الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق الثاني
من فروق ما بين أجر الخالق وأجر المخلوق
الإنسان إذا عمل لربه فهو على الحقيقة يعمل لنفسه لأن النفع عائد له في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة فظاهر وهو نجاته من النار ودخوله الجنة، وهذا منتهى زوال الرهبة وتحقق الرغبة، وغاية ما سمَتْ إليه همم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم على الحقيقة.
وأما في الدنيا فهذا الذي قد لا يعرفه كثير من المعرضين، وقد يعرفه مجملاً من غير تفصيل كثير من المتعبدين.
وهنا لا بد من الكلام في علة التكليف وحكمته ليتبين هذا الأمر.
وحيث أنه قد اختلفت طرق الناس في ذلك مع كون الرب سبحانه لا ينتفع بالطاعة ولا تضره المعصية فقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذه الطرق وهي: طريق الجبرية والقدرية والفلاسفة، ثم ذكر الرابع وهو طريق أتباع الرسل، قال:
وأما أتباع الرسل الذين هم أهل البصائر فحكمة الله عز وجل
في تكليفهم ما كلفهم به أعظم وأجلّ عندهم مما يخطر بالبال أو يجري به المقال، ويشهدون له سبحانه في ذلك بالحِكَم الباهرة والأسرار العظيمة أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمنته من الأسرار والحِكَم.
فهم يعبدونه سبحانه بأمره ونهيه لأنه تعالى أهل أن يُعبد وأهل أن يكون الحب كله له والعبادة كلها له حتى لو لم يخلق جنة ولا ناراً ولا وضع ثواباً ولا عقاباً لكان أهلاً أن يعبد أقصى ما تناله قدرة خلقه من العبادة.
وفي بعض الآثار الإلهية: لو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن أهلاً أن أُعْبَد.
فإن الله فطر خليقته على محبته والإقبال عليه وابتغاء الوسيلة إليه، وأنه لا شيء على الإطلاق أحب إليها منه وإن فسدت فِطَر أكثر الخلق بما طرأ عليها مما اقتطعها واجتالها عما خُلِق فيها.
فكونه سبحانه أهلاً أن يعبد ويُحَب ويُحمد ويثنى عليه أمر ثابت له لذاته فلا يكون إلا كذلك.
فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يُعبد وإن لم يرسل إليهم رسولاً ولم ينزل عليه كتاباً ولو لم يخلق جنة
ولا ناراً علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته ولا أقبح من الإعراض عنه، وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك وتكميله وتفصيله وزيادته حسناً إلى حسنه.
فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا وتوافقا وظهر أنهما من مشكاة واحدة فعبدوه وأحبوه ومجدوه وحمدوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل فاجتمعت لهم الدواعي ونادتهم من كل جهة ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم فأقبلوا إليه بقلوب سليمة لم يُعارض خبره عندها شبهة توجب ريباً وشكاً ولا أمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه.
فأجابوا دواعي المحبة والطاعة إذ نادت بهم: حي على الفلاح، وبذلوا أنفسهم في مرضاة مولاهم الحق بذل أخي السماح، وحمدوا عند الوصول إليه مسراهم وإنما يحمد القوم السّرى عند الصباح.
فدينهم دين الحب وهو الدين الذي لا إكراه فيه، وسيرهم سير المحبين وهو الذي لا وقفة تعتريه:
إني أدين بدين الحب ويْحَكُم
…
فذاك ديني ولا إكراه في الدين
…
ومن يكن دينه كرهاً فليس له
…
إلا العناء وإلا السير في الطين
…
وما استوى سَيْر عبد في محبته
…
وسير خال من الأشواق في دين
…
قل لغير أخي الأشواق ويحك قد
…
غُبْنت حظك لا تغتر بالدون
…
نجائب الحب تعلوا بالمحب إلى
…
أعلى المراتب من فوق السلاطين
…
وأطيب العيش في الدارين قد رغبت
…
عنه التّجار فباعت بيع مغبون
…
فإن ترد علمه فاقرأه ويحك في
…
آيات (طه) وفي آيات (يس)
يبين ما تقدم ويوضحه ما ذكر رحمه الله من أدلة الكتاب والسنة على ذلك وهو قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
قال: فبين سبحانه أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفاً مقبلاً عليه معرضاً عما سواه هو فطرته التي فطر عليها عباده فلو خُلّوا ودواعي فطرهم لما رغبوا عن ذلك ولا اختاروا سواه. ولكن غيّرت الفطر وأفسدت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم يقول أبو هريرة: إقرأوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ). إنتهى.
مما تقدم تظهر حكمة التكليف وهو أن الشريعة النازلة تفصيل وبيان لما في الفطرة المخلوقة وأن صلاح حال العبد في الدنيا بتوافق الشرعة مع الفطرة، ويأتي إن شاء الله زيادة توضيح لهذا الأصل العظيم الذي هو أصل الدين وأساسه.