الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين وأجلّ السالكين، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:
فإنه ليس من المبالغة والتهويل أن نقول: إننا أجهل شيء بنفوسنا وبربنا، ولعل من قرأ هذا الكتاب بتأمل أن يعرف صدق هذه العبارة، فيتبين له أن كل عبد بحاجة إلى معرفتين جليلتين:(معرفته بنفسه، ومعرفته بربه) لتصلح عبوديته التي خُلق لأجلها، وهذا موضوع الكتاب، وقد اشتد الإعراض عنه في زماننا، لأن موضعه في القلوب مشغول بما هو آثر عندنا منه.
وقد جمعت موضوعه باختصار من ميراث السلف عموماً، وابن القيم وشيخه على وجه الخصوص -فعليهم رحمة الله أجمعين-، مع ما كتبت فيه مما هو استفادة منهم، وسمّيته:(إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك).
والسلوك هو: العبودية، والسير على الصراط المستقيم، وهو تحقيق التوحيد والدين.
وفيه من العلم بالنفس المقتبس من وحي بارئها ما يبين أن ما سواه جهل وضلال.
وكيف يؤخذ علم النفس ممن لا يعرف ما تَسْعد به وما تشقى به ولا يدري لأي شيء خُلِقَت، بل ممن لا يعرفون من الإنسان إلا ما يشترك فيه مع الحيوان، فالروح ينكرونها والشأن كله فيها، إنها سر عجيب غريب، عند ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم عِلْمه، فهم علماء النفوس وأطباء القلوب على الحقيقة، ولقد ورّث لنا السلف من علم النفس ما هو كفيل لمن علمه وعمل به بسعادة الدنيا والآخرة، وما هو إلا الإقتباس من وحي بارئ النفوس عز وجل.
ولتعلم فضل علم السلف على من سواهم؛ تأمل هذا السؤال وقل لي بربك من يقدر على جوابه غير ورثة محمد صلى الله عليه وسلم!!.
فقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) سؤالاً هو: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسَعَتِه وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت يُجْلس ويُقْعَدُ فيه؟.
قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة يضربون الموتى بمطارق من حديد. ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيران تأجّج. ولو كشفنا
القبر لوجدنا الميت لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله.
وكيف يُفسح مدّ بصره أو يُضيّق عليه ونحن نجده بحاله ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟
بعد أن أورد رحمه الله السؤال ذكر جواب أهل البدع والضلال عليه وهم في زماننا كثيرون لا كثّرهم الله. يزعمون أنهم أهل العقل والمعقول وهم أهل الجهالة والضلالة، قال رحمه الله: قال إخوانهم من أهل البدع والضلال: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحِسّ يُقطع بتخطئة قائله، ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يُسأل ولا يُجيب ولا يتحرك. ولا يتوقّد جسمه ناراً.
وكيف يُتصوّر مسألة الملكين لمن هذا وَصْفه وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وكيف يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه؟
الجواب: جعل الله سبحانه الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها.
[فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها .. والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها](1) فتجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيماً أو عذاباً .. فأحِطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي يُزيل عنك كل إشكال يورَد عليك من داخل وخارج.
وقد أرانا الله بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائم. فإن ما يُنَعّم به أو يُعذّب في نومه يجري على روحه أصلاً والبدن تبع له.
ويقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً، فيرى النائم في نومه أنه ضُرِب فيصبح وأثر الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه. ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويُدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك.
وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه. ولو دَخَلَتْ فيه لاستيقظ وأحسّ.
(1) - تمام هذه القاعدة فيما تحته خط في ص (7).
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: استبدلنا الخط بـ[معكوفين]
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعّم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع. فهكذا في البرزخ. بل أعظم فإن تجرّد الروح هنالك أكمل وأقوى. وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الإنقطاع.
[فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً أصلا.]
ومتى أعطيت هذا الموضع حقة تبين لك ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمّه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مِرْيَة فيه، وأن مَنْ أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتِيَ كما قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه. وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر.
كذلك فإن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخَضِرَها. وإنما هي من نار الآخرة وخَضِرِها. وهي أشد من نار الدنيا فلا يُحِسُّ به أهل الدنيا.
فإن الله سبحانه يُحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسّها أهل الدنيا لم يحسّوا بذلك.
بل أعجب من هذا أن الرجلين يُدفنان أحدهما إلى جنب الآخر وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل رَوْحها ونعيمها إلى جاره.
وقدرة الرب أوسع وأعجب من ذلك وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير ولكن النفوس مولَعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً إلا من وفقه الله وعَصَمه.
فرؤية عذاب القبر ونعيمه كرؤية الملائكة والجن تقع أحياناً لمن شاء الله أن يريه ذلك.
والله سبحانه وتعالى يُحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلاً فيكلمه بكلام يسمعه، ومَنْ إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء.
وأحياناً يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس ولا يسمعه غيره من الحاضرين.
وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم، وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسِّياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم، والله سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يُحدثه في الأرض وهو بينهم، وقد كان جبريل يُقرئ النبي صلى الله عليه وسلم ويُدارسه القرآن والحاضرون لا يسمعونه.
وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه ويُقِرّ بقدرته أن يُحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بصراً وسمعاً من أن يَثْبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثيراً ممن أشهده الله ذلك صَعِقَ وغُشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمناً.
وبعضهم كُشِف قناع قلبه فمات، فكيف يُنكّر في الحكمة الإلهية إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك حتى إذا انكشف الغطاء رأوه وشاهدوه عياناً.
ثم إن العبد قادر على أن يُزيل الزئبق والخردل عن عين الميت وصدره ثم يردّه بسرعة فكيف يعجز عنه الملك وكيف لا يقدر عليه من هو على كل شيء قدير. وكيف تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره لا يسقط عنه، وهل قياس أمر البرزخ على ما يُشاهده الناس في
الدنيا إلا محض الجهل والضلال وتكذيب أصدق الصادقين وتعجيز رب العالمين؟ وذلك غاية الجهل والظلم.
وإذا كان أحدنا يمكنه توسعة القبر عشرة أذرع ومائة ذراع وأكثر طولاً وعرضاً وعمقاً ويستر توسيعه عن الناس ويُطلع عليه من يشاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء على من يشاء ويستر ذلك عن أعين بني آدم، فيراه بنو آدم ضيقاً وهو أوسع شيء وأطيبه ريحاً وأعظمه إضاءة ونوراً وهم لا يرون ذلك.
وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالَم.
فلو كان الميت بين الناس موضوعاً لم يممتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه. وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه فيُعذب في النوم ويُضرب ويألَم وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتة. وقد سرى أثر الضرب والألم إلى جسده.
ومن أعظم الجهل استبعاد شق الملك الأرض والحجر وقد جعلهما الله سبحانه كالهواء للطير، ولا يلزم من حجبهما للأجسام الكثيفة أن تتولّج حُجُبها الأرواح اللطيفة وهل هذا إلا من أفسد القياس!!، وبهذا وأمثاله كُذِّبَت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى.
ولا تستطل هذه المقدمة، فإن ما ذكرناه فيها من كلام ابن القيم وما سنذكره أيضاً من كلامه -بمشيئة الله تعالى- مما يُهمُّ السالك أمر حارت به العقول، ولا تمكن معرفته إلا بقبس من علم الرسول، وقد أنكر عذاب القبر ونعيمه جَهَلة وضُلاّل زماننا -على وجه الخصوص-، وقد ورثوا ذلك من الملاحدة.
كما أنه يتفرّع من هذا العلم معرفة شأن يأجوج ومأجوج، وأن من أنكر وجودهم خلف السدّ وزعم خروجهم مخطئ أقبح الخطأ، وقد كتبت في ذلك كتاباَ هو (إبطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج)(1). كذلك يتبين من هذه المقدمة خطأ من أنكر وجود الدجال، والذي صحّ الخبر بوجوده حالياً، كما ورد في الحديث المرفوع الذي أخرجه مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه، كذلك فإن ما في هذه المقدمة أنموذج لِعِلْم ذلك الإمام العظيم ليطلعك على ما ورائها من علمه وفقهه في السلوك على الصراط المستقيم حيث أن أكثر ما في هذا الكتاب من كلامه.
ثم إن من دقائق ثمرات العمل بمقتضى علم السلوك هي كالتالي:
1 -
معرفة النفس ومعرفة عبوديتها لله تعالى، وأن هذا هو المقصود بعلم السلوك حيث هو العبودية.
(1) - زعم بعض المتأخرين أن يأجوج ومأجوج هم الصينيون والأوربيون والإمريكيون وأنهم قد خرجوا منذ فترة من الزمن ولا حجة له في ذلك، والكتاب المشار إليه ردّ عليه، والحمد لله رب العالمين.
2 -
معرفة الله وخشيته في الغيب والشهادة.
3 -
التخلص من حظوظ النفس وشوائبها.
4 -
استشعار عظمة الإله المعبود سبحانه وبحمده.
5 -
معرفة حقيقة علم النفس، وأنه في التشريع وما سواه ضلال.
6 -
العمل بما يرضي الله تعالى، واجتناب ما يسخطه.
7 -
زيادة الإيمان واستحضار مشاهد اليوم الموعود مما يعين على الاستعداد له.
8 -
التعرّف على خفايا نعم الله على عباده، والإقرار بها، وشكرها بإخلاص العمل لوجهه الكريم.
9 -
عدم الاغترار بالعمل، وعدم التهاون به.
10 -
علو الهمة، وعدم الركون إلى الدنيا ركوناً قاطعاً عن الله.
11 -
تيسير محاسبة النفس عملياً والحد من غرورها وطغيانها بالعبادة أو بالعلم.
12 -
امتلاء القلب بمحبة الله والشوق إليه.
13 -
صحة القلب، والتخلص من أمراضه، وثباته على الاستقامة.
14 -
معرفة التوكل بالعبادة.
15 -
فقه أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بفقه العبادة.
16 -
التحقق بالفقر الحقيقي وأنه ليس ما يُنافي الجِدة التي هي الغنى.
17 -
التحقق بمعرفة الغِنى العالي والغِنى السافل. كما ستعرفه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
18 -
انشراح الصدر واستنارة القلب الذي لا يحصل إلا بهذا الفقه العظيم.
19 -
انشغال القلب بما خلق له ونزوله بمنازل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
20 -
التخلص من رؤية العمل الصالح ومن طلب العِوَض عليه، والتخلص كذلك من الرضى به ومن السكون إليه.
21 -
تيسير العمل الصالح والعمل به كما شُرع.
وكتابنا هذا -بفضل الله تعالى- مِنْ أوجز وأحسن ما يثمر لك هذه الثمار العُظمى، فاعمل به -مستعيناً بالله وحده- ليثمر لك العمل بالعبودية الحقة والمثمرة لهذه الثمار -بإذنه سبحانه-.
ثُمّ اعلم أن كنوز هذا الكتاب وتُحَفَه وذخائره مجلوبة لك من معادتها وهم سلفنا الصالح عامة، وابن القيم وشيخه خاصة -فرحمهم الله أجمعين-. ولئن ظننت أن قرائح المتأخرين تجود بمثل هذا أو تبلغه علومهم فهذا وَهْم منك، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الكريم بن صالح الحميد
القصيم -بريدة
يوم الجمعة 14/ 8/1421هـ