الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغنى السافل
تقدم ذكر فقر العبد إلى ربه وهنا يأتي ذكر الغنى وأنه قسمان: عال وسافل.
قال ابن القيم رحمه الله: فالغنى السافل الغني بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.
وهذا أضعف الغنى فإنه غِنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها وكأن الغنى بها كان حلماً فانقضى. إنتهى.
وصف الغنى السافل بالعواري المستردة من أبلغ الوصف فالمعنى مطابق غاية المطابقة.
فالإنسان إذا تفكر في نفسه وغيره حين وُلد وليس معه شيء فكبر فأتاه ما أتاه من هذه الأعراض الدنيوية وتصرّف بها ثم جاءه الموت فخرج من الدنيا كما جاء.
فالذي يغتر بهذه العواري ويربط أسباب سعادته بها وأن غناه بها هو الغنى هو الهارب حقيقة من الغنى إلى الفقر لأنها أولاً: عارية بيده وليست مُلْكاً له بل هو وإياها مملوكين لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وهو الوارث سبحانه الذي يرث الأرض ومن عليها.
وثانياً: لأن فقره الحقيقي الملازم لذاته لا تَسُدّه وتغنيه هذه العواري بل هو فقير مع وجودها وتوفرها.
ثالثاً: هذا خلاف الفطرة لأن الذي في الفطرة إرادة الله وحده لا لإحسانه إليه فقط من إعداده وإمداده وإنما إرادة ذات الإله سبحانه محبة وشوقاً وطلباً وإرادة لا ينفك عنها العبد لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن في الآخرة تحصل الغاية من ذلك بالزلفى للمؤمن والرؤية، إذا تبين هذا ظهر اختلال الموازين عند أكثر الخلق والجهل بالفقر والغنى وأن هذا لا يعرفه من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، قال تعالى:(ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو لا يخصّه بل للأمة كلها: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) بعد أن أمره أن يصبر نفسه مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتأمل تعلق إرادتهم بماذا؟.
وبعد أن نهاه أن يَعْدُ عيناه عنهم ملتفتاً إلى زينة الحياة الدنيا، وأخبر سبحانه أن من تلك حاله فقد انفرط عليه أمره فهو يسير خلاف فطرته وخلاف ما خُلق له.
والمؤمن الصادق يضع الدنيا موضعها الذي وضعها الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهي في اعتقاده وعمله وسيلة لا غاية ومركب يوصله إلى ربه ليس أن تركبه هي كما تفعل بمن تعبّدها قلبه فصار عبداً للدينار والدرهم.
وهي لما صارت كذلك طُلبت من أي وجه.
وحيث أنه قد تبين شأن الغنى السافل والذي عليه يتنافس المتنافسون فقد ذكر ابن القيم أنه لا هِمة أضعف من همّة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل، وهذا غِنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، وحوله يحومون.
ولا أحب إلى الشيطان وأبعد من الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر وقلب فيه خوف الفقر.
وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله وفقر بعده وهو كالغفوة بينهما.
فحقيق لمن تصح نفسه أن لا يغترّ به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه سبباً لغناه الأكبر ووسيلة إليه، ويجعله خادماً من خدمة لا مخدوماً له وتكون نفسه أعزّ عليه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق أو يجعلها خادمة لغيره. إنتهى.
إعلم أن قوله: (بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأكبر ووسيلة إليه) ليس المراد هنا بالغنى الأكبر إلا الغنى بالله عز وجل بمحبته والشوق إليه والعمل بطاعته، وإنما ذكرت هذا التنبيه لئلا يصرف الفهم إلى أن الغنى الأكبر أن يعطي الله العبد في الآخرة ما يعطيه فقط لأن هذا وإن كان يحصل للمؤمن في الآخرة وهو يريده أيضاً وإنما المقصود التنبيه هنا لما يَسُدُّ فاقة القلب ويغني فقره وأنه الإله الحق سبحانه، فالغنى به بذاته ولو قُدّر أنه لم يخلق الجنة، وهذا معنى الإله، وهو مألوه القلب ليس معناه فقط الخالق بل المألوه بغاية المحبة
والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء. ومما يقرب هذا للفهم حال الملائكة عليهم السلام حيث أنهم في نعيم لا يبلغه الوصف ليس لأجل الجنة المخلوقة فهي لم تخلق لهم وليسوا كبني آدم يأكلون ويشربون ويتلذذون بالنكاح ونحو ذلك وإنما نعيمهم بتحقيق عبوديتهم لإلههم الحق سبحانه ومحبتهم له وقربهم منه.
وحالهم هذه تشبهها فطرتنا التي فطرنا عليها وإنما انصراف قلوبنا وأرواحنا عن هذا النعيم طارئ دخيل ليس هو في أصل الفطرة.
إن الشيطان لا يحتاج معنا إلى جهد وعناء فلكثافة جهلنا بما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم –وأعني الفقه فيه ليس مجرد قراءته-، وكذلك لإيثارنا العاجل أصبحنا بهذا وذاك صيداً هيّناً سهلاً بخلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم والسلف من عدم تمكّنه منهم، فاللهم أعِذْنا من الشيطان الرجيم.