الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقر العبد إلى ربه
ليس المراد بهذا الفقر الذي نعرفه من حاجة العبد إلى ربه في أمور دنياه، وإنما المراد به شيء آخر وأعظم من هذا، وسيتبين فيما بعد إن شاء الله، وهذا كالتقديم له.
قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له. إنتهى.
هذا الفقر قد لا يجهله أحد وليس هو المراد هنا، وإنما المراد النوع الثاني من الفقر الذي مَنْ أحكم معرفته عرف سرّ عبوديته لربه وأنه بدون حصولها مُعذب القلب والروح في معاشه قبل معاده.
قال رحمه الله: وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه.
فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم.
وقال: (واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها مستلماً لأركانها واقفاً بملتزمها، فيا فَوْزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخُلَع إفضاله). والفقر الذي يتكلمون به ويمدحونه ليس هو الفقر الذي يقابله الغنى بالمال وإنما هو فقر كما قال ابن القيم نتيجة علمين شريفين أحدهما: معرفة العبد بربه والثاني: معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته.
قال: وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه.
ثم ذكر قول الأنصاري: الفقر إسم للبراءة من رؤية المِلكَة يعني أن الفقير هو الذي يجرّد رؤية الملْك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقّة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أمره به سيده.
فنفسه مملوكه وأعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذرّاته ولا لشيء من أعماله.
ثم قال: ولو عرف نفسه حق لمعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة مَلِك متصرّف.
ثم ذكر من لم تؤثّر فيهم ملكية المال لشهودهم لفقرهم وشهودهم ملكية الرب لهم ولأموالهم وأعمالهم وهم الأنبياء.
ثم ذكر أن من لم يُعافَ من رؤية المِلْكَة ادّعت نفسه ذلك وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه، إن أُعطي رضي وإن مُنع سخط فهو عبد الدينار والدرهم.
يصبح مهموماً ويمسي كذلك، يبيت مضاجعاً له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا توهّمت نفسه الفقر، وقد يُؤثر الموت على الفقر.
والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما لِلْجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في مُلْكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه.
فلا يتّهم مولاه في تصرفه في ملْكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلّق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه.
قد تبين بعض معاني الفقر فيما سبق وهنا زيادة بيان له لعظم أهميته وأنه كما قال ابن القيم: أشرف منازل القوم وأعلاها وأرفعها وأنه روح كل منزلة [من منازل إياك نعبد وإياك نستعين] وسرّها ولبّها وغايتها، وأنه تحقيق العبودية والإفتقار إلى الله تعالى في كل حالة.
وأنه عزل النفس عن مزاحمة الربوبية. إنتهى.
قد يسْتعظم الإنسان هذا الكلام ويقول: ومن يزاحم الربوبية؟ ولو فهم المراد حقيقة لعلم أننا نزاحم الربوبية وقد لا نشعر بذلك.
إن دعوانا ملكيتنا لنفوسنا وذواتنا ولو لم نتكلم بذلك هو مزاحمة الربوبية لأن التحقق بالفقر يُخرج العبد من كل دعوى، والمراد هنا معرفة القلب وحال القلب، وأما أن نقول: نحن مماليك لله بأحوال مخالفة فهذا لا يكلّفنا عناء.
ولعل تأمُّل بعض ما ورد بهذا المعنى يبين المراد فتحصل لنا يقظة نعلم منها ما نحن فيه قبلها.
قال بعضهم وقد سُئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟
فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه، فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له.
قال ابن القيم: وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم، وهو أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه، فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول.
ثم فسّر ذلك بقوله: (إذا كان له فليس له) أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.
فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمّ مِلْك، واستغناء مناف للفقر. انتهى.
قد ننظر في هذا الكلام فنرى أنه تحصيل حاصل فمَنْ منا لا يرى أنه كله لله؟ والواقع غير هذا، فاللسان يقول ولكن حال القلب
شيئ آخر، إننا نتصرف بأنفسنا كمُلاك لها ولذلك إن تفكرنا بالعبودية فعلى سبيل المعاوضة والإستحقاق، وقد تقدم بيان ذلك.
قال ابن القيم: وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تُنافيه الجِدّة ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم. إنتهى.
تأمل كونهم فقراء في غناهم وذلك لتمام شهودهم ملكية الرب سبحانه لهم ولما في أيديهم.
قال ابن القيم: فالفقر ذاتي للعبد، وإنما يتجدد له شهوده ووجوده حالاً وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه:
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً
…
كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
واتفقت كلمة القوم على أن دوام الإفتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما.
وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله، وقالوا عن الفقر أنه: البراءة من المِلكة بحيث لا ينازع مالكه الحق.
ولما كانت نفس الإنسان ليست له وإنما هي ملك لله فما لم يخرج عنها ويسلمها لمالكها الحق لم يثبت له في الفقر قدم، فالوصول إلى الله من طريق الفقر ولا دخول عليه إلا من بابه.
ومما يحقق شهود العبد لفقره التفاته إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله وجوده ومنّته وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه، وليس للعبد من ذاته سوى العُدْم، وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه.
فإذا شَهِد هذا وأحضره قلبه وتحقق به خلّصه من رؤية أعماله فإنه لا يراها إلا من الله وبالله وليست منه هو ولا به.
ورؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله ويخلصه منها شهود السبق ومطالعة الفضل.
لأنه إذا طالع سبق فضل الله علم أن كل ما حصل له من حال أو غيره فهو محض جوده، فلا يشهد له حالاً مع الله ولا مقاماً كما لم يشهد له عملاً.
فقد جعل عُدَّته للقاء ربه فقره من أعماله وأحواله فهو لا يَقْدم عليه إلا بالفقر المحض.
فالفقر خير العلاقة التي بينه وبين ربه، والنسبة التي ينتسب بها إليه والباب الذي يدخل منه عليه.
ويُحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكّن من الدخول حتى جئت من باب الذل والإفتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا مُعوّق. فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد.
لزوم عتبة العبودية إنما يتخقق بالإفتقار، فالفقر إلى الله على ما تقدم بيانه هو العبودية قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ).
وقال: فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع
ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهم من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل.
والإنسان ظلوم جهول، فمن جَلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمّل فطرته ووقْفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيْبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك.
فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبْق منته ودوامه. إنتهى.