الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التخلص من رؤية العمل
قال ابن القيم: يَعْرض للعامل في عمله ثلاث آفات رؤيته وملاحظته وطلب العوض عليه، ورضاه به وسكونه إليه.
فالذي يخلّصه من رؤية عمله: مشاهدته لمنّة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو كما قال تعالى:(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
فهذا ينفعه شهود الجبر وأنه آلة محضه وأن فعله كحركات الأشجار، وهبوب الرياح، وأن المحرك له غيره، والفاعل فيه سواه، وأنه ميت والميت لا يفعل شيئاً، وأنه لو خُلّي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء البتّة، فإن النفس جاهلة ظالمة، طبعها الكسل وإيثار الشهوات والبطالة، وهي منبع كل شر ومأوى كل سوء، وما كان هكذا لم يصدر منه خير ولا هو من شأنه.
فالخير الذي يصدر منها إنما هو من الله وبه، لا من العبد ولا به، كما قال تعالى:(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ).
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته، وإحسانه ونعمته وهو المحمود عليه.
فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخَلْقِيّة من سمعه وبصره وإدراكه وقوته، بل من صحته وسلامة أعضائه، ونحو ذلك، فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله.
فالذي يخلص العبد من هذه الآفة معرفة ربة ومعرفة نفسه. إنتهى.
تأمله فإن نفعه عظيم لإسقاط الإعجاب بالعمل ورؤيته بتوفيق الله. ورؤية العمل واستكثاره ذنب كما أن استقلال المعصية ذنب.
قال ابن القيم رحمه الله:
والعارف من صغرت حسناته في عينه وعظمت ذنوبه عنده، وكلما صغرت الحسنات في عينك كبرت عند الله، وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلّت وصغرت عند الله، وسيئاتك بالعكس.
ومن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية تلاشت حسناته عنده وصغرت جداً في عينه، وعَلِم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه وأن الذي يليق بعزته ويصلح له من العبودية أمر آخر وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها، لأنه كلما استكثر منها فُتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ولو كانت أعمال الثقلين، وإذا كثرت في عينه وعظمت دلّ على أنه محجوب عن الله غير عارف به وبما ينبغي له.
وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه لمشاهدته الحق ومستحقه وتقصيره في القيام به وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه.
إذا عُرف هذا فاستقلال العبد المعصية عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه، وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفّت على قلبه، وذلك نوع مبارزة. إنتهى.
من هنا تعلم أنه قد يكون السير إلى وراء باستصغار المعصية واستكثار الطاعة، وهذا لا يصدر إلا من جهل بالنفس والرب.