الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين نظر أهل المعرفة ونظر الجهال
قال ابن القيم –رحمه الله: فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيْأسهم من أنفسهم وعلّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن ههنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه، فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً.
وأفضل الفكر: الفكر في ذلك فإنه يُسَيِّر القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعاً منكسراً كَسْراً فيه جبره، ومفتقراً فقراً فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى. انتهى.
تأمل قوله: (فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى) مع أن هذا ليس بعمل جوارح وإنما هو فكر وعمل قلب.
ومما تقدم يظهر معنى قول بعض السلف: قليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة.
ثم اعلم أن إحسان ظن الإنسان بنفسه جهالة وضلاله، ولقد ساءت ظنون سادات الأولياء بنفوسهم ومقتوها في ذات الإله ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، وما تمكن الشيطان من الإنسان إلا من غروره وإحسانه الظن بنفسه.
قال ابن القيم: وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبّس عليه فيرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك.
فعين الرضى عن كل عيب كليلة
…
كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وقال رحمه الله: رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلالته ويليق أن يعامَل به.
وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولّد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولّد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، إنتهى.
تأمل هذا فإنه نافع بإذن الله لمن فهمه وعمل بمقتضاه، وإذا كان هذا فعل أرباب العزائم والبصائر في الطاعات فكيف تكون حالنا إذاً؟
ثم ذكر رحمه الله قول بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة ونقص كيف يرضى لله بنفسه
وعمله؟، ولله در الشيخ أبي مدْين حيث يقول: من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الإفتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صفرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله.
وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق،، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله. إنتهى.
فالمؤمن جمع إحساناً في مخافة وسوء ظن بنفسه، والمغرور حسن الظن بنفسه مع إساءته.
ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك الأثر الذي في مسند الإمام أحمد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: (إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذُمّ نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وَجِلٍ ولسان صادق).