الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سِرُّ (لا إله إلا الله) وحقيقتها
وقال ابن القيم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ).
فالمؤمنون أشد حباً لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب؛ هذا مقتضى عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بُدٌّ كدقائق العلم والمسائل التي يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هذه أفرض مسألة على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها.
فليشتغل بها العبد أو ليُعْرِض عنها، ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله، فإنها سِرّها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون.
فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في
مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا الله وحده.
ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته.
فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحّت صحّ بها كل مسألة وحال وذوق.
وإذا لم يُصحّحها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنتهى.
الكلام في المحبة أذكره لبيان التوحيد، ولأن الموانع عنها والقواطع لا تحصى في زماننا هذا، ولا يلزم من الوصف الإنصاف، ولا من العلم الحال وإنما أسأل الله أن يمنّ بذلك، والأجدر بنا الخوف.
وقال ابن القيم: فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه كما تحب أنبياءه ورسله وملائكته، وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله.
ثم ذكر أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله.
وقال رحمه الله: إعلم أن أشعّة (لا إله إلا الله) تبدّد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى.
فمن الناس: مَنْ نورُ هذه الكلمة في قلبه (كالشمس) ومنهم من نورُها في قلبه (كالكوكب الدري).
ومنهم من نورها في قلبه (كالمشعل العظيم).
وآخر (كالسراج المضيء).
وآخر (كالسراج الضعيف).
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً.
وكلما عَظُمَ نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه.
وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً؛ فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنَتْ من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد
حُرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غِرّة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح خزنته وولّى الباب ظهره.
ولا بد في قول (لا إله إلا الله) من قول القلب وقول اللسان وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفيّة عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار، فقد ورد في الحديث الصحيح (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وحديث (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ونحو ذلك من الأحاديث التي لم يجعل الشارع صلوات الله وسلامه عليه ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فكل قول رتّب الشارع ما رتّب عليه من الثواب فإنما هو القول التام كقوله صلى الله عليه وسلم:(من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر).
وليس هذا مرتباً على مجرد قول اللسان، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفّة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدّ البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يُعذب.
وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذِكر مَن قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك ساه مشغول بغيرك قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟
أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عَبْداك أو زوجتاك عندك سواء؟.
فهكذا الأعمال والعُمال عند الله والغافل في غفلة عن هذا إنتهى.
فينبغي تأمُّل هذا والتفطن له؛ ففي وقتنا كثُر إيراد أحاديث الفضائل، كـ (من قال كذا فله كذا) (ومن عمل كذا فله كذا) وقلّ من تنفذ بصيرته إلى الحقائق؛ فأعِدِ النظر في قوله رحمه الله:(فكل قول رتّب الشارع ما رتّب عليه من الثواب فإنما هو القول التام).
ثم أعِد النظر في شرحه وبيانه للقول التام وخلافه.
وهذا لا يعني عدم العمل بهذه الفضائل، بل من البديهي المعلوم أن من يقولها باللسان دون مُواطأة القلب أفضل ممن لا يقولها، ولكن المقصود هنا التنبيه بالجملة على أن ما رُتب عليها من الثواب فإنما هو القول التام كما هو موضَّحٌ شأنه.