الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمة بقوا بدون اعتبار في نظر مواطنيهم وفقدوا سمعتهم بينهم. (إنهم تواروا شيئا فشيئا عن الأنظار إلى أن اختفوا، وقد غطت عليهم شخصيات الطرق الصوفية)(1). وبعد عدة عقود سيعبر أوغسطين بيرك عن نفس الرأي حول رجال الدين الرسميين ولكن بالنسبة لرجال الإصلاح هذه المرة، وهم الذين جعلوا رجال السلك الديني الرسمي يظهرون أقزاما، إن فرنسا قد أهانت في هؤلاء الدين الإسلامي فأهانوا هم شعبهم، وقد تحول أشخاص كانوا يبشرون بخير ولهم فكر نير، مثل محمد العاصمي، إلى عنصر مندمج في هذه الهيئة، وأصروا على العناد، وكونوا منهم كوكبة ضالة، كادوا يجرون إليهم حتى الشيخ الطيب العقبي، وقد أنشأ جماعة منهم، في عهد التكتلات والجمعيات، مجلة (صوت المسجد) التي كانت في الحقيقة صوت (المسجد الفرنسي). ومن الواضح أن الذين لا توظفهم فرنسا إلا بعد تحريات وفحوص دقيقة لا يمكن أن يكونوا في صالح الشعب الجزائري ولا الدين الإسلامي.
مدخل إلى السلك القضائي
لا يختلف اثنان في أهمية القضاء في أي بلد، وإن بلدا كالجزائر خضع للاحتلال الأجنبي كان أول ما واجهه هو تطبيق الأحكام الشرعية. وكان اتفاق 1830 بين الداي حسين وبورمون قد نص على احترام الدين الإسلامي، مما فهم منه احترام تطبيق الشريعة الإسلامية وجريان أحكامها على أيدي القضاة المسلمين، ولكن ذلك لم يحصل إلا جزئيا وعلى مراحل، ثم أخذ الفرنسيون يغيرون القوانين ويفرضون قوانينهم ويجردون القضاة المسلمين من صلاحياتهم إلى أن لم يبق لهم ما يحكمون فيه سوى الأحوال الشخصية، فكيف سارت الأمور؟.
شعر الفرنسيون أنهم ما لم يسيطروا على القضاء الإسلامي فإن شخصية
(1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 235، ثم سيختفي دور رجال الطرق الصوفية أيضا ويظهر رجال النخبة وأعضاء جمعية العلماء إلى آخر ما أسماه بعضهم بدورات التاريخ في التيار الديني بالمغرب العربي (الجزائر خاصة).
الجزائر تظل قائمة والمقاومة بمختلف أشكالها تظل مستمرة، فالقاضي هو رمز السلطة الشرعية والساهر على تطبيق أحكام الدين، وبإمكانه، من هذا الموقع، أن يعارض السلطة الفرنسية مباشرة أو غير مباشرة باعتباره الوسيط بينها وبين الشعب، ومن ثمة يظهر أن دور القاضي كان أكثر خطورة من دور المدرس أو إمام المسجد، على الأقل بعد فصل الفرنسيين بين صلاحيات الثلاثة (القاضي والإمام والمدرس)، كما عرفنا.
كان القضاة في الماضي يتكونون في نفس المدرسة التي يتكون منها العلماء والفقهاء، فهم من رجال الدين بالمفهوم الواسع للكلمة، وهم أيضا من العلماء المفسرين للأحكام والفقهاء المصدرين لها، وكان كبار العلماء والنزهاء يفرون من منصب القضاء إذا عرض عليهم ويعتذرون عنه بأنواع الاعتذارات لخطورته في نظرهم عند الله وعند الناس، وقد استفاد الفرنسيون من بعض العلماء الذين وجدوهم ورضوا بالتعامل معهم في بداية الاحتلال، فعزلوا ونفوا بعض القضاة، وعينوا آخرين مكانهم، كما فعلوا مع رجال الدين الآخرين، ورغم أنهم أهملوا وظيفة التدريس ولم يعطوا أهمية للأئمة والسلك الديني الآخر، فإنهم أعطوا أهمية خاصة للقضاة لما لهم من علاقة بسير الحياة التجارية والمدنية والجنائية في البلاد، ذلك أن الإدارة الفرنسية الجديدة كانت في حاجة ماسة إلى مساعدة القضاة في استمرار الحياة على المستوى الإداري والديني والأمني، وكان الحاكم العام هو الذي يعين القضاة.
وقد استمر الاعتماد على بقايا العلماء في تعيين القضاة منهم وتجنيدهم إلى أن نضب المورد لعدم وجود مدرسة خاصة بتخريج الدفعات منهم، ولتوقف دروس المساجد، كما ذكرنا وإهمال التعليم العربي الإسلامي فترة طويلة، وقد استمر هذا الفرك حوالي عشرين سنة، ثم صدر كما عرفنا، مرسوم إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسمة الثلاث، واحدة في كل إقليم، وكان الهدف من إنشائها هو تخريج القضاة بالدرجة الأولى، ولذلك كانت جريدة المبشر الرسمية تسميها أحيانا (المدارس الفقهية). وقد أسميناها نحن الشرعية، وهي المدارس التي تطورت عبر عدة مراحل، تعرضنا إليها في
دراستنا عنها (1). ومن الملاحظ أن برنامج هذه المدارس قد خضع في عمومه بحسب حاجة السلطة الفرنسية إلى القضاة، فإلى 1870 كان القضاة ما يزالون يتمتعون بأهمية في الإدارة الفرنسية، ولكن منذ الجمهورية الثالثة تقلص دورهم فتغير أيضا برنامج المدارس الشرعية، تبعا لذلك، ومهما كان الأمر فإن مصدر القضاة في الأحكام هو مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه المالكي وشروحه، وقد قام علماء الاستشراق الفرنسيون بترجمته إلى الفرنسية، واعتمدت عليه أيضا المحاكم الفرنسية بشأن المسلمين بعد أن أخذت من المحاكم الإسلامية صلاحياتها، كما استعملت وترجمت رسالة ابن أبي زيد القيرواني وكانت أيضا متداولة، وكذلك تحفة الحكام لابن عاصم.
وكان القضاة المسلمون في نظر الشعب هم رموز السلطة الباقية - سلطة الدين التي تعني الهوية في كل أبعادها. فهم يمثلون التحدي السياسي، والمقاومة الثقافية، وجذور المجتمع المتميز عن المجتمع الفرنسي، وكل الخصوصيات الحضارية الأخرى، وقد تحدث عن هذا الموضوع عدد من الكتاب، وألفت فيه بعض الأطروحات، وسنتعرض إلى بعض الآراء حوله، وكان تحطيم جهاز القضاء الإسلامي في نظر الفرنسيين يدخل في مخطط تحطيم المجتمع الجزائري الشامل، مثله مثل القضاء على اللغة بجعلها أجنبية، والقضاء على ملكية الأرض بمصادرتها وإعطائها للمستوطنين، والقضاء على وحدة المجتمع بتفتيت الأعراش والقبائل وإنشاء الدواوير ثم البلديات الفرنسية مكانها، والقضاء على الأنساب والأصول بإنشاء الحالة المدنية على الطريقة الفرنسية، والقضاء على الدين الصحيح بتشجيع الذروشة والخرافات والتدجيل، إنه مخطط شامل، كما قلنا، ولكنه سار على مراحل، حسب الحاجة الفرنسية إلى ذلك، ولم يكن القضاة، في أغلب الأحيان، في وضع يحسدون عليه، ولم تكن مشكلتهم مشكلة خبز فقط، مثل بعض الموظفين الآخرين، ولكنها مشكلة مبدأ ورسالة أيضا.
(1) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.
كانت سلطة القاضي غير محدودة فيما مضى، فهو مسؤول فقط أمام الله وأمام ضميره، وأحكامه غير قابلة للطعن إلا إذا رأى عرض الصعب منها على المجلس العلمي الذي كان يعقد دورة أسبوعية، وكانت أحكام القاضي نافذة وسريعة وبدون مقابل، وقلما يحكم بالسجن لأن السجن يعطل الحياة ويحرم العائلة من عضو تسترزق منه، كما أنه قلما يحكم بالغرامة لخزينة الدولة ولكنه يجكم بالتعويض للمتضرر، وقد يحكم بالتعزير والضرب، أما حكم الموت فهو نادر، ولكن تنفيذه أو العفو فيه من شان الحاكم نفسه، وكان القاضي محل تقدير وهيبة عند الجميع، فهو يمثل الدين كما يمثل السلطة الزمنية، وتفترض فيه شروط تحدثت عنها المؤلفات المختصة، أبرزها العلم بالأحكام والكفاءة والمروءة والنزاهة والخوف من الله.
وكان القضاة متوفرين في المدن وفي الأرياف، ففي المدن الرئيسية قاضيان مالكي وحنفي، إلى جانب القاضي بالمذهب الإباضي، ولا حدود في اختصاصهم، فهم يحكمون في الأحوال الشخصية وفي النوازل التجارية والمعاملات وفي مختلف المنازعات، وكذلك يحكمون في الجنايات، ويساعد القاضي نائب أو أكثر وعدد من الكتاب أو الخوجات، ومهمتهم هي تسجيل الأحكام، ويحضر المحكمة أيضا الشهود، كما تكون المحكمة مفتوحة والأحكام علنية، ولا يتقاضى القاضي أجرة من المتخاصمين وإنما يأخذ راتبه من بيت المال، وبالإضافة إلى ذلك كان هناك مجلس قضائي أو علمي، ينظر في الحالات المستعصية على القضاة، ويعقد دورة أسبوعية يوم الجمعة، بعد الصلاة، ويحضر الجلسة المفتيان والقاضيان والعدول والنظار، ويكون المجلس برئاسة الحاكم نفسه أو من ينوب عنه، وأعضاء هذا المجلس يشكلون (هيئة العلماء) في كل مدينة رئيسية، وقد أبقى الفرنسيون على هذا النموذج في المرحلة الأولى، وكانت قصيرة.
وهناك قضاة أيضا لسكان الريف، لهم نفس الصلاحيات، ولكن ليس لهم مجلس يرجعون إليه، فإذا عرض لهم ما يتوقفون فيه كاتبوا العلماء
في ذلك، سواء من قرب منهم أو من بعد، وقد يشتكي المدعي إلى قاضي المدينة القريبة منه، ولكن أغلب أهل الريف كانوا يلجأون إلى المرابطين، أي رجال العلم والدين والصلاح المشتهرين بينهم، وهم ليسوا أصحاب الطرق الصوفية، بل فئة أخرى لها مكانتها الاجتماعية والدينية، ولها عادة زاوية ورثتها عن أحد الجدود، وقد تعرفنا إلى ذلك في غير هذا المكان (1). إن هؤلاء المرابطين هم الذين كانوا يحكمون بين الناس بالعدل ويصلحون ذات البين، ويجعلون المجتمع يعيش في أمن وانسجام، وفي العهد الفرنسي أعطيت الصلاحيات في القضاء في المناطق الريفية إلى القياد والباشغوات والمكاتب العربية، ثم تولتها المحاكم الفرنسية التي سنتحدث عنها (2).
وقد تطور الموقف من القضاء الإسلامي بتطور الاحتلال نفسه، وخلافا للعاصمة، ووهران وعنابة وبجاية ومستغانم التي احتلت منذ البداية، فإن المدن والجهات الأخرى قد وضعت تحت سلطة عسكرية إدارية تسمى المكاتب العربية، وفي كل مكتب عربي عين أحد القضاة المسلمين وبعض المساعدين له، وهكذا تعين في هذه الوظيفة السامية والخطيرة من هب ودب، فيهم طبعا الصالحون، ولكن أغلبهم كانوا طالحين، ويتميزون بالمغامرة والانتهازية، وكانوا قليلي العلم لانعدام مصادره ومدرسيه، وسنتعرض إلى أمثلة منهم.
ومن الطبيعي أن تكون العاصمة هي التي شهدت مختلف التجارب في القضاء، وفي غيره، وقد سبق القول إن الفرنسيين نفوا القاضي الحنفي، كما نفوا المفتي سنة 1830، وقد وجدوا من عينوه في مكانهما، وكان القاضي المالكي هو عبد العزيز والمفتي هو مصطفى الكبابطي، وحدث أن وقعت مشكلة تدخل في صميم القضاء الإسلامي سنة 1834، وهي هروب امرأة
(1) انظر فصل الطرق الصوفية.
(2)
عن هذه الخلفيات انظر السجل (طابلو)، سنة 1840، ص 357، وكذلك رسالة الماجستير للباحث بوعلام بلقاسمي (السياسة الاستعمارية نحو الأرض). مخطوط ص 86.
معتدة من بيت الزوجية ومن أسرتها لتتزوج بأحد العسكريين الفرنحسيين، وقيل إنها اعتنقت المسيحية لتفر من حكم القضاة بإعادتها إلى أهلها حتى تقضي عدتها، وقد تولى العسكريون ورجال الدين الفرنسيون تعميدها وتهريبها إلى فرنسا، وبينما كانت المحكمة تنظر في أمرها دخل العسكريون الفرنسيون فاحتج القاضي والمفتي واستقالا، أما القاضي عبد العزيز فقد هاجر إلى المغرب، وأما المفتي الكبابطي فقد استرضاه الفرنسيون وتراجع عن استقالته، وقد عين الفرنسيون قاضيا جديدا وهو أحمد بن جعدون مكان القاضي الذي هاجر، إن الحادثة قد لا تكون مهمة في حد ذاتها ولكنها اكتسبت أهمية خاصة لعدة أسباب: تدخل الفرنسيين في استقلال القضاء، والعبث بالقيم والتعاليم الإسلامية التي لها ما تقول في حالة المرأة المعتدة، وتهريب الشخص موضوع النزل وتعميده حتى يخرج عن ربقة القضاء الإسلامي، وبالإضافة إلى ذلك فقد اكتسبت القضية بعدا سياسيا آخر وهو استقالة القاضي وهجرته، وتدخل الحاكم العام وحتى وزير الحرب في الموضوع، وظهور حركة احتجاج صاخبة في العاصمة في المحكمة وأمامها، وربما كانت هي الحركة الشعبية (1) الثانية من نوعها بعد الاحتجاج على هدم جامع السيدة سنة 1832.
والقاضي الجديد وهو الشيخ أحمد بن جعدون، كان من عائلة دينية وعلمية محترمة خلال العهد العثماني، وقد تعرضنا لأسرته في غير هذا الجزء، ولدينا وصف لشخص أحمد بن جعدون ومحكمته في العهد الفرنسي قبل أن يفقد القضاة هيبتهم وصلاحياتهم، يقول بولسكي الذي وصف المحكمة الإسلامية قرب شارع باب الواد، إنها كانت مفتوحة للجمهور، ولها هيبتها، وكان القاضي المالكي (وهو أحمد بن جعدون) هو أكثر حرمة بين الجالسين، ومنهم المفتي الحنفي، وكان ابن جعدون كبير السن، هادئ الملامح، معتدلا، وقورا، عليه السمات الشرقية (الإسلامية) في مستواها الأعلى، وكان يبدو كأنه نبي، اكتملت رجولته ونبله، وكان يلبس الهندام
(1) عن هذه الحادثة انظر كتابنا (الحركة الوطنية). الجزء الأول، ص 73 - 74، واسم المرأة هو عائشة بنت محمد.
المحلي الجذاب، ويتميز عن غيره من الحضر بالعمامة الكبيرة العالية، وكانت جلسة المحكمة معقودة في غرفة تزينها الزرابي فقط، والعمامة كانت أيضا هي لباس الخوجات (الكتاب)، وهي نفسها موجودة أيضا لدى الأئمة في المدن ولدى رجال الدين بصفة عامة، بمن فيهم المرابطون والطلبة داخل البلاد، وكان القاضي ابن جعدون يجلس على كرسي عال وسط طاولة بيضاوية الشكل، وأمامه نسخة مفتوحة من المصحف الشريف، وهي مجلدة ومذهبة، وعن يمينه وشماله في نفس الطاولة كان يجلس الخوجات الذين كانوا يحررون كل نازلة، ويكتبون بها الوثيقة التي تتعلق بالبيع أو غيره من أنواع المعاملات، ومن وقت لاخر كان الخوجات يهمسون بنصائحهم وآرائهم للقاضي في النوازل المهمة، ويقدم الشاوش كلا من المدعي والمدعي عليه إلى طاولة القاضي، أما إذا كانت صاحبة الدعوة امرأة، فإنها لا تدخل المحكمة وإنما تتكلم من خارجها في مكان مخصوص وتعرض قضيتها على القاضي من النافذة، وكان القاضي لا يتأثر بأية منازعات بل كان محافظا على هدوئه ووقاره التام، وكان عدد الخوجات حوالي 12، وهم ينوبون عن بعضهم البعض، وكان بعضهم رجالا كبار السن وخطهم الشيب، وهم بلحى كثيفة، وشعر أبيض وبشرة أصبحت مجعدة، بينما آخرون منهم ما يزالون في عنفوان الحياة (1).
وقد ترك الفرنسيون في بادئ الأمر المحاكم الإسلامية تعمل ولكن تحت نفوذهم، فلها النظر في كل المنازعات والأحكام غير الجنائية بين المسلمين، وكذلك فعلوا مع المحكمة اليهودية التي كانت تنظر في القضايا الخاصة باليهود، وأنشأوا محاكم خاصة بهم: مدنية وعسكرية، ومن هذه المحاكم ما هو ابتدائي وما هو استئنافي وتسمى الأخيرة بالمحكمة العليا، وهكذا فقد كان لكل دين من الأديان الثلاثة محاكمه، وفي البداية أيضا كانت المحكمة العليا (الفرنسية) تتكون من رئيس وخمسة قضاة، من بينهم مسلم ويهودي، فهي إلى حد ما محكمة مشتركة، ذلك أن من بين ما يقدم إليها
(1) بولسكي، (العلم المثلث). لندن، 1854، ص 25.