الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقسام الناس في العبادة
حيث أنه قد تبين توجّه القلب في هداه وتبين أيضاً تشتّته وضياعه في ضلاله فيحسن هنا ذكر مثل تظهر منه صور للعبادة واختلاف الناس فيها وأن أعلى المقامات في ذلك هو الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه كما في الحديث وأنه لا يكون هذا إلا بإحساس وشعور بالمعبود وكيف يحصل مع عدم إثبات علو ثابت وفوقية ثابتة للمعبود الحق سبحانه ومعرفة عرشه واستقرار هذا العلم بالقلب؟.
قال ابن القيم في مدارج السالكين بعد أن ذكر أن أكثر السالكين سلكوا بجدّهم واجتهادهم غير منتبهين إلى المقصود.
وإذا كان عدم الانتباه إلى المقصود والغاية من العبادة يحصل لأكثر الجادّين المجتهدين فكيف إذاً يكون غيرهم؟.
قال: وأضرب لك في هذا مثالاً حسناً جداً، وهو: أن قوماً قدموا من بلاد بعيدة عليهم أثر النعيم والبهجة، والملابس السَّنِية والهيئة العجيبة، فعجب الناس لهم فسألوهم عن حالهم؟.
فقالوا: بلادنا من أحسن البلاد وأجمعها لسائر أنواع النعيم وأرخاها، وأكثرها مياهاً، وأصحّها هواء، وأكثرها فاكهة وأعظمها اعتدالاً، وأهلها كذلك أحسن الناس صوراً وأبشاراً.
ومع هذا فمَلِكُها لا يناله الوصف جمالاً وكمالاً، وإحساناً وعلماً وحلماً، وجوداً ورحمة للرعية، وقرباً منهم، وله الهيبة والسطوة على سائر ملوك الأطراف، فلا يطمع أحد منهم في مقاومته ومحاربته، فأهل بلده في أمان من عدوهم، لا يحلّ الخوف بساحتهم.
ومع هذا فله أوقات يبرز فيها لرعيته، ويُسهِّل لهم الدخول عليه ويرفع الحجاب بينه وبينهم، فإذا وقعت أبصارهم عليه تلاشى عندهم كل ما هم فيه من النعيم واضمحل، حتى لا يلتفتون إلى شيء منه.
فإذا أقبل على واحد منهم أقبل عليه سائر أهل المملكة بالتعظيم والإجلال.
ونحن رسله إلى أهل البلاد ندعوهم إلى حضرته، وهذه كتبه إلى الناس، ومعنا من الشهود ما يزيل سوء الظن بنا ويدفع اتهامنا بالكذب عليه.
فلما سمع الناس ذلك، وشاهدوا أحوال الرسل انقسموا أقساماً:
فطائفة قالت: لا نفارق أوطاننا، ولا نخرج من ديارنا، ولا نتحشّم مشقة السفر البعيد، ونترك ما ألِفْناه من عيشنا ومنازلنا ومفارقة آبائنا وأبنائنا وإخواننا لأمر وُعِدْنا به في غير هذه البلاد ونحن لا نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلا بعد الجهد والمشقة فكيف ننتقل عنه؟
ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها كمفارقة أنفسها لأبدانها فإن النفس لشدة إلْفها للبدن أكره ما إليها مفارقته. ثم قال: فهذه الطائفة غلب عليها داعي الحس والطبع على داعي العقل والرشد.
والطائفة الثانية: لما رأت حال الرسل وما هم فيه من البهجة وحسن الحال وعلموا صدقهم: تأهبوا للسير إلى بلاد الملك، فأخذوا في المسير، فعارضهم أهلوهم وأصحابهم وعشائرهم من القاعدين.
وعارضهم إلْفُهم مساكنهم ودورهم وبساتينهم، فجعلوا يُقدّمون رِجلاً ويؤخرون أخرى، فإذا تذكروا طيب بلاد الملك وما فيها من سَلْوة العيش: تقدموا نحوها وإذا عارضهم ما ألِفوه واعتادوه من ظلال بلادهم وعيشها وصحبة أهلهم وأصحابهم:
تأخروا عن المسير والتفتوا إليهم، فهم دائماً بين الداعيين والجاذبين، إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر فيصيرون إليه.
والطائفة الثالثة: ركبت ظهور عزائمها ورأت أن بلاد الملك أولى بها فوطّنت أنفسها على قصدها ولم يثْنِها لوْم اللوام، لكن في سيرها بطء بحسب ضعف ما كُشِفَ لها من أحوال تلك البلاد وحال الملك.
والطائفة الرابعة جدّت في السير وواصلته فسارت سيراً حثيثاً فهم كما قيل:
وركب سروا والليل مُرْخ سدوله
…
على كل مُغبر المطالع قائم
…
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها
…
فصار سُراهم في ظهور العزائم
…
تريهم نجوم الليل ما يطلبونه
…
على عاتق الشعرى وهام النعائم
فهؤلاء هممهم مصروفة إلى السير وقُواهم موقوفة عليه من غير تثنية (1) منهم إلى المقصود الأعظم والغاية العلياء.
الطائفة الخامسة: أخذوا في الجد في المسير وهمّتهم متعلقة بالغاية، فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير، فكأنهم
(1) - أي من غير انثناء ولا التفات.
يشاهدونه من بُعْد، وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده، فهم عاملون على هذا الشاهد الذي قام بقلوبهم.
وعمل كل أحد منهم على قدر شاهده، فمن شاهد المقصود بالعمل في علمه كان ناصحاً فيه وإخلاصه وتحسينه، وبذل الجهد فيه أتم ممن لم يشاهده ولم يلاحظه، ولم يجد مسّ التعب والنصب ما يجده الغائب، والوجود شاهد بذلك، فمن عمل عملاً لملك بحضرته وهو يُشاهده ليس كحال من عمل في غيبته وبُعْده عنه وهو غير متيقن وصوله إليه. انتهى.
أنظر قوله عن الطوائف الثلاث وهي: الثانية والثالثة والرابعة أن هممهم مصروفة إلى السير من غير التفات إلى المقصود الأعظم والغاية العلياء.
وقوله عن الطائفة الخامسة أن همتهم متعلقة بالغاية وأنهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير فكأنهم يشاهدونه من بُعْد كمن يعمل بحضرة الملك.
والمراد أنه لا بد للقلب من توجّه وأمم هو قبلته التي يصمد إليها بخلاف القلب المضيّع المشتت بضلالات نظريات الدوران وأن أصل الإنسان من الحيوان، وبخلاف أيضاً من بذل جهده وجدّ في السير
لكن من غير شعور بالمقصود والغاية، فكأن هذا يتعبد العبادة نفسها أو أن شعوره وإحساسه وإرادته لم تُفْض إلى ما وراء المخلوقات التي يُلْتّذ ويُتنعّم بها في الدنيا والآخرة.
إن علو الإله سبحانه بل ووجوده لا يثبت مع هذه النظريات لأن مبناها على التعطيل.
قال ذو النون المصري لما سُئل: لماذا خلق الله العرش؟ قال: لئلا تتوه قلوب العارفين. إنتهى.
ألا فقد تاهت قلوب مقلّدة المعطلة عن المعبود الحق.
قال ابن القيم رحمه الله: فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبّد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز فيُشعر بأن كَلِمَهُ وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يزيه ويفضحه هناك.
ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل
والخفض والرفع والعطاء والمنع، وكشف البلاء وإرساله، وتقلّب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه.
فمراسمه نافذة فيها كما يشاء (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به.