الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواعظ القبور
قال ابن القيم رحمه الله:
لما كان أكثر الناس أهل معاصي وذنوب كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب.
ظواهرها بالتراب والحجارة مَبْنيات، وفي بواطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وَعَظَتْ فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت: يا عُمار الدنيا لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالا، وخزيتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الإستباق ومستودع الأعمال وبَذْر الزرع، وهذه محل للعير، رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار. إنتهى.
وإذا كان هذا شأن القبور ووعظها فما الظن بما آلت إليه أحوال
كثير من أهل وقتنا عند حضورهم الجنائز والقبور.
لقد أصبحنا نسمع العجائب من أقوالهم، كما أنه يُرى من أفعالهم ما إن دل على شيء فإنما يدل على أن القلوب في مرض خطير أو أنها ميّتة والعياذ بالله.
وقد كتبت أبياتاً في هذا الموضوع بعنوان (القبور الواعظة) وهي كالآتي:
عجائب الوقت لا نُحصي لها عدداً
…
وإنما بعضها نَذْكُرُه للعجب
قبورنا حولنا والميت مُنْجدل
…
وضحكنا حاضر في البال لم يغِبِ
أمَحْفَل العرس أم ميتاً نشيّعه
…
نقارب الأمر .. واغوثاه من كُرب
وصفقة البيع عند القبر نعقدها
…
وصعقة الموت تدنينا من العطب
كأننا بعد هذا الميت في أمد
…
من الحياة بدار اللهو واللعب
قساوة القلب داء لا دواء له
…
إلا الرجوع إلى درب لنا رَحِب
هذي القبور بها الذكرى لمتعظ
…
صوامت .. إنما نادتك بالطلب
كم في القبور نعيماً لستَ تدركُهُ
…
وكم بها حفر للنار واللهب
ما مؤمن ينظر الأجداث معتبراً
…
إلا تغيّر مِنْ همّ ومِن نَصَب
وميت القلب عند القبر في عَمَهٍ (1)
…
وليس يَنفذ خلف الستر والحجب
وغافل القلب عند القبر في مَرَح
…
سيماه تخبر .. لا تسأل عن السبب
وكيف يغفل والأيام تنقله
…
إلى المقابر لو قد جدّ بالهرب
(1) - العمه، هو/ عمى البصيرة.
إن القبور مزار سوف تسكنه
…
عما قليل وما الأعمار كالحُقُب
فروضة من رياض الخلد مشرقة
…
أو الجحيم .. ويا بؤساً لمنقلب
هذا النعيم إذا تطلب له شبهاً
…
كذا العذاب، فأَمْر غاية العجب
كنائم سُرّ في أحلام نومته
…
وآخر كم رأى في النوم من كُرَب
هذا يشابه بالتقريب برزخنا
…
وما المشبَّه كالمرئي عن كثب
إذا رأيت أناساً عند مقبرة
…
في شُغْلِ دُنْياهمو فالدين في عطب
جوّالهم جال في هَذْر يروق لهم
…
وسامع الهذر ظن القوم في طرب
أسلافنا كلهم بالغم مشتمل
…
عند القبور لأمر ليس باللعب
تذكّروا الموت إذ يأتي فيفجؤهم
…
لأنهم بالدُّنى كانوا كمغترب
إن مات ميْتٌ ترى الأحزان شاملة
…
أين المعزّى فكل القوم في رهب-!!
في داخل القبر أهوال مهوِّلة
…
من عاين القبر لم يرغب بمنقلب
إلا ليعمل أعمالاً تكون له
…
ذُخْراً إذا جاء وعد ليس بالكذب
من لم تعظه قبور سوف يسكنها
…
فعقله تائه لاه بمستلب
حال الجنائز -يا من غُرَّ- قائلة:
…
إحذر!! فإنك يا مغرور بالطلب
لا تُلْهِينّك دنياً سوف تتركها
…
وآخر الأمر محمول على الخشب
من حين جئت إلى الدنيا فمُتَّجه
…
نحو القبور ولو أمعَنْت بالهرب
هذي الحقيقة يا من غرّه أمل
…
قد جاوز الأجل المخطوط بالكتب
أنفاسنا والخُطى عدّا بلا خطأ
…
معاول هادمات عُمرنا الخرب
من كان يضحك والأجداث ترقبه
…
فأمره عجب يدعو إلى العجب! (1)
(1) - كتبت في 27/ 6/1421هـ وقد نشرت في حينها -بحمد الله تعالى-.