الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أسرار التوبة
قد ظهر مما تقدم أنه لا وصول إلى الله إلا بالتوبة وأنها لا تخص أحداً دون أحد بل هي طريق الأنبياء وأتباعهم على الحقيقة لعظم حق الرب على عبده واستحالة وفاء العبد به، وهنا يحسن ذكر بعض أسرارها ليزداد الأمر وضوحاً وجلاء.
فقد ذكر ابن القيم منها: أن يُكَمِّل لعبده مراتب الذل والخضوع والإنكسار بين يديه والإفتقار إليه، فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية، ولو قَدِرَتْ لقالت كقول فرعون، ولكنه قدر فأظهر، وغيره عَجِز فأضْمر (1).
(1) - وهنا أريد الإشارة إلى عدم استعظام كلام ابن القيم هذا وهو أن النفس فيها مضاهاة للربوبية ولو قَدِرت لقالت كقول فرعون، ولا يستعظم هذا إلا من لا يعرف حقيقة نفسه المعرفة التامة ولا يعرف حقيقة أنفس أكثر الخلق وما تنطوي عليه من الطغيان والكبر، ويكفي لمعرفة صدق كلامه رحمه الله قوله عز وجل عن الإنسان:(إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) وهذا لا يخرج منه أحد من بني آدم حيث أن الله عز وجل أوجدهم من العدم، والعدم ليس بشيء أصلاً، فما هو إلا فضل الإله ومنته أن يُخرج العبد من ظلمه إلى العدل، وأعدل العدل التوحيد ويعم الدين كله، وأظلم الظلم الشرك، ثم المعاصي كلها ظلم دون الشرك، ويخرجه من جهله بربه وبنفسه وبدينه، والمراد هنا أن الظلم والجهل الذي هو وصف ثابت لأنفسنا لا يصدر منه خير قط كما أنه لا حدّ لشرّه وما قال فرعون مقالته إلا لظلمه العظيم وجهله الفاضح، وإنما كان سلطانه بالقوة لا بالعلم والعدل، ولقد استخف قومه فأطاعوه لاشتراكهم معه في الجهل والظلم والله المستعان.
وإنما يُخلّصها من هذه المضاهاة (ذل العبودية) وهو أربع مراتب [ومنها تظهر بعض أسرار التوبة]:
المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله، فأهل السموات والأرض جميعاً محتاجون إليه، فقراء إليه وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحداً.
المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الإختيار، وهو خاص بأهل طاعته، وهو سِر العبودية.
المرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات، وعلى قدر محبته يكون ذلّه، فالمحبة أُسِّسَت على الذلة للمحبوب كما قيل:
إخضع وذلَّ لمن تحب فليس في
…
حكم الهوى أنف يُشال ويُعقدُ
وقال آخر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم
…
عليها تراب الذلّ بين المقابر
المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع، كان الذل لله والخضوع أكمل وأتم، إذ يذلّ له خوفً وخشية ومحبة وإنابة وطاعة وفقراً وفاقة.
وحقيقة ذلك: هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر، بل هو لبّ العبودية وسرّها، وحصوله أنفع شيء للعبد وأحب شيء إلى الله، فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة وأسباب العبودية والطاعة وأسباب المحبة والإنابة وأسباب المعصية والمخالفة.
ومنها السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، بل شهدته قلوب خوّاص العباد، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة به وشوقاً إليه ولهجاً بذكره وشهوداً لبرِّه ولطفه وكرمه وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافاً على على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في الصحيحن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيِسَ منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيِسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) هذا لفظ مسلم.
والقصد أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله.
ثم قال رحمه الله: وقد كان الأولى بنا طيُّ الكلام فيه إلا ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله، غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها.
وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرّمه وفضّله وشرّفه، وخلقه لنفسه، وخلق كل شيء له، وخصّه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلّمه منه إليه واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم
معدن أسراره، ومحل حكمته، وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار.
فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق، وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب.
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة فمَنْ دونهم من جميع المخلوقات، وطرد إبليس عن قربه، وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين واتخذه عدواً له.
فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق، وخيرة الله من العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنلْه أمنيته، ولم يخطر على باله ولم يشعر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة، العاجلة والآجلة التي لا تُنال إلا بمحبته، ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوباً له وأعدّ له أفضل ما يُعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قَدِم عليه.
وعهد إليه عهداً تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يُبعده منه ويُسخطه عليه ويُسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلقه إليه، قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده، واتخذ منه حزباً ظاهروه ووالوْه على ربه، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى، فعرّفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وحذّره موالاتهم والدخول في زمرتهم.
وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وأنه سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته وأنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة.
فإذا تعرّض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعدّ له أنواع كرامته وفضّله على غيره لغضبه وارتكب مساخطه وأبَق منه ووالى عدوه وظاهره عليه فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر وتعرّض لإغضابه، فبينما هو حبيبه المقرب المخصص بالكرامة إذ انقلب آبقاً شارداً راداً لكرامته
مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسياً لسيده إذ عرضت له فكرة فتذكر برّ سيده وعطفه وجوده وكرمه وعَلِم أنه لا بد له منه وأن مصيره إليه وعرضه عليه وأنه إن لم يَقْدم عليه بنفسه قُدِمَ به عليه على أسوأ الأحوال، ففرّ إلى سيده من بلد عدوه وجدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعاً خاشعاً باكياً آسفاً يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قِياده وألقى إليه زمامه فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضاً عنه ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفواً وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلماً، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا فكيف يكون فرح سيده به؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً وراجع ما يحبه سيده منه برضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والإنتقام والعقوبة.
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده، فرأى في بعض السكك باباً قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير يعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مُرْتجاً فتوسّده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبّله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني، ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخَذَتْه ودخلت.
فتأمل قول الأم: (لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة) وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء.
فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.
فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سِرّ فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدقّ عن إدراكه الأذهان. انتهى.