الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوكل
شأن التوكل عظيم وأمره كبير ويكفيك أنه نصف الدين.
قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين والنصف الثاني: الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الإستعانة، والإنابة هي العبادة.
وأولياء الله وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابّه وتنفيذ أوامره، وهذا أوسع التوكل وأنفعه وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. إنتهى.
الإيمان بالقدر عن علم ومعرفة هو مفتاح باب التوكل إذ لا يُتصوَّر التوكل ممن يظن أنه يخلق أفعال نفسه كحال القدرية.
والقدر أربع مراتب:
(العلم) و (الإرادة) و (الكتابة) وهذه المراتب الثلاث سابقة لمرتبة (الإيجاد والخلق) والتي تحصل في وقتها، يعني في وقت خلق المخلوق نفسه.
فالله سبحانه عالم بما يريد إيجاده من العدم وهو كل شيء مريد لذلك باختياره وقد كتبه في اللوح المحفوط، أما المخلوق فيخلقه في حينه كما يخلق سبحانه الآن كتابتي هذه الأحرف، وأنت أيها القارئ لها يخلق قراءتك وأنت تقرأ وهذا متأخر عن كتابتي وإنما وُجد في حينه.
وعلى هذا قياس خلق المخلوقات كلها لكن المراد هنا المرتبة الرابعة وهي: خلق أفعال العباد، ليسهل التوكل وعمل القلب على مقتضاه لأنه عمل قلبي، وهو نتيجة اعتقاد العبد أن كل ما سوى الله سبحانه مخلوق له، وليس المراد فقط أنه خلق ذات المخلوقات حتى يتوهم الجاهل أنه يخلق فعل نفسه أو يشارك ربه في ذلك بل إنه سبحانه لم يزل يخلق المخلوقات وأفعالها يحرك المتحرك، ويسكن الساكن سواء العالم العلوي أو السفلي.
وقد قيل في التوكل: هو ترك تدبير النفس والإنخلاع من الحول والقوة؛ وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
وقيل فيه: التوكل أن ترِدَ عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات.
وقالوا: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل: (أما إليك فلا) لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غيره.
والتوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد.
والتوكل إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية، يعني استرسالها مع الأمر وقيامها بالطاعة وبراءتها من حولها وقوتها وشهود حصول المدعو به فلا تعطل الأسباب من أجله كما أن الأكل سبب بحصول الشِّيَع والشرب بحصول الرّي.
وحال المتوكل كالطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره.
قال ابن القيم: وكثير من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون، كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويمكنه نيْلها بأيْسر شيء، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خيراً.
فهذا توكل العاجز القاصر الهمة كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف أو نصف درهم ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين. والله أعلم.
وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة.
قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان.
وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل.
وتأمل الآن هذا الكلام في معرفة خلق أفعال العباد والتوكل.
قال ابن القيم رحمه الله: والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
فهو سبحانه أراد منا الإستقامة دائماً واتخذ السبيل إليه وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا عليه ومشيئتها لنا. فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل وإرادته من نفسه أن يعينه ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ولا يملك منها شيئاً.
فإن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى بدنه تستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً وإلا فمحله غير قابل للعطاء وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان ولا يلومن إلا نفسه.
وتوكيل العبد ربه تفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف وإثباته لأهله ووليّه.
ولهذا قيل في التوكل: إنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية، وهذا معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه نائبه في التصرف.
وعِلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها وأنه ليس له مشارك في ذرّة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله وأعظم دواعيه.
فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة وباشر قلبه حالاً لم يجد أبداً من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره، فأين يجد قلبه مناصاً من التوكل بعد هذا؟
وفي صحيح البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله سمّيته المتوكل. الحديث.
وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل، وبه انتصروا على قومهم.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم أهل مقام التوكل.
وقد يظن الظان أنالتوكل مقصور على معلوم الرزق وقوة البدن وصحة الجسم ولا ريب أن هذا اتلوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله .. ثم ليعلم العبد أنه لا يملك قبل علمه استطاعة فلا يأمن من مكر ولا يَيْأس من معونة ولا يُعوّل على نيّة.
قال ابن القيم على هذه الأربع الاستطاعة والمكر والمعونة والنية أي يتحقق أن استطاعته بيد الله لا بيده فهو مالكها دونه، فإنه إن لم يُعطِه الاستطاعة فهو عاجز، فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه فكيف يأمن المكر وهو مُحَرَّك لا مُحَرِّك؟.
يحركه من حركته بيده فإن شاء ثبّطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن مَنَعَهُ هذا التوفيق: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ).
فهذا مكر الله بالعبد: أن يقطع عنه مواد توفيقه ويخلي بينه وبين نفسه ولا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابّه، وليس هذا حقاً على الله فيكون ظالماً بمنعه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو مجرد فضله الذي يحمد على بذله لمن بذله له وعلى منعه لمن منعه إياه، فله الحمد وعلى هذا وهذا.
ومن فَهِم هذا فَهِم باباً عظيماً من سر القدر وانجلت له إشكالات كثيرة. (1)
فهو سبحانه لا يريد من نفسه فعلاً يفعله بعبده يقع منه ما يحبه ويرضاه، فيمنعه فعل نفسه به وهو توفيقه لا أنه يكرهه ويقهره على فعل مساخطه، بل يَكِلْه إلى نفسه وحَوْله وقوته ويتخلى عنه، فهذا هو المكر.
(1) - كتبت في القدر كتاباً هو: (نور البصيرة والبصر في مسائل القضاء والقدر). وقد طُبع آنفاً بحمد الله عز وجل.
أما أنه لا ييأس من معونة فيعني أنه إذا كان المحرِّك له هو الرب جل جلاله وهو أقدر القادرين وهو الذي تفرّد بخلقه رزقه وهو أرحم الراحمين، فكيف ييأس من معونته له؟
أما أنه لا يُعوِّل على نية فمعناه أن لا يعتمد على نيته وعزمه ويثق بها فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده، وهي إلى الله لا إليه، فلتكن ثقته بمن هي في يده حقاً لا بمن هي جارية عليه حكماً. إنتهى.
وحيث أنه يخطر على بال الإنسان الإضلال السابق فهنا يقول ابن القيم: وأما الإضلال السابق الذي ضَلّ به عن قبول الإهتداء فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به وأن محلّه غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه. إنتهى.
كلامه رحمه الله المتقدم عن المكر وأنه قطع مواد توفيق الله عن عبده وتخْليته بينه وبين نفسه وكون الرب سبحانه لا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابّه هو الخذلان.
والمعنى أن نفس العبد خلقها الرب متحركة بالإرادة فإذا لم يحركها بتوفيقه وما يرضيه فليس معناه أن لا تتحرك أو تُحرِّك نفسها بل يحرِّكها خالقها وخالق أفعالها لكن يحركها مخذولة ممكور بها
وذلك بأن يَكِلَ العبد إلى نفسه وهو ظلوم جهول لا يمكن أن يصدر منه خيراً قط إلا بتوفيق خالقه وخالق أفعاله، فهذا هو الخذلان، وتقدم بيان أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله إلى نفسك.
ولا يتأتى التوكل ممن لا يعرف القدر ويشهد حركات العالَم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن.
ومما يوضح ما تقدم من الكلام في التوكل الذي هو نصف الدين ويبين القدر أيضاً الذي هو الركن السادس من أركان الإيمان وهو نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما مما يوضح ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله عن الذين يتعبدون ممن نقص توكلهم يقول عن هؤلاء أن لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والإستعانة، لم تتّسِع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرّك لها والمعوّل على المحرك الأول. إنتهى.
تأمله في نفسك وفي غيرك واعلم أنه لا يتسع القلب لارتباط الأسباب بالقدر وأنها تتلاشى في ضمنه ولا تقوم إلا به إلا أن يوفق
الله العبد فيلقي بقلبه نوراً يبصر به هذا الأمر حقيقة وحالاً لا علماً فقط فإنه فرق بين العلم والحال المقارنة وبين العلم المجرّد عن الحال.
وانظر كيف أن أسبابنا التي هي حركاتنا وسكناتنا روحها هو القدر الفاعل إذ هي بدونه مَوَات وعدم يظهر لك عظم شأن التوكل وكونه نصف الدين.
ثم قال رحمه الله: فلم تنفذ بصائرهم من المتحرك إلى المحرّك ومن السبب إلى المسبِّب ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولم يجدوا ذوْق التعبد بالتوكل والاستعانة وإن وجدوا ذوْقه بالأوراد والوظائف. انتهى.
المحرِّك هو القدَر وهو قدرة الله عز وجل، والمتحرك هو المخلوق وهو الآلة، والفاعل هو القدر، فشهود هذه الأحوال بالبصيرة يوجب التوكل.
ثم قال: فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلّة استعانتهم وتوكلهم.
ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزالَه.
فإن قلت: فما معنى التوكل والإستعانة؟
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرّده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينة به وثقة به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه مَلِيٌّ به ولا يكون إلا بمشيئته شاء الله أم أبَوْه. إنتهى.
هذه الحال التي تكون للقلب ولا تحصل إلا بإحكام معرفة القَدَر وقد كتب فيه ابن القيم رحمه الله كتاباً في غاية النفاسة وبيّن مع القدر ومراتبه حكمة الإله العظيم فيما خلق وتعليل أفعاله سبحانه والكتاب هو: (شفاء العليل في مسائل القضار والقدر والحكمة والتعليل) وفيه الرد على من نفى حكمة الإله وإثبات الحكمة في كل ما خلق لا يخرج عن ذلك مثقال ذرة في الكون وفيه الرد على من لا يجعل عِلّة لأفعال الرب سبحانه ومن يشبّه أفعاله بأفعال المخلوقين، وفيه مناظرات بين أهل السنة وبعض طوائف الضلال مثل القدرية
والجبرية ينجلي للناظر فيها حسن وكمال مذهب السُّني في القدَر ولوازمه، وفي الكتاب غير هذا الكنوز مما لا يوجد في غيره فقدّس الله روح هذا الإمام وشيخه ورضي الله عنهما وجميع علماء المسلمين الذين حَمَوا هذا الدين ودافعوا عنه وأظهروا من جماله وكماله وحسنه ما وفقهم الله إليه مما خصّهم به.
لقد بين رحمه الله في ذلك الكتاب ما قد تحارّ به العقول مثل تقدير الشرور وخلق من فيه شر وعذاب الكفار كل ذلك وغيره بينه أحسن بيان وأنه صادر عن حكيم في كل ما خلق.
ثم قال رحمه الله يصف حال المتوكل الصادق لا ما نقوله بألسنتا عادة ودعوى: فتُشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مَلِيَّان بهما.
فانظر في تجرّد قلبه عن الإلتفات إلى غير أبَوَيْه وحبْس همّه على إنزال ما يَنوبُه بهما.
فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد، قال الله تعالى:(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه و (الحسْب) الكافي فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة. إنتهى.