الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوبة
الحقيقة أن أحوالنا مزرية وقد لا تخطر هذه الأمور لنا على بال فضلاً أن تكون لنا حالاً كما كانت للسلف. والأسباب القاطعة المانعة كثيرة لكن أهمها عدم الصدق والإخلاص اللذان يقول عنهما الإمام أحمد: بهما ارتفع القوم.
إن تحقيق التوبة النصوح والعبودية الحقة للإله الحق سبحانه أمر شاق وصعب إلا على من يسره الله عليه، وكثير من الناس يظن أن التوبة إنما هي من الفواحش ونحوها من كبائر الذنوب، والصحيح أنها مطلوبة من كل عبد كما قال تعالى:(وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالعباد إما تائب أو ظالم.
ومن عرف ما تقدم تبين له أن التوبة حتى من الأعمال الصالحة من نقصها والغفلة فيها والتفريط وعدم صلاحيتها لرب العالمين.
ومما يوضح أن التوبة غاية كل أحد ما قرّره ابن القيم رحمه الله بقوله:
وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يُتاب منه فيراه نقصاً ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن العبد يعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب، ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر.
وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله.
فليس للعبد كمال بدون التوبة ألبتّة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها، فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خير له من عمله فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته، ولو وُكِلَ إلى عمله لم ينج به ألبتّة. انتهى.
مِن عدم معرفة التوبة وشأنها يغتر كثير من الناس ممن نشأوا على الإسلام يصلون ويصومون ويحجون ويظنون أن التوبة لغيرهم من أهل الفواحش ونحوهم، ولم يعلم هؤلاء عِظَمَ ما فاتهم من معرفة حقيقة التوبة والسلوك عليها، فهم على دين العادة والمنشأ، ومما يُعلم به شأن التوبة ما ذكره أهل العلم من أن العبد يتوب من التوبة وهذا ظاهره خطأ فاحش لمن لم يعرف المراد، لأن التوبة أجل الأعمال فكيف يقال: التوبة من التوبة، وإنما مرادهم التوبة من رؤية
التوبة لأن العبد في البداية يشهد نفسه ورجوعه إلى ربه وتوبته إليه غائباً عن شهود من جعله كذلك ومنّ عليه به.
وليس الكلام في هذا فهو طويل عريض والإحالة فيه على كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) و (شفاء العليل) و (طريق الهجرتين) والكل لابن القيم.
لكن هنا إشارة فقط وهو أن التائب لم يتب بحوله وقوته استقلالاً ولا أن الله جعل الهدى في قلبه ثم اهتدى هو استقلالاً أيضاً بل ما يزال ربه يجعله مهتدياً بتخليقه له في كل آناته وأوقاته، فإذا استشعر العبد هذا وعرفه معرفة قلب تاب من شهود نفسه مستقلاً بالتوبة والهدى فهنا يتوب من التوبة.
وهذا إنما يظهر بمعرفة القدر والإيمان به، ويأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله.
ولتعلم أن التوبة ليست لأحد دون أحد وأنها كما قال ابن القيم بداية العبد ونهايته.
وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علّق الفلاح بالتوبة تعليق المسبِّب بسببه. إنتهى.
تأمل هذا تعرف جهل كثير من الناس بالتوبة حيث يظن أنها مقصورة على من ترك الواجبات وفعل المحرمات وهذا غلط فأمر التوبة أجلّ من هذا وهي أشمل وأعمّ من ذلك وقد أمر الله بها سادات الأولياء أهل الإيمان وخيار الخلق ويأتي إن شاء الله زيادة بيان لهذا بل هذا الكتاب كله في شأن التوبة وتصحيحها.
ثم قال رحمه الله: قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثمّ قسم ثالث البتّه وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يا أيها الناس توبوا إلى الله فو الله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).
ومن علامات التوبة انخلاع قلبه وتقطعه ندماً وخوفاً، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى:(لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قال: تقطّعها بالتوبة.
ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه.
وهذا هو تقطّعه، وهذا حقيقة التوبة لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفاً من سوء عاقبته، فمن لم ينقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفاً تقطع في الآخرة إذا حقّت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضاً: كَسْرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير المذنب، لا تحصل بجوع ولا رياضة ولا حب مجرّد وإنما هي أمر وراء هذا كله، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً كحال عبد جان آبق من سيده فأُخِذَ فأُحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بُدّاً ولا عنه غناء ولا منه مهربا، وعَلِمَ أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد عَلِم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده وعز سيده.
فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجْدى عائدتها عليه وما أعظم جبْره بها وما أقربه بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والإنطراح بين يديه والإستسلام له.
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال:
أسألك بعزك وقوتك وغناك فأنا الذليل وأنا الضعيف وأنا الفقير هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورَغِم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذلّ لك قلبه.
يا من ألوذ به فيما أومّله
…
ومن أعوذ به مما أحاذره
…
لا يخبر الناس عظماً أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظماً أنت جابره
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتّهم توبته وليرحع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق بشيء أشقّ عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وذكر رحمه الله مقاماً من مقامات التوبة قال: لا يعرفه إلا الخواص المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، فلا يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها، ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يرضوا نفوسهم وأعمالهم لهم، فهم أشد شيء احتقاراً لها وإزراء عليها.
وإذا غفلوا من مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبداً. وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) وكلما ازدادوا حباً له ازدادوا معرفة بحقه وشهوداً لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم، وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم.
وبالجملة فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه هي التوبة، وسواهم محجوب عنها.
وفوق هذه توبة أخرى الأَوْلى بنا الإضراب عنها صفحاً. إنتهى.
ونحن متى نعرف ما ذكر كما ينبغي فضلاً عن أن يكون مقاماً لنا وحالاً؟!! فكيف بهذا الذي فوقه؟!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم اجبر مصيبتنا بعفوك عنا.
وبما تقدم يُعلم أن التوبة غاية العارفين ونهاية أولياء الله المقربين، ومن عَلِم أن الذنوب على القلوب كالسموم في الأبدان عرف شأن التوبة وقَدْرها.
قال شيخ الإسلام: ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله بحبه فهو كمن ظن أن السم لا يضره مع مداومته عليه لصحة مزاجه.
ولو تدبّر الأحمق ما قصّه الله في كتابه من توبة الأنبياء وما جرى لهم من البلاء الذي فيه تطهير لهم لاستدل على ضرر الذنوب بأصحابها ولو كانوا أرفع الناس.