الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قِبْلة القلب
قِبْلة كل قلب ما يتعبّده مهما يكن وهو ما يعكف على ذاته أو على صورته وينجذب إليه بكليته، وليس لقلوب المؤمنين وأرواحهم قبلة سوى معبودهم الحق، كما أن بيته قبلة أبدانهم، والرب سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومهما خطر ببالك فالرب خلاف ذلك، ومهما تصور العبد ربه بصورة فهي حجاب بينه وبينه لا لأنه سبحانه ليس له صورة وإنما لعدم العلم بها رؤية ومشاهدة، ولا لأن ليس لصورته كيفية وإنما لعدم العلم بكيفيتها، فيبقى المثال العلمي في القلوب على مقتضى الإثبات ونفي المثيل، (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) والقلب لم يُفْطَر على صورة لإلهه يتصوّرها ويعكف عليها وإنما تُنقش فيه الصور ليتعلق بها دونه فهو مفطور على المحبة والإرادة والطلب لمعبوده الحق سبحانه، وهذه الفطرة تغذّيها الشّرعة وتفصل لها صفات الإله الحق سبحانه كالحادي المُشَوِّق.
فالفطرة في الأصل فيها المحبة والطلب والإرادة لفاطرها وإنما الصرف يأتي بعد، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على
الفطرة الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه والمراد بذكر الأبوين هنا أن الأولاد ينشئون على مقتضى تربية الوالدين غالباً لكن لا يمنع هذا أن يحصل الصرف للأولاد من غير الأبوين، كما أن ذكر التهويد والتنصير ليس لحصر الصرف والإنحراف عن مقتضى الفطرة وخلقتها الأولى لهما فقط بل ويمجسانه ويُرفّضانه ويُجهمانه، وهكذا.
قال ابن القيم رحمه الله: فإذا تحقق العبد علوّه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء ألبتّه وأنه قاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صار لقلبه أمماً بقصده ورباً يعبده وإلهاً يتوجه إليه إليه بخلاف من لا يدري أين ربه فإنه ضائع مُشتّت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إليه قصده. إنتهى.
كلام ابن القيم هذا الأخير ينطبق على من يعتقد أن الفضاء لا حدّ له وأنه لا يتناهى فهو لا يدري أين ربه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجّه نحوها، لأن قلبه إذا طلب ربه في العلو تجلى له اعتقاده الباطل من الفضاء الذي لا ينتهي وملايين المجرات وأنه غير مستقر ولا ثابت والعلو والسفول بتغير مستمر فكيف يكون لقلب هذا قبلة
وأمما؟ وقد شرحت هذا وبينته ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران).
ثم قال ابن القيم: وصاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبّد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه ويتوجه إليه وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويُسجد وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يُرفع إليه العمل الصالح، جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الإتحاد ولا بد وتعلّق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعيّنات فاتخذ إلهه من دون الإله الحق وظن أنه وصل إلى عين الحقيقة وإنما تألّه وتعبّد لمخلوق مثله ولِخيال تحته بفكره واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وإليه الرسل وراء ذلك كله:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). إنتهى.
ثم اعلم أن من اعتقد أن أصل الإنسان من الحيوان واعقتد نظريات الغرب في العالم العلوي كما تقدم والعالم السفلي ينطبق عليه كلام ابن القيم هذا حيث يجول قلبه في الوجود جميعه فيقع في الاتحاد وهو أن الوجود واحد؛ وقد بيّنت ذلك ولله الحمد في كتاب
(وحدة الوجود العصرية) حيث ذكرت ما في نظرية (داروين) من الزيغ والضلال المبين.
ثم إنه لا بد من الاعتقاد السليم من علو وسفول صابت للكون ليعرف العبد ربه أين هو، ونظرية الدوران تنفي هذا مطلقاً فلا سفول ولا علو للكون على استقرار إذ الحركة دائبة؛ والرب سبحانه فوق السموات فوق العرش، ومن أسمائه (العلي)(الأعلى)(الظاهر) والظاهر هو الذي ليس فوقه شيء كما فسره بذلك صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه وإن زعم أنه مُقِرٌّ به والمقصود أن التعبد باسمه (الظاهر) يجمع القلب على المعبود ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إليه في حوائجه وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه (الظاهر) استقامت عبوديته وصار له معقل ومَوْثل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفرّ كل وقت إليه. إنتهى.
من عرف ما تقدم علم أن النظريات الغربية من دوران الأرض وأن أصل الإنسان من الحيوان مبناها على التعطيل ولا يمكن إثبات وجود الرب على مقتضاها ولا معرفة عرشه واستوائه عليه وعلوه
وفوقيته ولا يكون للقلب مع اعتقاد صحتها وجهة صحيحة ثابتة يقصدها ويتوجه نحوها، وهذا عين التضليل عن الرب الجليل.
وليُعلم أن الأرض محصورة محجورة في جوف السماء الدنيا بحيث لو غادرت موضعها لاصطدمت بجُرْمِ السماء المحيطة بها إحاطة الكرة بما في وسطها، فكيف إذاً يتفق إقرار واعتقاد بسموات وكرسي وعرش وجنة وملائكة مع اعتقاد فضاء لا ينتهي ولا حد له؟!! بل كيف تتفق معرفة الإله ووجوده ومكانه سبحانه وتوجه القلب إليه على هذا الإعتقاد التعطيلي؟!!.