرب.
وكما انخدع الشريف حسين وغيره في المشرق انخدع زعماء الرأي العام أيضا في الجزائر، فبعد ثورة الشريف حسين في الحجاز رخصت فرنسا بالحج لعدد من الشخصيات الرسمية المختارة، بلغوا 290، معظمهم من رجال) لدين، وكان على رأسهم قدور بن غبريط، ورافق الوفد الحاج بعثة دبلوماسية بقيادة الضابط محمد ولد قاضي، وكان ابن غبريط قد ولد في نواحي سيدي بلعباس وتعلم، ربما في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، وأصبح مترجما في القنصلية الفرنسية في طنجة سنة 1893، وقام بمهمات لدى الحكومة المغربية تحضيرا للاحتلال الفرنسي، وأرسله الفرنسيون في مهمات دبلوماسية أيضا إلى روسيا، وكان عضوأ في اللجنة التي خططت الحدود بين الجزائر والمغرب سنة 1903، وها هو الآن (1916) على رأس وفد الحج الرسمي (1). ومع ذلك فإن الحج قد اعترضته عراقيل أخرى بعد ثورة الشريف حسين.
وفي سنة 1917 حدث تطوران هامان: الأول: هو إنشاء الفرنسيين لجمعية الأوقاف (الأحباس) والأماكن المقدسة الإسلامية، وكان الهدف منها جلب المسلمين وإرضاءهم خلال الحرب، وكان رئيسها هو قدوربن غبريط، وكانت الجمعية وسيلة فرنسية أيضا للتدخل في الحجاز وفلسطين بعد أن شعرت فرنسا أن الإنكليز قد خططوا لحصر الفرنسيين في لبنان وسورية فقط، فكانت الأوقاف والحج وسيلة سياسية لنشر التأثير الفرنسي في
(1) ربما يكون والده هو ابن عودة بن غبريط، إمام الجامع الكبير بتلمسان في آخر السبعينات من القرن الماضي، وقد تحدث عنه المشرفي في (ذخيرة الاواخر) بعد أن زار الجزائر سنة 1878، والبعثة الفرنسية إلى الشريف حسين كانت برئاسة الضابط الفرنسي، بريمون Bremond انظر فصل المشارق والمغارب.
مناطق التأثير الإنكليزي، وكان ابن غبريط من رجال الإدارة الفرنسية المخلصين، وكان ينعت على أنه من أنصار التقدم والتدرج السياسي. وفي هذا النطاق رشح لعمادة وإمامة جامع باريس عند افتتاحه سنة 1926، وكان هذا الجامع مؤسسة سياسية أيضا قبل أن يكون مؤسسة دينية (1).
أما الحدث الثاني فهو وعد الفرنسيين اليهود بالوطن القومي في فلسطين، وكان الشائع إلى هذه السنوات أن الذي وعد اليهود بذلك هم الإنكليز على لسان (بلفور Balfour). ولكن الوثائق برهنت على أن الفرنسيين كانوا أسبق من الإنكليز في ذلك، فعلى لسان وزير الخارجية، ستيفان بيشون Pichon، وأمين عام الخارجية جول كامبون، أعلن الفرنسيون، قبل الإنكليز بعدة شهور، أنهم في صالح إنشاء الوطن القومي للصهاينة في فلسطين، وقد أعطوا وعدهم المكتوب إلى سوكولوف Sokolov، ممثل الصهاينة، (2). ويذهب علي مراد إلى أن صدور وعد بلفور (ولم يشر إلى وعد بيشون وكامبون) قد كشف للجزائريين عن التحالف المسيحي/ اليهودي ضد الإسلام، سيما وأن ذكرى قرار كريميو بتجنيس يهود الجزائر كانت ما تزال حية، وفي نظر مراد أن القضية الفلسطينية، قد أضيفت إلى القضية العثمانية وزادت من قلق المسلمين الجزائريين سياسيا ودينيا (3).
كانت حرية الحج كما رأينا، تختلف من سنة إلى أخرى، حسب المزاج السياسي في الجزائر والمشرق، وها نحن نجد مجموعة من الحجاج العلماء والأعيان أدوا فريضتهم ورجعوا مسرورين، منهم بعض رجال الدين، ومعظمهم كانوا من شرق الجزائر، وقد وجدنا أحد المفتين يشكر الله على أن
(1) كريستلو (المحاكم). ص 258. وقد ذكر زكي مبارك في كتابه (ليالي باريس) أنه حضر الصلاة في جامع باريس وأشاد بخطبة ودبلوماسية ابن غبريط.
(2)
انظر دراستنا عن هذا الموضوع، وقد أرسلنا بها للنشر، اعتذرت المجلة عن نشرها لأنها وجدتها (محرجة) وسنحاول نشرها على كل حال.
(3)
علي مراد (الإصلاح الإسلامي). 1967، ص 38.
وفق (قبائل الشاوية) فحج منهم عدد لم يسبق له نظير، كما قال، وكذلك حج من بقية الوطن عدد كبير، وكان ذلك سنة 1352 هـ (1933). ومن أهل العلم الذين حجوا هذا العام نذكر: أحمد الحبيبي (الحبيباتني؟) المدرس بقسنطينة، وتلميذيه أحمد البوعري (الذي توفي في الحجاز ودفن في رابغ). والشيخ المحسن الصحراوي إبراهيم، ثم الشيخ بلقاسم بن منيع المدرس بزاوية سيدي الحسين القشي، ومفتي تلمسان الحبيب بن عبد المالك، والطاهر بن زقوطة الإمام بأحد مساجد قسنطينة، والشيخ محمد أبو الحبال، الإمام بجيجل، وهو من الماهرين في القرآن (1).
ورغم الحرب العالمية الثانية، فإن الفرنسيين وفروا باخرة لحمل الحجاج الرسميين إلى مكة وإعادتهم في ظرف شهر، ومن عجيب الصدف أن الباخرة التي حملتهم كانت تحمل اسم الأميرال (ديقيدون). ذلك الحاكم العام (1871 - 1873) الذي اضطهد الجزائريين ومنعهم من الحج، فقد حملت هذه الب ا، م حجاجأ من الجزائر وتونس والمغرب الأقصى وغرب إفريقية، فكان مجموع الجزائريين 273 فقط من بين 619 حاجا، وفي قائمة الجزائريين كل من رضيت عنه السلطات الفرنسية من أمثال شيخ العرب وزعيم (الميعاد الخيري) السيد بوعزيز بن قانة، وابن علي الشريف، وغلام الله محمد، وقاضي تلمسان، والباشاغا ابن شنوف، والباشاغا السماتي، وبعد أداء الحج جاء وفد منهم إلى الحاكم العام - لوبو Lebeau - لشكر فرنسا في شخصه، ووجدوا في استقبالهم قدور بن غبريط، ومدير الشؤون الأهلية، ميو، وقيل: إن الملك عبد العزيز بن سعود قد منع أية دعاية خلال الحج، مهما كان مصدرها (2). ومهما كان الأمر فإن الحج الرسمي كان منظما، كما
(1) من مخطوط (تنبيه المسلم إلى فضائل زمزم) تأليف الحسن أبو الحبال، مفتي بجاية في وقته، مكتبة الشيخ علي أمقران السحنوني، ولعل أبو الحبال المذكور هو نفس الحاج، عن حسن بو الحبال انظر السنوسي (شعراء الجزائر).
(2)
مهندس (إفريقية الفرنسية) فبراير - مارس 1940، ص 48، وصلت الباخرة إلى جدة في 16 يناير، ورجعت إلى الجزائر في 14 فبراير، ولا شك أن هذا الوفد يمثل =
قلنا، وكان يرافق الحجاج وفد من الأطباء أيضا، ولا يخلو التنظيم من التجسس على الحجاج وأفكارهم من جهة والتجسس على حالة المسلمين في الحج من جهة أخرى، فقد كانت دائما وراء الحج الإسلامي حاجة فرنسية.
وخلال هذه التنظيمات المختلفة للحج السياسي، لا نعلم أن رجال (الهيئة الدينية) قاموا بأي دور أو دعوا إلى أن يلعبوا في ذلك دورا، فلم يتدخلوا في منع الحج أو الترخيص به، ولم يترأسوا بعثة دينية في الحجاز أو كان منهم (أمير للركب) كما كان الحال في الزمن القديم، نعم، لقد حج بعض المفتين والأئمة والقضاة منذ القرن الماضي، ولكنهم حجوا كأفراد عاديين، وكان عليهم في القرن الماضي أن يتخلوا عن وظائفهم قبل الحج، وقد بقي أحد الموظفين عدة سنوات في المشرق قبل رجوعه،) ذا رجعوا فإنهم لا يجدون مكانهم في السلك الديني تلقائيا، وكان بعضهم لا يرجع أصلا، كما عرفنا، وقد استمرت السياسة الفرنسية نحو الحجاج خاضعة للمصالح السياسية والاقتصادية ودون مراعاة لمصالح الجزائريين، إلى عشية الثورة، ففي 1951 كانت الإدارة ما تزال تهتم بحجيج الأعيان، رغم أن الإعلان الرسمي ذكر أن الحجاج بلغوا في تلك السنة 1، 620 (1).
…
هذا عن الحج، أما عن الصوم، فإن شهر رمضان المعظم كان يتخذ
= الحجاج الرسميين فقط، أما عامة الحجاج فلا نعرف عنهم شيئا، وربما منعتهم السلطات الفرنسية من الحج بتعلات معروفة، انظر أيضا: دي لاشاريير (إفريقية الفرنسية). إبريل 1939، وقد تحدث في مقالة له عن الاستقرار في الجزائر عشية الحرب الثانية، ودور (أصدقاء فرنسا) في المغرب العربي، والحج على الباخرة (سيناء). أما عن قدور بن غبريط (عميد وإمام جامع باريس) فلينظر كتاب (أعيان المغرب الأقصى). قوفيون 1926، ص 260، انظر سابقا.
(1)
ماسينيون (الحولية). مرجع سابق، 1954، ص 253.
طابعا شعبيا، ومنذ الاحتلال فقد الصوم طابعه الرسمي، فالسلطة الفرنسية لا تعترف بالأعياد الدينية الإسلامية، فعيد الفطر وعيد النحر والمولد النبوي وعاشوراء ونحوها كلها أصبحت مناسبات يتولاها المسلمون، ولا دخل فيها للسلك الديني الرسمي إلا باعتبارهم من المسلمين، فليس هناك عطلات رسمية ولا احتفالات، ولكن الفرنسيين لم يمنعوا الاحتفالات بذلك، سيما في رمضان والمولد، وفي رمضان بالذات يمكن أن نذكر مناسبتين قد تدخلان في الممارسات الرسمية، الأولى إطلاق المدفع عند الإفطار، سيما في مدينة الجزائر من بطارية في المرسي، وكان المسلمون هم الذين يدفعون ثمن الطلقات في شكل ضريبة خاصة، ويستمر ذلك خلال الشهر، والثانية هي إنشاء لجنة في الحقبة الأخيرة أطلق عليها (لجنة الهلال) وكانت تحت إدارة الشؤون الأهلية، والمقصود الظاهري منها توحيد الإعلان عن الصيام والإفطار بالرجوع إلى الجهات الرسمية وعدم اتباع الدول الإسلامية الأخرى في ذلك أو الاعتماد على رؤية الهلال جماعيا وفرديا، وكانت هذه اللجنة قد أثارت بلبلة في أوساط المسلمين، وكان بعضهم يخالفها، ولو كانت صادقة، لأنها كانت تحت إشراف السلطة المحتلة، ولأن الهيئة الدينية التي تشير بذلك كانت مغلوبة على أمرها.
وعلى المستوى الشعبي دائما كان عيد الفطر يستمر ثلاثة أيام، وكان إعلانه عن طريق المدفع أيضا، سواء اتبعه المسلمون أو اتبعوا غيره، وأثناء رمضان تضاء المآذن وتكثر الصلوات، وتنشط المقاهي، وتظل هذه مفتوحة إلى حوالي الثانية صباحا في المدن، وقد احتفظ الجزائريون بعادة المسحراتي، وهناك أعلام خاصة ترفع على الماذن، ويحيي الناس ليالي رمضان بطول السهر أكثر من الأوقات العادية، والتفنن في الألعاب والموسيقى والمأكولات، وفي يوم العيد يتفنن الناس في الملابس والحلويات، وتقام الصلوات الجماعية وتوزع الصدقات وتزار المقابر والأقارب، وقد استحدثت بدع كثيرة لابتعاد الناس عن تعاليم الدين، وكانت السلطة الفرنسية تشجع عليها لأنها تساعد على تغييب العقل والتعلق