الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرفنا أنه دافع عن اللغة العربية.
ومهما كان الأمر فإن ابن عليوة قد أصيب بنوبة قلبية سنة 1932، وعالجه الطبيب كاريه، واسترجع صحته بعدها، فقد كان نحيف الجسم، ضعيف النبض، فكان طيلة عامين يكبو وينهض إلى أن توقف قلبه سنة 1934 (1). ومن هذا العرض نتبين أن تطور الشاذلية/ الدرقاوية قد مر بمراحل، وخضع لظروف عديدة، فبعض الفروع اتبعت الحياد في المسائل السياسية والثورات، وسلكت طريق التصوف والعبادات، وبعضها سلك طريق الثورة والجهاد على أعداء الإسلام والمسلمين حيث ثقفوهم، في الجزائر أو في غيرها، مخالفين في اجتهادهم نصائح شيوخهم وكبارهم، وبعضهم أصبح غطاء ليد الإدارة الفرنسية تضرب به الثورات أو الحركة الوطنية في مختلف مظاهرها، بل كانت أداة للتسرب إلى عمق الإسلام وضرب وحدته وعقيدته، كما تفعل اليوم بعض الدول، ولكن هذه الظاهرة ليست خاصة بالشاذلية/ الدرقاوية، بل موجودة في مختلف الطرق الصوفية، وها نحن نعود إلى هذه الطرق في أشكالها العامة، ونبدأ بالرحمانية.
الطريقة الرحمانية
تحدثنا في الجزء الأول من التاريخ الثقافي عن حياة مؤسس هذه الطريقة، محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجرجري، وعن خليفته علي بن عيسى المغربي، كما تحدثنا في الجزء الأول من الحركة الوطنية عن النشاط السياسي والعسكري للطريقة الرحمانية في عهد الأمير عبد القادر وفي العهد الذي يمتد إلى سنة 1857، عام استيلاء الفرنسيين على زواوة وتخريب
(1) نقل لانغز صفحات كاملة من كاريه عن ابن عليوة (ص 9 - 34). ويبدو أن كاريه M، CARRET كان معينا له من قبل إدارة الشؤون الأهلية والمخابرات الفرنسية إلى أن أصبح محل ثقته ومن خواصه، وكان المصلحون قد اتهموا أتباع الشيخ ابن عليوة بمحاولة اغتيال الشيخ ابن باديس سنة 1927 في قسنطينة، وقد قبض على الجاني، وقيل إنه اعترف بذنبه،
زواوة وتخريب الزاوية الأم بآيت إسماعيل على يد الجيش الفرنسي وأسر السيدة فاطمة وهجرة الحاج عمر بعد ذلك، ولا نريد الرجوع إلى هذه الأحداث، خصوصا السياسية والعسكرية هنا، وعلينا الآن أن ندرس كيف تفرعت الزاوية الرحمانية وكيف تصرف مقدموها خلال العهد الفرنسي.
أما حياة الشيخ محمد بن عبد الرحمن فلا نعود إلى تناولها إلا من بعض النقاط التي كنا أهملناها فيما مضى، وهي: رجوعه من السودان مع زوجه وخادمه، وتحبيذه نشر العلم والتربية الدينية والصوفية على طريقة علماء السلف، وخلافا لبعض شيوخ التصوف الآخرين الذين أهملوا التعليم في زواياهم واهتموا بالممارسات الصوفية المبتدعة، وخوف سلطة الجزائر السياسية من نشاطه واتهامه بالزندقة من بعض الفقهاء، وانعقاد مجلس علمي لمناظرته، وإبطال التهمة ضده، وكان المجلس برئاسة مفتي المالكية في الوقت، علي بن عبد القادر بن الأمين، الذي تولى الفتوى مرات عديدة، ودرس أيضا في الأزهر، مثل الشيخ ابن عبد الرحمن نفسه، وهناك نقطة أخرى وهي خلافته سنة 1793 (1208). فقد أوصى ابن عبد الرحمن بها للشيخ علي بن عيسى المغربي، وقد طال عهد ابن عيسى وانتشرت تعاليم الزاوية في عهده، وكانت موحدة، فقد بقي حوالي 43 سنة على رأس الزاوية، وعاصر الاحتلال الفرنسي، إذ توفي سنة 1836، ولكن منطقة الزاوية الأم لم تحتل إلا سنة 1857، غير أن الرحمانيين كانوا منتشرين في وسط وشرق البلاد، وكان الشيخ ابن عيسى متزوجا، حسب بعض المصادر، من السيدة خديجة التي اشتهرت بالناحية شهرة كبيرة، وهي التي تذهب الأخبار إلى أنها أم للسيدة فاطمة، وأنها تولت شؤون الزاوية بعد وفاة زوجها بعض الوقت، كما سميت عليها قمة جبال جرجرة، وهذه الأمور كلها في حاجة إلى تحقيق وتدقيق، ولكننا نذكرها لأن بعض المصادر الفرنسية تذهب إلى ذلك، ومنها ما يذهب أيضا إلى أن السيدة فاطمة كانت زوجة للحاج عمر، رغم أن قصة زواج هذه السيدة معروفة، وهي أنها كانت في عصمة شخص آخر لم يرض بحل عقدتها لتتزوج غيره، ولكن كل هذه الاخبار تدل على أن
شخصيات الطريقة الرحمانية كانت متقاربة وعائلية في منطقة جرجرة بالذات، وقد عين الشيخ ابن عبد الرحمن مقدمين آخرين أثناء حياته، ومنهم محمد بن عبد الرحمن باش تارزي في قسنطينة الذي أصبح نائبا عنه في منطقة الشرق والجنوب وحتى في تونس، وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب أن الشيخ قد أعطى الإجازة لعدد آخر من المقدمين، ومنهم بلقاسم بن محمد المعاتقي، والعابد بن الأعلى الشرشالي، وقبل أن نذكر الفروع التي تولدت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر عن انتشار الرحمانية نذكر علاقة هذه الطريقة بالقادرية.
تحالفت الطريقتان على الجهاد ضد الاحتلال منذ 1830، ورغم أننا قلنا إن الأمير عبد القادر كان يعتبر رجل دولة وليس شيخ طريقة، ورمزا وطنيا وليس درويشا صوفيا، فإن ظروف الخريطة الدينية للجزائر عندئذ جعلت المعاصرين ينظرون إلى زعامته على أنها زعامة للطريقة التي كان والده شيخا لها، وكان الأمير قد قدم رجال الدين في الوظائف الإدارية والحربية على رجال المخزن، وهكذا لجأ إلى تجنيد رجال العلم الذين كان كثير منهم قد تخرجوا من الزوايا مثله، وقد رأينا أنه عين أيضا من الطريقة الدرقاوية، وها نحن نجده يعين أشخاصا من الرحمانية، ومن أبرز رجالها الذين خدموا دولته بإخلاص أحمد الطيب بن سالم، ولا ندري الآن ما إذا كان أحمد الطيب من مقدمي الرحمانية أو كان فقط من أخوانها، كما لا ندري صلة الحاج سيدي السعدي بالطريقة الرحمانية، ولكن عددا من المؤشرات تشير إلى أنه كان منها أيضا، وقد حارب في متيجة إلى جانب ابن زعموم إلى حوالي 1837 (1).
إلى جانب هؤلاء نجد الحاج سيدي السعدي، وقد حدثنا عنه أدريان بيربروجر حين رآه في يناير 1838، وكان ذلك أثناء الصلح بين الطرفين، ووصف بيربروجر الحاج السعدي بأنه المرابط الشهير لمنطقة سباو، ونحن
(1) عن هذه الظروف انظر الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية،
نعلم أنه كان هو الخليفة هناك قبل تولية أحمد الطيب بن سالم، ويفهم من كلام بيربروجر أن الأمير عبد القادر قد عين الحاج السعدي على منطقة تقع شرقي الجزائر مما يجعله على قدم المساواة مع البايات، وكان الحاج السعدي مجروحا في ركبته فتقدم من الطبيب بوديشون، عضو الوفد، لعلاجه فوضع له ضمادة، وقد حدثهم على مشروعه من أجل السلم بين العرب والفرنسيين، ويتلخص في أن يتخلى الفرنسيون عن القصبة وأن يرفع هو العلم الأحمر عليها (العلم العثماني؟). وحكم بيربروجر على مشروع الحاج السعدي بانه يثير السخرية، وأخبرنا أن قبة جد الحاج السعدي كانت ما تزال قائمة قرب ضريح الشيخ الثعالبي وهي ترى من بعيد، حسب قوله (1).
ورغم أن بيربروجر لا تهمه الطريقة التي كان عليها الشيخ السعدي، فإننا نرجح أنه كان رحمانيا.
وبين الخليفة علي بن عيسى والشيخ محمد أمزيان الحداد، زعيم ثورة 1871 عدد من الشيوخ نذكرهم باختصار هنا لنعرف كيف تطورت الطريقة الرحمانية، ونسارع إلى القول بانه رغم الضعف الذي أصابها أحيانا، فإن الطريقة انتشرت بسرعة، وهو ما اعتبره (رين) أمرا عجيبا (2). تولى بلقاسم بن الحافظ وهو من شيوخ المعاتقة (3). بعد علي بن عيسى، ولكن الزاوية افتقرت خلال فترة إلى قيادة حكيمة وقادرة نظرا لتطور الأحداث بالبلاد ولكثرة الأتباع، ولعل ذلك قد ساعد على استقلال الفروع التي سنذكرها، إذ
(1) أدريان بيربروجر (رحلة إلى معسكر عبد القادر في برج حمزة وجبال ونوغة). ديسمبر 1837 - يناير 1838، فصلة من (مجلة العالمين) 15 R، des Deux Mondes غشت، 1838، وقد طبع بيربروجر رحلته منفصلة وأضاف إليها ملاحق، طولون، 1839، ص 45، ثم قمنا بترجمتها إلى العربية مع تعاليق وأرسلنا بها للنشر.
(2)
رين، مرجع سابق، ص 452.
(3)
لا ندري إن كان هو نفسه بلقاسم بن محمد المعاتقي الذي أجازه الشيخ محمد بن عبد الرحمن وجعله أحد مقدميه، ونحن نرجح ذلك، ويقول (رين) إن الشيخ بلقاسم قد توفي مسموما، دون توضيح السبب، ص 457،
أن الزاوية الأم لم تعد قادرة على المحافظة على تماسك أجزائها، ثم تولى مغربي آخر يدعى الحاج البشير، شؤون الزاوية، وأصبح وارثا لبركة الشيخ، ولا ندري من قدمه لهذه الوظيفة الكبيرة، غير أن العادة جرت أن يجتمع المقدمون وينتخبون واحدا من بينهم، وتذكر المصادر الفرنسية أن انتخاب الحاج البشير لم يكن محل إجماع مما أدى إلى تدخل الأمير عبد القادر لتقريب وجهات النظر وتغليب كفة الحاج البشير بطلب من السيدة خديجة أرملة علي بن عيسى، وفي إحدى المرات اضطر الحاج البشير إلى مغادرة الزاوية والتوجه إلى الأمير، فتولت السيدة خديجة مكانه نيابة عنه، مع بناتها، وعاد الأمير إلى التدخل فرجع الحاج البشير إلى الزاوية بعد الاتفاق على مشيخته، واستمر في مهمته إلى وفاته سنة 1257 (1841). وقد دفن بجامع تالة أو غانمي بالشرفة، وإلى هذا التاريخ كانت زواوة ما تزال محررة من السيطرة الفرنسية، ولكن التنافس السياسي للقادة الزمنيين والمصالح الاقتصادية المرتبطة بأسواق المدن الواقعة في قبضة الإدارة الاستعمارية، أثرا على استقرار ونشاط الزاوية الرحمانية.
بعد الحاج البشير تولى شؤون الزاوية الشيخ محمد بن بلقاسم نايت عنان مدة سنة واحدة، ولم يكن هذا الشيخ يتمتع بسمعة ولا قدرة على القيادة، ففقد الصلة بزوايا الجنوب الرحمانية، ولذلك لم يطل عهده، وتولى بعده الحاج عمر حوالي سنة 1259 (1844). وتدعي بعض المصادر الفرنسية أنه كان زوجا للسيدة فاطمة (1). ومهما كان الأمر، فإنه لعب دورا في مقاومة زواوة سنة 1857، وقد هدمت الزاوية في عهده على يد الجنرال (ديفو). واضطر الحاج عمر إلى الهجرة إلى تونس ثم إلى الحجاز
(1) نستبعد ذلك، وقد ذكره رين، ص 458، للسبب الذي ذكرناه سابقا، ولأن الحاج عمر هاجر بزوجته، بينما للاله (السيدة) فاطمة كانت معتلقة في نواحي تابلاط وماتت في سجنها، انظر لاحقا، وقد كنت صورت ملفا كاملا عن حياة الحاج عمر من الأرشيف الفرنسي بايكس، ولكنه ضاع مني مع محفظتي في القصة المعروفة عنها، ولا نعرف عن وفاته أي تاريخ،
بأهله ومعه ولد الشريف بوبغلة.
وعلى أثر احتلال زواوة سنة 1857 ونفي الحاج عمر وقعت خيبة أمل في المرابطين المقاومين وتحول الناس إلى الطرق الصوفية، وكانت الرحمانية هي زعيمة الطرق في زواوة، وكانت قبل ذلك التاريخ منحصرة في القشطولة وما جاورها، ولكن التضييق من جانب الفرنسيين ثم الاحتلال وهدم الزاوية الأم، أدت إلى انتشار سريع للرحمانية عكس ما كان يتوقع الفرنسيون، وقد ظهر الأدب الشعبي الذي يعبر عن خيبة الأمل في المرابطين، فقد خاطب الشاعر الشعبي، المرابط ابن أعراب الذي كان يعتقد أنه سيقوده إلى النصر قائلا:(لماذا اختفيت أيها المرابط، يا ابن أعراب البائس؟ لماذا قلت لنا إن النصارى لن يصعدوا إلى الجبال؟ ألم يصلوا إلى بني يني؟) إن الطرق الصوفية إذن هي التي جعلت المناضلين يختفون عن أنظار الفرنسيين، ويدخلون في حركة سرية، ورأى الفرنسيون أن هذه الطرق تشكل خطرا داهما عليهم، وهم يعنون الرحمانية هنا، ورأى المرابطون أنهم لا يستطيعون وقفها فدخلوا فيها أيضا حتى لا يظهرون بمظهر المتخلين عن الدين، ومن ثمة يضمنون الإبقاء على نفوذهم، وكانت الطريقة تتميز بطابع المساواة بين الجميع، ومن ثمة كانت تتلاءم مع طبيعة الناس أيضا، فجميع الطبقات، بما فيها النساء تجد نفسها في الطريقة، وهم يتواصون بالعزلة عن الناس وبالسهر والخلوة والصيام والذكر والاجتماع للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة الحضرة (1).
إن نفي الحاج عمر قد أدى إلى إنشاء فرع في الكاف (تونس) للرحمانية، ومن هناك اتسع نفوذها أيضا في سوق أهراس ونواحيه، كان الحاج عمر متزوجا من حفيدة علي بن عيسى المغربي، خليفة محمد بن عبد الرحمن، وقد أسس علي بن عيسى (الحفيد؟) زاوية الكاف الرحمانية التي يشير (كور) إلى أنها لم تكن بعيدة عن ثورة 1871 أيضا، وكان علي بن
(1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل). ط 2، ج 2/ 99 - 105،
عيسى هذا يتمتع بسمعة في الورع والتقوى، فازدهرت الزاوية وبسطت نفوذها، ولكن ابنه، صالح بن علي، لم يسر، حسب كور، على خطى والده، فقد أكثر من جمع المال، ويبدو أن المصالح الفرنسية كانت تتبع سيرته سنة 1909، وتبين لها أنه لا يمكن أن يكون شيخا ناجحا، ومع ذلك انتشرت الزوايا الرحمانية في الجهات القريبة (1).
وتذهب المصادر إلى أن الحاج عمر بقي وهو في المهجر، الشيخ الأكبر للطريقة، ولكن الإخوان اختاروا بعده شيخا آخر يدبر أمرهم، فكان هو الشيخ محمد الجعدي، وهو من بني جعد نواحي سور الغزلان، ويبدو أن الشيخ الجعدي قد جاء في وقت صعب للغاية، أي بعد احتلال المنطقة من قبل الفرنسيين ومحاصرة الرحمانيين في كل مكان هناك وتشريد السكان وحرق المداشر، وهي المعارك والحرائق التي أشرف عليها الحاكم العام راندون وثلاثة جيوش أخرى، وانتهت بمعركة إيشريضن التي لا تنسى حتى لدى الفرنسيين، إذ أقام لها جول كامبون سنة 1896 نصبا تذكاريا تخليدا لذكرى قتلى الفرنسيين فيها، كما جاء الشيخ الجعدي في وقت شعر فيه مقدمو النواحي الأخرى بارتخاء قبضة الزاوية عنهم، وأمام ذلك انتخب الشيخ محمد أمزيان الحداد شيخا للطريقة مع الاستقرار في صدوق، وقد استمر في إدارة شؤون الزاوية إلى ثورة 1871، وفي عهده اشتهرت الزاوية الأم (صدوق) بالعلم والحيوية، وعادت لها حركتها السالفة، رغم محاولات الإدارة، الاستعمارية السيطرة على الزوايا عموما ومراقبتها، والمعروف أن الشيخ الحداد كان مثل الشيخ محمد بن عبد الرحمن، يجمع العلم إلى التصوف (2).
ورغم مكانة الشيخ الحداد، فإنه لم يستطع أن يوحد كل الفروع حتى في زواوة نفسها، فإذا كانت فروع قسنطينة والخنقة وبوسعادة (الهامل)
(1) كور، (بحوث ..) المجلة الإفريقية، 1921، ص و 32 - 331.
(2)
سندرس بعض آثاره في جزء آخر من هذا الكتاب،
وطولقة وسوف ونفطة تشعر بالاستقلال لبعدها عن المركز، فإن أتباع الشيخ الجعدي ظلوا على ولائهم له في المعاتقة ونواحيها، وكانت لهذا الفرع حضرة سنوية في جامع سيدي نعمان، وقد انضم إلى هذا الفرع أبناء الحاج البشير، الخليفة السابق، وهما محمد الصالح ومحمد البشير، وكان هذان الأخوان يقيمان الحضرة في جامع (عزوم النبي) بين قرية ايغندوسن وقرية إحدادن (1). ولكن هذا التفرع لم يمنع من انضمام الرحمانية في المعاتقة إلى إخوان الشيخ الحداد بعد إعلان الجهاد سنة 1871، وكان الرحمانيون في المعاتقة ممن تحمسوا للجهاد والعداء للفرنسيين، وقد حكم هؤلاء بالنفي على الشيخ محمد الجعدي.
هذا عن فروع الرحمانية في زواوة إلى 1871، فماذا عن فروعها الأخرى في الجنوب والشرق؟ ذكرنا أن الشيخ الأزهري قد قدم عنه محمد بن عبد الرحمن باش تارزي في قسنطينة، وهو شيخ جمع أيضا بين العلم والتصوف، وقد ورث الشيخ باش تارزي بركة الطريقة لابنه مصطفى الذي ورثها أيضا لأبناء عائلته (باش تارزي) فترة طويلة، ولكنه ورثها أيضا لشخصية أخرى خارج قسنطينة، وهو محمد بن عزوز البرجي (برج طولقة). ويعتبر محمد بن عزوز هذا ليس مقدما للرحمانية في الجنوب فقط ولكن في جريد تونس أيضا، كما أنه لشهرته وكثرة فروع أتباعه، أصبح كأنه مؤسس لطريقة جديدة، تسمى العزوزية - الرحمانية، وكان احتلال بسكرة من قبل الفرنسيين وتطور أحداث الجزائر وتونس سببا آخر في تفريعات هذه الطريقة، فعند احتلال بسكرة (1843 - 1844) هاجر مصطفى بن عزوز (بن محمد) إلى نفطة بتونس وأسس، بها زاوية رحمانية أصبحت ذات شهرة واسعة في العلم والتصوف وملجأ للهاربين من ظلم الاستمعمار الفرنسي، سيما قبل احتلال تونس سنة 1881، وتجدر الإشارة إلى أن الحسين بن عزوز (وهو ابن محمد أيضا) كان قد تولى للأمير عبد القادر الخلافة على الزيبان قبل اعتقاله ونفيه إلى أحد المنافي الفرنسية، فالعلاقة بين الدين والتصوف والثورة
(1) رين، مرجع سابق، ص 460،
والجهاد واضحة في عائلة ابن عزوز عندئذ.
وقبل وفاته عين الشيخ محمد بن عزوز (1) مقدمين من تلاميذه، وهم: علي بن عمر (طولقة) والمختار بن خليفة (أولاد جلال). ومبارك بن خويدم والصادق بن الحاج (الأوراس). وعبد الحفيظ (خنقة سيدي ناجي). وعند وفاة الشيخ محمد بن عزوز أوصى بخلافته لابنه (مصطفى بن عزوز). وبعد حين أضيف فرعان آخران، فرع الهامل في بوسعادة، وفرع وادي سوف، وقد تولى الفرع الأول الشيخ محمد بن بلقاسم، وتولى الفرع الثاني الشيخ سالم بن محمد الأعرج (2). وأخذ محمد بن بلقاسم عن الشيخ المختار بن خليفة، كما أخذ الشيخ سالم بن محمد الأعرج عن علي بن عمر، ولنقل كلمة عن كل فرع، ونبدأ بفرع طولقة.
قلنا إن الشيخ علي بن عمر قد أخذ الطريقة الرحمانية عن الشيخ محمد بن عزوز عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، إلى آخر السلسلة التي سنذكرها، وتذهب بعض المصادر إلى أن علي بن عمر قد أخذ مباشرة عن الأزهري أثناء رجوعه من الحج سنة 1794 حين زاره الأزهري سنة وفاته، بجرجرة، ولذلك أخذ علي بن عمر أيضا لقب القطب وشيخ الشيوخ، وعلي بن عمر قيل إن أصله من أشراف الساقية الحمراء، هاجر أجداده في القرن الخامس عشر الميلادي، ولم يكن ينتمي إلى أية طريقة صوفية أخرى قبل أخذ الرحمانية، وقد حج مرة أخرى مع شيخه محمد بن عزوز.
(1) يذكر صاحب (تعريف الخلف) 2/ 485 أن محمد بن عزوز أدى فريضة الحج مع بعض تلاميذه كالشيخ علي بن عمر وعبد الحفيظ الخنقي ومبارك بن خويدم سنة 1232، وحج معهم من المغرب الأمير عبد الرحمن بن هشام قبل توليه السلطنة، وبعد توليه إياها جرت بينه وبين ابن عزوز مراسلات ودية، وأبى الحفناوي إلا إسناد بعض الكرامات للشيخ ابن عزوز.
(2)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 393، وإبراهيم العوامر (البحر الطافح). مخطوط، وكذلك الحفناوي (تعريف) 2/ 399،
كانت طولقة في أول القرن التاسمع عشر على صفين: صف أولاد زيان وهم من الأعيان، وكانوا أيضا مهاجرين من فاس، أي من رجال الدين، ولكنهم تحولوا إلى مخزنية وتولوا الإدارة العثمانية، وهم منتشرون في فوغالة والعمري والزعاطشة، وبتلك الصفة (المخزنية) كانوا مجفيين من الضرائب، أما الصف الثاني فهم أهل طولقة، وهم خليط من السكان، وبينما كان أولاد ابن عزوز يميلون إلى أولاد بوعكاز الذواودة كانت زاوية طولقة تميل إلى أولاد ابن قانة، وهكذا تداخلت الزاوية، رغم ادعائها الحياد، في شؤون الصفوف والحكم.
حين وفاة محمد بن عزوز عين ابنه مصطفى لخلافته، وفي نفس الوقت عهد به إلى الشيخ علي بن عمر لتعليمه، وتزوج علي بن عمر ابنة تلميذه مصطفى (1). وأثناء الصلح بين المتحاربين ضربته رصاصة طائشة توفي على أثرها (سنة 1842). وبقي مصطفى بن عزوز هو الخليفة على الزاوية إلى أن قرر الهجرة إلى نفطة كما ذكرنا، نتيجة احتلال بسكرة، فتولى شؤون الزاوية بعده علي بن عثمان، وحاولت زاوية طولقة البقاء على الحياد أثناء ثورة الزعاطشة حين عرض شيخها وساطته على بوزيان والفرنسيين، ولكن أهل طولقة انضموا للثورة وهاجموا مقر شيخ العرب ابن قانة، الذي تحالف مع الفرنسيين، ومن الملاحظ أن زعماء الرحمانية في الناحية لم يكونوا متحدين، فالشيخ عبد الحفيظ الخنقي وعلي بن عثمان لم يكونا على وفاق، وكان ولاء الشيخ عبد الحفيظ لمصطفى بن عزوز في نفطة، حتى قيل إنه هاجر إليها على اثر ثورة الزعاطشة ومات هناك بعد سنة واحدة (1851). وهو قول في أغلب الظن غير صحيح.
(1) اسم ابنة مصطفى بن عزوز (ذخيرة). وعن هذه الظروف انظر جوليا كلنسي - سميث (ثائر وقديس). بيركلي، لندن، 1884، ص 80، وقيل إن علي بن عمر قد ترك مكتبة غنية، وكذلك الشيخ محمد بن عزوز، وتوجد ترجمة مصطفى بن عزوز في أحمد بن أبي الضياف (الإتحاف).
وقد عاصر الشيخ علي بن عمر أحداث بسكرة وتغيير الأيدي عليها أثناء فترة حرجة (النزاع بين عائلة بوعكاز وعائلة ابن قانة على مشيخة العرب، ونفوذ الحاج أحمد، باي قسنطينة، ونفوذ الأمير عبد القادر الذي امتد لعائلة ابن عزوز، كما ذكرنا، ومحمد بن الحاج أحد أشراف سيدي عقبة). ويظهر أن الشيخ علي بن عمر لم يتدخل مباشرة في السياسية ولا في هذا الصراع على الأمور الزمنية، فكان قد فتح الزاوية للجميع يعلم ويت عبد وينشئ مكتبة ويطعم الفقراء، ويصلح بين الناس، وقد اتبع خلفاؤه سيرته أيضا فلم نجدهم يتدخلون في الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة بعد ذلك أو البعيدة عنه مثل ثورة 1871، وقد أورث بركته لابن أخيه علي بن عثمان، ويعتبر هذا الفرع كأنه الفرع الأم للزوايا الرحمانية الصحراوية فترة طويلة، وأذكار زاوية طولقة متطابقة مع أذكار زاوية نفطة.
وللشيخ علي بن عثمان إجازة نموذجية تتضمن طريقة إدخال الإخوان في الرحمانية والأذكار، كما أنها من الناحية اللغوية تعتبر قطعة مقبولة نظرا لضعف تحرير الإجازات وضعف ثقافة المقدمين عموما، وهذه الإجازة عامة وغير موجهة لشخص إذ أن اسم المجاز محذوف فيها، وقد ذكر فيها كيفية تلقين الذكر للأخ (المريد). والأذكار التي عليه أن يرددها والأوقات المخصصة لذلك، كما تضمنت الإجازة وصية الشيخ للإخوان بالمؤاخاة والحضرة والطاعة والصبر والتسليم لخلق الله والتعاون
…
(1) وجدير بالملاحظة أن الإجازة تشير إلى الصلاة الشاذلية، كما تشير إلى التسليم لخلق الله، وهي عبارة هامة في النص دينيا وسياسيا، وعبارة أن الطريقة الرحمانية كسفينة نوح وكمقام إبراهيم، من دخلهما كان آمنا وناجيا، موجودة أيضا في إجازات الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري.
وقد أنشأ الشيخ المختار بن خليفة الجلالي أيضا فرعا للرحمانية أو زاوية في أولاد جلال، خدم بها المنطقة وكذلك نواحي أولاد نائل، واشتهر
(1) النص بالعربية والفرنسية، في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 401،
الشيخ الجلالي أيضا بالورع ونشر العلم، وكان طويل القامة، قليل شعر اللحية، نظيف البشرة، وله إنشاد في مدح شيوخه، وهو واعظ ماهر ومؤثر، ويروى عنه أنه اشتاق إلى الأكل، فعاقب نفسه بالصيام ثلاث عشرة سنة، وقد خلف أولادا صغارا عند وفاته سنة 1276 (1862). فأوصى عليهم وعلى الزاوية تلميذه محمد بن بلقاسم الذي سيرد ذكره، وبعد أن رتب هذا أمور زاوية أولاد جلال تبعا للوصية، تركها، وتولاها بعده أحد أبناء الشيخ المختار، وهو محمد الصغير الذي طال عهده حتى أنه كان ما يزال على قيد الحياة سنة 1906، وقد قلنا إن الشيخ المختار قد أخذ الطريقة على شيخه محمد بن عزوز عن محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن محمد بن عبد الرحمن الأزهري إلى آخر السلسلة الصوفية، وقد رثاه الشيخ المكي بن عزوز في إحدى قصائده معتبرا فقده كالليل الدامس (1). وخلافا لبعض فروع المنطقة فإن الشيخ المختار قد ساند ثورة الزعاطشة (1849). وأرسل النجدة إلى الشيخ بوزيان هناك، واستجابت الرحمانية على يده لداعي الجهاد بقطع النظر عن طريقة المجاهد، وقد عرفنا أن من قادة الزعاطشة موسى الدرقاوي، وهكذا يكون الشيخ الجلالي من الذين جمعوا بين التعليم والجهاد والتصوف، وقد وصفه أحد الفرنسيين قائلا إن نفوذه قد عم أولاد نائل وأولاد علاف والسحارى الذين كانوا يزورون زاويته بأعداد كبيرة، وقد شارك إخوانه بالإضافة إلى الزعاطشة، في انتفاضة سنة 1861 في الجلفة المعروفة (بقضية بوشندوقة). وكان باشاغا الجلفة الشريف بن الأحرش، متزوجا من إحدى بنات الشيخ المختار، وقد مات ابن الأحرش قتيلا سنة 1864 (2).
ويشبهه في ذلك زميله عبد الحفيظ المعروف بالخنقي نسبة إلى خنقة سيدي ناجي، فهو أيضا من تلاميذ الشيخ محمد بن عزوز في التصوف ومن معاصري الشيخ المختار الجلالي والشيخ علي بن عمر الطولقي، أصبح الخنقي هو مقدم الرحمانية في الخنقة ونواحيها، وعمل على نشر التعليم
(1) الحفناوي (تعريف). مرجع سابق، 2/ 576، ذكر منها الحفناوي أربعة أبيات.
(2)
ف، فيليب (مراحل صحراوية). ص 121،
والأذكار الصوفية، وبقي على ولائه لفرع الرحمانية بنفطة (العزوزية). وتذكر المصادر الفرنسية أنه كان في منافسة مع شيخ زاوية طولقة، ولذلك لم يعترف بمشيخته، كما أن أولاده ظلوا محافظين على هذا التنافس، ربما بتدخل من السلطات الفرنسية، وكان الشيخ عبد الحفيظ من الذين شاركوا رغم تقدم السن به وتفرغه للعلم، في ثورة الزعاطشة أيضا، ودعا إخوانه للجهاد فلبوا، وقد دخل المعركة شخصيا، وله دور في أحداث بسكرة على العموم (1).
ترك الشيخ عبد الحفيظ أولادا، منهم محمد الأزهاري والحفناوي، وقد أنشأ الأول زاوية في خيران في جبل ششار (قرب خنشلة). ويقول عنه (رين) سنة 1884 إنه كأبيه يعيش في عزلة وخلوة وسط إخوانه الذين لا يتحدث عنهم (2). ويبدو أن الأزهاري قد عاش بعيدأ عن الأنظار، وتوفي سنة 1896، والغريب أن جريدة (المبشر) الرسمية نشرت بمناسبة وفاة الشيخ محمد الأزهاري، خبرا ونعيا تقول فيه إنه مات عن 59 سنة في خيران، وأن والده عبد الحفيط كان ميالا إلى فرنسا (؟). وأن ابنه قلده في البر والإحسان والحكمة والنصيحة والأخلاق، وأنه نشر نفوذ والده وسمعته من هناك إلى الحدود التونسية، وكانت له مراسلات مع أخويه في تونس وتمغزة وكلاهما يكن له الاحترام، واسم هذا الوريث ليس محمد العربي بل عبد الحفيظ، وعمره 26 سنة، وقالت لعله يكون كأبيه، إذ هو يرغب في تعلم اللغة الفرنسية ومعجب بتمدن فرنسا وعوائدها (3).
ويبدو هذا الكلام من (المبشر) فيه خلط بهدف خدمة المستقبل ونسيان الماضي، ومهما كان الأمر فإن أحد أبنائه، وهو محمد العربي هو الذي كان على رأس الزاوية سنة 1951، فقد وجدنا تقريرا كتبه قايد جبل ششار إلى
(1) انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1، وبناء على المصادر فإن الشيخ عبد الحفيظ قد قتل أثناء قتال مع الضابط الفرنسي (جيرمان). كما أن الضابط قد قتل أيضما في نفس القتال.
(2)
(رين). مرجع سابق، ص 460.
(3)
(المبشر) عدد 30 مايو، 1896،
الحاكم الفرنسي عن نشاط الزاوية بمناسبة زفاف الشيخ محمد العربي وتزويج أخيه سعد السعود، والزيارات التي وردت عليه من أعيان وأخوان الناحية مما يدل على ازدهار الزاوية وعقائد الناس فيها عندئذ، وأنها لم تعد صغيرة ومعزولة كما كانت سنة 1884، ويتحدث التقرير عما حمله أهل الناحية رجالا ونساء (وكبار الأعراش) من ماشية وتمر وسكر وقهوة وشمع، وسمن وقمح وحطب وعسل وجوز ودقيق، إلى جانب الدراهم، وقد أحصينا الأعراش الممثلة في الزيارات فكانت عشرة، فمن الأقارب أولاد تفورع، وأولاد ثابت، والبراجة وأولاد نصر، ومن الأباعد (كما يقول التقرير) البعادشية، والعمامرة والمحاشة، وأولاد رشاش، وأولاد بوعريف، وأولاد عبد ي، وتدل القائمة على أن الزاوية تأخذ فعلا شيئا كثيرا من أهل الناحية، وقد طلب الحاكم الفرنسي لدائرة خنشلة أن يخبره القايد عما يقوله الشيخ محمد العربي لزائريه فأجابه القايد بأنه يحثهم على خدمة الزاوية وعائلته، وكان الناس يطلبون منه الدعاء ثم ينصرفون (1).
ويظهر من العرض السابق أن الشيخ عبد الحفيظ قد ترك عدة أبناء، منهم من بقي بالجزائر ومنهم من انتقل إلى تونس وأنشأ بها زوايا أيضا، ونحن نعلم أن ابنه محمود قد أنشأ واحدة في تمغزة بالجنوب الغربي لتونس، وأن الحفناوي قد أنشأ أخرى بتونس العاصمة، وكان أبناء الشيخ عبد الحفيظ على محلة بزاوية نفطة الرحمانية - العزوزية، حتى أن الأذكار هنا وهناك واحدة، وكانت فرنسا تشجع على هذا التفرق في الزوايا والشيوخ كما ذكرنا لأسباب تتعلق بتسهيل التحكم فيها، سواء في الجزائر أو تونس، ولكن الإخوان لم يكونوا في غالب الأمر واعين لهذه الخطة، ولاحظ الباحثون الفرنسيون أن هناك فروعا للفروع أيضا، فزاوية نفطة والخنقة لهما فروع في الكاف وتوزر والقيروان، وأتباع في بنغازي وغدامس وجنوب طرابلس
(1) أطروحة دكتوراه عبد الحميد زوزو، باريس، 1992، فقد أورد التقرير بكامله، وهو مترجم 15 جوان 1901، كما أورده زوزو في كتابه (نصوص). مرجع سابق، ص 174 - 176، وفي التاريخ خطأ فليراجع،
والمدينة المنورة، وجملة الإخوان لهاتين الزاويتين (نفطة والخنقة) تقرب من أربعة عشر ألف شخص، وهو رقم قد يكون مبالغا فيه جدا، وإليك البيان حسب إحصاء سنة 1897: الزوايا 15، والإخوان 13، 940 منهم 1، 206 امرأة، ولكن لهم شيخ واحد (ابن عزوز). والمقدمون 76، والطلبة 66، والشواش 80 (1).
وزاوية نفطة لا تهمنا من حيث الجغرفية ولكن تهمنا من حيث الطريقة، فقد عرفنا أنها تأسست لأسباب سياسية بعد احتلال بسكرة، وأن مؤسسها هو مصطفى بن عزوز، وترجع شهرة زاوية نفطة إلى كونها أصبحت مدرسة للتعليم، بالإضافة إلى الدور الديني والاجتماعي، وكان رجالها يكملون تعليمهم بجامع الزيتونة، ويتولون الوظائف الدينية كالقضاء والتعليم، ومنهم المكي بن عزوز والخضر بن الحسين، وذهب إلى هذه الزاوية عدد من طلبة الجزائر للدراسة أيضا، مثل عاشور الخنقي، كما هرب إليها بعض الثوار أمثال ناصر بن شهرة وشريف ورقلة، ونزل فيها محي الدين بن الأمير عبد القادر سنة 1870 - 1871 حين دعا إلى الجهاد، فأهل بسكرة وتبسة والوادي وتقرت كانوا يقصدون زاوية نفطة للتعلم والسلوك معا.
أما فرع الوادي فقد كان تابعا لزاوية علي بن عمر الطولقي، ولكن شيخه سالم بن محمد الأعرج، كان على صلة أيضا بزاوية ابن عزوز بنفطة، أخذ الشيخ سالم الطريقة الرحمانية عن علي بن عمر، عن طريق محمد بن عزوز البرجي، عن طريق محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن طريق محمد بن عبد الرحمن الأزهري، إلى آخر السلسلة الرحمانية، والشيخ سالم هو ابن محمد بن محمد .. بن المحبوب، دفين القيروان، وبعد وفاة الشيخ سالم تولى ابنه محمد الصالح شؤون الزاوية بالوادي، واشتهر أمره بالصلاح، وقد ألف الشيخ إبراهيم العوامر رسالة في الشيخ محمد الصالح، وأسند له
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 399 - 400، وننبه إلى أن الرقم خاص بنفطة والخنقة، عن زاوية نفطة انظر ترجمة محمد بن عزوز في (تعريف الخلف) للحفناوي، 2/ 485،
كرامات وخدم زاويته (1). وفي سنة 1860 وصف هنري دوفيرييه زاوية سيدي سالم بأنها ذات منارة طويلة تشرف على سوف كلها وأنها تقع قرب ساحة السوق، وأنها تتبع زاوية طولقة، أما الضابط كوفيه COUVET (المكتب العربي بالوادي) فقد كتب حوالي 1907 بأن زاوية سيدي سالم لم تتدخل في سياسة فرنسا الصحراوية، هذا في ظاهر الأمر (2). ومن مقدمي الرحمانية في قمار الشيخ سعيد (المعروف سي سعيد). وقد أطلق اسمه على مسجد بها ما يزال قائما، وهو أحد أقاربنا من جهة الأم.
وظهر في الأوراس فرعان للرحمانية، هما فرع واحة المصمودي بقيادة الصادق بن الحاج وفرع الدردورية بقيادة الهاشمي دردور، ونلاحظ أن للرجلين علاقة بأحداث الجزائر وأنهما تعرضا إلى السجن والنفي معا، بسبب جلادهما ضد الاحتلال، فهما إذن من الفروع الرحمانية المناضلة، أما الشيخ الصادق بن الحاج فقد كان عمره 69 سنة 1859 وبذلك يكون من مواليد 1790، وقد أخذ الطريقة الرحص نية على شيخه محمد بن عزوز، ولعله قد حج معه سنة 1232 هـ، وكان الصادق بن الحاج كثير الحماس للطريقة
(1) اسم الرسالة الكامل (البحر الطافح في بعض فضائل شيخ الطريق سيدي محمد الصالح). رأيناها مخطوطة، وقد نقل منها الحفناوي، مرجع سابق، 2/ 399، وذكر محمد البهلي النيال (في الحقيقة التاريخية) ص 337 عددا من زوايا الرحمانية في تونس، ونوه بزاوية نفطة التي اعتبرها من إنشاء مصطفى بن عزوز، وقد أخبر أن وفاته كانت سنة 1865 (1282) وأنه دفن بزاويته، ولهذه الزاوية فروع منها واحدة بسليانة وزاوية الحاج مبارك بتالة، وزاوية ابن قضوم (عظوم؟) بالقصرين، ولها فروع أخرى بتونس (أي الرحمانية) مثل زاوية سيدي محمد البشير المتوفي 1442 (!). وهي ترجع إلى الحاج البشير المغربي الذي انضم إلى الأمير عبد القادر، (وقد ذكره مرة أخرى على أنه البشير الزواوي). وزاوية ابن عيسى بالكاف وزاوية عين الصابون في تونس، ومؤسسها هو محمد الصالح الحمراني، وزاوية القسطلي بباجة، وغيرها، انظر ترجمة البشير الزواوي (المغربي) في ابن أبي الضياف، انظر عنه النيال، ص 309 - 310.
(2)
كوفيه، مجلة الجمعية الجغرافية S، G، A، A، N، 1934، ص 252،
مخلصا لها، مواظبا على أذكارها، ولكنه في نفس الوقت لم يتخل عن مبدأين هامين هما: التعليم والجهاد، فقد أنشأ زاوية في واحة سيدي المصمودي عند جبل أحمر خدو، فأصبحت مركزا عاما للتعليم الديني والسياسي، ونحن نجد الصادق بن الحاج من المساندين الرئيسيين لثورة الزعاطشة سنة 1849، وقدم المساعدات للشيخ أبي زيان هناك، وأثار الأعرلش في جبل أحمر خدو، وبني بوسليمان.
وبعد عشر سنوات، قام بثورة خاصة به، 1858 - 1859 في الأوراس، وقد أحرق الجنرال (ديفو) زاوية المصمودي عن آخرها، سنة 1859، انتقاما من الشيخ وأتباعه، وجاء في إعلان هذا الجنرال للسكان أن الصادق بن الحاج يضللهم وأنه يجتمع بالنساء ويقلل من أهمية فرنسا وجيشها ويطلب من المرابطين الآخرين، أمثال ابن كريبع وابن النجاري الانضمام إليه، وقد توعد ديفو السكان بمصير الزعاطشة (التخريب الكامل) وقال إن الدين الإسلامي لا يبيح ما فعله الصادق بن الحاج (1). ثم أسر الصادق بن الحاج مع أبنائه وأعوانه المقربين، وانعقدت له محكمة عسكرية، حكمت عليه بالنفي والسجن خمس عشرة سنة وعلى الآخرين عشر سنوات، لرفعهم السلاح ضد فرنسا وتحريضهم الناس على التمرد، وكان منفاه جزيرة كورسيكا، ثم أعيد إلى سجن الحراش، ورغم طلب مدير السجن التخفيف عنه لكبر سنه والتزامه بشروط السجن وصبره، فإنه ظل سجينا إلى موته سنة 1862، وبقي ابناه الطاهر وإبراهيم سجينين بعد فترة، وقد طلب ابناه العفو عنهما لتشتت نسائهما وأراضيهما وأولادهما، من الحاكم العام المارشال بيليسييه (2). ولا ندري متى أطلق سراحهما، وهل كان عليهما أن
(1) ملاحق أطروحة زوزو، الاعلان بتاريخ 25 جمادي الأولى 1275 (31/ 12/ 1858) وهو بالعربية والفرنسية وموجه إلى قبائل أحمر خدو، وأولاد داود، وغسيرة، الخ
…
(2)
أورد عبد الحميد زوزو، (الأطروحة) عدة ملاحق من بينها رسالة بقلم إبراهيم بن الحاج طالبا فيها العفو وإطلاق سراحه وسراح أخيه بعد موت والدهما في السجن، =
يتما المدة (عشر سنوات).
والمعروف أن الشيخ الطاهر بن الصادق بن الحاج قد عاد إلى سيرة أبيه الذي ورث منه البركة الصوفية وأنشأ زاوية جديدة في تيبيرماسين، فرقة من أولاد يوب، عرش جبل أحمر خدو، ويظهر (رين) ناقما على هذه الزاوية الجديدة أيضا إذ قال إنها تعلم التعصب ومعاداة الفرنسيين، وقال إن محمد بن عبد الرحمن الذي ظهر في ثورة الأوراس سنة 1879 كان متخرجا من هذه الزاوية، واعتبره شريفا مزيفا (1). وتحدث ديبون وكوبولاني سنة 1897 عن نشاط سي الطاهر بن الحاج في زاوية تيبيرماسين، وذكر أن للزاوية 2، 476 من الأتباع، منهم 708 من النساء، وأن لها ثلاث زوايا، و 25 طالبا، وشيخا واحدا، وثلاثة عشو مقدما، و 24 شاوشا (2).
ومعنى ذلك أنهم لا يعترفون إلا بالشيخ الطاهر شيخا للطريقة هناك، ولا شك أن هذا الفرع لم يؤسس طريقة خاصة وإنما هو امتداد للرحمانية سواء اعترف بشيخ آخر أعلى منه أو لم يعترف، ولا ندري إن كان مستقلا أو تابعا لزاوية طولقة أو نفطة.
ونفس الشيء يقال عن الفرع الآخر الذي ظهر في الأوراس أيضا على يد الشيخ الهاشمي بن علي دردور، من عرش أولاد عبد ي، فقد قيل إنه أسس جمعية (طريقة؟) سرية سنة 1876، وهو من مواليد مدرونة، وكان تلميذا في زاوية خنقة سيدي ناجي الرحمانية، ولعله أصبح أحد مقدميها بمدرونة ونواحيها، وقالوا عن الشيخ الهاشمي دردور إنه رحماني، وقال آخر
= تاريخها بالحراش في 25 رمضان 1278 (26 مارس 1862). وفيها عبارات التشفع والخضوع، والطلب موجه إلى الحاكم العام (بيليسييه). وطلب آخر كتبه إبراهيم وأخوه الطاهر في نفس المعنى والمكان ولكن بتاريخ 26 إبريل 1279 أي بعد عام، والنص الأول أورده زوزو أيضا في كتابه (نصوص
…
) مرجع سابق، ص 184 - 185.
(1)
رين، مرجع سابق، ص 460، هامش 1.
(2)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 410 - 411،
أنه سنوسي، ومن قال إنه رحماني اعتمد على أن الشيخ كان يلتزم بتعاليم هذه الطريقة وأنه كان يدعو أتباعه إلى الحركة والعمل، وأنه اتهم المعارضين له في الطريقة الرحمانية بأنهم هم الذين خرجوا عنها واتبعوا شيوخا آخرين.
ونتيجة (لتعصبه) عوقب الهاشمي دردور بالنفي إلى كورسيكا بعد المحاكمة سنة 1880، و (التعصب) هنا هو التمرد عند الفرنسيين، وقد قضى الشيخ دردور في سجن كورسكيا سنوات لا نعلم كم دامت وكيف انتهى أمره، إنما نعلم أن عائلته وأقاربه تقدموا بطلب إلى السلطات لتسريحه لأنهم ضاعوا بدونه وافتقروا بعد أن حجزت السلطات كل شيء لديهم وقضت على الزاوية، وقد شمل السجن جماعة أخرى منهم عمر بن يوسف من عرش حيدوسة، وكان مقدما للشيخ الهاشمي، ومحمد أمزيان بن نادرة من عرش حالوحة، وهو مقدم آخر للهاشمي، وأبو بكر بن خالد، مقدم ثالث، وقد أوصى قائد دائرة باتنة العسكرية بنفيهم جميعا إلى كورسيكا لخطرهم في المنطقة، وذلك في 7 يناير 1880، وعريضة طلب العفو عن الشيخ الهاشمي جاءت كما قلنا، من عائلته وكذلك من ضمانة عرش أولاد عبد ي كله، وقد أيد قايد الناحية عندئذ، وهو إسماعيل بن العباس، (وهو من الطريقة القادرية) طلب العفو وقدمه إلى السلطات الفرنسية، ممثلة في المكتب العربي بباتنة، وذلك رأفة بأولاده وزوجاته، وقد ضمن هذا القايد أيضا في عدم حدوث أي شيء من قبل الشيخ الهاشمي بعد إطلاق سراحه (1).
ولم يكن للدردورية كثير من الأتباع، وإنما نشاطها في وقت خاص جعل السلطات الفرنسية تنظر إليها على أنها خطر كبير، ولم يبق لها سنة 1897 سوى شيخ واحد ومقدم واحد وحوالي ألف (1، 020) من الأتباع، منهم 250 امرأة، وكلهم يتبعون زاويتهم بمدرونة، والوقت الخاص الذي
(1) عن هذا الموضوع انظر زوزو (الأطروحة). وكذلك (نصوص ..). مرجع سابق، ص 186، 188، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 412، هامش 1، وتاريخ العريضة هو 24 سبتمبر 1883،
ظهرت فيه الدردورية هو الهجمة الشرسة التي أبداها الاستعمار الفرنسي خلال السبعينات في عهد ما أسموه بالجمهورية الثالثة، وكذلك في وقت اشتد فيه نشاط السنوسية على الحدود الجنوبية الشرقية، وخططت فيه فرنسا لاحتلال تونس، وحدوث ثورة بوعمامة وثورة المهدي السوداني، فهذه الأحداث كانت علامات (للتعصب) الإسلامي في نظر الفرنسيين، ومن ثمة الربط بين حركة الهاشمي والسنوسية عند البعض منهم.
ومن زوايا الجنوب الرحمانية زاوية الهامل قرب بوسعادة، وحياة هذه الزاوية هي حياة مؤسسها الشيخ محمد بن بلقاسم، وهو ليس باعثا أو مؤسسا لطريقة خاصة وإنما كان محافظا على الطريقة الرحمانية التي أخذها على بعض مقدميها، وحياة الشيخ محمد بن بلقاسم تكاد تكون حياة رجل علم وتعليم لا حياة متصوف صاحب خلوة ومرابطة، ولكن البيئة العامة وعقائد الناس في الصالحين وشراسة الاستعمار الفرنسي في معاملة السكان جعلت أمثال الشيخ محمد بن بلقاسم يظهرون من رجال الساعة وموالي الوقت أو المهديين المنتظرين، فأخذوا ينسبون إليه الكرامات وخوارق العادات كأنه من الدراويش والمجاذيب، إنها نفس العقلية التي كادت تنسب إلى ابن باديس الكرامات أيضا، بينما هو رجل إصلاح ونهضة، وسترى أن السلطات الفرنسية هي التي سعت أو ساعدت على تحويل رجال العلم إلى أصحاب خرافة ودروشة، وكأن المتصلين بالدين الإسلامي واللغة العربية عندها هم بقية سلف فاقد للعقل منجذبا نحو الخرافات والشعوذة والسحر، لكي تحافظ هي على ما كانت تسميه رسالة التقدم والحضارة التي جاءت بها إلى الجزائر، والذي يدرس كتاب الحفناوي (تعريف الخلف)(1) يدرك أن هذا الرجل (الحفناوي) الذي درس الفكر الفرنسي واللغة الفرنسية على (آرنو). كان يلصق البركات والكرامات بكل شخص ترجم له من المعاصرين، ولو كان من فئة العلماء وليس من فئة المرابطين.
(1) وهو كتاب جمع من وحي إدارة الحاكم العام (جونار) والمكلف بالشؤون الأهلية (لوسياني). رغم ما فيه من فوائد جمة ومن جهد عظيم،
وذلك يصدق على ترجمة الشيخ محمد بن بلقاسم، إنها ترجمة طويلة ولكن في غير ما كان عليه الشيخ في واقع الأمر، وإذا قارنا ما قاله فيه الشيخ الحفناوي وما قالته فيه المصادر الفرنسية وما جاء في ملاحظات تلاميذه، نجد هناك فروقا كبيرة في تناول هذه الشخصية، ونحن نميل إلى أن الشيخ كان من علماء الوقت، اكتسب حظا واسعا من اللغة العربية والدراسات الدينية بحكم بيئته وتعلمه في زوايا متخصصة في نشر المعارف، واستجلابه أفضل العلماء إلى زاويته (معهده). وإنما عقائد الناس والدعاية الفرنسية جعلت منه رجلا مرابطا وشيخ زاوية يقيم الحضرة ويتقبل الزيارات، لأن هذا الصنف من الناس عندها ليس له وصف آخر ولا مجال عمل آخر غير ذلك، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نطرح جانبا كل ما جاء في كتاب الحفناوي وأمثاله من نسبة الخرافات إلى الشيخ محمد بن بلقاسم.
فهو محمد بن أبي القاسم بن ربيح (أو رجيح) بن محمد بن عبد الرحيم بن سائب بن المنصور، وتذهب بعض الروايات إلى أنه شريف النسب، حسني النجار، معتمدين على قصة استقرار شريفين مغربيين في بوسعادة سنة 900 هـ، أحدهما هو جد الشيخ محمد بن بلقاسم (1). ولكن آخرين لا يقرون بأصالة هذه الرواية وينظرون إليها على أنها من التلفيقات، كنسبة الكرامات لغير أهلها، ثم إن قيمة المرء بعرضه وقلبه ولسانه وتقاه، ولد الشيخ ببادية الحامدية، ضاية الحرث جهة جبل تاسطارة، من بلاد أولاد الأقويني، فريق أولاد محمد، حسب رواية الحفناوي، وذلك في رمضان عام 1239، وكان لهذا الميلاد والنشأة في البادية أثره الإيجابي على مستقبل الشيخ، وبعد حفظ القرآن الكريم التحق بزواوة ودرس في زاوية علي
(1) هذان الشريفان هما: عبد الرحمن بن أيوب، وأحمد بن عبد الرحيم، والأخير هو الذي نزل (الهامل) وأعطاها هذا الاسم وهو جد الشيخ محمد بن بلقاسم، بناء على هذه الرواية، ويقول ديبون وكوبولاني إن الشيخ قد استفاد من سمعة جده، ص 406، أما صاحب (تعريف الخلف) فيذكر أن جده يدعى محمد بن عبد الرحيم وليس (أحمد).
الطيار بالبيبان بعض الوقت ثم بزاوية السعيد ابن أبي داود الشهيرة بالعلم، ناحية آقبو، وقد قضى ثماني سنوات هناك متعلما ومعلما، ونال رصيدا واسعا من الدراسة اللغوية والدينية.
ونلاحظ أن وجوده في زواوة عندئذ كان بعيدا عن الفرنسيين لأن تلك الناحية لم تكن قد احتلت بعد، وقد تخرج حوالي سنة 1844، ورجع إلى موطنه، ولا ندري إن كان قد أخذ الطريقة الرحمانية أيضا في زاوية ابن أبي داود، لأن هذه الزاوية اشتهرت بالعلم أكثر من التصوف، ولكن المنطقة كلها كانت خاضعة لتأثيرات الرحمانية على كل حال، وكانت الرحمانية كما عرفنا طريقة مجاهدة عندئذ في زواوة تحت راية الأمير وخليفته أحمد الطيب بن سالم، وبين 1844 و 1859 كان على الشيخ محمد أن يجد له مكانا في ناحيته، وأن يكتشف مستقبله شأن من وصل إلى سنه وعلمه، وكانت ناحية بوسعادة وبسكرة وأولاد جلال وطولقة تعيش على ذكريات حركة الجهاد التي أشرنا إليها قبل أن يحتل الفرنسيون منطقة الزيبان سنة 1843 - 1844، بل إن بقاياها عادت إلى الظهور في ثورة الزعاطشة التي تدخل فيها أيضا أهل بوسعادة (بقيادة محمد بن علي بن شبيرة) وأهل أولاد جلال (بقيادة الشيخ المختار). كما كانت الرحمانية نشيطة على يد الشيخ المختار والشيخ علي بن عثمان بطولقة والشيخ عبد الحفيظ بالخنقة، إنها فترة حرجة بالنسبة لشاب في العشرينات من عمره مثل محمد بن بلقاسم، وكان عليه أن يختار.
لقد اختار إنشاء زاوية للتعليم كأستاذه أحمد بن أبي داود وجيرانه الشيخ المختار والشيخ علي بن عثمان، فهو لم يكن من رجال الجاه الديني مثل ابن علي الشريف الذي عينه الفرنسيون (باشاغا) رغم مقامه وزاويته التي كانت علمية أيضا، وليس من المغامرين الذين سماهم (رين)(بالأشراف المزيفين) الذين يندسون وسط السكان والأعراش ويتحالفون مع بعض السياسيين الطموحين ويعلنون حركة جهاد تهز العدو هزا مؤقتا ثم تنهار، كما فعل بوزيان وبوبغلة ومحمد بن عبد الله، إن (فن الممكن) عندئذ لدى الشيخ
محمد بن بلقاسم هو إنشاء الزاوية ونشر التعليم وتكوين أسرة، وفي ذلك من الجهاد ما فيه! أليس ذلك أولى من الهجرة وأنفع من التصوف السلبي القائم على الانزواء والبعد عن الناس؟ ومن يدري لعل الشيخ محمد كان ينوي ما نواه ابن باديس بعد قرن، وهو تكوين حركة تعليمية يصارع بها الجهل الذي ضربته السلطة الاستعمارية على الجزائريين أكثر من نصف قرن، وتخريج طلائع تتولى بنفسها مصير البلاد؟
كان الشيخ قد استقر بالهامل، وأخذ ينشر التعليم، وعندما كثر تلاميذه استعان ببعض المدرسين من أمثال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي، وبني زاوية للعلم والطريقة الرحمانية لكي يستقبل فيها الزوار والغرباء والضيوف، ولكي يجد الطلبة سكناهم وقاعات دروسهم، وكان يتردد على زاوية أولاد جلال، وهناك أخذ عن شيخها المختار بن خليفة ورد الرحمانية (1).
وقد سلك الشيخ محمد بن بلقاسم في الهامل سلوك الشيخ علي بن عمر وابن أخيه علي بن عثمان في طولقة إزاء الثورات والمواقف السياسية، كلاهما لم يتدخل مباشرة في الموضوع، وظل على الحياد حتى عندما أعلن الشيخ الحداد من صدوق الجهاد ضد الفرنسيين سنة 1871 باسم الطريقة الرحمانية، ورغم أن الشيخ محمد بن بلقاسم كان متزوجا من ابنة محمد المقراني (2) فإن الشيخ لم يتبعه في ثورته، وإنما استقبل المقرانيين الفارين من العدو وحماهم وعلم صغارهم، وانتشر صيته كمرابط وكثر إخوانه في زواوة والتل والصحراء وتونس (3) حتى عدهم ديبون وكوبلاني (1897) أكثر من 43 ألفا، وهو رقم قد يكون فيه كثير من المبالغة، لأن هناك طرقا كبيرة لم تصل إلى هذا الرقم، وإليك الأرقام التي قدمها هذان المؤلفان:
(1) عن علاقة الشيخ محمد بن بلقاسم بالشيخ المختار وزاويته انظر سابقا.
(2)
أشيل روبير، مرجع سابق، (روكاي). 1924، ص 258 - 262.
(3)
نشرت المبشر في عدد 9 مايو، 1896 أن الشيخ محمد بن أبي القاسم قد نال وسام الأكاديمية الذي تمنحه إدارة التعليم التابعة للحكومة العامة بالجزائر،
الزوايا 29، الشيوخ 2، الطلبة 168، الشواش 4، المقدمون 164، الوكلاء 1، الإخوان 40، 810، الأخوات 20، 091.
وتوفي الشيخ في 2 يونيو (جوان) 1897 أثناء عودته من الجزائر إلى بوسعادة، وحدثت الوفاة في قبيلة السحارى بأولاد إبراهيم في بوغار، حسب ديبون وكوبلاني، وكان عمره إذاك 78 سنة، وفي يوم 14 يوليو جرت له حفلة تأبين رسمية جدا في جامع الإمامين في بوسعادة، وقد حضر الحفل الضباط الفرنسيون والمدنيون الرسميون، في جمع غفير من المتعلمين والتلاميذ والجمهور، وقد خطب قائد مركز بوسعادة، الضابط كروشار، منوها بدور الشيخ ومساعدته لفرنسا، كما قال، في نشر رسالتها الحضارية التي فهمها بذكائه، والفرنسيون يهمهم الاستفادة من الأموات للأحياء لأن ذلك هو الدرس الذي على الحاضرين أن يعوه من حياة الشيخ كلها، فلا التعليم العربي والإسلامي ولا المحافظة على الهوية الوطنية ولا الدور الديني والاجتماعي للزاوية يهم فرنسا في شيء، إنما المهم هو الإعلان عن أن الشيخ كان يخدم رسالة فرنسا في الجزائر (مخاطرا في ذلك بسمعته). وبعد كروشار خطب أعيان العرب ومنهم ابن أخ الشيخ المتوفى الذي سيتولى مكانه، وقاضي بوسعادة، إبراهيم رحماني، وكلاهما ذكر بالأصول الشريفة للشيخ وبفضائله، وانتهت الحفلة لإقامة ضيفة كبيرة (زردة) جمعت الفقراء والمساكين، وهي الضيفات التي لا يعجز عنها الناس، وإنما الإدارة الاستعمارية كانت إذا رضيت تجيزها وتتبرع لها سرا وعلانية، وإذا سخطت منعتها أو اعتقلت القائمين عليها، وإذن فإن هذه الحفلة لم تكن بريئة، وهي تشبه الحفلة الرسمية جدا أيضا التي أقامتها السلطات الفرنسية في الجامع الجديد بالعاصمة بمناسبة وفاة الشيخ أحمد التجاني في نفس السنة (1897)(1).
أعلنت مصادر ذلك الوقت أن الشيخ محمد بن بلقاسم ترك خلافته
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 406 - 409،
الروحية لابن أخيه الحاج محمد بن بلقاسم، صاحب كتاب (الروض الباسم) في سيرة ومناقب الشيخ، ولكن لأسباب عائلية لم يتول الحاج محمد شؤون الزاوية مباشرة بعد وفاة عمه، بل تولتها السيدة زينب ابنة الشيخ، وحسب (أشيل روبير) فإنها أدارت شؤون الزاوية بنجاح، ورفضت الزواج، وظلت على رأس الزاوية إلى وفاتها سنة 1904.
ولكن ولايتها لم تكن م عبد، بالورود، فقد كان عليها أن تناضل للحصول عليها، ضد ابن عمها وضد السلطات الفرنسية المحلية معا، فقبل وفاة أبيها بعث برسالة أو وصية إلى القائد الفرنسي كروشار (رئيس المكتب العربي) في بوسعادة أعلمه أن خليفته هو ابن أخيه الحاج محمد، وكانت السلطات الفرنسية تلح عليه في تعيين خليفته، وهي تقصد بذلك الحاج محمد الذي قيل إنه كان على علاقة طيبة مع هذه السلطات الحريصة على استقرار الزوايا وأمنها، لكن زينب اعترضت على هذه الوثيقة بعد وفاة والدها وقالت إن السلطات قد استصدرتها من والدها وهو في حالة لا يملك معها قواه، ثم إن زينب استعملت وثيقة أخرى قديمة لتثبت حقها في خلافة والدها، ففي 1877 أصيب الشيخ بنوبة قلبية، وبعدها كتب وصية موثقة على يد القاضي على أن أملاكه - وهي كثيرة - توضع تحت تصرف ابنته زينب، في شكل حبس عائلي، على أن تأخذ منه هي النصف، خلافا لما جرت به العادة، وفسرت زينب ذلك بأن هذه الوثيقة ترشحها هي لخلافة والدها، وهكذا دخلت في نزاع مع كروشار ومع ابن عمها، كما انجر الخلاف إلى الأتباع، وقد انتصرت هي في النهاية، ولكن حياتها لم تطل إلا سبع سنوات بعد وفاة والدها.
من المحتمل أن تكون زينب من مواليد الخمسينات من القرن الماضي، وقد نشأت في حجر والدها، وهي ابنته الوحيدة، وعلمها القرآن والعلوم والمحاسبة، وعاشت في مكتبة الزاوية مهتمة بالمخطوطات، وكانت هي التي تحفظ سجلات أملاك الزاوية، وعاشت عزبة طول حياتها، وتفرغت للزاوية والحياة الروحية والعبادة، وكاذت، بناء على وصف من راها، نحيفة الجسم
وعلى وجهها آثار الجدري وآثار الوشم، وفي آخر حياتها كانت ذابلة، وقد ازدادت نحولا وضعفا، وكانت تحضر مع والدها ولائم الزاوية ومآدب الزوار من مسلمين وأوروبيين، وكانت أثناء توليها شؤون الزاوية تستقبل الزوار من شيوخ الرحمانية والمسؤولين الفرنسيين، وكانت تظهر أمام الأتباع، ومن الذين شاهدوها وتحدثوا إليها من الأوروبيين وسجلوا أنطباعهم عنها: الفنان قيوميه، والمغامرة الأديبة إيزابيل إيبرهارد، والغريب أن هذه المغامرة قد زارتها عدة مرات، وكان الجواسيس الفرنسيون يسجلون حديثهما، وقد توفيتا في وقت واحد: إيزابيل في أكتوبر، وزينب في نوفمبر، عام 1904 (1).
ولا شك أن لابن عمها وجهة نظره أيضا في هذه المسألة الخلافية، ويبدو أن الكتاب انتصروا عموما لزينب ورأوا أن السلطات الفرنسية كانت تتدخل فيما لا يعنيها، وربما كان هذا الاتفاق على زينب لأنها امرأة، وقد أصبحت المرأة موضوعا اجتماعيا كبيرا بدعوى أن المجتمع لم يرحمها، وقد اعترف أشيل روبير بأن زينب قد أدارت الزاوية بنجاح، واعترف القضاء الفرنسي، بعد أن خرجت مسألة الخلاف من بوسعادة إلى الجزائر، أن الحق كان مع زينب، ويبدو أن السلطات الفرنسية العليا قررت الانتظار وترك المسألة للزمن تفاديا لتشعب الخلاف، ولعل هذه السلطات كانت تعرف أن زينب لن تعيش طويلا، وهكذا اختفت من المسرح بالموت وحل ابن عمها محلها تلقائيا، وتفادت الزاوية الانقسام الذي عانت منه زوايا أخرى (2). ونحن لا ندري كيف صارت حالة الزاوية بعد وفاة الشيخ الكبير (محمد بن بلقاسم). ولكن يبدو أنها مرت بمرحلة انتقالية، ونلاحظ أنه حلافا لبعض الزوايا لم تنقسم زاوية الهامل على نفسها وتتفرع إلى زوايا
(1) حول تفاصيل هذا الموضوع انظر كلنسي - سميث (ثائر وقديس). فصل - الشيخ وابنته - ص 214 - 253.
(2)
لم يطل عهد ابن عمها أيضا، ففي سنة 1914 كان على رأس الزاوية ابنه المختار، عن موقف الطرق من فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، انظر لاحقا،
صغيرة رغم كثرة الأبناء والأحفاد، فهل ذلك كان بوعي من أبناء العائلة القاسمية نفسها، أو كان هو رغبة السلطات الفرنسية؟ المهم أن الزاوية بقيت موحدة، وبقيت على سيرتها في التعليم أيضا، سيما أثناء حياة الشيخين: الديسي والخنقي (1). وأثناء مشيخة مصطفى القاسمي ستكتسب زاوية الهامل شهرة كبيرة، ولكنها وظفتها في أغراض أخرى معادية لحركة الإصلاح والتطور، وقد ظهر الشيخ مصطفى القاسمي متزعما لتيار هذه المعارضة فكتب هو وغيره الرسائل والتقارير إلى السلطات الفرنسية ضد الحركة الإصلاحية (2) وترأس المؤتمرات الموالية للإدارة وتحالف مع الشيخ عبد الحي الكتاني وغيره لجمع كلمة أصحاب الزوايا المؤيدة لفرنسا على مستوى المغرب العربي.
وما دمنا نتحدث محن الشيخ محمد بن بلقاسم (المرابط) كما أراده أهل الوقت والسلطات الفرنسية فلنقل إنه قد نسبت إليه كرامات كثيرة، ونحن لا ندري عقيدة الشيخ نفسه في ذلك وفيما كان يقال عنه، لأن علماء من أمثال أبي مدين الغوث ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي أصبحوا في نظر العامة وحتى في نظر المستعمرين ذوي النوايا الخاصة، من أصحاب الدروشة والكرامات، ونسي الناس علمهم وكتبهم وآراعصم في الدين والفلسفة والفلك ودورهم في قوة الأمة الإسلامية، وعلى هذا النحو فهم مستعدون أيضا لإلصاق الكرامات بابن خلدون وابن رشد وابن سينا والجاحظ ونحوهم، ومن أراد أن يطلع على بعض كرامات الشيخ محمد بن بلقاسم في
(1) إضافة إلى ما ذكرنا، انظر محمد علي دبوز، مرجع سابق (نهضة الجزائر). 1/ 56 وهنا وهناك، ولم يهتم الشيخ دبوز بالحياة الصوفية للزاوية، ونحن هنا اهتممنا بالجانب الطرقي، انظر عن الجانب التعليمي فصل التعليم.
(2)
من ذلك التقرير الذي كتبه الشيخ مصطفى القاسمي وهو بتاريخ 7 سبتمبر 1936 وقدمه إلى الحاكم العام، وقد ادعى فيه أن العلماء المصلحين يشتغلون بالسياسة، وأنهم لا أصل لهما عائليا ولا يتبعهم إلا الأوباش، خلافا لأصحاب الزوايا، انظر التقرير كاملا في ملحقات أطروحة عبد الحميد زوزو، ص 1311 - 1321،
نظر معاصريه فليطالع ترجمته في (تعريف الخلف) إذ يقول صاحب هذا الكتاب: (ما وقع نظره على عاص إلا أطاع، ولا على ناس إلا استيقظ، ولا مر بأرض مجدبة إلا أنبتت). فكيف يستقبل أبناء الجزائر اليوم هذا الكلام وكيف يفهمونه؟
ويقول أشيل روبير، بعد أكثر من ربع قرن من الوفاة، إن قبر الشيخ محمد بن بلقاسم يزار يوميا من 155 إلى 200 شخصا، ويحمل بعضهم إليه الزيارات الكريمة، وكان الشيخ قبل موته إذا تجول في الريف يأتيه الناس زرافات ووحدانا يقبلون برنوسه كقديس ويتمسحون بأوراقه ورسائله، معتقدين فيه الشرف، زار الشيخ الجزائر والبليدة والبرج والمدية والسور والبرواقية والمسيلة، وكان يجلس للناس ويقدم إليهم النصائح، ويأتيه من يطلب البرء من المرض ومن يطلب إنجاب الأطفال، ولا يجلس إلا على حصير وبعض الوسائد، دعاه مرة موظف رسمي إلى وليمة فجاء في الوقت وخلفه بعض الطلبة كالعادة، فكان هؤلاء يكددون عظام الدجاج الذي أكله الشيخ فيجدون في ذلك لذة خاصة، وذات يوم حضر لقاء كانت فيه نسوة فرنسيات، طلب من إحداهن كم لها من الأولاد فقالت إن لها بنات فقط، فطلب كوبا من الحليب فشرب منه رشفة ثم طلب من السيدة أن تشرب منه، مضيفا أن هذه الطريقة لا تتخلف في إنجاب الأولاد، لكن المرأة شربت من جانب آخر من الكوب، وبعد عام حضر الشيخ في مناسبة مشابهة فاستخبر عن المرأة فأجابوه أنها أنجبت بنتا، فقال: إن الله وحده هو المدبر! ومن الكرامات المنسوبة إليه هروب قطاع الطرق عندما أغاروا على قافلة محملة بالمؤونة إلى الزاوية، ومنها توقف قطار البليدة لكي يصلي الشيخ العصر رغم رفض السائق وقف القطار (1).
أرأيت كيف ضاعت شخصية الشيخ محمد بن بلقاسم العلمية في
(1) أشيل روبير، مرجع سابق، ص 262، ص 262، عن علاقة الشيخ محمد بن بلقاسم بناصر الدين ديني وإسلامه على يديه، انظر كلنسي - سميث، مرجع سابق،
ضباب هذه القصص الأسطورية؟ ولكن من كان يروج لها ويستفيد منها؟ اللهم إن هذا بعيد عن تعاليم الطريقة الرحمانية الأصلية التي قامت على بث العلم وخدمة الدين، على الأقل بالمفهوم البسيط، من عبادات وسلوك طيب مع الناس ومع الله.
ونعود إلى فروع الرحمانية في قسنطينة بعد وفاة الشيخ الحداد، ففرع قستطينة بقي مستقلا في عائلة باش تارزي، وعندما احتلت قسنطينة كانت الطريقة الرحمانية هناك في يد مصطفى باش تارزي الذي ورث والده، ثم السعيد بن أحمد باش تارزي الذي كان متوليا آخر القرن الماضي، وكان نشاط زاوية قسنطينة الرحمانية قد تأقلم مع الحياة المدنية في عهد الاحتلال، وتولى الرحمانيون هناك الوظائف الإدارية، ولكنهم ظلوا على صلة بالعلم والدين أيضا، أما المواقف السياسية فلا نجد لهم مشاركة فيها إلا ضمن العرائض التي كان يقدمها أعيان قسنطينة إلى السلطات الفرنسية مثل الشكوى لرفع الظلم أو طلب تعديل قانون جائر (1). ولا نعرف أن الرحمانيين في قسنطينة قد شاركوا في ثورة 1871 التي دعا إليها الشيخ الحداد.
وكان للزاوية الرحمانية في قسنطينة نشاط وفروع ومقدمون، وهي تتبع القواعد الرحمانية في الأذكار والممارسات والحضرة، وقد أصدر الشيخ محمد السعيد بن أحمد بن عبد الرحمن باش تارزي إجازة بتاريخ 1312 هـ وجهها إلى أتباعه وأصدقائه المحبين للزاوية، فأوصاهم فيها بذكر الله وترديد (لا إله إلا الله). والإجازة منجرة إليه من والده أحمد بن عبد الرحمن، وختمها يحمل تاريخ 1251، وحسب إحصاء آخر القرن (1897) فإن أتباع زاوية قسنطينة بلغوا 10، 070 بينهم 1، 958 امرأة، ولها ثماني زوايا، ووكيل واحد، و 25 طالبا، وشيخ واحد، و 85 مقدما، و 104 من الشواش، ومعظم هؤلاء الأخوان كانوا في إقليم قسنطينة، وبعضهم كانوا
(1) وجدنا أسماء لعائلة باش تارزي تولى أصحابها وظائف القيادة للفرنسيين جهة الأوراس،
في إقليم الجزائر أيضا (1).
ولكن الرحمانية قد مرت بامتحان عسير منذ 1871، سيما في المنطقة الممتدة من الأخضرية إلى القل، فقد استجاب الإخوان هناك لنداء الجهاد الذي أصدره الشيخ الحداد في 8 إبريل 1871، ونتيجة لذلك خربت زاوية صدوق، وسجن شيخها في 13 يوليو وقبض على ابنيه عبد العزيز ومحمد، وحوكم المقدمون والوكلاء وأعدم عدد منهم، وشرد الباقون تشريدا نموذجيا، وطوردوا إلى حدود تونس، وصودرت أملاكهم ووزعت على المستعمرين الفرنسيين، وزاد هؤلاء نكاية في الرحمانيين خاصة والجزائريين عامة، فاقاموا على أرض الزاوية وأوقافها قرية استيطانية قالوا إنها قرية جميلة، وأصبح خماسوها خدما عند الكولون (2). ولا تهمنا الثورة في حد ذاتها هنا لكن يهمنا مصير الرحمانيين، لقد تجاوز عمر الشيخ الحداد الثمانين عندما أدركته الوفاة في سجن الكدية بقسنطينة.
كان الخليفة المنتظر للشيخ الحداد هو ابنه عبد العزيز (عزيز). وكان عزيز هو الذي شجع والده على إعلان الجهاد، وتحمس للثورة، وكان يتحدث الفرنسية ويعرف بعض القادرة الفرنسيين، ولولا نفيه إلى كاليدونيا الجديدة لكان هو الخليفة الروحي للرحمانيين، ولذلك أوصى الشيخ الحداد بخلافته لتلميذه الحاج علي بن الحملاوي بن خليفة، وهو مقدمه في زاوية أولاد عبد النور، وكانت وصية الحداد قد كتبت واحتفظ بها إلى ما بعد وفاته، وبالتدرج تحول مركز الزاوية إلى وادي العثمانية، وقد أصبح هذا المركز مشعا على مجموعة من النواحي الأخرى، وأصبح لابن الحملاوي مقدموه أيضا، ومنهم الشيخ محمد البشير بن أحمد بن البواب الزموري الذي منحه الإجازة، وأصبحت زاوية وادي العثمانية ذات فروع أيضا، ولكن لم
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 396 - 397، بقي الشيخ محمد السعيد باش تارزي حيا إلى أن بلغ التسعين سنة، وتوفي سنة 1329 (1912). انظر عن ذلك التقويم الجزائري للشيخ كحول، 1912.
(2)
رين، مرجع سابق، ص 474،
تتبعها الفروع الرحمانية الجنوبية، وقد قدر الباحثون الفرنسيون أنه كان لابن الحملاوي 44 زاوية سنة 1897 و 136 طالبا، و 227 مقدما، و 352 شاوشا، أما الأخوان فقد قدروهم بـ 39، 528 من بينهم 3، 043 من النساء، وقيل إن له أتباعا أيضا في تونس وطرابلس والقاهرة وجدة.
وقد وصف الشيخ ابن الحملاوي بأنه محافظ جدا على عادات الطريقة، وأنه زاهد، ولا يخرج من الزاوية أبدا تقريبا، وكان يمتاز بالذكاء الحاد والعلاقات الصحيحة مع الفرنسيين، وقد بنى زاوية وادي العثمانية مجاورة لأخرى كانت بشلغوم العيد (شاطودان). وكانت له علاقات ودية مع بعض الأوروبيين في المنطقة، وهم يشهدون له بأنه أعانهم بالمال عندما كانوا في حاجة إليه، وقد شهد له بذلك وبحسن سيرته مع الفرنسيين (أوكتاف ديبون) أحد مؤلفي كتاب (الطرق الدينية الإسلامية) سنة 1897 (1). ويظهر من كلام الفرنسيين عن الشيخ ابن الحملاوي أنهم كانوا يفضلونه على الشيخ أبي القاسم البوجليلي الذي كان ينافسه في خلافة الشيخ الحداد، ولا ندري إن كان الشيخ الحداد قد أخذ في الاعتبار الاختلاف بين الشخصيتين ومدى فائدة الطريقة في ذلك، والغالب أن ذلك لم يكن خافيا عنه، ويقول (رين) إن اختيار الشيخ ابن الحملاوي كان اختيارا حكيما، لأنه كان مجهولا فلا يسبب حرجا للسلطات الفرنسية ولا للأعضاء المنفيين من عائلة الشيخ الحداد، وأن السلطة الفرنسية كانت تراقبه عن كثب (2). فلعل الشيخ الحداد فضل ابن الحملاوي على البوجليلي محافظة على الطريقة التي نكبت بعد ثورة 1871، ومهما كان الأمر فنحن لا ندري مدى ثقافة علي بن الحملاوي هذا، ولا جهوده في نشر العلم بالناحية، أما تلقين الذكر وهو (لا إله إلا الله). مع رفع الصوت واغلاق العينين، وإعطاء العهد، فقد جاء في إجازته لمقدمه محمد البشير الزموري، ونصت هذه الإجازة أيضا على وضع الشيخ كف اليد اليمنى على كف اليد اليمنى للمريد وترديد الذكر، أما بالنسبة للمرأة فالعهد يعطى
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 390، وكان ديبون مفتشا عاما للبلديات.
(2)
(رين). مرجع سابق، 475،
لها بوضع يدها في الماء أو بإحاطة خرقة على اليد، ويقوم الشيخ بنفس الشيء معها أيضا.
أما الشيخ محمد بن بلقاسم الحسني البوجليلي العباسي، فهو نموذج آخر من العلماء والزهاد، رغم أنه كان أيضا مقدما للشيخ الحداد، وقد ركز البوجليلي على العلم والتعليم بدل التصوف والممارسات المنسوبة للدين، كان الشيخ البوجليلي عالما بمفهوم ذلك الوقت، وهو يشبه شخصيات أخرى مماثلة ومعاصرة له، ولكن الاستعمار الفرنسي ثبطها وكبت مواهبها، مثل محمد الموسوم وعدة بن غلام الله ومحمد بن بلقاسم الهاملي ومصطفى بن عزوز، فلو أتيح لهؤلاء المناخ المناسب والحرية الفكرية لأعطوا للجزائر وجها آخر يمتاز بالمعرفة واتساع الأفق وخدمة اللغة والدين، كان الشيخ البوجليلي من الشخصيات المعترف لها كمقدم لزاوية بوجليل، دوار تيقرين، بلدية آقبو المختلطة عندئذة وقد أكب على التعليم والتأليف، وخدمة الدين، فاشتهر أمره وورد عليه الطلبة، فكان يجيزهم بالعلم لا بالذكر، وهذه ملاحظة المؤلفين الفرنسيين عليه (1). فقد أجاز تلميذه محمد بن عمر السازيلجي في 18 ذي الحجة 1292 (15 يناير 1876). وكان ذلك عند نهاية الدراسة، رخص له فيها بتعليم كل العلوم التي أخذها عنه من نحو وفقه وحديث، وغيرها، قائلا:(ليس هناك فرق بيني وبينه للراغب في هذه العلوم). فنحن إذن أمام شهادة علمية وليس إجازة بذكر الطريقة الرحمانية، كما اعتاد المشائخ، ومع ذلك فالشيخ عند السلطات الفرنسية وعند عامة الناس إنما هو مقدم بوجليل، وكان له أيضا إخوان يعلمهم الذكر، وهم يعدون 7، 904 إخوانيا، منهم بعض النسوة 1، 115، وله 42 زاوية تابعة، وهو الشيخ الوحيد، بالإضافة إلى ثمانية من الوكلاء، و 64 مقدما، فمجموع إخواف 9، 092 حسب إحصاء سنة 1897.
(1) سندرس حياته في المؤلفين والعلماء أيضا، والإجازة التي نستشهد بها ترجمها (ميرانت). المترجم العسكري بالحكومة العامة، انظر ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 390.
ونلاحظ هنا تركيز الفرنسيين على استقلالية الفروع الرحمانية بعد الشيخ الحداد، وقد ذكروا أن هناك فروعا أو مقدمين لا يعترفون بأي شيخ، ولكنهم بقوا يؤدون الزيارة السنوية إلى الزاوية الأم بآيت اسماعيل أو مدينة الجزائر حيث مزار الشيخ محمد بن عبد الرحمن (بو قبرين). وذكروا من هؤلاء الشيخ محمد بن الحسين المقيم في قرية (آيت أحمد) والذي كان يتمتع - بسمعة كبيرة في الدين والورع، وقيل عن هذا الشيخ إنه كان يثبت ولاءه للفرنسيين بإرسال قطع من السكر أو بضع برتقالات إليهم، مع بركته (1). كذلك بقي في آيت إسماعيل الشيخ محمد البجاوي وغيره ممن يقولون إنهم من نسل الشيخ ابن عبد الرحمن (بوقبرين). باعتبارهم مرابطين وليسوا مقدمين للرحمانية في المنطقة، وإضافة إلى ذلك هناك حوالي خمسة عشر مقدما آخرين في أنحاء الجزائر عندئذ، ولهم زوايا وأتباع رحمانيون، وقد قدر عدد أتباعهم وزواياهم كما يلي: حوالي 21، 000 إخواني، و 19 زاوية في المجموع، هذا طبعا خارج زوايا وأتباع الفروع التي ذكرناها.
لكن فرار الشيخ عزيز من منفاه في كاليدونيا الجديدة، سنة 1881 قد سبب إحراجا للأشياخ الرحمانيين، خصوصا ابن الحملاوي، وللسلطات الفرنسية، جاء الشيخ عزيز إلى مكة والمدينة بعد عشر سنوات قضاها في المنفى، وأصبح يتردد بين مكة وجدة، وكانت له فرصة في لقاء الحجاج ومراسلة إخوانه الرحمانيين عن طريقهم ومحاولة الرجوع إلى أرض الوطن، للأهل والأبناء، ولكن السلطة الفرنسية التي احتلت تونس وعاشت ثورة بوعمامة، غير مستعدة أن تفتح باب الجزائر للذي كان أحد زعماء ثورة 1871، ومع ذلك لم يقطع عزيز الأمل لقد كانت فرنسا مستعدة لشيء آخر وهو مراقبته عن طريق قناصلها ومراقبة مراسلاته عن طريق جواسيسها، كان الشيخ عزيز على صلة مباشرة، كما تقول المصادر الفرنسية، بكل رؤساء
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 395، كذلك ص 391.
الدين الإسلامي، وكانت تأتيه المراسلات من أتباعه في الجزائر عن طريق البريد والحجاج، ويعلق (رين) على محاولات ومناورات عزيز قائلا: إنه قد نضج بالسن، وتكون في مدرسة الشر، وهو يعرف أن إخوانه مسجونون في كورسيكا، وأن أقاربه ونساءه وابنه في قبضة الفرنسيين، ولذلك كان يبدي المشاعر النبيلة منذ فراره (1) من الفرنسيين، محاولا إقناعهم بتوبته النصوح، لكي يحصل على العفو، وكان يستخدم في ذلك كل الوسائل، من بينها معرفته الشخصية لبعض الدبلوماسيين الفرنسيين.
والمهم ليس ذلك، وإنما الخلافة الرحمانية، فالشيخ عزيز لم يتخل عنها سواء عفا عنه الفرنسيون أو لم يعفوا، ولكن هؤلاء غير مستعدين لتمكين عزيز من الرجوع إلى الجزائر، فهو حامل لواء ثورة 1871 وكان قد سمى نفسه (أمير جيش الجهاد). وهو الذي أثار السكان، وهو في نظرهم متفرنس وطموح إلى حد الغرور والكراهية لهم، وهو الذي تزعم اجتماع 27 مارس بصدوق وخطب فيه امرأ بقتل الفرنسيين، وقد أرسل عزيز رسائل الدعوة إلى الجهاد إلى الأقارب وأهل طريقته، فكيف يعفو الفرنسيون عنه؟ ومن يكن له الحقد الأعمق إذن؟ إضافة إلى ذلك كان عزيز ينتمي للرحمانية، التي هي فرع فقط لخلوتية الموجودة في القاهرة، وبينها وبين الشاذلية مبادئ مشتركة، وهي منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، وللرحمانية والشاذلية علاقات مع الطريقة السنوسية، ثم إن للرحمانية سنة 1884 حوالي مائة ألف من الأتباع - دون النساء (2) - فكيف تغامر فرنسا بالعفو عن عزيز؟
ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فرنسا ترضى بخلافة ابن الحملاوي الذي قيل عنه إنه كان مجهولا أو مغمورا، وبذلك ينقطع الطريق أمام عودة
(1) يذكر رين، أن عزيز نصح القنصل الفرنسي في جدة بعدم السماح للحجاج الجزائريين هذه السنة بالمجيء إلى الحجاز لانتشار (عدوى) ثورة الشيخ المهدي السوداني هناك، بدأت ثورة المهدي (محمد أحمد) سنة 1881، وتوفي المهدي سنة 1885. لكن الثورة استمرت إلى 1899 وانتهت بمقتل خليفته عبد اللهي (عبد الله).
(2)
هذه الأفكار واردة في (رين). مرجع سابق، ص 479.
عزيز. إن السلطة الفرنسية كانت تهيء الجو، في الواقع، لابنه صالح (ابن عزيز). الذي أصبح موظفا إداريا، والذي سيكون نعم الخلف لشر سلف، إذ يتماشى تعيينه على رأس الرحمانية، مع مبادئ هذه السلطات في تفتيت الطرق الكبرى وجعلها فروعا مشتتة أو مستقلة، كما يقولون. ولكن ذلك لن يكون ما دام الشيخ عزيز حيا.
وقد بقي عزيز حيا إلى سنة 1895، وحصل فعلا على العفو في هذه السنة، بعد جهود مضنية جعلته يعد الفرنسيين بنصائح وفوائد يجنونها من عودته، فقد رخصت له السلطات الفرنسية بالتوجه إلى باريس للعلاج في السنة المذكورة (1895). ولا ندري ما الضمانات التي حصل عليها ولا المأمول منه لدى هذه السلطات، فالظاهر أن الجانب الإنساني كان وراء الترخيص، ولكن السلطات الفرنسية كانت تعرف أن عزيز على صلة، كما قالوا، بكل أعيان العالم الإسلامي الروحيين، في وقت كانت فيه فرنسا تعيد ترتيب سياستها الإسلامية في المشرق على ضوء تيار الجامعة الإسلامية، فلماذا تترك هذا الغريم يعكر صفو خططها ويشوه سمعتها في الحجاز وغيره، ويكون مطية لأي راكب ضد السياسة الفرنسية؟ ألم تسمح للهاشمي بن الأمير عبد القادر بالرجوع والاستقرار في الجزائر بأسرته سنة 1892 (عهد جول كامبون)؟ ألم ترخص بزيارة فرنسا والجزائر لبعض أعيان وصحافي الشرق؟ ولكن عزيز لم تطل إقامته في باريس، فقد توفي بعد قليل من حلوله بها، دون أن نعرف الآن سبب الوفاة، وقد جيء بجثمانه إلى قسنطينة ودفن بها (1).
وتذهب بعض المصادر الفرنسية التي يحلو لها تخليط الأوراق لمصلحتها أن بعض مقدمي الرحمانية في الجزائر بقوا على ولائهم لعزيز بعد وفاة أبيه ولم يعترفوا بخلافة ابن الحملاوي، وتقول إن هؤلاء سيعترفون بابن عزيز، صالح، كشيخ عليهم عندما يكون هذا قد قرر أخذ شؤون الطريقة الرحمانية
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 285.
بين يديه، بعد أن أصبح موظفا في الإدارة الفرنسية، ومهما كان الأمر فإن عزيز قد استمر، من جانبه، يمنح بركته عن طريق الإجازات للإخوان، بالمراسلة من جدة ومكة، ومن الذين حصلوا منه على إجازة، الشيخ محمد بن عمارة، وقد جاء في اخرها: من عزيز الحداد (المبعد عن أهله)(1). وكان لعزيز أختام يوقع بها، منها واحد يظهر فيه اسمه هكذا (الشيخ عبد العزيز الجزائرلي) بطريقة النسبة التركية للجزائر، وفي هذا الختم تاريخ غير واضح، ولكن من الأكيد أنه بعد هروبه إلى الحجاز، وهناك ختم آخر يظهر فيه اسمه هكذا (الشيخ عزيز بن الشيخ الحداد) محاطا بغصني زيتون.
للطريقة الرحمانية عموما سلسلة الحقيقة وسلسلة الشريعة، ولها إجازات، ومصادرها في ذلك هي وصية الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري لأتباعه ومصادر الخلوتية، والرحمانية تستمد أيضا من تعاليم الشاذلية، ومن إجازة الشيخ الأزهري لعلي بن عيسى نعرف نموذج الورد الذي كان على هذا التلميذ أن يعطيه لغيره من الإخوان وسائر المسلمين، والورد هو (لا إله إلا الله، الله هو حق حي قيوم قهار) في كل وقت، ولاسيما من عصر يوم الجمعة إلى عصر يوم الخميس، وعليه أن يذكر الصلاة الشاذلية أيضا وهي: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، من عصر يوم الخميس إلى عصر يوم الجمعة، طاهرا أو غير طاهر، ثم يذكر عبارة اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، عدد ثمانين مرة بشرط أن يكون على طهارة، وقد أخذت الطريقة الرحمانية سبعة من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وهي: الله هو الحق والحي والقيوم والعلام والقهار.
وسلسلة الطريقة هي من المقدم إلى شيخه إلى الأزهري إلى الحفناوي الخلوتي، إلى بقية السلسلة التي تصل إلى الملك جبرائيل عن طريق الإمام
(1) نفس المصدر، ص 385، والإجازة بدون تاريخ ولا مكان، ولا يوجد نصها العربي، وإنما الترجمة الفرنسية فقط، وقام بها الضابط جان ميرانت.
علي ومحمد صلى الله عليه وسلم. وتبدأ هكذا: لقن رب العزة جبريل عليه السلام، وهو لقن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لقن علي بن أبي طالب، إلى أن تصل إلى الحفناوي الخلوتي الذي لقن محمد بن عبد الرحمن الأزهري وتسمى أيضا الإجازة، وهي تلتقي مع السلسلة الشاذلية في عدة شيوخ.
وطريقة تلقين الورد موجودة في عدة مصادر، مثل وصية الشيخ الأزهري نفسه، وكذلك إجازة الشيخ علي بن عثمان إلى بعض الأتباع، وهي تبدأ هكذا: أما بعد فإني أذنت وأجزت إجازة تامة شاملة الحامل المنور الصالح العامل الحاذق الأديب العارف بربه، ولدنا قلبا لا صلبا، سيدي (فلان) أن يعطي أوراد طريقتنا الخلوتية المتصل سندها إلى خير البرية، صلى الله عليه وسلم، وصفة التلقين هي أن يمسك إبهام يمين الطالب ويقول له:(غمض عينيك واسمع إلي وتبعني: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، باسم الله الرحمن الرحيم، أستغفر الله، تبنا لله ولرسوله، اللهم يا رب اغفر لنا ما مضى وأصلح لنا ما بقي، ثم تقول: اسكت، وتقول وحدك: لا إله إلا الله ثلاثا، ثم يقولها ثلاثا، ثم تأخذ الفاتحة لكما وللنبي والشيخ المربي، ثم تأمره بطاعة الله ورسوله، ويذكر بعد صلاة الصبح ثلاثمائة مرة لا إله إلا الله، وإن زدتم فحسن، ومن عصر يوم الخميس إلى عصر يوم الجمعة الصلاة الشاذلية، وهي اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ما يسر الله، وبعد عصر يوم الجمعة أختم بالأمي، وهي اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، ثمانين مرة، يغفر الله لقائلها ذنب ثمانين سنة). واستمرت الإجازة توصي الإخوان بقول الشيخ علي بن عثمان (ومن أخذ منه كأنما أخذ مني، وعليكم بطاعته، ومداومة الحضرة صباحا ومساء مجتمعين ليحصل المدد النبوي منه، صلى الله عليه وسلم، وعليكم بمخاوات (مؤاخاة) بعضكم بعضا، وعليكم أيضا بالصبر والتسليم لخلق الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وجدوا واجتهدوا في ذكركم لتدخلوا في حزب الطريقة المنورة، فإن من دخلها دخل في حزب وضمانة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ومن دخلها كمن دخل سفينة نوح، وكمن دخل مقام إبراهيم، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طريقتك هذه كسفينة نوح من دخلها نجا ومقام إبراهيم من دخله كان آمنا، وبشارة المصطفى للمشائخ جيلا بعد جيل، ولم تنقطع إلى الآن، وهو زمن التاريخ)(1).
وقد أطلنا في إيراد هذه الإجازة لأنها شاملة وواضخة، وهي تعطي صفة التلقين، وأصل السلسلة الصوفية، وتبين العلاقة بين ورد الرحمانية والخلوتية والشاذلية، ورأينا كيف تنص على الصبر والتعاون و (التسليم لخلق الله) الذي فهم منه عدم التدخل في السياسة والخصومات، كما تذكر عدد مرات الذكر وتحدد أوقاته، ثم تترك المجال للمزيد بقولها:(ما تيسر، أو وإن زدتم فحسن). والعبارات التي تشير إلى أن الطريقة كسفينة نوح موجودة في إجازات الشيخ الأزهري ووصاياه أيضا، وله رؤية يخبر فيها أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره أن طريقه كسفينة نوح، وقد لخصها الشيخ الأزهري في العبارات الآتية: سيكون ناجيا من النار كل من اتبع طريقتي، أحب طريقتي أو أحبني، زارني حيا أو وقف على قبرى، قرأ ذكري (2).
لذلك يجتمع أتباع الرحمانية في زواياهم ويرددون الذكر ويطبقون وصية الشيخ الأزهري، يجتمعون من عصر الخميس إلى عصر الجمعة، ويذكرون بأصوات عالية، ويمكنهم الدخول والخروج بشرط أن يبقى جماعة منهم تواصل الذكر والأدعية والصلوات، وهناك زوايا ينقسم فيها الإخوان إلى أفواج حسب ساعات منتظمة لمواصلة الذكر، حتى لا ينقطع اسم الله من
(1) وهو 28 جمادي الأولى، 1302 (1884). في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 401، ويوجد النص العربي والفرنسي لهذه الإجازة، انظر أيضا الحفناوي (تعريف) مرجع سابق، 2/ 457، وكذلك رين، مرجع سابق، ص 469.
(2)
رين، مرجع سابق، ص 466، بعض الإجازات الصادرة من الفروع قد تختلف قليلا في عدد مرات الذكر أو بإضافة عبارة أو التركيز على أخرى، ولكن الأصل واحد والممارسات واحدة، انظر مثلا الإجازة التي ذكرها ديبون وكوبولاني، ص 399، والمنسوبة إلى الشيخ مصطفى بن عزوز شيخ زاوية نفطة، وتاريخها هو 16 ربيع (؟) 1278 (21 سبتمبر، 1861) أي أربع سنوات قبل وفاته.
مسجد الزاوية، ومن ممارساتهم أثناء ذلك قراءة مرايا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، ولكن الوصية مقروءة أكثر من المرايا عند الإخوان، وتبدأ الوصيه هكذا: اسمع مني وصيتي إليك، واعمل بها كما ألزمت نفسك عهد الله وميثاقه، أن تتقي الله في سائر أحوالك، وتخلص في جميع أعمالك، الخ (1).
أما الإجازة والسلسلة في الشريعة عند الرحمانيين فتبدأ هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين، ثم تذكر الإجازة، كما رأينا في إجازة البوجليلي لتلميذه في العلوم التي درسها عليه، وخلافا لبعض الطرق الصوفية، فإن الرحمانية تعمل على نشر العلم وتعتبره من مهماتها إلى جانب نشر الطريقة، ذلك أن الشيخ الأزهري لم يكتف بتأسيس الطريقة والزاوية وإنما بث المعارف من فقه وتوحيد وتفسير ولغة، لذلك أصبح التعليم عندهم جزءا عاما من مهمات المقدمين الذين كانوا عادة من بين المتعلمين، وتشهد إجازاتهم على أنهم يعملون بالعلم الظاهري أو الشريعة بالإضافة إلى العلم الباطني أو الحقيقة والطريقة، وقد رأينا كيف نشأت معاهد ومدارس في ظل الزوايا الرحمانية ومكتبات وحلقات درس في وقت كادت فيه شمس العلم أن تغرب خلال العهد الفرنسي.
وإحصاء أتباع الطريقة الرحمانية من الصعب إدراكه بدقة، والذين حاولوا ذلك توقفوا في عدة نقاط، فالذين أحصوا الرجال لم يستطيعوا عد النساء، والذي أحصوا إخوان الشمال لم يستطيعوا إحصاء إخوان الجنوب، كما أنهم لاحظوا أن تفرق الزوايا والمقدمين بعد الضربات التي تلقتها الطريقة جعل الإخوان ينضمون إلى هذه الزاوية أو تلك دون عراقيل، ولذلك صعب إحصاء عددهم، كما قلنا، وعند نهاية القرن الماضي بلغوا أكثر من مائة وستين ألف تابع، فلو كان لهذا العدد رأس واحد (شيخ واحد) - كما هو تقليد الطرق، لأصبح على الفرنسيين أن يواجهوا حزبا دينيا يقض مضاجعهم
(1) الحفناوي، مرجع سابق، 2/ 457.
ويهدد وجودهم، ولذلك كانوا يتواصون بالحذر من الرحمانيين ومراقبتهم، كما سنرى.
يثبت إحصاء سنة 1882 أن عدد الإخوان الرحمانيين بلغ 96، 161 من الرجال فقط، أما المقدمون فهم 754، وأما عدد الزوايا عندئذ فهو 220 (1). وقد جاء في إحصاء 1897 أن العدد قد بلغ 160 ألفا في مجموع الزوايا التي درست، ومعنى ذلك أن هناك مناطق ظلية لم تدرس وهناك إخوان لم يدخلوا بعد في العدد، وقد حمد الله صاحب هذا المصدر على أنه لم يكن لهؤلاء الرحمانيين قوة محركة واحدة (يقصد شيخا أو زاوية واحدة) وإلا لكان على فرنسا أن تنسج كفنها بسرعة، وقد تنبأ بأن الرحمانية ستتلاشى مع الأيام وتنتهي عاجلا أو آجلا بالاختفاء من مسرح الحياة (2).
وقد أعطى هنري قارو الذي درس الحركة الإسلامية في أوائل هذا القرن، إحصاء آخر للطريقة الرحمانية سنة 1906. فكان مجموع الإخوان الرحمانيين، بناء على رأيه هو 133، من بينهم أكثر من 13000 من النساء، وهذا هو جدول الأتباع والزوايا بناء على إحصاء قارو:
وادي العثمانية
…
40، 000 إخواني
…
40 زاوية
آقبو
…
9، 000 إخواني
…
42 زاوية
قسنطينة
…
10، 000 إخواني
…
8 زوايا
طولقة
…
16، 000 إخواني
…
17 زاوية
الهامل (بوسعادة)
…
43، 000 إخواني
…
29 زاوية
أحمر خدو (الأوراس)
…
2، 000 إخواني
…
3 زوايا
نفطة (تونس)
…
13، 000 إخواني
…
15 زاوية
(1) رين، مرجع سابق، ص 479 - 480.
(2)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 412 - 413، كان الكاتبان يبالغان في عدد الرحمانيين لإثارة الانتباه إلى خطورتهم على الأمن العام وعلى الأوروبيين في الجزائر.
ونلاحظ أنه لم يذكر فرع وادي سوف (زاوية سيدي سالم). وذكر فرع نفطة رغم أنه في تونس ربما لكثرة أتباع هذا الفرع في الجزائر ولأصوله الجزائرية، كما لم يذكر فروعا رحمانية أخرى مثل الخنقة وخيران (1).
وقبل أن نطوي صفحة الحديث عن الرحمانية نذكر أن بعضهم يقول إنها كانت وراء انتفاضة عين التركي سنة 1901 التي وقعت بالقرب من مليانة والتي قادها الشيخ يعقوب (المرابط الرحماني) ضد المسيحيين في الناحية، محاولا إجبارهم على اعتناق الإسلام، حسب رواية هذا المصدر، وقد أعد الشيخ العدة للهجوم على المراكز الأوروبية قبل إعلان الجهاد (2). وأضاف هذا المصدر (هنري قارو) أن انتفاضة الشيخ عمر (عمار؟) بن عثمان التي حدثت سنة 1906، في أعقاب انتفاضة الشيخ يعقوب المذكورة كانت أيضا رحمانية، وقد وقعت في القصرين Kasserine (؟). وهيج هذا الشيخ المسلمين باسم الجهاد وهاجم الأوروبيين الذين رفضوا اعتناق الإسلام، بل ذهب هذا المصدر إلى القول بأن الشريف بوبغلة زعيم ثورة 1851 - 1854، كان مقدما رحمانيا، وهكذا كان بعض الباحثين الفرنسيين (يتخيلون) أشباح الإخوان الرحمانيين وهي تطاردهم في كل حدث يقع ضدهم.
نعم هكذا كانوا يتخيلونها، فهذا ديبون وكوبولاني يقولان (3) إن الرحمانية انتشرت بسرعة عبر الجزائر في أقل من قرن، وإنه يمكن مقارنتها بكنيسة (كذا) وطنية مقسمة إلى أكثر من عشرين فرعا بقساوستها (كذا) وكهنتها ومسؤوليها، ولكنها كنيسة بدون وحدة إدارية (بدون بابا). فهي ممزقة، وان ممثليها يتنافسون فيما بينهم تبعا للمصالح الداخلية، وهم يديرون زواياهم باستقلال، ويجلبون الأتباع لأنفسهم، ولهم مقدمون نشطون
(1) هنري قارو، مرجع سابق، ص 171.
(2)
نفس المصدر، 187، انظر عن انتفاضة عين التركي، كتابنا الحركة الوطنية الجزائر، ج 2/ ط، 5.
(3)
ص 412 - 413.
يسكنون المدن ومتمردون عن مراكزهم وزواياهم، لقد كانت الرحمانية طريقة دينية (صوفية؟) وتحولت إلى جمعية سياسية (حزب). حيث العلاقات مندمجة مع المصالح المادية أو الزمنية، لقد انتهى تأثير الشيوخ الكبار أو سينتهي لكن كل مقدم بقي غيورا على الإجازة التي يملكها والتي بها يجلب الإخوان ويعطي العهد ويتقبل الهدايا من الزوار، وما يزال الذكر مشتركا بين الرحمانيين والممارسات واحدة، وهم (يحسون) بوجود بعضهم البعض.
وقبل ذلك كان رين قد أبدى ملاحظات مشابهة حول تطور الطريقة الرحمانية، فمقدموها يسميهم (الخليفة) بطلب من الإخوان وباقتراحهم، وكل خليفة له ختم يختم به على الإجازة وعليه تاريخ توليته، وتضم الطريقة عددا كبيرا من النساء أيضا وفيهن بعض المقدمات، وقد تداخل الرحمانيون بنشاط في مختلف الثورات ضد الفرنسيين، ولكنهم لم يكونوا دائما هم المثورين المباشرين بل كانوا أحيانا مجرد عملاء نشطين لزعماء آخرين، يتنقلون بين الثوار ويحمسونهم للجهاد، ويذهب رين الذي كان يكتب سنة 1884 أن فرعين من الرحمانية بقيا موالين للسلطات الفرنسية، وهما فرع طولقة وفرع أولاد جلال، وموقف هذا الفرع تبناه أيضا شرفة الهامل، وكان ذلك هو موقف الشيخ الحداد أيضا بين سنوات 1857 و 1871، لقد كشف (رين) عن ممارسة غير غريبة على السلطات الفرنسية عندئذة وهي استخدام الطرق الصوفية ضد بعضها البعض، وذلك في قوله إن فروع الرحمانية في الجنوب توجد وسط مناطق ينتشر فيها أيضا أتباع الطريقة التجانية، وهم يتساوون معهم أو يتفوقون عليهم من حيث العدد، وذكر أن أتباع التجانية يقومون بمراقبة الرحمانيين لأنهم خصومهم، ولأن التجانية، في نظر رين طريقة مهدئة لا غبار عليها (1). وردد هنري قارو نفس الرأي تقريبا إذ قال سنة 1906 إن الزوايا الرحمانية المستقلة في نفطة وطولقة والهامل قد اتبعت
(1) رين، مرجع سابق، ص 474.
إشارة الطريقة التجانية بأن الساعة لم تحن بعد لطرد الرومي (الفرنسي)(1). ولكن (رين) حذر قومه قائلا: إذا كنا اليوم نعتمد على فروع الرحمانية في الجنوب فقد يكون ذلك غير ممكن غدا، ذلك أن المقدمين الرحمانيين في الصحراء وفي التل يعيشون متحررين من الالتزام، وإذا لم يكن هناك زعيم صف (حزب) سياسي قدير على جميع الزيارات وتبديل العلاقات، فإن بإمكانهم حينئذ أن ينضموا لهذا أو ذاك، دون حرج، كما حذر من العلاقات (الخارجية) التي للرحمانية مع الشاذلية والسنوسية والخلوتية، وهي العلاقات التي لا يمكن لفرنسا مراقبتها دائما وبدقة.
إن الرحمانية كانت منتشرة أيضا في مناطق شرقية أخرى غير الجنوب. وقد دلت البحوث الفرنسية على انتشارها في نواحي تبسة وخنشلة ومسكيانة وسوق أهراس والعين البيضاء، وكانت زاوية نفطة العزوزية هي الأكثر نشاطا في تلك النواحي، ومنذ احتلال تونس 1881 تغير نشاط هذه الزاوية لأن الفرنسيين تدخلوا في شؤونها وراقبوها، كما أنهم أحدثوا الشقاق بينها وبين زاوية طولقة من جهة وبينها وبين الزاوية التجانية من جهة أخرى، وقد وجد (أوغست كور) لذي درس الزوايا والأتباع في النواحي المذكورة حوالي 1914 أن الرحمانية وحدها كانت تضم أكثر من نصف عدد السكان، والتجانية أكثر من الربع، والقادرية أكثر من العشر، غير أنه لاحظ أن التأثير الحقيقي ليس بالعدد ولكن بنفوذ المقدمين، وكان أكثر هؤلاء المقدمين من فروع الرحمانية بتونس (نفطة وتمغزة). أو من طرابلس بالنسبة لبعض الطرف الأخرى كالمدنية، وهكذا لم يبق لتأثير الطرق الجزائرية، حسب تعبيره، سوى النصف (2).
(1) قارو، مرجع سابق، ص 171.
(2)
كور (بحوث في الطرق الصوفية بنواحي الشرق الجزائري) في (المجلة الإفريقية) 1921، ص 298 وهنا وهناك، المقال مكتوب سنة 1914 ولم ينشر بسبب الحرب، وتوقف المجلة.
وهناك فرع للرحمانية نشأ في سوق أهراس على يد الشيخ الكامل بن المكي بن عزوز، ولا نريد أن نطيل في الحديث عنه رغم أنه قد يكشف عن خلفيات هامة في علاقات التصوف بالسياسة وعلاقات الجزائر بالمشرق، والشيخ الكامل هو حفيد الشيخ مصطفى بن عزوز الذي هاجر إلى نفطة بعد احتلال بسكرة 1844، كما سبق، وكان للشيخ مصطفى عدد من الأبناء، هم: الحفناوي الذي خلفه على زاوية نفطة، ومحمد الذي أسس زاوية بالقيروان، ومبروك الذي أسس زاوية بالأغواط وتوفي فيها سنة 1888، والمكي الذي اشتهر بالعلم والهجرة إلى المشرق والعمل في نطاق الجامعة الإسلامية، وأحدث الفرنسيون، بعد احتلال تونس تنافسا بين زاويتي طولقة ونفطة أو بين الحفناوي المذكور والحسين أخ علي بن عثمان شيخ زاوية طولقة، فقد اتهم الحسين معاصره الحفناوي بانه معاد لفرنسا، كما تقول الوثائق الفرنسية، وانتهى الخلاف بينهما إلى الانفصال، وهو ما كان يعمل له الفرنسيون، ولكن بعض زعماء الطرق الصوفية عندئذ كانوا غافلين.
بقيت الخصومة بين الفرعين: طولقة ونفطة حتى بعد اختفاء الحسين والحفناوي، فقد ذهب البليدي بن الحسين إلى توزر لتأسيس زاوية منافسة للعزو زية، وبعد وفاة الحفناوي خلفه ابنه محمد الأزهاري الذي وجد صعوبة في المحافظة على رصيد الزاوية الذي كان لها في عهد جده مصطفى (1).
وكان الشيخ المكي قد تزوج من نواحي بوسعادة وأنجب ولده الكامل في الجزائر التي كان يتردد عليها من تونس، ويقول (كور) إن الكامل ولد في برج طولقة، وعلمه والده إلى أن تخرج مثله من جامع الزيتونة، ولكنه لم يهاجر معه إلى المشرق، فقد رجع الكامل إلى الجزائر وحاول نشر الرحمانية دون التدخل في السياسة، سكن العين البيضاء وحصل على أرض هناك
(1) من الغريب أن مبروك بن محمد بن عزوز تمرد، كما قالوا، على تقاليد أبيه وأخوته وعمل عينا للفرنسيين على إخوته، بمن فيهم مصطفى بن عزوز، انظر كلنسي - سميث (ثائر وقديس). مرجع سابق.
بالكراء حوالي سنة 1905، وكانت الطرق الفاعلة هناك هي الرحمانية التابعة لزاوية نفطة ثم الطريقة التجانية، ووسط خلافات عائلية (عائلة ابن بوزيد وعائلة سي عون) وخلافات المخازنية والمرابطين وتدخلات الإدارة، أخذ الكامل ينشر طريقته، وقد قيل إن الإمام الرسمي للجامع قد تركه يخطب بدله في الناس مما جعل الإدارة تتحرك ضده (الكامل) وتجبره على مغادرة العين البيضاء سنة 1907، فذهب إلى العاصمة، ثم رخصوا له في الذهاب إلى سوق أهراس حيث كان جده من جهة الأم يشتغل بالقضاء في ناحية مجردة، واشترى الشيخ الكامل مزرعة هناك وكثر مقدموه وأتباعه نظرأ لسمعة جده مصطفى وكذلك سمعة والده (المكي).
وكانت المزرعة ملكا لأحد الكولون، ولكن الكامل حولها إلى زاوية. وعند إعلان الحرب العالمية (1914) طلب الشيخ الكامل، كما قال كور، من أتباعه تأييد فرنسا (1). وحاول الفرنسيون أن يستعملوا نفوذه أيضا ضد زاوية طولقة وزاوية الخنقة، ويذكر (كور) أن الكامل كان تحت (المراقبة الشديدة) من قبل الفرنسيين وأنه نشط نشاطا خاصا أثناء حرب طرابلس ضد الإيطاليين وجمع التبرعات للمجاهدين (2). ولا ندري الآن كيف انتهت زاوية سوق أهراس.
وشخصية صالح خاوة من النوع (الميلودراما) في العلاقات بين رجال الدين والدنيا والفرنسيين، وقصته طويلة وتعبر عن ظلال كثيفة لا يمكن رؤية ما خلفها بسهولة في الوقت الراهن، ونحن لا نهتم هنا إلا بالجانب الديني - الرحمانية - والإدارة، وصالح هو ابن يوسف بن عبيد، كان جده عبيد قاضيا في عنابة في العهد الفرنسي، وكذلك تولى أبوه يوسف القضاء في بوحجر، حيث ولد صالح حوالي 1856، والعائلة من دوار المريج ببلدية مرسط، وأصلهم من قبيلة الهمامة القاطنة تونس في أغلبها، ويبدو أن صالح كان
(1) لم نجد نداءه ضمن العدد الخاص من (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، وهو العدد الذي ضم نداءات ونصائح ووصايا زعماء الطرق الصوفية.
(2)
كور (بحوث
…
) مرجع سابق، ص 319 - 325.
طموحا ونشطا ولكنه وجد عراقيل إدارية وتواطؤا محليا، فلجأ إلى المغامرة ومواجهة الأمر الواقع بدون عدة، وصفه كور بأنه رجل وسيم الطلعة، له صوت طليق، وحديث جذاب، وكان صوته مسموعا على بعد، وعيناه نافذتان، وكان فخورا بنفسه لدرجة الادعاء والغرور، حسب تعبير كور.
أمام العراقيل الإدارية، حصل صالح خاوة على إجازة من مقدم الرحمانية في زاوية الكرشة، قرب عين مليلة، وهو الشيخ أحمد الشريف، وأصبح مقدما رحمانيا، وكان الشيخ أحمد الشريف تابعا لزاوية باش تارزي في قسنطينة، وكان الشيخ صالح يتصرف باستقلال فيعطي بدوره الإجازات لمن يقومون بالدعاية له، كما كان، حسب كور، يقوم بالتطبيب ويمارس السحر، فجاءته الزيارات (المالية) بكثرة، وكانت له أرض غرسها أشجارا، واستولى على منبع الماء هناك (دوار عين الملاحة). وحين أرادت السلطات أخذ الضرائب منه رفض وادعى أنه على أرض تونسية، وتقول السلطات الفرنسية إن رفضه كان قاطعا وخشنا وأمام الأهالي الذين أراد أن يستثيرهم ضد هذه السلطات، ومن ثمة يفهم أن الإدارة كانت تخشاه وتتهمه بالاستفزاز ضدها وتهديد الأوضاع عامة، ولذلك سجنوه دون محاكمة كما تدل الرواية التي ساقها كور، وكان المتصرفون الإداريون يفعلون ما يريدون بالأهالي، حسب قانون (الأندجينا) المعروف.
واستنجد خاوة بالنائب البان روزي، الذي عرف عنه الاهتمام بشؤون الجزائر والتردد عليها لمعرفة ما يجري فيها، ووصلت شكوى صالح خاوة ضد حاكم مرسط إلى أسماع جورج كليمنصو، رئيس الوزراء، وجرى التحقيق سنة 1910، ولكنه لم يسفر على إنصاف خاوة بل الاستمرار في سجنه، فباع أرضه إلى أحد الأوروبيين واشترى أرضا أخرى في تونس وطلب رخصة بالإقامة فيها فلم يرخص له، بل أنه حمل إلى سجن تقرت حيث ساءت صحته. وظل يحتج على سوء المعاملة والظلم طالبا إذن الإقامة على ملكه في تونس، وحين نشبت الحرب العالمية كان ما يزال سجينا، ونظرا لسوء صحته أطلقوا سراحه ومات في تآجرونة قرب الكاف سنة 1919، وهكذا اختفى رجل لا
نعرف التهم التي كانت ضده بالضبط، فهل كانوا يخشون من رحمانيته أو عدائه الواضح للإداريين المحليين؟ هذا مع اعتراف الفرنسيين أن جده وأباه قد خدماهم في نطاق القضاء (1).
ولكن الحرب العالمية الأولى وجدت الرحمانية مستعدة كغيرها للإعلان عن تأييد فرنسا ضد تركيا وألمانيا، والزوايا الثلاث التي أعلنت رأيها كلها (جنوبية) حسب تعبير الفرنسيين، وهي زاوية الهامل وزاوية طولقة وزاوية أولاد جلال، ولا ندري لماذا لم نجد اسم زاوية وادي العثمانية التي أخذ شيخها ابن الحملاوي بركة الشيخ الحداد، كذلك لا نجد اسم زاوية باش تارزي في قسنطينة التي كانت (الأم) لعدد من زوايا الجنوب في وقت سابق.
فقد وجه شيخ زاوية طولقة عندئذ عمر بن علي بن عثمان، نداء إلى إخوانه الرحمانيين والمسلمين عامة قائلا إن بين زاويته والدولة الفرنسية علاقات وثقى (حتى صرنا معها (الدولة الفرنسية) كالأصابع الملتصقة بالراحة، فنحن وإياها ذات واحدة (وهذا تعبير صوفي بدون شك) وما يصيب أحد الطرفين يؤلم الآخر). وبعد هذه اللغة الصوفية - السياسية، وصف الشيخ عمر موقف تركيا بأنه مخز، ووصف ألمانيا بالتوحش، وقد تنبأ بسقوط الخلافة التي اغتصبها الأتراك، وأورد الشيخ عمر رؤيا غريبة حول الحرب وانضمام تركيا إلى معسكر الظالمين، كما قال، وبذلك تخرج الخلافة من يدها لأنها اغتصبتها اغتصابا، كما تنبأ بانتصار فرنسا، وأخبر أتباعه بأنه يدعو (لدولتنا الجمهورية العزيزة بالنصر آناء الليل وأطراف النهار)(2) ويذكرنا موقف زعماء الطرق الصوفية سنة 1914 بموقف زعيم حزب الشعب، مصالي الحاج، من فرنسا سنة 1939، فهو وإن لم يدع بالنصر لها لأنه كان
(1) كور (بحوث
…
) مرجع سابق، ص 121 - 123.
(2)
مجلة العالم الإسلامي، R.M.M (ديسمبر 1914). ص 222، مما يذكر أن الحاكم العام الجديد للجزائر، وهو شارل لوطو، قد زار زاوية طولقة سنة 1913، وقيل إن الشيخ عمر بن عثمان قد احتفى به، انظر (التقويم الجزائري) للشيخ كحول، سنة 1913، وقد تضمن هذا العدد صورة الحدث.
سجينا عندها، فإنه رفض الخروج عنها والانضمام إلى أعدائها في الحرب قائلا ما معناه إن استعمارا تعرفه خير من استعمار لا تعرفه.
وأعلنت زاويتا الهامل وأولاد جلال تأييدهما لفرنسا أيضا على لسان شيخيهما: المختار بن الحاج محمد بن بلقاسم الهاملي ومحمد الصغير بن المختار الجلالي، فقد هنا الأول أتباعه على إعانتهم لفرنسا، وأظهر لؤم الأتراك الذين لم يعترفوا بجميل الدولة الفرنسية التي طالما أعانتهم في البلقان، والغريب أن هذا الشيخ أعلن أن الجزائريين مدينون لفرنسا (كما هو مقرر في الأذهان) لأنها قدمت لهم أفضالا لا تحصى، (فهذه مدة تقرب من قرن ونحن بفضلها رقود في مهد العافية والأمن) قال ذلك ليقارن بين العهد الفرنسي وعهد الأتراك الذي تحدث عنه الآباء عن الأجداد بأنه كان عهد فضائح، وعلى الجزائريين أن ينتظروا أكثر مما مضى من أفضال (دولتنا الفخيمة)(1). أما الشيخ محمد الصغير الجلالي فقد اختصر كلامه وإن كان يصب في نفس المعنى، فحكم بخطأ تركيا في إعلان الحرب على فرنسا، وكونها واقعة تحت النفوذ الألماني ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، وكون ألمانيا دولة متوحشة وفرنسا دولة قدمت في الماضي المساعدات إلى تركيا، أما العلاقات الدينية مع الأتراك فلم تعد الآن قائمة بينهم وبين الجزائريين لأن حكام تركيا عندئذ غير متدينين، وأضاف أن الجزائريين عرب والأتراك عجم، ودعا كغيره الجزائريين إلى الوقوف إلى جانب فرنسا التي أحسنت إليهم، والاستعداد للدفاع عنها بكل الوسائل (2).
ويبدو أن نداءات ونصائح هذه الزوايا لم تثمر، فإن منطقة الأوراس قد انتفضت سنة 1916، وشملت الانتفاضة مناطق هذه الزوايا، وظلت المنطقة محاصرة ومعزولة طيلة أمد الحرب، وبذلك أظهر الجزائريون أنهم غير
(1) مجلة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 216 - 218.
(2)
نفس المصدر، ص 226، ذكرت بعض التقارير الفرنسية أن زاوية مولى القرقور في بلازمة قد لعبت دورا (متوازنا) أثناء ثورة 1916 في الأوراس، انظر أرشيف 89 H 10 بايكس (فرنسا).
مستعدين للدفاع عن فرنسا ولا للاعتراف بجميلها وأفضالها كما أراد بعض الشيوخ، كما أن شيخ زاوية سيدي منصور في بني جناد بزواوة، وهو أحمد بن محمد الداودي، قد وجه نداء إلى أتباعه والمسلمين كافة لمساندة فرنسا والوقوف ضد ألمانيا، ولم يتعرض للأتراك، وقال عن فرنسا إنها احترمت العادات والتقاليد (ونحن في خير وعافية وبسط ورغد عيشة وافية). وإنها فعلت مع الجزائريين ما تفعله الأم بأولادها (1).
لقد مرت الطريقة الرحمانية، كغيرها من الطرق، بمراحل وهزات. وكان عليها أن تتأقلم مع الظروف الجديدة، ومنها الانقسام المراد لجميع الطرق والتشتت، ومنها الضعف العام والتنافس مع بعضها ومع بعض الطرق الأخرى، تنافسا ذاتيا أحيانا أو محركا من قبل السلطات الفرنسية أحيانا أخرى، وقد لعبت هذه السلطات أوراق الطرق القادرية والتجانية والطيبية والرحمانية لصالحها، وحتى الشيخية والسنوسية، وذلك بالدس والتحريض، والترفيع والتخفيض، والتحريش والتهويش، وكان المشائخ أحيانا أدوات طيعة، والأتباع الجهلة مطايا ذليلة، فكان المستفيد الوحيد من ذلك هو الاستعمار الفرنسي أولا وأخيرا، وكان الخاسر هو الدين الإسلامي الذي تزعم تلك الطرق أنها تدافع عنه وتتولاه، ومهما كان الأمر فإن لكل طريقة سجلها الفخري أو غير الفخري في خدمة الدين والبلاد أو خدمة الإدارة الفرنسية.
وستتضح السجلات بشكل أكثر وضوحا عند دراستنا لبقية الطرق الصوفية.
(1) مجلة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 262، والشيخ أحمد قد يكون هو أحمد بن محمد السعيد البويوسفي.
شجرة الطريقة الرحمانية (*)
[صورة]
(*) المصدر: ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 384، ولم يذكر هذا المصدر عزيز الحداد، ولا مقدمي الرحمانية المستقلين، وتاريخ الحاج بشير يصل إلى 1843. لكن في المصدر 1837، وهو خطأ، وتواريخ بقية الخلفاء والمقدمين غير مذكورة.
وقد أخذ البوجليلي مباشرة عن الشيخ الحداد وليس عن ابن الحملاوي.
(1)
أخذ مصطفى بن عزوز عن عبد الحفيظ أيضا،