الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس الأمارة بالسوء
قال ابن القيم –رحمه الله عن النفس الأمارة بالسوء:
تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه.
وقد أبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل: (آمرة) لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خُلقت في الأصل جاهلة ظالمة. انتهى.
إذا كانت صفات النفس الأصلية أنها جاهلة وذلك يعني عدم العلم، وظالمة وذلك يعني عدم العدل؛ فما كان فيها من علم يخرجها من جهلها وعدل يخرجها من ظلمها فمِنْ فاطرها، وفهْم هذا يقطع عروق الإعجاب بالنفس فما لها من ذاتها خير تُعْجب به وتدّعيه، قال تعالى:(إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
ثم قال: والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها.
فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة.
إن من نظر إلى محل الجناية ومصدرها وهو النفس الأمارة بالسوء أفاده نظره إليها أموراً منها:
أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
ومَن وَصْفُه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.
فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها فإنه ربها ومولاها وأن لا يَكِلَه إليها طرفة عين فإنه إن وَكَلَهُ إليها هلك، فما هلك من هلك إلا حيث وُكِلَ إلى نفسه.
قال تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر:(قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي).
فمن عرف حقيقة نفسه وما طُبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء، وأن كل خير فيها ففضل من الله مَنَّ به عليها لم يكن منها كما قال تعالى:(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً) وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا بالنفس ولا بها ولكن هو الله الذي منّ بهما فجعل العبد بسببهما من الراشدين (فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(عليم) بمن يصلح لهذا الفضل ويزكو عليها وبه يثمر عنده، (حكيم) فلا يضعه عند غير أهله فيضيعه بوضعه في غير موضعه.
والنفس الأمارة جُعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو يَعِدُها ويُمنيها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزيّنه لها ويطيل في الأمل، ويريها الباطل في صورة تقبلها وتستحسنها ويُمدّها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة.
ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فمنه يُدْخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها، وقد
علّم ذلك إخوانه من شياطين الإنس، فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجاسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبَوْا وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكم فيها.
ثم قال: وبهذا يُعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك.