الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محبة الإله
يظن كثير من الناس أن محبة الله مقام من مقامات العبودية لا أنها أصل لها وقد يؤدي الأركان والواجبات لكنه لا يعتني بشأن المحبة ولا يتفقدها في قلبه ولا يبالي بتوجّهها للأغيار سواء كانت أموالاً أو رئاسة أو صوراً، ويظن أنه ما دام يؤدي شعائر الإسلام الظاهرة لم يبق عليه من شيء، وهذا من الجهل بحقيقة العبودية التي أصلها ولبّها المحبة وهي أعظم معاني التألّه.
ولقد كثر الكلام في وقتنا عن أمم الكفر وما يعانونه مما يسمى (بالخواء الروحي) ويعلّلون ذلك بطغيان الماديات حتى سرى هذا الوباء على غيرهم ممن ينتسب إلى الإسلام انتساباً دون تحقيق، وما زلنا نسمع بين حين وآر عما يعانيه كثيرون حتى من أرباب الأموال والرئاسات من الأمراض النفسية والهموم المتواترة والهواجس والتوقعات المخيفة ونحو ذلك مما يكدّر صفاء عيشهم وينغّص حياتهم.
كما أصبح ما يُلهي ويشغل القلب والروح من الضروريات لأكثر الخلق يداوون به همومهم بزعمهم مِنْ نظر إلى ملهي أو سماع لمطرب أو شراب لمسكر إذ لا بد من هذه البدائل لدفع الهم والغم حينما يفقد القلب أنسه وسروره الذي فُطر عليه لكن البدائل مهما تكن فهي تواري الهموم والغموم وعذاب القلب والروح وقت مباشرتها والإنغمار فيها كالمخدر تماماً، فإذا ارتفع مفعولها وزال عاد العذاب أشد منه قبل حتماً لزيادة إعراض القلب وصدوده عما خلق له وزيادة بعده عن ربه وقربه من عدوه الشيطان وتمكّنه منه وهذا محسوس وإنما المصاب به قد لا يعرف سرّه ويظن أنه لا بد من هذا العذاب القلبي ولا دواء له إلا ما تقدم ذكره مما يزيد علّته وعاه فيتداوى المصاب بدائه.
والمراد هنا أن ما يعانيه الكفار وصل إلينا وظهرت أعراضه جليّة بكثرة ولا يحيط بخطر وضرر ذلك إلا الله.
والسبب سلوك مسالكهم واتباع سننهم وهديهم، وأثر هذا بليغ على القلوب، كيف إذا انضاف إلى ذلك إيثار الدنيا على الآخرة وظهور الضلالات والمنكرات وإلْف القلوب لها بل واستئناسها بمباشرتها، وتأبى سنة الله أن يكون للكفار المُرّة ولنا الحلوة إذا سلكنا طريقهم كما صرّح بذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وهل يقال: إن السموم تضر بعض الأجسام دون بعض! كذلك الذنوب والمعاصي والإعراض عن الآخرة والإقبال بالقلب والقالب على الدنيا هي سموم القلوب والأرواح، وليس لذلك كله دواء شاف إلا التوبة النصوح بالرجوع إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدّال على الإله الذي بقربه نزول كل وحشة، ويذهب كل هم، ويحل النعيم والسرور.
ونرجع الآن إلى الكلام على المحبة وتقرير أنها أصل الدين.
قال ابن القيم رحمه الله: والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دل الجنة اعترافه وإقراره بهذه المحبة وإفراد الرب بها. انتهى.
يريد رحمه الله بآخر كلام العبد المؤمن كلمة (لا إله إلا الله) لأن هذه الكلمة العظئمة من قالها صادقاً عالماً بما تعنيه انجذبت روحه إلى ربه بالمحبة والتعظيم والإجلال.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد، قال: فإن حقية التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة لأن
الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً. إنتهى.
وإذا كان تحقيق هذه الكلمة العظيمة انجذاب الروح والقلب إلى الله تعالى فلا بد إذاً من التخلص من الجواذب المانعة.
ومن عجيب ما يُرى شدّة الإعتناء بالوصفات الطبية للأبدان مع أنها قد لا تنفع وقد تضاعف الألم، وعدم الإعتناء بما وصفه الله ورسوله دواء وشفاء مضموناً لقلوبنا وأرواحنا، مع أنه ليس مرض الجسم كمرض القلب.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: فهو أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله.
وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها وأسباب لتحصيلها وتكميلها، وتحصينها من الشوائب والعلل.
فهي قُطْب رحى السعادة وروح الإيمان وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هادٍ إليها ودال عليها ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها مع الله غيره ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره وسوّى
بينه وبين الله فيها كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم يقولون في النار لآلهتهم: (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها.
فتصحيح هذه [يعني المحبة] هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله.
فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقّظ لهذه المسألة علماً وعملاً وحالاً، وتكون هي أهم الأشياء عنده وأجلّ علومه وأعماله.
فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال غير واحد من السلف: هو عن قول لا إله إلا الله.
والمحبة هي الغاية التي شمّر إليها السالكون، وأمّها القاصدون ولحظ إليها العاملون وهذا مشهد العبودية لله والشوق إلى لقائه والابتهاج به والفرح والسرور به، فنقرّ به عينه ويسكن إليه قلبه
وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسان مُحِبّه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركتها بالمعاصي.
قد امتلأ قلبه من محبته ولهج لسانه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته.
قال شيخ الإسلام: وفي التوراة والإنجيل مِنْ ذكر محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى أن عندهم أن ذلك أعظم وصايا الناموس.
ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك.