الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطن القلب
قال ابن القيم –رحمه الله: أنقل قلبك من وطن الدنيا وأسكنه في وطن الآخرة ثم أقْبِل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، وخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته ونزّلها على داء قلبك.
فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى، آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش، ولا فيها آفة من آفاق سائر الطرق البتة، وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم.
ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها، والله المستعان.
أجمع العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذِه في منازل الآخرة، ولا يحصل سفر القلب إلا باليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وخطرها وما أشد إعانتها على السلوك.
فمن أحسّ بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سُبي منها.
فحيّ على جنات عدن فإنها
…
منازلنا الأولى وفيها المخيّم
…
ولكننا سبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونُسَلّم
فأخذ في أهبة السفر، فانتقل إلى منزلة (العزم) وهو العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومُعوّق ومرافقة كل معين وموصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده.
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة (الفكرة) وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعدّ لها مجملاً ولمّا يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.
فإذا صحّت فكرته أوْجبت له (البصيرة) فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعدّ الله في هذا لأوليائه وفي هذا لأعدائه.
فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم، وقد جاء الله، وقد نُصِب
كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثَب، وكثر العطاش وقلّ الوارد، ونُصب الجسر للعبور ولُزّ الناس إليه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضاً تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين.
فيُفتح في قلبه عين يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يُريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها.
فالبصير نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرّره بمخالفته.