الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتذكر إحصاءات 1882 أنه 1، 062 إخوانيا، وخمس عشرة زاوية، وكلهم في إقليم قسنطينة (1). وأما إحصاء 1897 فيذكر لها 6، 435 من الإخوان، وهذه زيادة معتبرة خلال خمسة عشر عاما إذا نظرنا إلى الزيادات في عدد الطرق الأخرى، أما التأثير والتوسع فيظهر في عدد الزوايا والشيوخ، وهو: 26 زاوية، و 46 مقدما، وشيخ واحد، وثلاثة وكلاء، و 36 خليفة، إضافة إلى عدد من الفقراء (5، 774) والشواش والطلبة، ومن بين أتباعه بعض النسوة (22 امرأة)(2).
وهكذا تتطور الطرق، وتتحول إلى أداة في خدمة السلطات الاستعمارية، على يد أناس مجهولي الهوية أو مغامرين، مستغلين اسم طريقة من أقدم الطرق، وهي القادرية، واسم شيخ أو مرابط يحترم الناس ذكراه وهو الشيخ عمار بوسنة.
الطريقة الشاذلية
لم نتوسع في حياة الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولا في فروع طريقته، في الجزء الأول من هذا الكتاب، وكان الواجب أن نفعل ذلك، ونود الآن أن نستدرك ذلك بعض الشيء، فالشاذلية ترجع إلى المشيشية وهذه إلى المدينية، وهذه ترجع إلى القادرية التي ترجع بدورها إلى طريقة الجنيد، كيف ذلك؟ يعتبر شعيب بن حسين الأندلسي، المعروف أبو مدين، دفين تلمسان، هو مؤسس مدرسة التصوف السني نقلا عن الشيخين عبد القادر الجيلاني وأبي القاسم الجنيد، وهو الذي نشر هاتين الطريقتين في بلاد المغرب والأندلس، وقد ولد أبو مدين بإشبيلية سنة 500 هـ وعاش 94 سنة بعضها بالأندلس وبعضها في فاس وتلمسان وبجاية، كما عاش في المشرق.
(1) رين، مرجع سابق، ص 118 - 119.
(2)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 356 - 366، عن وفاته يقول هذا المصدر إنها وقعت أثناء طبع الكتاب (1897) ولذلك نرجح هذا التاريخ، انظرص 365، هامش 1، وذكر المصدر أنه كان عندئذ عاجزا وأنه شبح فقط، وعاش 110 سنوات،
بتلمسان سنة 594 هـ، وحياته حياة المنقطع للعلم والصلاح والتوحيد.
بعد الأندلس نزل أبو مدين فاس ودرس بها ثم نزل تلمسان فلم تقبل عليه أول الأمر، ثم ظهرت عليه علامات الصلاح فوجد فيها متسعا وتبجيلا، ومثل كل العلماء في تلك العصور ارتحل للحج وطلب العلم ولقاء العلماء، وقد التقى في بغداد بالشيخ عبد القادر الجيلاني، ثم رجع إلى الأندلس وحل بإشبيلية وقرطبة، وكانت بجاية عاصمة أخرى للعلم، فارتحل إليها وعزم على الإقامة بها، ولشهرته وابتعاده عن أهل السلطة، جاءته وفادة من سلطان الموحدين عندئذ، يعقوب المنصور، وطلب حضوره ليسأله، كما قيل، عن مسائل علمية، وكانت السن قد تقدمت به، وحذره أصحابه من مغبة هذا السفر السياسي المشبوه، ولكنه خالفهم وأخبرهم أن السلطان لن يراه (!) وحين اقترب من تلمسان أدركه المرض ثم الموت، ودفن بالعباد في تلمسان، حيث ضريحه الذي اتخذه البعض مزارا روحيا ودينيا ومعماريا، ورغم نسبة الكثير من الكرامات (1) إلى أبي مدين، فإنه كان قبل كل شيء عالما صالحا، وموحدا زاهدا، ومربيا ناجحا، ولأبي مدين سلسلة تربطه في التصوف بأبي القاسم الجنيد، وتبدأ من جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإمام علي، إلى الحسن البصري إلى حبيب بن العجمي، إلى داود الطائي، إلى معروف الكرخي، إلى السري السقطي، إلى أبي القاسم الجنيد
…
إلى أبي مدين، وهو الثالث عشر في هذه السلسلة، وله سلسلات أخرى بعضها يذكر فيها اسم الجنيد وبعضها لا يذكر فيها، وقد انتقلت سلسلة أبي مدين إلى تلميذه عبد السلام بن مشيش (2).
وابن مشيش هو أحد تلاميذ أبي مدين البارزين، نشأ في المغرب الأقصى، وهو من أشراف بني عروس عند جبل عالم بتطوان، كان ابن مشيش
(1) عن كراماته انظر بعض ما جاء في ترجمته في كتاب محمد بن مريم (البستان). ط، الجزائر، 1909، وهنالك مؤلفات عديدة تناولت حياة أبي مدين، ومن أواخرها تأليف الشيخ عبد الحليم محمود.
(2)
رين، مرجع سابق، ص 217،
من زعماء الفكر في دولة الموحدين، وكان معاصرا ل عبد المؤمن بن علي، خليفة المهدي بن تومرت، أوصى ابن مشيش أصحابه وتلاميذه (ومنهم أبو الحسن الشاذلي) بالابتعاد عن أصحاب السلطة والسياسة والوظائف الدنيوية، وعاش هو مثالا لرأيه، ولعل ذلك كان سببا في اغتياله سنة 625 هـ، وكانت حياته مكرسة لخدمة الدين والتصوف، وقبره في جبل عالم المذكور، وانتشر صيته في كل المغرب العربي، ويتفق معظم الباحثين على أن شهرة ابن مشيش قامت على شهرة تلميذه أبي الحسن الشاذلي فهو الذي كونه ووجهه، بل نصحه بالذهاب إلى تونس بعيدا عن مؤامرات السياسة في المغرب عندئذ، وقد اشتهر ابن مشيش بدعاء يعرف (بالصلاة المشيشية) وهي الصلاة التي أصبحت متداولة لدى كثير من المتصوفة.
ولد أبو الحسن علي الشاذلي في قبيلة غمارة قرب سبتة بالمغرب الأقصى، سنة 593، أي سنة قبل وفاة أبي مدين، وأخذ تعاليم شيخه ابن مشيش، وهو شاب، ولم يكد يبلغ الثانية والعشرين حتى توجه إلى قرية شاذلة خارج عاصمة تونس، واختلى بها، ويقولون إنه استقر في جبل جلاس واختلى فيه، ثم اشتهر أمره وجاءه الزوار والفضوليون، ولكن السلطة السياسية كانت له بالمرصاد، وقد خافوا منه، وكان للسلطة فقهاء يوافقونها، وخشي أبو الحسن الشاذلي أن يكون مصيره هو مصير شيخه ابن مشيش، وهو الاغتيال أو الحبس، فخرج من تونس إلى مصر، ولكن خصومه سبقوه إليها وشيعوا فيها ولدى علمائها أنه ملحد، وحتى لا تقع المواجهة اختار الشاذلي المكث بعيدا، إذ بقي في كهف عند بحر الإسكندرية، وقد عانى من الفقر والوحدة، ولا نعرف متى جاء مصر، ولا متى صفا له الجو بعد عبوس، إذ أظهر كرامات، كما قيل، ودعا على قاضي تونس ابن البراء (الذي يبدو أنه وشى به لدى السلطان). وقد ذهب الشاذلي إلى القاهرة وعاش فيها، وكما أظهر كراماته للعامة أظهر أيضا علمه للخاصة، ومن الذين انتصروا له بعد أن كانوا من خصومه، حسب كتب التراجم، هو العز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء والذي كان رئيس علماء مصر عندئذ، وهكذا كثر أتباع أبي
الحسن الشاذلي، بعد أن كان خائفا يترقب ويعاني من العزلة والفقر، أصبح يحج كل عام ويجاور هناك فترة، ويبدو أنه أثناء إحدى حجاته وافاه الأجل في مكان مجهول حتى الآن، إلا أن بعضهم يجعله في أعالي مصر في المكان المعروف (بالأبيار الشاذلية). وكان ذلك سنة 656 هـ (1).
سئل الشاذلي عن شيخه وهو في المشرق، فأخبر أنه هو عبد السلام بن مشيش، ولكنه تطور وأصبح يرى أن شيوخه من بني آدم هو الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون الأربعة، ومن الملائكة جبرائيل وميخائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورغم خلواته وعزلته وأوقاته الكثيرة فإن الشاذلي لم يترك مؤلفا بخط يده، ترك أتباعا أو كتبا متنقلة في شكل تلاميذ، كما كان يقول، ومن هؤلاء التلاميذ الذين حفظوا عنه أو كانوا صورة لأفكاره مثل كتبه، هو أبو العباس أحمد المرسي، فهو الذي أكمل وطور الفكر الصوفي لشيخه الشاذلي، وقد ألف أحمد بن محمد عباد الشافعي كتابا سماه (المفاخر العلية في المآثر الشاذلية). وهناك أيضا الأدعية والأذكار المعروفة باسم (حزب البحر) والمنسوبة للشاذلي، وهو تأليف يضم تعاليم الشاذلي وطريقته (2).
قلنا إن شهرة أبي الحسن الشاذلي قد طبقت الآفاق أثناء حياته وكذلك بعد مماته، ويرجع الفضل في إشاعة تعاليمه إلى تلاميذه، ومنهم أبو العباس أحمد المرسي (ت، 686). وقد امتدت سلسلته إلى ابن عطاء الله الإسكندري (ت 709) وأحمد زروق، وأحمد بن يوسف الملياني ثم العربي بن أحمد الدرقاوي، ولذلك يعتبر الدرقاوية إحدى الطرق المتفرعة
(1) رين، مرجع سابق، ص 227، وكذلك ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 443 - 447.
(2)
نفس المصدر، ويذكر رين أن الذي ترجم له عن (المفاخر العلية) هو (آرنو) المترجم العسكري بالحكومة العامة بالجزائر، كما ذكر أن الشيخ محمد الموسوم، زعيم الطريقة الشاذلية في وقته هو الذي أعطاه (لطائف المنن) للشعراني والذي تضمن أيضا آثار وأقوال الشاذلي، وقد ترجم له عنه أيضا (آرنو) المذكور،
عن الشاذلية، وهي طريقة ظهرت في المغرب الأقصى في آخر القرن الثامن عشر الميلادي ثم انتشرت في الجزائر، كما ظهرت الشاذلية في طرابلس في فرع آخر يدعى المدنية، سنتناوله، أما في الجزائر فقد بقي لفظ (الشاذلية) غالبا على الفرع الذي تزعمه الشيخ محمد الموسوم، والفروع الثلاثة ترجع إلى سلسلة واحدة وهي أبو الحسن الشاذلي عن عبد السلام بن مشيش عن أبي مدين الغوث، الخ.
انتهى أبو الحسن الشاذلي إلى أن أصبحت له طريقة خاصة في التصوف والفلسفة والعلم، عن طريق ممارسة الأخلاق والفضيلة والتوحيد، وقد ذاع صيته كعالم وفيلسوف أكثر منه درويشا له كرامات وخوارق، وكثر تلاميذه في المغرب العربي والمشرق، وشيئا فشيئا أخذوا يستقلون به عن أصحاب الطرق الآخرين، ويمكن القول إن طريقة أبي الحسن الشاذلي تقوم على الرحلة الفكرية والتأمل المستمر في وحدانية الله، وعلى الهيمان في أرض الله بحثا عن التطهر والتسامي، وعلى إهمال الذات وقمعها في سبيل الله، وعلى القيام بالصلوات والواجبات الشرعية في كل وقت وفي كل الظروف وفي كل مكان، لكي يعيش المريد في وحدة دائمة مع الله، والطريقة الشاذلية لا تؤمن بالخلوة ولا بالممارسات التهريجية ولا الانتفاضات والطفرات، بل تهتم بالعلم الروحاني الذي يقود المريدين إلى العيش الدائم في ذات الله، وقد أضاف بعض الباحثين أن الشاذلية يؤمنون بإمام مختف في القاهرة، وأن مذهبهم هو المساواة، وأنهم يقفون ضد التطور الاجتماعي، ويعارضون المسيحيين، ويرفضون قبول الوظائف الإدارية (1). ولا شك أن هذا الرأي مستوحى من العلاقات الدينية - الفرنسية (الاستعمارية) التي كانت سائدة في الجزائر، أو أنه مستوحى من نموذج معين من الشاذلية، وقد قلنا إن تعاليم الشاذلية قائمة على مذهب أبي القاسم الجنيد الذي جاء به أبو مدين الغوث إلى الأندلس والمغرب العربي.
(1) قارو، مرجع سابق، 163،
ويؤمن أتباع الطريقة الشاذلية بأن أبا الحسن الشاذلي شريف من نسل الإمام علي، وله سلسلتان إحداهما سلسلة الورد وتبدأ بالشاذلي نفسه وتمر ب عبد السلام ابن مشيش، وتنتهي بالإمام علي وبالرسول صلى الله عليه وسلم وجبرائيل عن الله سبحانه وتعالى، وهناك سلسلة البركة، وهي لا تختلف كثيرا عن الأولى، وتنتهي أيضا بالإمام علي، وقد تناولت كتب الطريقة الشاذلية السلسلتين بالتفصيل، سيما كتاب (المفاخر العلية) لأحمد بن محمد بن عباد الشافعي الشاذلي، وللطريقة الشاذلية علماء ومتصوفة يروون أخبارها ويسجلون أذكارها، ومنهم ابن الصباغ وابن عطاء الله الإسكندري، اللذان شرحا ونوها بكتاب (حزب البحر) الذي يضم تعاليم أبي الحسن الشاذلي، كما سبق القول.
ويلتزم أتباع الشاذلية بطريقة معينة للذكر، نجدها بالخصوص عند الشيخ محمد الموسوم، وهي الاستغفار مائة مرة (أستغفر الله). والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مائة مرة (اللهم صلي على سيدنا محمد النبي الأمي). والشهادة مائة مرة (لا إله إلا الله). وذلك كل صباح ومساء، بالإضافة إلى حضور الحضرة مرة في الأسبوع على الأقل، وزيارة المقدم والحديث إليه مرة في الشهر على الأقل، ثم التوبة الدائمة، وطلب الغفران من الله، والرجوع إليه بكرة وعشيا، هذا هو الوجه الظاهري أو العام للأذكار والممارسات الشاذلية، وهناك جانب آخر خاص أو باطني، وهو مجال لا حدود له من التأمل والتفكر والتعمق في المخلوقات والخالق.
ذكرنا أن الشاذلية تفرعت إلى فروع عديدة، وأصبح كل فرع منها مستقلا بشيخه، وأن بعض الفروع زادت في الذكر بعض التفاصيل، وذكر الباحثون أن هذه الفروع تصل إلى نحو العشرين، بعضها موجود في المشرق غالبا مثل الوفائية والحفنية، وبعضها موجود في المغرب الأقصى بالخصوص مثل السهيلية والغازية، أما الطرق الفرعية للشاذلية والتي لها في الجزائر أتباع كثيرون أو قليلون فهي: الجزولية والزروقية واليوسفية، والعيساوية،
والبكائية، والأحمدية (الكرزازية). والشيخية، والناصرية، والطيبية، والزيانية، والحنصالية، والحبيبية، والمدنية، وهناك فروع أخرى لم نستطع تحديد مكانتها في الجزائر وهي: العروسية، والبكرية (1). ويعود كل فرع إلى مؤسس خاص ينسب إليه، وبعض هذه الفروع في المغرب الأقصى، ولكن له تأثير بالجزائر كالطيبية، والناصرية والعيساوية، ولأهمية بعض هذه الفروع سنخصص لها فقرة في هذا الفصل، أما الباقي فنذكره عرضا، ولكن قبل ذلك نود أن نواصل الحديث عن الشاذلية نفسها.
فقد اشتهر في الجزائر الفرع الذي تولاه الشيخ محمد الموسوم في القرن الماضي بأنه هو الممثل للشاذلية وأن له سلسلة في ذلك، وهو محمد الموسوم بن محمد بورقية (ابن رقية) وأصله من غريب نواحي مليانة، بلدية جندل، وسكن قصر البخاري جنوب المدية على مشارف الصحراء، وأسس هناك زاوية للشاذلية، أصبحت ذات سمعة كبيرة في وقته، كما كان هو من الشيوخ المشار إليهم، ولكنه جاء في وقت شهد الثورات من جهة وغطرسة السلطات الاستعمارية من جهة أخرى، فكانت حياته وحياة زاويته نموذجا للعمل الصوفي في وقت الاضطراب السياسي والاقتصادي، ويذكر الإسكندر جولي الذي درس الشاذلية بإمعان، إن الشيخ الموسوم ولد حوالي 1820، وأنه ظل يتردد على الطرق الصوفية يأخذ من هذه وتلك في وقت كان فيه نشاط موسى بن حسن الدرقاوي قويا في الناحية، وكذلك نشاط الشيخ عدة بن غلام الله الدرقاوي أيضا، إلى أن عزم الموسوم على اتباع الشاذلية، سنة 1866، ولا نستبعد أن يكون استقلال الشيخ الموسوم داخلا في مخطط السلطات الفرنسية في تفتيت المرابطين والطرق الصوفية، وقد لا يكون هو واعيا بذلك، ولكن ظهوره كمهدئ للأوضاع وداع إلى السلم ووقف
(1) ذكر رين تسع عشرة طريقة فرعية، هي التي ذكرناها، ولكنه أهمل الرحمانية، وهي أيضا مستمدة من الشاذلية عن طريق الحفنية، وكذلك الدرقاوية التي لها علاقة واضحة بالشاذلية، أما السنوسية فصاحبها (محمد بن علي السنوسي) قد صرح بأنه أخذ عن الشاذلية أيضا،
(النفاق) أو الثورة يؤكد هذه السياسة، يقول (رين) إن الشيخ الموسوم قام، من تلقاء نفسه، ثم بطلب من السلطات الفرنسية باستعمال نفوذه سنة 1864 (ثورة أولاد سيدي الشيخ) وسنة 1871 (ثورة المقراني والحداد). فكتب إلى (الإخوان) رسائل ومناشير يحرم عليهم الانضمام للثورة، ويلعن من يتدخل في السياسة (1).
أخذ الشيخ الموسوم ورد الطريقة الشاذلية على شيخه عدة بن غلام الله، وهذا أخذه عن شيخه، العربي بن عطية، وهذا أخذه عن العربي الدرقاوي، شيخ الدرقاوية التي هي بدورها فرع من الشاذلية، وقد ذكرنا سابقا محتوى هذا الورد، هذا عن شيخه في مجال التصوف أو الحقيقة، كما يقولون، أما شيخه في العلوم الشرعية وغيرها فهو الحاج الشفيع، وقد تعلم الشيخ الموسوم في مازونة، وكان أبوه قد تولى القضاء في أوائل الاحتلال، وأصبح الشيخ الموسوم بارعا في علوم اللغة والأدب والبلاغة والفقه وعلم الكلام، رغم المستوى المتدني للتعليم في وقته، ولكن موهبته وتفتح ذهنه جعله من القلائل في ذلك العهد الذين ألموا بهذه العلوم، ولو في المستوى المتوسط، ولعل ذلك هو الذي جلب إليه أنظار السلطات الفرنسية فعرضت عليه وظيفة إدارة المدرسة الحكومية الثعالبية بالعاصمة، فاعتذر (2). وتفرغ للوعظ والإرشاد في قصر البخاري، وذاع صيته بين الناس في الناحية واعتقدوا فيه الصلاح والولاية، رغم أنه، كمعاصره محمد بن أبي القاسم في بوسعادة، كان يبث العلم الممكن في وقت الاحتلال ويبث مبادئ الدين والتصوف (3). ولعله كان يعتقد أن ذلك أبلغ وسيلة في الجهاد ضد العدو، الذي كاد يخنق أنفاس أمثاله
(1) رين، مرجع سابق، ص 264، كلمة (النفاق - بالقاف المعقودة أو البدوية) تعني الخروج عن الحكم القائم أو التمرد.
(2)
الآن كريستلو، (المحاكم الإسلامية والدولة الاستعمارية). برنستون، 1985 ص 275.
(3)
ترجمته في أبي القاسم الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف). الجزائر، 1906 (ط، مصورة 1988). 2/ 516، وكذلك ابن بكار (مجموع النسب) مرجع سابق، ص 159 - 160،
ممن تسميهم السلطات الفرنسية بالمرابطين المستقلين.
أسس الشيخ الموسوم زاويته بقصر البخاري في حدود سنة 1865، وهي تقريبا الفترة التي أسس فيها زميله صاحب الهامل زاويته أيضا، فنحن في عهد اختفت فيه المدارس وحورب فيه تعليم الدين واللغة من قبل السلطات الاستعمارية، ونحن أيضا في عهد شهد زيارة نابليون الثالث للجزائر وصدور مرسومين مشؤومين ضد المجتمع والهوية، أولهما مرسوم 1863 الذي سهل انتزاع الأراضي من أصحابها واقتلاع جذور المجتمع من أساسها بتمليك الأرض فرديا وحل النظام القبلي، والمرسوم الثاني أعلن أن الجزائريين رعايا فرنسيون لا حقوق لهم في الحياة السياسية والمدنية ولا جنسية لهم إلا إذا تخلوا عن أحوالهم الشخصية، وقد تخرج على يد الشيخ الموسوم عدد من التلاميذ في العلم والتصوف، منهم الشيخ محمد الشرقي العطافي، وقدور بن محمد بن سليمان المستغانمي، وكان الشيخ تحت رقابة السلطات الفرنسية في برنامجه التعليمي وفي أذكاره الصوفية، ويبدو أن (رين) مؤلف الكتاب الشهير عن المرابطين، كان يعرفه شخصيا، وقد سأله عن حياة الطريقة وأورادها، كما سأل غيره من رجال الطرق، لأن كتابه في الحقيقة، ما هو إلا خلاصة تقارير وتقاييد ومؤلفات وصلته من مختلف المصادر (1).
ويذهب الإسكندر جولي إلى أن الشيخ الموسوم اشتهر في المنطقة بالعلم والتقى والزهد والغيرة الدينية، فأثر على الناس وجعلهم يتخلون عن الخرافات والبدع، وقد أعطى هو المثل فكان يرفض المدح، وكذلك العروض Propositions التي قدمها له الفرنسيون، وما عدا ذلك فقد عاملهم معاملة حسنة فاحتفظوا له بذكرى طيبة، كما يذهب جولي إلى أن وفاة الشيخ الموسوم قد أثرت في الجميع، وقال إن مشروعه الذي شيده قد انحط من بعده، إذ تقاسم أبناؤه التركة الروحية وتقاسموا زاوية بوغار (البخاري)
(1) اطلعنا نحن على بعض هذه التقارير المرسلة إليه من رجال العلم والطرق الصوفية، وهي تذكر له السلاسل والأذكار والإحصاءات والميزانيات، وكان ذلك حسب ما يطلبه هو من معلومات في استبيانه،
وزاوية كامب موران؟ فانخفض الحماس الديني عند الأتباع وذهبت هيبة الزاوية، وأصبحت العلاقات بين الزاويتين على غير ما يرام، ولذلك تبعثرت الجهود التي كان الشيخ الموسوم قد بذلها (1).
توفي الشيخ الموسوم في 24 ربيع الأول 1300 (3 فيفري 1883). حوالي أربعة أشهر قبل وفاة الأمير عبد القادر، وقد خلفه على رأس الزاوية ابنه أحمد، بوصية منه، وترك الموسوم مجموعة من المؤلفات ليس هنا مجال الحديث عنها، إنما نشير إلى أنها مؤلفات صغيرة الحجم ومتخصصة في التصوف في أغلبها، وعددها أربعة عشر مؤلفا، منها تأليف في التوحيد رآه الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف) وقال عنه:(طالعته فوجدته عجبا عجابا). ومنه رحلة ذكر فيها شيوخه، قد تكون ذات أهمية لعلاقتها بأحوال العصر ورجاله، ومنها أيضا تأليف ملفت للنظر يبدو أنه كبير الحجم (خمس كراسات). ألفه سنة 1297، أي ثلاث سنوات قبل وفاته، وسماه (النور الوقاد في تعزية الأولاد). وذكر مترجموه أنه ألفه عند وفاة أحد أولاده، وله قصائد يذكرها الإخوان عند اجتماعهم، ومنها (الغوثية) التي أوردها له الشيخ ابن بكار في آخر كتابه، والغوثيات مجال واسع لأهل الدين والتصوف يتوسلون فيها إلى الله لتفريج الكروب ورفع الضيم، واستعمال الرموز عند الشدة، وهي تشبه قصائد المداحين والشعراء الشعبيين من بعض الوجوه (2). كانت وفاة الشيخ الموسوم في الوقت الذي أخذت فيه السلطات الفرنسية تضيق الخناق على رجال الطرق الصوفية، إنه زمن ما يسمونه الحكم المدني وعهد لويس تيرمان الحاكم العام، وقد قلنا إن أحمد المختار هو الذي خلف والده على الزاوية وحمل بركته الصوفية، ويبدو أن الشيخ أحمد لم يكن في درجة والده علما وموهبة، فقد تفرعت الزاوية إلى فروع في عهده ولم يحافظ هو على وحدتها، ولعل الأمر كان فوق طاقته، لأن ذلك كان هو ما
(1) الإسكندر جولي، خلاصة بحثه عن الشاذلية في قصر البخاري والطرق الصوفية منشورة في (مجلة العالم الإسلامي). R، M، M، أكتوبر 1908، ص 370 - 371.
(2)
عن مؤلفات الشيخ الموسوم انظر فصل العلوم الاجتماعية،
تريده السلطات الفرنسية، وهو تشتيت الزوايا وتفريعها وتشجيع استقلالها بعضها عن بعض حتى تظل وحدات صغيرة متنافسة.
وفي هذا الصدد أرسلت السلطات الفرنسية المستشرق الإسكندر جولي في بعثة خاصة لدى الشيخ أحمد المختار حيث بقي إلى جانبه عدة شهور، يدرس أحوال الزاوية وأتباعها وزياراتها، وعقيدتها الصوفية، وعلاقاتها، وفروعها، وخرج من ذلك بدراسة مطولة ومفصلة سماها (دراسة عن الشاذلية)(1). وكان الفرنسيون يعتقدون أنهم من خلال هذه الدراسات يعرفون أيضا أحوال المغرب الأقصى الذي تفرعت فيه الشاذلية، وكان لهم في ذلك العهد أطماع في احتلاله، كما كانوا يريدون معرفة العلاقة مع أهل الشاذلية في المشرق ليحددوا علاقاتهم مع العالم الإسلامي، أليس هذا زمن صدور (مجلة العالم الإسلامي) التي كان يديرها الضابط المتخصص في الطرق الصوفية، لوشاتلييه؟ (2). وقد انتهى الإسكندر جولي من دراسته إلى أن الطرق الصوفية تموت تلقائيا بموت العضو الحي، إذ يعتريها الهرم والفناء، ومن رأيه أن الطريقة تعيش شبابها وكهولتها بحياة شيخها المؤسس ثم يخلفه خلف أضعف منه وأقل حماسا فتضعف الزاوية وتنكمش سمعتها عند العامة ويكثر التنافس بين الفروع، ومن ثمة تتحلل وتنتهي.
وهناك دلائل على صدق هذه النظرة، فالشيخ أحمد المختار بادر بإرسال رسالة إلى السيد (رين) على أثر وفاة والده، يخبره فيها بالوفاة، ويطلب منه أن يكون دعما له لدى السلطات، وأنه باق على سيرة والده في احترام الدولة الفرنسية، وأنه متمسك بالسيرة السابقة للزاوية، وهي المحافظة
(1) الإسكندر جولي (دراسة عن الشاذلية). الجزائر، ط، جوردان، 1907، وقد نشرها مقالات متوالية في (المجلة الإفريقية) قبل ذلك.
(2)
انظر كتابه (الطرق الصوفية في الحجاز). 1887، وقد صدرت مجلة العالم الإسلامي من باريس سنة 1906، وهي تحمل عنوان (البعثة المغربية). ولعل زيارة الشيخ محمد عبده (1903) تدخل في هذا النطاق، وغير ذلك من الفعاليات مثل انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 في الجزائر (1905).
على الأمن (والعافية). وقد يبدو لنا هذا الكلام تعبيرا عن خنوع وخضوع بدون داع، ولكن الظروف التي تحدثنا عنها تجعل ذلك، فيما يبدو، أمرا بروتوكوليا، بل ضروريا، والفرونسيون لا يصدقونه على كل حال، لأن الذي يهمهم هو الفعل وليس القول، النتيجة وليس المجاملة، كان رين عندئذ (حاكم مجمع أمور عرب إيالة الجزائر) حسب تعبير الشيخ المختار، وهو الوظيف الرسمي في الحكومة العامة (المتكلف بالشؤون الأهلية). أخبره أن والده قد دفن في المسجد الذي بناه بنفسه من أجل ذلك بقصر البخارى وأنه (كان حبيبك وحبيب أهل الدولة المنصورة) وأنه أوصاه بخلافته (في جميع الأمور، وخصوصا حب الدولة الفخيمة الفرانساوية التي تمتعنا في ضلها (كذا). وعشنا في عافية تامة من قوة إحسانها، لنا ولجميع من احتمى بحمايتها، كما أوصى علينا جميع الأحباب الحاضرين بأن يبقوا على العهد والوداد، والتمسك بطريق الرشاد،) والمقصود (بالأحباب) هنا هم الإخوان، أتباع الطريقة، ولكن هذه الوصية كما سنرى لم يلتزموا بها، إذ سرعان ما تفرعت الفروع وقل الزوار عن الزاوية الأم، وختم الشيخ المختار رسالته إلى رين طالبا منه أن يظل صديقا للزاوية وأن يعمل على حمايتها حتى لا تؤذيها عناصر أخرى (واسأل من فضلك، أن تعاملنا بالإحسان، كما كنت تعامل أبينا (كذا) وتقم (كذا) مقامنا عند حكام الدولة) (1). وقد صدق (رين) عندما قال في كتابه المذكور إن أسلوب المراسلات مع المرابطين قد يفوق أسلوب المراسلات الدبلوماسية عند القناصل الأجانب: مهارة في تظليل الكلمات واختيار المعاني المحتملة،.
لقد طال عهد الشيخ أحمد المختار، ولكن الزاوية الشاذلية لم تزدد سمعة على عهده ولم تحافظ حتى على ما كانت عليه، ولعل الولد الذي ألف فيه الشيخ الموسوم كتابه هو الذي كان يعده للخلافة، ذلك أن الشيخ أحمد كان صغير السن عند وفاة أبيه ولعله لم يكن أذكى ولا أقدر أبناء الشيخ
(1) الرسالة مكتوبة في نفس اليوم الذي توفي فيه الشيخ الموسوم (3 فيفري). وهي موجودة في (كتاب الرسائل) لبلقاسم بن سديرة، ص 218،
الموسوم على تسيير شؤون الزاوية، وقد طال عهده حتى أن الشيخ الحفناوي ذكر في (تعريف الخلف) أنه رآه سنة 1321 (1904) واجتمع به وأخذ منه سيرة والده (1). وقد ذكر مؤلفا (الطرق الدينية) سنة 1897 أن الشيخ أحمد كان يدير الزاوية تبعا لتقاليد والده، أي في علاقتها مع السلطات الفرنسية، ومهما كان الأمر فقد أسس تلاميذ الشيخ الموسوم زوايا فرعية لم تكن تدين بالولاء للزاوية الأم (زاوية قصر البخاري). ففي بلدية ثنية الحد أسس الشيخ أحمد بن أحمد زاويته، وغير الذكر الذي تعلمه على شيخه قليلا، ولاحظ الفرنسيون أن سمعته تتوسع على حساب الزاوية الأم والوارث الروحي (البركة) للشيخ الموسوم.
وهناك فرع آخر كان يديره بلقاسم بن الحاج سعيد المعروف بوقشبية، وكان بناحية اليدوغ، دائرة عنابة، وتلاحظ المصادر الفرنسية أن العرب والأوروبيين يعتبرون صاحب هذا الفرع حامي الغابات، حتى أنهم لا يخشون من الحرائق عليها، وأن له سمعة كبيرة، ويبدو أن الدروشة كانت غالبة على هذا الشيخ، ولكن الفرنسيين كان يهمهم حماية الغابات التي استولوا عليها والأمن على أملاك الأوروبيين، فلماذا لا يستغلون في ذلك اسم الشاذلية؟ وقد رأينا خاتم شيخ هذا الفرع فإذا هو مكتوب بالحروف العربية واللاتينية بطريقة مؤسفة، هكذا:(سيد بالقاسم بن الحاج اسعيد الشيخ الطرقة الشدولية)(2). وهو يلقب (بوقشبية) أي الخرقة التي يلبسها، حتى شاع بين الناس أنه صاحب طريقة بذاتها فيقولون (طريقة بوقشبية). وقد أصبح هذا الشيخ يعطي بدوره الإجازات لمقدميه، ومن ذلك إجازته لمحمد بن الطاهر التي أذن له فيها بإعطاء ورد (طريقتنا الشاذلية). ووقعها هكذا: أبو القاسم بن الحاج اسعيد القرفي نسبا، الشاذلي طريقة، وقال إنه أخذ الذكر والاسم من
(1) يبدو أن الشيخ أحمد المختار لم يعش إلى الحرب العالمية الأولى، ذلك أن اسما آخر عندئذ كان على رأس الزاوية، وهو عبد الرحمن بن الموسوم، وهو على ما يبدو، أحد أخوة الشيخ أحمد المختار، انظر لاحقا.
(2)
النص اللاتيني هكذا: Sidi Belkacem Ben Said،