الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة
قال ابن القيم رحمه الله: فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من (الدنيا وحقارتها) وقلة وفائها وكثرة جفائها وخِسّة شركائها وسرعة انقضائها.
[وما هي إلا ساعة ثم تنقضي
…
ويذهب هذا كله ويزول]
ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بدّعَتْ وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمرّ الشراب.
أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلا، سقَتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها وماتوا بهجرها.
فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة، وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من (الآخرة ودوامها) وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرّحال ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع).
وقال بعض التابعين: ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا.
ثم يقوم بقلبه شاهد من [النار] وتوقدها واضطرامها، وبُعْد قعرها وشدة حرّها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سبقوا إليها سود الوجود زُرْق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم.
فلما انتهوا إليها فُتحت في وجوههم أبوابها فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً، (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) فيشاهدهم بقلبه وهم إليها يُدفعون.
وأتى النداء من قِبَل رب العالمين: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ثم قيل لهم: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ويراهم وهم في الحميم على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يُسْجَرون (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) فبئس اللحاف، وبئس الفراش، وإن استغاثوا من شدة العطش (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ).
فإذا شربوه قطّع أمعاءهم في أجوافهم، وصهر ما في بطونهم، وشرابهم الحميم وطعامهم الزقوم:(لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر، وأخْصَبَ قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.
وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بُعده من المعاصي والمخالفات، فَيُذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة ويُنضجها ثم يُخرجها، فيجد القلب لذة العافية وسرورها.
فيقوم بعد ذلك شاهد من [الجنة] وما أعدّ الله فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصّل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور، والبهجة والسرور.
فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصاؤها الدُّر، وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، ونساؤها لو بَرَز وجه إحداهن في هذه الدنيا لَغَلَب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه حمرة لا فيها غَوْل ولا هم عنها يُنْزَفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يُحبَرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.
فإذا انضمّ إلى هذا الشاهد شاهد (يوم المزيد) والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم.
فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابّها، فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً.
هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ويغيب به العبد عنها كلها وهو شاهد [جلال الرب تعالى وجماله وكماله] وعزه وسلطانه وقيوميته وعلوه فوق عرشه وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه.
فإذا شاهده شاهد بقلبه قيوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته آمراً ناهياً مُرْسلاً رسله ومنزلاً كتبه، يرضى ويغضب ويُثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويُذل ويحب ويبغض ويرحم إذا استرحم ويغفر إذا استُغْفِر ويعطي إذا سُئل ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا استُقيل.
أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء.
ثم ذكر حمه الله قوة الرب وجماله وصفاته ثم قال: فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن
تعدم بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها.
ومَنْ هذا شاهده فله سلوك وسير خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أو معرفة مجملة.
فصاحب هذ الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه، له شأن وللناس شأن هو في واد والناس في واد.
خليلَيَّ لا والله ما أنا منكما
…
إذا عَلَمٌ من آل ليلى بدا ليا
والمقصود أن العيان والكشف والمشاهدة في هذه الدار إنما تقع على الشواهد والأمثلة العلمية، وهو المثل الأعلى الذي ذكره سبحانه في ثلاثة مواضع من كتابه.