المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطرق الصوفية والسياسة - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٤

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الفصل الأولالطرق الصوفية (1)

- ‌خطة هذا الفصل والذي يليه

- ‌مصطلحات وتعاريف

- ‌الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

- ‌الطريقة القادرية

- ‌العمارية/ القادرية

- ‌الطريقة الشاذلية

- ‌الزروقية واليوسفية

- ‌الطريقة العيساوية

- ‌الطريقة الحنصالية

- ‌الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

- ‌الطريقة الطيبية

- ‌الطريقة الشيخية

- ‌الطريقة الدرقاوية

- ‌الطريقة الهبرية

- ‌ الطريقة المدنية

- ‌ الطريقة العليوية

- ‌الطريقة الرحمانية

- ‌الفصل الثانيالطرق الصوفية (2)

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أ - عموميات:

- ‌ب - فرع عين ماضي:

- ‌ج - فرعا تماسين وقمار:

- ‌تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

- ‌الطريقة السنوسية/ الطكوكية

- ‌الطكوكية

- ‌البوعلية

- ‌الشابية:

- ‌البكائية:

- ‌المكاحلية (الرماة):

- ‌الناصرية:

- ‌طرق أخرى:

- ‌في ميزاب ومتليلي:

- ‌تمويل الزوايا

- ‌إحصاءات الطرق والزوايا

- ‌1 - الشاذلية:

- ‌2 - القادرية:

- ‌3 - الرحمانية:

- ‌4 - التجانية:

- ‌5 - الطيبية:

- ‌6 - الحنصالية:

- ‌7 - العيساوية:

- ‌8 - العمارية:

- ‌9 - الزروقية:

- ‌10 - السنوسية:

- ‌11 - الناصرية:

- ‌12 - الدرقاوية:

- ‌13 - المدنية:

- ‌14 - الزيانية:

- ‌15 - الكرزازية:

- ‌16 - المكاحلية:

- ‌17 - الشيخية:

- ‌18 - اليوسفية:

- ‌19 - الشابية:

- ‌20 - جمعية ابن نحال:

- ‌الطرق الصوفية والسياسة

- ‌توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

- ‌الفصل الثالثالسلك الديني والقضائي

- ‌مدخل

- ‌الهيئة الدينية

- ‌رجال الدين والسياسة

- ‌تصنيف المساجد وموظفيها

- ‌شؤون الحج

- ‌إجحاف في حق الدين ورجاله

- ‌مدخل إلى السلك القضائي

- ‌بداية التدخل في القضاء الإسلامي

- ‌تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

- ‌المكي بن باديس والعرائض

- ‌(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنسوالزواج المختلط

- ‌الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

- ‌نماذج من القضاة

- ‌قضية تدوين الفقه الإسلامي

الفصل: ‌الطرق الصوفية والسياسة

ورغم الادعاء بوجود (ملايين) الأتباع للطرق الصوفية عشية الحرب العالمية الثانية، فإن الاحصاءات المعقولة تثبت أن عدد الأتباع سنة 1937 هو حوالي 190 ألف نسمة (190، 000). بينما كان عددهم سنة 1910، حسب إحصاء آخر هو 295، 000 (1). ومعنى ذلك أن الأتباع كانوا في تناقص كبير، ولكن مكانة شيوخ الطرق الصوفية ظلت مؤثرة على الأتباع المتعقدين فيهم.

‌الطرق الصوفية والسياسة

من الأكيد أن النظرة إلى الطرق الصوفية في الجزائر قد اختلفت من كاتب إلى كاتب في ضوء المصلحة العامة الفرنسية، وقد دار جدال من 1860 إلى 1900 بين دارسي هذه الطرق حول خطورتها وكيفية التعامل معها والموقف منها مستقبلا، وكانت أولى المحاولات في ذلك هي دراسة العقيد (ثم الجنرال) دي نوفو سنة 1845 عن الطرق الصوفية و (اكتشاف) أهميتها في الثورات التي كادت تقضي على أحلام الفرنسيين في الاحتلال السريع، وكان دي نوفو خبيرا بالمجتمع الجزائري إذ عمل في مختلف الوظائف، ومنها وظيفة المكتب العربي، وتزوج من جزائرية، وكان من أتباع سان سيمون، كما كان يعرف العربية.

ثم جاءت دراسة شارل بروسلار الذي كتب عن المؤسسات الدينية في تلمسان، وكان أيضا قد تولى المكتب العربي في هذه المدينة العريقة واتصل بأهلها من الحضر وعرف الحياة المدنية الإسلامية والتراث الديني الذي كانت تتمتع به تلمسان، وكان بروسلار يجيد العربية فاستعملها للاطلاع على الثروة الهامة من المخطوطات العامة في الزوايا والمساجد، والخاصة عند العائلات.

وكان هنري دو فيرييه قد فتح بابا جديدا للنقاش حول الطرق الصوفية حين رحل إلى الجنوب حتى وصل غدامس تحت حماية شيوخ الطرق الذين

(1) علي مراد (الإصلاح الإسلامي). ص 61. الإدعاء المبالغ فيه منقول عن مجلة (أفريقية الفرنسية). مايو 1938، ص 220.

ص: 301

سلموه من يد إلى يد في الأمن والأمان، وقد كتب كتابه الهام في وقته عن الطوارق و (اكتشاف) الصحراء، وكشف فيه بالخصوص عن أهمية بعض الطرق الصوفية في الجنوب كالتجانية والسنوسية والطيبية والقادرية والبكائية والشيخية، وكان هو في حماية التجانية خلال معظم رحلته، ويقسم دوفيرييه الطرق إلى عدوة وصديقة، بعد أن (كشف) عن أهمية النوعين في التنظيم والنفوذ، وهو يوصي بأن تسلك فرنسا طريق اللين والكرم مع الطرف الصديقة حتى تستفيد من تأثيرها، وأن تحتاط وتستعد ضد الطرق العدوة التي تعمل على إخراج فرنسا من الجزائر بواسطة أتباعها ونظمها وأشرافها.

وتتويجا لهذه الدراسات المتفرقة قام لويس رين بوضع كتاب شامل وإحصائي لمن سماهم (المرابطون والإخوان) وأخرجه سنة 1884 (1). ورين من الخبراء البارزين في الإدارة الأهلية الفرنسية، فهو ضابط تقلب في مختلف الوظائف في الجزائر، فعرف القبيلة والمسجد والزاوية وسكان المدن وسكان الريف، وعرف نبلاء السيف ونبلاء السبحة والعلم، وقد ألف في مختلف الموضوعات التي تهم الحياة الجزائرية القبلية والدينية والاجتماعية والثورات، ولكي يؤلف كتابه عن المرابطين والإخوان لجأ إلى التقارير الرسمية التي تصل إلى الإدارة المركزية تباعا من المكاتب العربية والولايات، سواء منها التقارير السرية أو العادية، ثم استعمل نفوذه كضابط مسؤول في الإدارة العامة فطلب تقارير من مختلف الشيوخ والمقدمين عن حالتهم صاحصاء أتباعهم وأصولهم النسبية والدينية وعلاقاتهم، وأضاف إلى ذلك مراسلاته مع شيوخ المغرب وتونس، وتقارير القناصل الفرنسيين في مختلف البلاد الإسلامية، وقد خرج من كل ذلك بآراء سنتوقف عندها بعد قليل.

أما آخر الدراسات العامة عن الطرق الصوفية فهي التي قام بها الكاتبان: أوكتاف ديبون وايكزافييه كوبولاني في آخر القرن. وقد

(1) لا بد من الإشارة إلى دراسة هانوتو ولوتورنو عن دور الطرق الصوفية في زواوة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد اهتم بنفس الطرق أيضا ايميل ماسكري في الفترة ذاتها تقريبا.

ص: 302

جندت لها حكومة جول كامبون إمكاناتها في البحث والتمويل، وكان المؤلفان مسؤولين إداريين أيضا، فهما خبيران بالشؤون الأهلية وتطور الحياة الجزائرية في عهد الجمهورية الثالثة وفي ضوء سياسة الجامعة الإسلامية التي تبناها السلطان عبد الحميد من جهة ومصالح فرنسا السياسية في العالم الإسلامي من جهة أخرى، كما أن هذه الدراسة قد جاءت في وقت كانت فيه فرنسا تحاول ربط مستعمراتها في غرب افريقية وأفريقية الوسطى بشمال أفريقية، لذلك كانت دراسة الطرق الصوفية العاملة هنا وهناك مسألة حيوية بالنسبة للسلطات الفرنسية، وقد تجندت هنا أيضا التقارير الإدارية، وتقارير القناصل الفرنسيين في البلدان الإسلامية، وتقارير شيوخ الزوايا أنفسهم، لخدمة هذا المشروع، وحين انتهى المؤلفان من عملهما قامت الحكومة العامة بطبعه على نفقتها، وقد تضمن آراء وتوصيات جديرة بالمناقشة، وظل بعضها يتحكم في السياسة الفرنسية نحو الطرق الصوفية ونحو العالم الإسلامي لفترة طويلة، وسنحاول أيضا أن نتوقف عند بعض الآراء والتوصيات لنفهم منها تعامل الفرنسيين مع الجزائريين عموما والطرق الصوفية خصوصا.

لقد ظهرت بعد ذلك عدة دراسات أخرى للطرق الصوفية ولكنها لم تأت في شكل شامل مثل عمل رين وديبون وكوبولاني، ذلك أن الإدارة الفرنسية قامت، بعد حوالي عشر سنوات من نشر الكتاب الأخير، بتوجيه خبرائها إلى دراسة الظاهرة الإسلامية من جديد، فكانت دراسة الاسكندر جولي، ودراسة هنري قارو، ودراسة أدمون دوتيه، وأضرابهم عشية الحرب العالمية الأولى، ثم دراسة أوكست كور خلال الحرب، وظهرت في نفس الفترة (مجلة العالم الإسلامي) التي تولى رئاستها الضابط المختص في الشؤون الإسلامية، ألفريد لوشاتلييه الذي سبق له إصدار كتاب عن الطرق الصوفية في الحجاز (1887). وكان قبل ذلك مديرا للمكتب العربي في ورقلة، وعن طريق هذا المكتب عرف نشاط ودور الطرق الصوفية في الجنوب، كانت المجلة صورة لتوجه السياسة الفرنسية الاسلامية نحو المشرق

ص: 303

ونحو المغرب الأقصى أيضا، وقد برزت على صفحاتها شخصيات فرنسية مهتمة بالعالم الإسلامي، ومنها لويس ماسينيون الذي سيصبح من أبرز خبراء فرنسا في شؤون الإسلام والمسلمين.

وقد رأى ماسينيون أن السنوسية والدرقاوية لهما دور سياسي خاص يختلف عن الطرق الأخرى، في عهده، فذكر أن للأولى زاوية طكوك الواقعة بهليل، كما لها مراكز وتأثير في نواحي الطوارق والصحراء عموما.

أما الدرقاوية التي سماها (المغربية) فقد قال عنها إنها تحاول توحيد جميع الفروع الشاذلية، وأنها طريقة متقشفة ورافضة لكل مساومة مع الفرنسيين. ولها 25، 000 من الإخوان و 21 زاوية، منها زاوية غلام الله بتيهرت، وهي تعتبر من الزوايا الأكثر حداثة.

وعلق ماسينيون على الطريقة العليوية فقال إنها فرع جديد للدرقاوية والبوزيدية، وكانت منذ 1918 بقيادة الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي. وكانت نشيطة، وهي تقول إن لها أتباعا يمتدون من مليلة إلى تونس ويصلون إلى ثلاثمائة ألف نسمة (؟) وهو رقم مبالغ فيه بدون شك.

وقد كشف ماسينيون على أن هناك تأثيرات صوفية أخرى غير الطرق الصوفية المعروفة، مثل تأثير أبي زيد البسطامي في بختي ناحية زوسفانة، وتأثير أبي القاسم الجنيد في القورارة، والرقود السبعة في قصر البخاري وبسكرة وقجال ونقاوس، ثم ضريح أبي مدين الغوث في تلمسان (1).

وفي هذا السياق كتب بعض المستشرقين الفرنسيين دراسات عن الإسلام والمسلمين في الجزائر وعن الطرق الصوفية، نذكر من بينها دراسة ألفريد بيل عن الفرق الإسلامية، وهو أستاذ شهير كان على رأس مدرسة تلمسان الرسمية المتخصصة في إخراج القضاة والمعلمين والمترجمين، ومثله معاصره ويليام مارسيه، وآخرون، أما إيميل غوتييه فقد فاجأ الجميع

(1) ماسينيون، حولية العالم الاسلامي، 1954، باريس 1955، ص 236، وعن هذه الطرق انظر سابقا.

ص: 304

بكتابه (القرون الغامضة) الذي ألفه في وقت لم تعد فيه السلطات الفرنسية في حاجة إلى الطرق الصوفية وذلك عشية الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال، وقد برر فيه الوجود الفرنسي الذي أضاء، في نظره، الماضي المظلم، ورتب الأمور بعد فوضى واستعاد الحضارة اللاتينية الطريدة منذ دخول الإسلام.

ولعل آخر الدراسات في هذا المجال هو ما نشره إيميل بيرمنغام تحت عنوان (الجزائر الدينية) في كتاب (المدخل) الذي نشرته الحكومة العامة حوالي سنة 1957. وقد استعرض بيرمنغام في بحثه ما بقي من الطرق الصوفية، بنفس المواقف تقريبا، مع شيء من (التحرر) الذي فرضته المعطيات الجديدة في الجزائر والمشرق، وفي الفترة نفسها نشر أيضا الجنرال أندري ANDRE كتابا عن الطرق الصوفية والإسلام، أثبت فيه أن العنصرية العرقية عنده قد انتقلت إلى العنصرية الدينية، وصب فيه جام غضبه العسكري على الإسلام والمسلمين بدل أن يثبت قدرته الدفاعية كجندي في الميدان، فكان كتابه يمثل آخر (التخريفات) الفرنسية عن حياة التصوف عند المسلمين الجزائريين.

وفي هذا المجال سنتناول آراء وتوصيات وملاحظات لويس رين وديبون وكوبولاني لأن السياسة الفرنسية قد استفادت منها فيما يبدو كثيرا، ولأنها دراسات شاملة ومتخصصة، ولكننا سنستفيد من الآراء والملاحظات الأخرى كلما لزم الأمر.

يذهب رين إلى أن التعصب نادر عند المرابطين ما لم يكونوا منضوين تحت طريقة صوفية لأن مصالحهم المادية تحتم عليهم الليونة ومواجهة الواقع بروح عملية. واستشهد على ذلك بأن بعض المرابطين كان يقدم الملجأ للمدنيين الفرنسيين عند حدوث الثورات وتعرضهم للخطر، وحتى في الأوقات العادية كان منهم من قدم خدمات للمدنيين الفرنسيين أثناء عزلتهم أو ضيقهم أو حاجتهم، واستشهد على ذلك بموقف الشيخ عبد الصمد (الأوراس - جبل بو عريف) وهو من شيوخ الرحمانية، وكان عبد الصمد قد

ص: 305

حمى بعض الفرنسيين سنة 1871 معتبرا ذلك موقفا إنسانيا، ورفض عبد الصمد المكافاة والتوسيم الذي عرضه عليه الفرنسيون اعترافا بالجميل، قائلا: إنه لم يقم إلا بواجبه كمسلم، ونفس القول كرره عبد الصمد يوم حضر المحكمة في قسنطينة بصفته شاهدا، فقد شكره القاضي على موقفه فرد عليه بنفس العبارة (1). وأثبت رين أن أمثال هذا المرابط كثيرون، وقد استعمل المرابطون نفوذهم لتهدئة قبائل ثائرة أو نافرة، ولإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وهذا النوع من المرابطين هم من يسميهم رين بالمستقلين، ومنهم مرابط زاوية شلاطة (ابن علي الشريف) التي كانت تمنع طلابها من الانخراط في الطرق الصوفية، وقد فعل الآغا الصحراوي في تيهرت نفس الشيء فازداد نفوذه على إخوانه (2). ولذلك أوصى رين بالنسبة لهؤلاء المرابطين بضرورة مراقبتهم بصفة غير علنية، ولكن معاملتهم بالحسنى لأنهم هم الاحتياطيون الذين يعينون الفرنسيين في حالة حدوث ثورات من الطرق الصوفية.

من الملاحظات الهامة التي أبداها رين، بعد دراسة وإمعان، أن الطرق الصوفية التي تحالفت مع فرنسا فقدت حيويتها وانخفض عدد أتباعها بينما الطرق التي ظلت على عدائها أو حيادها اكتسبت أتباعا وتجددت، ولذلك نصح بعدم اتخاذ أسلوب المواجهة والانتقام ضد الطرق العدوة كهدم الزوايا واعتقال الزعماء ونفيهم لأن ذلك يخدمها ويضر بالمصلحة الفرنسية، وقال إن أكثر الطرق عداء في وقته هي الرحمانية والدرقاوية، وأكثرها ولاء هي الحنصالية والعيساوية والتجانية، وكرر القول بأن الطرق التي استفادت من

(1) يشير رين إلى أن الشيخ عبد الصمد حمى بعض الفرنسيين بعد حريق المعذر القريب من باتنة من طرف الثوار سنة 1871، انظرص 17.

(2)

رين، مرجع سابق، ص 19، قال رين إن ما فعله الصحراوي يعد نادرا في الجزائر، لأن النتيجة هي أن دائرة تيارت (تيهرت) كانت في سنة 1851 تضم 2، 325 من الإخوان التابعين للطرق الصوفية، أما في سنة 1882، فلا يوجد منهم سوى 578 إخوانيا. وهو وضع ليس له مثيل في الجزائر كلها، حسب رأيه.

ص: 306

حماية الفرنسيين واستفادوا هم من خدمتها ظلت بدون تطور، لأن الخدمات التي قدمها رؤساؤها للفرنسيين قد أضرت بهم لدى المخلصين من قومهم. واعتبر رين ضرب الزوايا وأصحابها خطأ ارتكبته الإدارة لأن ذلك أدى إلى تعاطف الناس معها واختفاء الإخوان حتى أصبح الفرنسيون يجهلون موضع اجتماعهم وعددهم وأماكن إقامة المقدمين منهم.

وقد انتقد رين سياسة بلاده غير المحددة من الطرق الصوفية، ذلك أن فرنسا لم تجرأ على الاعتماد على هذه الطرق علنا ولا على القضاء عليها نهائيا، وهكذا بقيت سياستها، كما قال، مترددة بين اضطهاد في منتهى القسوة أحيانا، ومعاملة في منتهى اللين أحيانا أخرى، فلم تنجح فرنسا لا في زيادة سمعة الأصدقاء ولا في القضاء على سمعة الأعداء، واقترح أن تتبع بلاده سياسة الحكمة وبذل النقود لدى هذه الطرق لتستفيد منها وتتصادق معها وتقلم أظفارها، اقتداء بما كان يفعله حكام مصر والمغرب وتونس واسطانبول مع رجال الدين والتصوف في بلدانهم، ويتجسد ذلك في صيغة خاصة، وهي اعتراف فرنسا بشرعية الرؤساء الذين يمكنهم الانضواء تحت حماية فرنسا ومنحهم مقادير مالية وشرفية، وبذلك يبقون خارج النشاط السياسي منشغلين بمصالحهم، ولكنهم في نفس الوقت يبقون متداخلين مع الفرنسيين ومرتبطين بهم، وينتهي بذلك خطرهم وتأثيرهم على الجماهير.

ويرى رين أن الذي يقف وراء الثورات ليس هو التعصب الديني ولكن الطموحات السياسية والشخصية، أما الدين والجهاد فيتخذان فقط غطاء للأهداف السياسية والشخصية، وهو يقيس على ما جرى بالخصوص في ثورة سنة 1871 التي كتب عنها كتابا، ورأى أن الجهاد استعمل عندئذ كوسيلة لتحقيق طموحات المقراني وعزيز الحداد، ذلك أن كلا منهما كان موظفا لدى السلطات الفرنسية، الأول باشاغا والثاني قائد، وكان طموح الأول أن يكون خليفة وأن يعاد له النفوذ السابق الذي فقده، بينما كان طموح عزيز أن يكون باشاغا، فاثر عزيز على والده فاعلن الجهاد كوسيلة لجمع الجماهير وتجنيدها، ورأى رين أيضا أن الثورة، مهما كانت، أقوى من الناس، أي أن

ص: 307

الذين ينضمون إليها ليسوا بالضرورة من إخوان الطريقة الداعية لها، رغم أن قيادة الثورة والإيمان بها يظل منحصرا في الذين قاموا بها أول مرة، كل ذلك قياسا، فيما يبدو، على أحداث ثورة 1871.

وقارن رين أيضا بين موقف علي بن عثمان شيخ زاوية طولقة وموقف عزيز الحداد. ورأى أن الأول صحراوي لا يحب العمل ولا التجارة، وكان يعيش بعيدا عن السياسة ومخالطة الفرنسيين، وحياته قائمة على الدين والتعليم والعزلة، ولم يكن رافضا للفرنسيين، أما عزيز فهو ابن الجبل، وكان موظفا عند الفرنسيين ويعرف لغتهم، ومع ذلك انضم للثورة لتحقيق طموحه الشخصي والسياسي، فالثورة لم تكن لصالح الإسلام، في نظر رين، ولكن من أجل المصالح الفردية المادية، إن الفكرة الدينية هنا كانت وسيلة لتحقيق الفكرة السياسية، وعد رين ثورات العمري 1876، والأوراس 1879، وأولاد سيدي الشيخ 1880 - 1881 على أنها كلها في نظره قد أثبتت أن التعصب الديني ليس إلا عنصرا ثانويا وراية يجتمع حولها الناس (1). ولعل هذه الآراء التي أبداها رين تدخل في موقفه الخاص من الدين، فقد لاحظ عليه البعض أنه كان شخصيا ضد الدين عموما بالمفهوم الأروبي عندئذ، بالإضافة إلى أنه كان ينفي الطابع الوطني للثورات، وكان يلصق بها الأهداف السياسية/ الشخصية فقط، كما رأينا.

ومن أغرب الآراء التي أبداها رين في هذا المجال دعوته إلى إعادة العمل بلقب (شيخ الإسلام) في الجزائر بتقديم شيخ التجانية إلى هذا المنصب (2). إن فرنسا قد قضت على هذا اللقب في الجزائر بعد الاحتلال.

(1) رين، مرجع سابق، ص 108 - 114.

(2)

لا ندري من هو الشيخ الذي كان رين يرشحه لمشيخة الإسلام، فأحمد التجاني كانت تحوم حوله شبهات عديدة، ولم يستطع أن يحصل على البركة من شيوخ زاوية تماسين، وقد توفي الشيخ محمد العيد التماسيني سنة 1875، وخلفه أخوه محمد الصغير الذي كان معاصرا لرين، فهل كان رين يرشح هذا الشيخ لمنصب شيخ الإسلام في عهد فرنسا؟.

ص: 308

وكان موجودا في قسنطينة في عائلة الفكون، وكان رئيس المجلس العلمي في الجزائر خلال العهد العثماني بمثابة شيخ الإسلام رغم أنه لا يحمل هذا اللقب. وقد أحس الفرنسيون بأن إلغاءهم لهذا المنصب ربما كان وراءه عقيدتهم المعادية للبابوية من جهة والخوف من خطورة المنصب على الوضع السياسي في الجزائر، من جهة أخرى وها هو رين في أوائل الثمانينات يريد تدارك ذلك وينصح بلاده باستعادة اللقب خدمة للمصالح الفرنسية في داخل الجزائر وخارجها.

وقد مهد لذلك بقوله إن الطريقة التجانية هي الوحيدة التي لها أصولها في الجزائر ومبادئها وعلاقاتها ومصالحها المادية، وهي أيضا الوحيدة التي بمقتضى دستورها، لا يمكن أن تكون لها روابط دينية مع المشرق أو مع المغرب، فهي، حسب تعبيره، (نوع من الكنيسة الإسلامية الجزائرية)، وقد كان أعضاؤها دائمأ احتياطيين مخلصين للحكومة الفرنسية، ووصولا إلى ذلك اقترح رين جعل حرمة واعتبار خاص لرئيس الطريقة التجانية لكي يكون فوق كل الموظفين الرسميين من خلفاء وأغوات وقياد، وسينظر المسلمون في الجزائر وفي الخارج إلى ذلك نظرة طبيعية، ونتيجة لذلك سيكون الشيخ محل اعتراف من قبل الجميع كشخصية رسمية، أي الرئيس الفعلي للديانة الإسلامية بالجزائر، وعن طريقه ستجني فرنسا فوائد جمة، وذلك بجعل هذا الشيخ في مواجهة ناجحة مع شيوخ الإسلام في اسطانبول ومكة وغيرهما، وقد حذر رين بأن بقاء الفرنسيين على موقفهم سيؤدي إلى إضعاف التجانية في وجه المتعصبين وستنمو في الظل طرق لها علاقات مع الخارج مثل السنوسية والمدنية والطيبية والخلوتية (الرحمانية)(1). وكثيرا ما لاحظ رين وغيره ضرورة تقوية التجانية لتكون حاجزا ضد تسرب الطرق المعادية في الجنوب، على الخصوص.

وتبعا لذلك اقترح رين تعيين الأيمة في البادية (الأرياف) من أتباع

(1) نفس المصدر (رين). ص 450.

ص: 309

الطريقة التجانية، وبذلك يصبح الأتباع موظفين مطمئنين على مستقبلهم، كما يكونون عينا على مقدمي الطرق الأخرى، وسيعملون على إغراء هؤلاء المقدمين بقبول نفس الوظيف المربح فيصبحون غيورين على وظيفهم ومكانتهم الاجتماعية ويتخلون عن مشايعة الثورات، وتنحل عقدة الابتعاد عن الفرنسيين وتجنبهم، وتصبح المصالح هي التي تتحكم في العلاقات، ويقع تذويب شحنة العداء الديني في بوتقة الخدمات العامة، ذلك أن من بين أصحاب الطرق الصوفية من هو مستعد للتعامل مع الفرنسيين وقبول الوظائف منهم، إذا أرضت فرنسا شرفهم ومصلحتهم، وتكسب فرنسا بذلك خدمة كبيرة، ولاحظ رين أن الاندماج الاجتماعي الحقيقي سيكون بالوسيلة التي وصفها وليس بالمراسيم والبنادق والخعطب، وهو في هذا ينتقد أنصار الاندماج عن طريق القوانين (عهد تيرمان) واستعمال القوة العسكرية والخطب البرلمانية والمقالات الصحفية الرنانة، وقال إن الاندماج الحقيقي عنده يكمن في المدرسة والحراثة وسكة الحديد والتجارة ومراعاة المصالح (1). ويهمنا من هذا كله رأيه في توظيف الطرق الصوفية ضد بعضها البعض وجعل بعض أتباعها أيمة ومخبرين (2) وأدوات جذب لأتباع الطرق الأخرى.

ومنذ الثمانينات ظهر في الطرق الصوفية الاستعداد لتقبل الوظائف الإدارية ونحوها، ولم تعد تكتفي بالاستسلام للأمر الواقع، فقد قبل بعض قادتها وظائف الآغا والقايد، ومنهم من حصل على أوسمة رسمية كالآغا الحاج قدور الصحراوي (تيارت). ولكن القائمة قد فتحت وستظل طويلة، لأن إدماج هؤلاء (الشيوخ) في الحياة الإدارية الجالبة للمال، هو جزء من

(1) نفس المصدر، ص 516 - 520، منذ السبعينات من القرن الماضي، سيما عهد تيرمان (1882 - 1891) عمل الفرنسيون على دمج الجزائر عن طريق القرارات الإدارية دون مراعاة الفوارق.

(2)

استعمل الفرنسيون بعض الأيمة مخبرين فعلا، وقد شهد بذلك رجل فرنسي آخر، وهو أوغسطين بيرك، سبق له أن تولى إدارة الشؤون الأهلية مثل لويس رين. انظر لاحقا.

ص: 310

مخطط وضع في الستينات، كما سنرى، ومن أبرز القادة الدينيين الذين قبلوا بالوظائف الإدارية منذ الخمسينات هم أولاد سيدي الشيخ الذين أصبح منهم الخليفة والآغا، ويقول رين إن جميع المرابطين قد فهموا أن الفرنسيين سيصلون إليهم بسهولة سواء لأشخاصهم أو لأملاكهم، ولذلك استسلموا ولم يعودوا مضادين لفرنسا، وحتى الذين بقوا مضادين إنما وقفوا ضد (المسيحيين) فقط، فقد كان المرابطون يدفعون الضرائب، ويتبعون التعليمات الإدارية ويطيعون أوامر الشرطة، وهذا لا يتناقض مع ضمائرهم لأنهم يؤمنون بأن الله هو الذي حكم بإعطاء الجزائر للفرنسيين وجعل المسلمين في قبضة المسيحيين، وقد سبق القول بأن رين يعتبر التعصب الديني نادرا عند المرابطين، وأنه تحدث عن تسامح بعض هؤلاء وإنسانيتهم في حالة الشيخ عبد الصمد سنة 1871 (1).

ولكن رين يعترف أن الطرق الصوفية تظل معرقلة لتقدم الاستعمار، إذ هي تقف ضد (الحضارة) الفرنسية، وتعارض سياسة فرنسا في الجزائر، ورغم أن لها قواعد مكتوبة تقول فيها إنها لا تتدخل في السياسة، فإنه سيكون من الخطأ في نظره الاكتفاء بهذا التصريح وتصديق نواياها في ذلك (2). فالمراقبة والتدجين واستخدامها ضد بعضها البعض، واستعمال سياسة اللين والرشوة بالنقود

هي خير الوسائل لجعل الطرق الصوفية في خدمة المصالح الفرنسية.

ومن بين الوسائل التي سكت عنها رين تشجيع الزواج بين المرابطين والفرنسيات، ونحن لم نطلع على خطة مرسومة في ذلك، ولكن بداية الظاهرة في وقت الحديث عن تدجين الطرق الصوفية يجعلنا نشك في أن هناك مخططا مدروسا، ولم يكن أحمد التجاني هو الوحيد الذي بدأ في تطبيق هذا المخطط بل هناك آخرون. تزوج هو من أوريلي التي بقيت (عين)

(1) نفس المصدر (رين). ص 14 - 17.

(2)

نفس المصدر، ص 75.

ص: 311

الفرنسيين على الطريقة التجانية من تاريخ الزواج سنة 1871 إلى وفاتها سنة 1933، وهذا بشهادة الفرنسيين أنفسهم، ورغم الإعلان عن عقد الزواج بخط المفتي الحنفي بالجزائر، بعد رجوع الزوجين من فرنسا، وإشهار ذلك منعا للشبهات وإسكات الهمسات، فإن الفرنسيين أنفسهم يثبتون أنها بقيت على مسيحيتها (1). وحتى لا تفقد فرنسا عينها على الطريقة التجانية (أجبر) الحاكم العام جول كامبون، البشير التجاني على الزواج من زوجة أخيه (2).

ولكن أوريلي لم تكن شاذة في هذا الباب، فقد تزوج أحد أقطاب أولاد سيدي الشيخ بامرأة فرنسية أيضا، وهي الآنسة فيري Feret. ونعني بذلك حمزة بن بو بكر، آغا جبل عمور، وكذلك تزوج محمد الشرقي العطافي (تلميذ الشيخ الموسوم وعدة بن غلام الله وصاحب زاوية العطاف) من امرأة فرنسية، يسميها البعض بلغة القدماء (جارية علجة رومية). وقد عرفنا أن شيخ الطيبية في المغرب الأقصى، عبد السلام بن الطيب، قد تزوج من امرأة انكليزية ودخلت تحت الحماية الفرنسية، وأن هذه المرأة لم تسلم إلى أن ماتت حسب تعبير ابن بكار، كما أن ابن الشيخ البودالي الهبري تزوج من امرأة فرنسية (3).

وقد تأثر لويس فينيون بكتاب رين، فأخذ منه وأضاف عليه ملاحظات في كتابه عن (فرنسا في شمال أفريقية) الذي أصدره سنة 1887، فقال فينيون إن التعصب لدى الطرق الصوفية كان موجودا من قبل وليس جديدا وكان موجودا عند كل فرد، أما الجديد فهو التنظيم والانضباط والمال الذي لدى الجمعيات السرية (الطرق الصوفية) والحركات المضادة لفرنسا. وإن هذه الجمعيات كان يشرف عليها الشيوخ وينفذ تعاليمها المقدمون، عن طريق

(1) ايميل بيرمنغام، مرجع سابق، ص 256.

(2)

انظر حفلة تأبين الشيخ التجاني سنة 1897، في مجلة أفريقية الفرنسية، وكتاب جول كامبون (حكومة الجزائر). 1918.

(3)

ابن بكار، مرجع سابق، ص 162، وعن زواج الآغا حمزة بن بو بكر انظر هنري قارو، مرجع سابق، ص 174.

ص: 312

الاجازات والدعوات وتوفير المال بالزيارات وتكثير الأتباع، ويستعمل الشيوخ والمقدمون مختلف الوسائل للتأثير على الإخوان، ومنها الكرامات، وللشيوخ زبائن وخدم دينيون ليسوا بالضرورة متدينيين، ولكن المصالح السياسية تجعلهم يخدمون الطريقة، وقد بسطوا الدين حتى أصبح مجرد أذكار وأوراد يرددونها بأصوات وحركات، والفرق بين طريقة وأخرى كان يتمثل فقط في كيفية ترديد الذكر، والخطورة تكمن في الطاعة العمياء من الأتباع للشيوخ وفي المراسلات التي يجريها هؤلاء مع الخارج، سيما استطانبول، عن طريق جريدة (الجوائب؟) وهي تذكر لها الولاء للإمامة، ونبه فينيون إلى أن للطرق الصوفية عملاء يتجولون في كل وقت وتحت عناوين مختلفة لأنهم يؤمنون بوطن لا حدود له، واعتبر ذلك يمثل ما سماه هجمة العالم الإسلامي على العالم المسيحي (؟)، ورغم وجود خلافات بينها وعدم قدرتها على القيام بعمل مشترك، وأن العرب يطالبون بالخلافة من العثمانيين، وأن بعض الطرق لا تعترف بالسلطان العثماني، رغم ذلك كله فإنهم على استعداد للقيام من أجل انتصار ولو كان مؤقتا، لسياسة الجامعة الإسلامية، انتصار يسكت الخلافات ويجمع العرب إلى الترك، تحت راية واحدة، وبذلك يمثلون خطرا كبيرا على كل الأمم المسيحية التي لها رعايا مسلمون، مثل فرنسا (1).

مما يطلبه الفرنسيون من المعلومات عن شيوخ الطرق الصوفية ومقدميهم جملة من البيانات التي تمس حتى العظم والمخ. وهم يبدأون بمعلومات شخصية عن الفرد، مع وصف دقيق لحياته ومؤهلاته وصفاته وأملاكه، بالإضافة إلى صورته، ثم يأتي تأثيره السياسي والمعنوي وعلاقاته سواء بالجزائريين أو بالفرنسيين، ويأتي بعد ذلك الإفصاح عن تأثيره الديني

(1) فينيون، مرجع سابق، ص 207، وقد علق أوغسطين بيرك على هذه المدرسة - رين، فينيون، ديبون، وكوبولاني - بأنهم كانوا متأثرين بحادثة (دريفس) والحملة ضد الماسونية معتبرين الطرق الصوفية كالجمعيات السرية في أروبا. انظر لاحقا. والجدير بالذكر أن فرنسا كانت في ظاهر الأمر، تؤيد القومية العربية والقومية التركية وتعادي الجامعة الإسلامية والسلطة العثمانية.

ص: 313

في الداخل والخارج، أما الزاوية نفسها فلا بد من وصف لها وإثبات صورتها، وتأريخ تأسيسها، وهل تؤدي أيضا وظيفة المدرسة، وهل هي مؤسسة اجتماعية للإحسان وإيواء الفقراء والضيوف، وهل فيها مسجد للصلاة (1). إن اهتمامهم بالشيخ وزاويته وأفكاره دليل على اهتمامهم بدوره في الحياة، وهم من خلال ذلك يوظفون الوسائل له، كاستعماله المال والسياسة، حسب رين، واستعمال نفوذ طريقته ضد طرق أخرى مخيفة لهم، وتحضير الوسائل الأخرى للتدجين كالزواج والوظيف والوسام.

وفي هذا الصدد أوصى ديبون وكوبولاني، بعد دراسة مستفيضة، بثلاث توصيات على فرنسا تنفيذها لتضمن استمرار استعمارها فى الجزائر وحضورها في العالم الإسلامي:

الوصية الأولى: إقامة العلائق مع الطرق الصوفية، والتمييز بينها، كما ذهب إلى ذلك رين، بغرض وضعها تحت الوصاية الفرنسية، وجعل شيوخها ورجالها أيمة ليس لهم رواتب ولا تابعين للدولة في الظاهر، وهذا اقتراح شبيه باقتراح رين، ولكن رين حصر الإمامة في التجانية وبعض الطرق الأخرى الموالية.

الوصية الثانية: ربط علاقات مع جماهير الأهالي التابعين للطرق الصوفية أو الواقعين تحت تأثيرها و (التسرب) إلى مشاعرها عن طريق وضع اليد Main Mise على الزوايا الموجودة وإظهار التسامح معها في كل مكان، وهو اقتراح يشبه اقتراح رين أيضا حين قال إن على فرنسا أن تستعمل المال والسياسة مع الطرق الصوفية. ولكن توصية ديبون وكوبولاني تضيف إلى ذلك إنشاء زوايا مشابهة ومجاورة للزوايا القائمة، بالتدرج، أي زوايا ضرة تكون تحت سلطة فرنسا، وتحديثها، واستعادة العمل بالخصائص التي كانت للزاوية قديما، إلى هذه الزوايا الجديدة، وهذه الخصائص هي الدين والعبادات، والتعليم، والإحسان.

(1) زوزو، (الأطروحة)، مرجع سابق.

ص: 314

الوصية الثالثة: عن طريق الطرق التي لها علاقات خارجية يمكن لفرنسا أن تربط علاقات تجارية وسياسية وحضارية، مع السودان الشرقي والغربي، بواسطة هذه الطرق تعمل فرنسا على تسريب أفكارها الحضارية إلى العالم الاسلامي كله (1). وهذا اقتراح لم يأت ضمن مقترحات وملاحظات رين بشكل صريح.

ولماذا اتباع هذا الأسلوب في التعامل مع الطرق الصوفية؟ لأن مكافحة هذه الطرق واضطهاد قادتها وإخضاعهم بالقوة قد دلت التجارب على فشله، ذلك أن الإسلام واحد، وإن القوة لم تعد هي الوسيلة في القضاء على الطرق بعد أن مر على الاحتلال عشرات السنين، ولا شك أن الطريقة الصوفية ستجد لها مكانا آخر وظروفا أخرى مناسبة لو استعملت فرنسا القوة ضدها، وسيصبح زعماؤها شهداء، وسيزداد (التعصب) عند أتباع الزوايا، فالتسامح إذن هو الحل إلى أن تصل فرنسا إلى مشاعر وقلوب الإخوان، فيتنورون ويستيقظون ويتركون التعصب من تلقاء أنفسهم، وحينئذ تتفتت الطريقة الصوفية وتتلاشى، وبذلك يحصل الهدف الفرنسي البعيد، وقد استعمل الحكام المسلمون سابقا هذا الأسلوب في التعامل، حسب الاستنتاج الفرنسي، فتسامحوا مع المقدمين والأتباع، وأظهروا لهم اللين، ودخل بعض حكام المسلمين في الطرق الصوفية، إلى أنا (تسربوا) إلى قلوب أهلها، ودخلوا إلى قلب هذه (الجمعيات السرية) الغامضة، وقربوا الشيوخ منهم. وهذا يصدق على حكام الجزائر أيضا مثل صالح باي، وبعض السلاطين العثمانيين، وباشا مصر (2)، فلماذا لا تسلك فرنسا نفس السياسة فتحصل على النتائج المرجوة والهدف المنشود، دون عناء كبير، يجب إذن الذهاب أمام

(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة.

(2)

كان سلاطين المغرب أيضا يقربون شيوخ الزوايا والطرق الصوفية إليهم، وكان بعضهم، مثل السلطان سليمان، قد دخل في عدة طرق، ومنها التجانية والدرقاوية والناصرية والطيبية الخ. وما ترحيبه بالشيخ أحمد التجاني، بعد اضطهاد العثمانيين له في الجزائر إلا جزءا من هذه السياسة.

ص: 315

الشيخ أو المرابط المعارض لفرنسا والحديث إليه بصراحة عن المشاريع الفرنسية، بلغة السلم والهدوء والتسامح، فيزول عنه التعصب ويحس أن الفرنسيين يعملون من أجل الصالح العام، وسيتحقق هذا بالاتصال بمختلف شيوخ الطرق، سواء كانت طرقا هامة أو غير هامة، والعمل على جعلها تحت الوصاية الفرنسية كما سبق (1).

وقد امتدح ديبون وكوبولاني سياسة الحاكم العام جول كامبون نحو الطرق الصوفية منذ توليه سنة 1892، وهي السياسة التي قامت على الاحتفاظ بحرمة الشيوخ الذين بقوا بعيدين عن الفرنسيين، وكانوا بالآلاف، لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم أتباعهم أيضا الملجأ الوحيد لخلاص المجتمع المسلم مما حل به، وقد تحددت هذه السياسة في العناصر الآتية:

1 -

إعطاء الشيوخ برنوسا أحمر لا يستطيعون رفضه، وكذلك منحهم الكلمة العليا في الدوار والقبيلة لمحاولة إخراجهم من عزلتهم وربطهم بالحياة المادية الصعبة، وهذه السياسة كان قد اتبعها بوجو منذ 1844 حين عاملهم معاملة الحرمة الدينية الواجبة لهم، مع إظهار التسامح نحوهم، كما رأى كامبون دعوتهم لتولي السلطة تحت المظلة الفرنسية، ولكن بهدف جعلهم أصدقاء لفرنسا.

2 -

احترام إرادة الشيخ والإخوان حين يختارون مقدمهم وعدم التدخل في شؤونهم، فإذا عين الشيخ مقدميه أو انتخبهم إخوانهم فما على فرنسا إلا الموافقة لأن تدخلها بالرفض ونحوه يسبب التوتر والعداء لها، كما تسهر فرنسا على تعيين الشيوخ والخلفاء في الطرق التي يتوارث أصحابها البركة.

3 -

الموافقة على الإجازات الصادرة من الشيوخ للمقدمين والاعتراف بها، لأن ذلك يزيد في حرمتهم وثقتهم في فرنسا، وبذلك تصبح هناك هيئة دينية منتظمة واقعة تحت يد فرنسا، وجعل الشيوخ

(1) كرر ديبون وكوبولاني الوصايا السابقة بشيء من التوسع، ص 280 - 282، وأبرزا أفكارهما الرئيسية بحروف بارزة لفتا للأنظار وتذكيرا بالأهمية.

ص: 316

الرئيسيين ممثلين للحكومة بعنوان روحي - دنيوي، أو على الأقل يكونون مفتين كبارا، وبذلك يتحرر أتباعهم ومقدموهم ويصبحون مستقلين في زواياهم الثانوية.

4 -

إخراج الإخوان من ربقة التبعية الصوفية وذلك بإرضاء الحاجات الدينية لهم، لأن الوقوف موقف اللامبالاة من جانب السلطة الفرنسية يجعل هؤلاء الإخوان واقعين تحت نفوذ البركة الصوفية، ولكن هذا الاقتراح غير كامل لأنه لم ينص على الوسائل ولا الكيفية التي سترضي بها فرنسا الحاجات الدينية للإخوان.

5 -

وفي انتظار تحقيق تلك الخطوات اعتمد المشروع أيضا على إحلال خريجي المدارس الثلاث الحكومية الرسمية محل المقدمين - الآيمة بالتدرج، والخريجون ما هم إلا شباب رضعوا من لبان الثقافة الفرنسية، وتشبعوا بأفكارها، وبذلك تؤتى الجهود الفرنسية أكلها (1).

6 -

إنشاء زوايا موازية وعصرية إلى جانب الزوايا القديمة، فقد كان بالجزائر في آخر القرن الماضي حوالي 400 زاوية معظمها بني حديثا، ومنها حوالي مائة فقط كانت من الطراز القديم، ولكنها أصبحت بتقادم الزمن عبارة عن سكنى خاصة بالمرابطين، وهي ملك متوارث للعائلة الواحدة، وبهذه الصفة لا يمكن دخولها ولا معرفة ما فيها، فبناء زاوية أخرى إلى جانبها تكون مصلى ومدرسة وملجأ، كما كان حال الزوايا في القديم (2)، قد يكون هو الفكرة الصائبة للتسرب (3)، إلى مشاعر الناس وتحقيق الهدف من السيطرة الفرنسية، فالزاوية الجديدة ستكون تحت نظر الفرنسيين، ومن خلالها يمكنهم مراقبة الزاوية القديمة المجاورة، وحث صاحبا الاقتراح على وضع

(1) نفس المصدر، ص 283.

(2)

هذا النوع كان قديما يسمى رباطا وليس زاوية.

(3)

كلمة (التسرب) أو التغلغل ترجمة للكلمة الفرنسية Penetration، وهي مثل كلمة الاندماج، لها مدلول اسعتماري خاص لا يحس به إلا الذي عرف ودرس الظاهرة الاستعمارية ومصطلحاتها، مثل المهمة الحضارية، والتعصب، والتسامح، الخ.

ص: 317

نموذج معماري جذاب لهذه (الزاوية الفرنسية) والإكثار منه لدى الحاجة، لأنه بدون شك سيكون نموذجا جذابا إذا وضع إلى جانب الزوايا القديمة التي ما هي إلا أكواخ بالية أو خيام، وستكون الزاوية الجديدة عصرية كما قلنا وذات طابع عمومي، وتقوم بالمهمة الثلاثية التي كانت تقوم بها الزاوية قبل الاحتلال، وهي الدين والتعليم والإحسان.

هذا هو برنامج ديبون وكوبولاني للسيطرة على الزوايا والطرق الصوفية في آخر القرن الماضي، ولإنجاحه اقترحا أيضا إضافات تبدو هامة كإعادة العمل بنظام الأحباس (الأوقاف)، وهو النظام الذي توقف منذ استولت السلطات الفرنسية على الأملاك الإسلامية في ديسمبر 1830، وتضمن الاقتراح الجديد حصول فرنسا على العشر من الأحباس إذا ما أعيد إنشاؤها، ويكون ذلك وسيلة لفرنسا لتتدخل في شؤون الزوايا والطرق الصوفية، عن طريق طلب المحاسبة المالية على الملايين التي يتلقاها الشيوخ والتي قدرها صاحبا الاقتراح بثمانية ملايين، ويسمح بإشراف فرنسا أيضا على الأموال المرسلة إلى الخارج للزوايا الأم، كما تظهر فرنسا في نظر الجزائريين بالوجه الكريم العادل فيتسرب كرمها وعدلها إلى مشاعر المسلمين، ومن جهة أخرى يكون الشيوخ مجبورين على إطعام الفقراء والزائرين.

ويتطلب إنجاز هذا البرنامج أيضا تكوين فرقة من (الأطباء الاستعماريين) - هكذا اسمهم في الأصل -، أو الضباط - الأطباء المخصصين للأهالي، مع إمكانية تكوين أطباء من الأهالي أنفسهم لهذا الغرض، وهو المعالجة داخل الزاوية التقليدية، ويزاد إلى الزاوية واجب رابع وهو العلاج - بعد الدين والعلم والإحسان -، ويكون في إمكان الفرد من الأهالي أن يأتي إلى الزاوية للعلاج عند الأطباء الاستعماريين، ولا يكون التعليم في الزاوية تقليديا بل ستدخله اللغة الفرنسية على يد المعلم الفرنسي الذي يعلم لغته في الزاوية الفرنسية - الإسلامية، بينما (الطالب)(1) يعلم القرآن للأولاد.

(1) كلمة (طالب) تستخدم هنا بالمعنى التقليدي أي المؤدب، أو معلم القرآن الكريم.

ص: 318

ويصبح هذا النمط الجديد من الزوايا أيضا مقرا لإجراء العدل الفرنسي حيث يجلس القضاة لإجراء الأحكام ويحببون فرنسا للناس، تماما كما يحبب الإمام الله للمصلين (؟). وما دامت الزاوية فرنسية فإن قوانينها أيضا ستكون فرنسية، وبذلك ستتحول هذه القوانين إلى قوانين إسلامية أيضا برائحة الزاوية وبركة الشيوخ (1).

في نهاية القرن الماضي كانت الطرق الصوفية تخيف الفرنسيين باعتبارها القوة الوحيدة الباقية للمسلمين الجزائريين. فقد فشلت جميع الثورات وعرائض أهل المدن وشردت النخبة القديمة، فاستسلم الأهالي إلى قوة المرابطين ورجال الطرق الصوفية، وكان الفرنسيون يحسبون أن تحت كل عمامة قنبلة وأن في حبات كل سبحة عدد الرصاص الذي تملكه الطريقة، وأن الإخوان جنود مجندة وراء الشيوخ ينتظرون الإشارة لإلقاء الفرنسيين في البحر، فأعد هؤلاء العدة وتنادوا يحذرون بعضهم البعض من الخطر الداهم الرابض من حولهم، والذي يمكنه أن يأتي بالنجدات من خارج الحدود أيضا، لذلك تكفل لويس تيرمان (الحاكم العام) بدراسة رين، وتكفل كامبون (الحاكم العام) بدراسة ديبون وكوبولاني، وكلتاهما اقترحت العلاج، بعد أن وصفت المرض أو خطة العمل، كما رأينا.

لقد تعامل الفرنسيون مع الظاهرة الدينية في الجزائر منذ الاحتلال، وتعاملوا مع الطرق الصوفية والمرابطين بالخصوص، فكان لهم ما شاهدوا من القادرية والدرقاوية والتجانية والشيخية والسنوسية خلال سبعين سنة قبل نهاية القرن الماضي، فرأوا القادرية التي بدأت محاربة قد انتهت مسالمة في الجنوب، وفي منعة بالأوراس، ورأوا الرحمانية التي شنت الثورات المتوالية قد انتهت إلى فروع متفرقة مجتهدة، لكل منها مذهبه، مثل مذهب عبد الصمد الذي أصبح إنسانيا سنة 1871 في جبل بو عريف، ومثل مذهب علي بن عثمان الذي التزم الصمت في نفس السنة، وكذلك فعل محمد بن

(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 286.

ص: 319

بلقاسم، صاحب زاوية الهامل (1). وكانت السنوسية في فرع زاوية طكوك قد وقفت موقفا شبيها بذلك، رغم أن شيخها لم يسلم من الاضطهاد والسجن والإبعاد، والتجانية أعلنت الولاء منذ حوالي 1840، ولكن الفرنسيين ظلوا يتوجسون منها خيفة، مع ذلك، لأن أتباعها مسلمون على كل حال، ويمكن للطرق الأخرى أن تجرهم إليها في حالة الخطر، ولم تطمئن فرنسا لأولاد سيدي الشيخ رغم ولائهم الظاهري: فقد كانوا من جهة خلفاء وحكاما باسمها ومن جهة أخرى ثوارا عليها، وتاريخهم معها سلسلة من المصادمات والتقارب والتباعد إلى نهاية القرن، ولكن الفرنسيين كانوا يملكون سلاحا ماضيا وهو (سلاح فرق تسد) الذي استعملوه في الطريقة الواحدة والعائلة الواحدة، ثم بين مختلف الطرق والعائلات، ولم يكن لشيوخ هذه الطرق من الوعي السياسي والإمكانات المادية.

ومنذ وصل كامبون إلى الحكومة العامة في الجزائر سلك سياسة التقارب مع الطرق الصوفية، لأسباب مختلفة، منها حاجة فرنسا إلى دعمها في الصحراء، وحاجتها إليها في الوقوف ضد سياسة الجامعة الإسلامية/ العثمانية، والسيطرة بها على عامة الجزائريين، وكسر شوكة العداء الذي تكنه الطرق الصوفية للتسلط الفرنسي/ المسيحي، وكان من نتيجة هذه السياسة الكامبونية الاتصال بشيوخ كانوا منسيين أو مهملين وإعطاؤهم الاعتبار والحرمة، وقد دعا كامبون رئيس الطريقة الطيبية لزيارة الجزائر وسهل مهمته في الاتصال لإخوانه، كما تفاهم كامبون مع زعماء أولاد سيدي الشيخ المتمردين مثل قدور بن حمزة الذي جاء لملاقاة كامبون في المنيعة، وأعاد إليه الاعتبار على أساس العمل لصالح السياسة الفرنسية في المنطقة، وكذلك رجع الشيخ المسن، وهو الأعلى بن بو بكر، إلى جيرفيل (2). كما جرت

(1) أوصى نفس المصدر (ديبون وكوبولاني) ص 289، بأنه يمكن لفرنسا أن تستخدم زاوية طكوك بالجزائر لربط علاقات مع الشيخ المهدي السنوسي.

(2)

توفي قدور بن حمزة 10/ 2/ 1897. أما الأعلى بن بوبكر فهو الذي كان وراء ثورة أولاد سيدي الشيخ منذ 1864.

ص: 320

محاولات غير ناجحة لإعطاء الأمان لبو عمامة، وافتخر كامبون بأنه قد أنجز مشروعا كبيرا لفرنسا في الصحراء بهذه السياسة (1). وكيف لا، وقد مهد له الطريق زعماء الطيبية والشيخية والتجانية وبعض فروع القادرية - كلهم تجندوا لهذا الغرض - وأصبحت الطرق الصوفية المخيفة أدوات طيعة في خدمة الإدارة الفرنسية، وقد تحدثنا عن (الميعادات) التي كانت تتوالى من بلاد الطوارق إلى الجزائر عن طريق الزاوية التجانية بقمار، منذ 1892، وتحدثنا عن المقدمين المرافقين للمستكشفين الفرنسيين منذ دو فيرييه، بل منذ بعثة إسماعيل بو ضربة سنة 1858 إلى غات، والرسائل الإخوانية التي تعتبر الجاسوس الفرنسي أخا (خونيا) في الطريقة الصوفية، كما أشرنا إلى الظلال التي سلطت على مغامرة اليزابيت ايبرهارت أول هذا القرن، في نواحي وادي سوف وبو سعادة والعين الصفراء ومحاولة تورطها في التنافس بين التجانية والقادرية.

وآخر صيحة أرسلها ديبون وكوبولاني، بعد إبداء رأيهما المتناقض في عدد من المرات، هي وضع برنامج لمواجهة هذه الجمعيات السرية كثيرة الأتباع، وكثيرة العلاقات، إنه برنامج يجب أن تأخذ به فرنسا زمام الموقف من القوة الوحيدة التي بقيت لدى الأهالي، وهي الطرق الصوفية، إنه برنامج يحولها عن وجهتها العدائة وتسخيرها لخدمة المصالح الفرنسية، وهذه العلاقة ستكون مؤقتة فقط، ففي اليوم الذي يمكن لفرنسا أن تعارضها فيه بقوة أخرى، ستتخلى عنها، وهذه القوة (الثالثة) ستكون أكثر تنورا وأكثر تمدنا، وقد تكون هي النخبة الناشئة، وقد تكون طريقة صوفية عصرية، وقد تكون هي جمعية العلماء التالية، وعندئذ فقط تستغني فرنسا عن دور الطرق الصوفية وتواصل تفتيتها حتى تتلاشى (2).

وعند هذه النقطة بدأ الاسكندر جولي بحوثه مع زملائه، فبعد حوالي

(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 265 - 267، وكذلك جول كامبون (حكومة الجزائر) الجزائر، 1918، وآجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 513، وكلنسي - سميث (ثائر وقديس)، 1994.

(2)

ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة.

ص: 321

عشر سنوات من دراسة ديبون وكوبولاني رأي جولي أن الطرق الصوفية قد أدت مهمتها وأنها مدعوة إلى الاختفاء وترك مكانها لبديل آخر، إنها في نظره حققت الكثير للمجتمع فحافظت على وحدته وتدينه، وقدمت خدمات اجتماعية وتعليمية، ولكنها لم تعد (حوالي سنة 1910) تساير الركب، إن العقليات قد تغيرت والمجتمع أخد يعيش تطورات جديدة لا عهد له بها، ولم يعد للطرق الصوفية قوة المقاومة والصلابة التي تمتعت بها منذ عشرات السنين، ولا خوف على السلطة الفرنسية بعد اليوم من خطرها لأن الطرق لم تعد قادرة على الثورة الجماعية القوية، فإذا كان في استطاعتها أن تتوحد لمواجهة الخطر الفرنسي في وقت ما فإنها سرعان ما تشتت وتبعثرت جهودها بعده الهزيمة، وقد حل التنافس بينها محل التفاهم والتوحيد، وتغلبت المصالح المادية عند الرؤساء على مصالح الطريقة، ولم يعد للروحيات عندها إلا أثر ثانوي، ويضيف جولي أن هذه الآلية (الطرق الصوفية) قد أدت مهمتها، وهناك آليات جديدة أكثر مضاء واتقانا لخدمة المجتمع من هذه الآلية القديمة، وقد ضغطت الإدارة على الناس فأصبحوا مرتبطين بالمصالح الخاصة، وهي عندهم المحرك الوحيد أمام مداهمة الخطر، وإذا لم تغير الطرق الصوفية جلدها، كان تصبح دنيوية Secular، فإنها تختفي تلقائيا لأن قانون الطبيعة يفرض أن كل عضو اعتراه الهرم والشيخوخة عليه أن يموت ويترك مكانه لعضو شاب يتمتع بالحيوية والقوة (1).

ويكاد أوغسطين بيرك يسير على نفس المنوال عند حديثه عن دور الدين والطرق الصوفية في المجتمع الجزائري، فقد لاحظ أن الفكر الديني عموما في الجزائر قد خضع لظاهرة دورية، ففي كل مرة تظهر حركة تطهيرية تتولد عن الحركة الأولى التي يعتريها الهرم، وهو في هذا المجال كأنه يقلد رأي ابن خلدون بالرغم من أنه انتقده بشدة وانتقد حتى من يؤمن بنظريته في دورة

(1) جولي، مرجع سابق، ص 370 - 371، وللتذكير نقول إنه كتب هذا الرأي سنة 1908 بعد دراسته المستفيضة عن الشاذلية.

ص: 322

الحياة (1). وقد ذهب بيرك إلى أبعد من ذلك فقال إن المذهب المالكي قد جمد وحجر العقل في المغرب العربي، وغامر مع غيره (2) الذين يقولون إن فرنسا قد ساعدت على نشر الإسلام (الإسلام الجزائري، كما يقولون) بين الجزائريين وتبنت المذهب المالكي باتباعها فقه مختصر الشيخ خليل واختيار القضاة طبقا لهذا المذهب، أما عن المرابطين فقد قال بيرك إنهم هم الذين تولوا الدفاع عن المجتمع الجزائري بعد 1880 وقاموا بحركة التطهير والتجديد عندما أعلنوا الحرب على المسجد الرسمي، أي على علماء الدين الموظفين من قبل فرنسا للإمامة والتدريس والإفتاء ونحو ذلك، كما طلبوا الإعانة من الشرق متجاوزين الحدود التي أقامتها فرنسا، ورأى بيرك أن (الإسلام الجزائري) أي الدين كما مارسته الطرق الصوفية والمرابطون، لم يرتفع إلى السماء ولم يكن دعوة مجردة، بل هو الإسلام الذي يقترب من الناس ويوفر المعبود المحسوس (؟). وهكذا يصبح المرابط في الأرياف هو هذا المعبود المحسوس عند الناس، فهو المذهب والعقيدة، وهو الكرامة والبركة، ولذلك يأتيه الناس بالزيارات والصدقات ويطلبون منه النجدة والولادة والعلاج والغفران.

وقد طور بيرك هذه الأفكار حول التصوف في الجزائر فقال إنه لا توجد طريقة صوفية هنا بالمعنى الأسيوي - المشرقي، إن الموجود في الجزائر هو تجمع حول ولي واحد، ذلك أن المرابط هنا يبتلع الطريقة الشرقية ويصفيها من زخمها ويغلقها ويعدلها، ويجعلها طريقة محلية، فالطرق الصوفية في الجزائر ذات طابع منغلق ومستتر وليست طرقا مفتوحة ومستقطبة، ولاحظ أن الجغرافية تلعب دورا في هذا المجال، فالرحمانية في زواوة تتميز عن الرحمانية في الجنوب، والتجانية في عين ماضي غيرها في تماسين وقمار، وهناك ظاهرة أخرى وهي الهجرة السنوية من الجنوب إلى الشمال، إلى التل والهضاب العليا، حيث تذهب أعراش وقبائل، كالأرباع وأولاد نائل وأولاد

(1) قال بيرك إن ابن خلدون قرأ أرسطو وأفسد نظرياته وأنه لم يأت بجديد.

(2)

من هؤلاء المستشرق ماسكري.

ص: 323

زكرى وأولاد سيدي الشيخ وسعيد عتبة.

وقد لخص بيرك دورة الطرق الصوفية في الجزائر في ثلاث مراحل: مرحلة 1830 - 1900، وخلالها كانت الطرق ورؤساؤها معارضين للاحتلال بأساليب مكشوفة أحيانا ومقنعة أحيانا أخرى، والمرحلة الثانية بين 1900 - 1920 (1). وخلالها تبنت فرنسا سياسة جديدة نحو الطرق الصوفية ورجال الدين واعتمدت عليهم بطريقة مكشوفة، فاعلنوا خضوعهم وتحالفوا معها وساهموا في التهدئة العامة خلال الحرب الكبرى (1914 - 1918). أما المرحلة الثالثة التي تبتدئ من سنة 1920 فقد اضطرب فيها رأي بيرك، فقال مرة إن هذه الطرق قد أظهرت علامات الخروج عن الخط في بعض المناطق، ثم أصبحت الظاهرة أكثر شمولية سنة 1930، وفي مكان آخر ذكر أن الحركة الاصلاحية قد حلت محل الطرق الصوفية في الدور الذي سماه عملية التطهير الدوربة في المجتمع.

ومهما كان الأمر فإن بيرك يجعل قانون الأرض لسنة 1863 حجر الزاوية في التطور الاجتماعي، فقد انتهى، في نظره، عهد الأجواد وفتح عهد المرابطين ورجال الزوايا، أو بالأحرى فإن القانون قضى على الارستقراطية السيفية ونشط الارستقراطية الدينية - الثيوقراطية، ويستعمل بيرك أحيانا عبارة انتصار رجل الدين منذ 1900، أو انتصار الزاوية على البرج الاقطاعي، الأول رمز للطرق الصوفية والمرابطين والثاني رمز للتحصن والحكم والسلطة، فقد أصبح الناس يطيعون الزاوية بدل طاعة البرج الاقطاعي (أي القياد والخلفاء والباشغوات).

ونختم الحديث عن رأي بيرك في موضوع الطرق الصوفية بملاحظتين، الأولى أنه يذهب إلى أن شخصية المرابط في الجزائر أقوى من العقيدة أو الفكرة الصوفية نفسها عند الناس، فالناس لا يهمهم الجديد الذي يأتي به

(1) عن هذه المرحلة انظر دعوة رجال الدين والمرابطين إلى تأييد فرنسا خلال الحرب الأولى في (مجلة العالم الإسلامي). عدد ديسمبر 1914.

ص: 324