الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي
تأليف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين: نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
. أمَّا بعد؛ فهذا شرح مبسَّط، وبيان ميسَّر لكتاب الحافظ أبي محمد تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجمَّاعيلي الصالحي رحمه الله الذي ألَّفه في بيان المعتقد الحق: معتقد أهل السنة والجماعة
. وهو مؤلف قيم فذ، عرض فيه مؤلفه رحمه الله مسائل العقيدة بأسلوب شيق، وتحقيق متين. وهو معدود في أهم المختصرات المؤلفة في بيان عقيدة السلف الصالح رحمهم الله.
وشرحي لهذا الكتاب هو في الأصل دروس ألقيتها في دورة علمية أقيمت في المدينة النبوية، وقد أشار عليَّ عدد من الأخوة بأن تفرغ من الأشرطة وتجعل في كتاب ليكون نفعها أعم وفائدتها أكبر، وشجعني على ذلك أنه لا يوجد للكتاب شرح مطبوع، مع اعترافي بقلة العلم وقصور الفهم وعدم الأهلية، وقد قام أحد الأخوة الأفاضل جزاه الله خيراً بتفريغ الشرح من الأشرطة، وجرى تصحيح المتن، وحذف المكررات، وتوثيق النقول ونقل ألفاظها من مصادرها، وعزو الآيات والأحاديث، مع إضافة جملة من الفوائد واللطائف، وسميته:" تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي " 1 وأسأل الله عز وجل أن يتقبل هذا الجهد بقبول حسن، وأن ينفع
1 للسيوطي رحمه الله جزء مطبوع بعنوان: " تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي ".
به، وأن يكتب له القبول، وأن يجزي كلَّ من ساعد في إخراجه بأيِّ نوع من المساعدة ـ سواء في تسجيله، أو تفريغه من الأشرطة، أو مراجعته وتصحيحه، أو طباعته ونشره ـ خير الجزاء، إنه سبحانه خير مسؤول، وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكتبه عبد الرزاق البدر
عفا الله عنه وغفر له ولوالديه
ولجميع المسلمين
ترجمة مختصرة لمؤلف الكتاب
اسمه ونسبه وكنيته: هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني"ابن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسين بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي الدمشقي الصالحي.
مولده: ولد بجماعيل من أرض نابلس، سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
بعض شيوخه: قال الذهبي: " سمع الكثير، بدمشق، والإسكندرية وبيت المقدس، ومصر، وبغداد، وحران، والموصل، وأصبهان، وهمذان، وكتب الكثير "1.
سمع أبا الفتح ابن البطي، وعلي بن رباح الفراء، وعبد القادر الجيلي، وأبا بكر بن النقور، والحافظ أبا طاهر السلفي، والحافظ أبا موسى المديني وطائفة غيرهم.
بعض تلاميذه: حدَّث عنه ابن خالته الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وأولاده الحافظ عز الدين محمد، والحافظ أبو موسى عبد الله، والفقيه أبو سليمان، والحافظ الضياء المقدسي.
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: الشيخ عبد الغني المقدسي إمام من الأئمة، وعلم من الأعلام، ومن أوعية السنة، قال الضياء المقدسي:" كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبيَّنه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني ويذكر نسبه، فكان أمير المؤمنين في الحديث " 2
1 السير 21/444
2 السير 21/448
وقال الحافظ أبو موسى المديني ـ متحدثاً عن كتاب"تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة"للحافظ عبد الغني ـ: " قلَّ من قدم علينا من الأصحاب يفهم هذا الشأن كفهم الشيخ الإمام ضياء الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ـ زاده الله توفيقاً ـ وقد وُفِّق لتبيين هذه الغلطات، ولو كان الدارقطني وأمثاله في الأحياء لصوبوا فعله، وقل من يفهم في زماننا لما فهم "1.
وقال الموفق ابن قدامة: " كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم إياه وقيامهم عليه، ورُزِق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها "2.
شمائله: من يطلع على ترجمة هذا الرجل يجد حياة حافلة بالجد والنشاط، والاجتهاد والعطاء، وبذل الوقت في طلب العلم وتحصيله، والرحلة إلى العلماء والأخذ عنهم. حياةً حافلة بالعبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالرجل كان من العباد الذين يعرفون بحسن العبادة والبكاء والخشوع والإقبال على الله، والمحافظة على السنن والصيام، ويذكرون له في حياته أموراً عجيبة في هذا المجال.
1 ذيل طبقات الحنابلة 4/8 ـ 9
2 ذيل طبقات الحنابلة 4/11
حياةً جادة في النصح للمسلمين، والدعوة لدين الله، ونصرة العقيدة ونصرة السنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت لا تأخذه في الله لومة لائم. وفي ترجمته نماذج رائعة ومؤثرة جداً في هذا الجانب.
وفاته: يقول الحافظ أبو موسى ابنه ـ واصفاً اللحظات الأخيرة من حياته ـ: " مرض أبي في ربيع الأول مرضاً شديداً، منعه من الكلام والقيام، واشتد ستة عشر يوماً، وكنت أسأله كثيراً: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله. لا يزيد على ذلك. فجئته بماء حار فمد يده فوضأته وقت الفجر، فقال: يا عبد الله قم فصل بنا وخفف، فصليت بالجماعة، وصلى جالساً، ثم جلست عند رأسه، فقال: اقرأ يس، فقرأتها، وجعل يدعو وأنا أؤمن، فقلت: هنا دواء قد عملناه تشربه؟ فقال: يا بني ما بقي إلا الموت. فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى. فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله، أنا عنك راض وعن إخوتك. فقلت: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد عليَّ شيء. قلت: توصيني؟ قال: أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته. فجاء جماعة يعودونه فسلموا، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتاباً من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجت روحه رحمه الله، وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ست مائة "1.
1 سير أعلام النبلاء 21/467 ـ 468، وذيل طبقات الحنابلة 4/28 ـ 29
بخلاف أهل الأهواء والمبتدعة فإنهم يتكلفون إنشاء معتقدات من قبل أنفسهم، وبآرائهم وأهوائهم وتصوراتهم وظنونهم الفاسدة، وينشرونها بين الناس على أنها دين الله عز وجل الذي ينبغي أن يدان به.
فشتان بين هؤلاء وهؤلاء: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.فأهل السنة اعتقادهم مأخوذ من الكتاب والسنة، وأهل الأهواء اعتقاداتهم مأخوذة من تصورات فاسدة، وآراء منْحلَّة. ومن أراد معرفة الفرق بين الطريقتين فلينظر إلى كتب هؤلاء وكتب هؤلاء، فكتب أهل السنة في الاعتقاد: من أولها إلى آخرها قائمة على الدليل، تجد الإمام منهم يذكر العقيدة ويتبعها بدليلها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. بينما أهل الأهواء لا يذكرون في ذلك أي دليل، ولا يعتمدون على حجة.
وبما أننا مع كتاب للحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله، فإني أذكر حول هذا الأمر قصتين لطيفتين في حياته هو رحمه الله.
الأولى: أنه وشى به بعض المبتدعة عند الملك الكامل، وقالوا: إنه فاسد المعتقد، وتكلموا فيه. فطلبه الملك العادل، وأُحضِرَ إليه، وأُمِر أن يكتب اعتقاده. فكتب: أقول كذا لقول الله: كذا، وأقول: كذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا. حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلمَّا وقف عليها الملك الكامل قال: إيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. فخلى سبيله 2. وعرف أن هذه وشاية حاسدين؛ لأنه وجد أنَّ كل كلمة يقولها في معتقده مقرونة بدليلها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
1 الآية 22 من سورة الملك.
2 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/26
الثانية: ذكر ابن رجب رحمه الله في أثناء ترجمته للحافظ عبد الغني كلاماً حول حال أهل الأهواء، وأنهم لا يقيمون معتقدهم على الكتاب والسنة، وفي أثناء هذا الحديث قال:" ولقد عُقد مرة مجلس لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيب الجامع، فقال الشيخ شرف الدين عبد الله أخو الشيخ: " كلامنا مع أهل السنة، وأما أنت: فأنا أكتب لك أحاديث من الصحيحين، وأحاديث من الموضوعات ـ وأظنه قال: وكلاماً من سيرة عنتر ـ فلا تميز بينهما، ـ أو كما قال ـ فسكت الرجل " 1.
فلا يميز الواحد منهم بين الحديث الصحيح، والحديث الموضوع، والقصة التي هي من قصص عنترة بن شداد. فأهل الأهواء بعيدون كلَّ البعد عن الأدلة، وعن النصوص، وعن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصفهم:" نجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلم صحة الحديث، وربما قال: لقوله عليه السلام كذا. وتكون آية من كتاب الله. وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر "2.
فأين هؤلاء من أئمة السلف ودعاة السنة رحمهم الله، الذين يذكرون المعتقد في كلِّ جانب من جوانبه مقروناً بدليله: قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. إن أهل السنة رحمهم الله اعتنوا بهذه العقيدة عناية فائقة: بتقريرها وبيانها وبسط أدلتها، والرد على المخالف لهم فيها، وبذلوا في ذلك جهوداً كبيرة.
1 ذيل طبقات الحنابلة 4/23
2 نقض المنطق ص82
ومن هذه الجهود: هذا الكتاب الذي بين أيدينا للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله.
فعلى طالب العلم أن يعتني بهذه العقيدة، وأن يهتم بها. وأقل القليل أن يعتني بمتن من هذه المتون المختصرة، يضبطه ويفهمه، ويعتني بشروحه، ويقرأه على أهل العلم؛ فإن الشبه تتزايد وتكثر، وإذا لم يكن لدى طالب العلم أصل ثابت، وأساس راسخ، مبني على الدليل فإن الشبهات تجرفه، وتأخذه إلى أبعد ما يكون. وأهل العلم ـ مثل المقدسي رحمه الله إنما ألَّفوا هذه المختصرات لهذا الغرض.
وأنا أجد شبهاً كبيراً بين كتاب"العقيدة الواسطية"لشيخ الإسلام، وكتاب"عقيدة عبد الغني المقدسي رحمه الله"فبين هذين الكتابين تشابه ظاهر، وعبد الغني متقدم على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الأمر الثاني: كلمة"عقيدة":
كثير من مؤلفات السلف رحمهم الله موصوفة بهذا الوصف: عقيدة، عقيدة فلان، العقيدة الواسطية، الاعتقاد لفلان. وهذه الكلمة: كلمة عربية، واضحة المعنى، ظاهرة الدلالة، دالة على المقصود في هذا الموضع على أتم ما يكون؛ لأن العقيدة أو الاعتقاد مأخوذة في اللغة من العقد، وهو الربط والحزم والشد والتوثيق. وأهل العلم من السلف رحمهم الله أطلقوا هذا الوصف على أصول الإيمان لأنه مطلوب من المسلم أن يربط عليها قلبه، ويوثق عليها جنانه، وأن يكون إيمانه بها إيماناً جازماً لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1 أي أيقنوا ولم يشكوا.
1 الآية 15 من سورة الحجرات.
بين يدي الشرح
قبل الشروع في هذا الشرح، أود أن أتحدث عن بعض الأمور:
الأول: عن أهمية عناية طالب العلم بعقيدة السلف: عقيدة أهل السنة والجماعة، المبنية على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالعقيدة للعلوم والأعمال كلها بمثابة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار. فكما أن البناء لا يقوم إلا على أساسه، والشجر لا يقوم إلا على أصوله، فإن أعمال المرء وعلومه لا تنفع إلا إذا قامت على اعتقاد صحيح
فالعناية بالعقيدة مقدمة على العناية بسائر الأمور من طعام وشراب ولباس؛ لأن العقيدة هي التي يحيى بها المؤمن الحياة الحقيقية، وتزكو بها نفسه، وتستقيم بها أعماله، وتُتَقبَّل بها طاعاته، وترتفع بها درجاته عند الله عز وجل. وإذا اختلت العقيدة، أو فسدت، أو ذهبت انعكس ذلك على شؤونه كلها، وأعماله جميعها. ولهذا فإن للعقيدة الفاسدة شؤماً على صاحبها في أعماله وأخلاقه، وهي مردية ومهلكة له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأيضاً المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم "1.
بينما إذا صلحت العقيدة واستقام أمرها، وبنيت على كتاب الله وسنة نبيه
1 نقض المنطق ص45
صلى الله عليه وسلم فإنَّ الإنسان يصلح؛ لأنَّ أساس الصلاح والاستقامة موجود فيه، كما قال الله عز وجل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} 1، فجعل سبحانه أصول الإيمان وأسسه ـ التي هي الاعتقاد ـ بمثابة الأصل الذي تقوم عليه الشجرة، وإذا كان الأصل راسخاً ثابتاً كان ذلك أكمل في الشجرة: في نمائها، وزكائها، وطيب ثمرها، بحسب صلاح هذا الأصل. قال شيخ الإسلام:" ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع"2.
ولهذا لزم أن تكون العناية بالعقيدة مقدمة على العناية بكل أمر، لاسيما والفساد في الاعتقاد قد كثر في الناس، وتعددت الانحرافات فيه في جوانب مختلفة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً "3. وقال صلى الله عليه وسلم: " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة " 4. وهذا الافتراق والانقسام هو بسبب الأهواء الباطلة المحدثة التي تجر الناس إلى اعتقادات منحرفة، وأعمال باطلة ليست من دين الله تبارك وتعالى.
فيتعين على المسلم أن يقف على المعتقد الحق الصحيح، الذي أُخِذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك المعتقد المبارك الذي سمعه الصحابة من
1 الآية 24 من سورة إبراهيم.
2 نقض المنطق ص45
3 أخرجه أبو داود رقم 4607، والترمذي رقم 2676 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه رقم 43، وأحمد 4/126، وابن أبي عاصم في السنة رقم 54 وقال الألباني: إسناده صحيح، وابن حبان في صحيحه رقم 5، والحاكم في المستدرك 1/174ـ176 وقال: هذا حديث صحيح وليس له علة.
4 أخرجه أبو داود رقم 4597، وابن ماجه رقم 3992، وأحمد 4/102، وابن أبي عاصم في السنة رقم 2، 3 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 203
النبي صلى الله عليه وسلم، وبلَّغوه للتابعين، وبلَّغه التابعون لمن بعدهم، ولا يزال محفوظاً بحفظ الله تبارك وتعالى، له أنصاره وأعوانه ومؤيدوه، إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها. وفي الحديث:" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس "1. فالعقيدة باقية محفوظة بحفظ الله تبارك وتعالى.
ومن الوسائل التي هيأها الله عز وجل لعباده لحفظ هذا المعتقد: هذه الرسائل التي كتبها أهل العلم رحمهم الله في بيان العقيدة، والدفاع عنها، والرد على أهل الباطل فيها. فلهم مؤلفات كثيرة في الاعتقاد تقريراً وتأصيلاً، وردّاً على الباطل وإزهاقاً للشبهات التي يثيرها أهل الباطل، ولكثير منهم متون مختصرة، وكتابات مطولة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة. جهود متضافرة، وأعمال مباركة، ومساعٍ مشكورة قام بها هؤلاء العلماء، وكان هذا من الأسباب التي قيَّضها الله عز وجل لعباده لحفظ هذه العقيدة.
وعندما يؤلف الواحد منهم مختصراً في الاعتقاد أعني ـ من كان على سَنن أهل السنة وطريقتهم ـ يؤلفه مبنياً على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمر العقيدة عند السلف ليس للناس، وإنما هو لله تبارك وتعالى.
لم يكن أحد من أهل السنة والجماعة ينشئ للناس اعتقاداً من قِبَل نفسه، بل هم يتبعون ولا يبتدعون: يتبعون ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، كما وصفهم بذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال:" إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " 2،
1 أخرجه البخاري رقم 3641، ومسلم رقم 4932
2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 106
فكلمة عقيدة أو اعتقاد تصدق على هذا المعنى، وتدل عليه بأبلغ ما يكون، والألفاظ قوالب المعاني، وإذا دل اللفظ على المعنى المراد فما ثمة إشكال.
ولهذا درج كثير من السلف رحمهم الله منهم من كان متقدماً في القرون الثلاثة المفضلة ـ على تسمية أصول الإيمان بالعقيدة أو الاعتقاد. وإذا شئت مثالاً على ذلك فانظر مقدمة اللالكائي لكتابه شرح الاعتقاد، فقد ذكر رسائل مختصرة عديدة للسلف في الاعتقاد، كثير منها بهذا الاسم، وبعضهم في القرون الثلاثة المفضلة.
فهذه الكلمة: كلمة واضحة، ومن يثير حولها جدلاً يثيره بلا مبرر ولا مسوغ.
وعندما تضاف هذه الكلمة إلى إمام من أئمة السلف، كأن يقال مثلاً: عقيدة ابن تيمية، عقيدة أحمد بن حنبل، عقيدة عبد الغني المقدسي وهكذا، فهذه الإضافة أيضاً صحيحة؛ لأنها إضافة نسبية، حيث أضيفت إليه إما باعتبار جمعه لها، وجمع أدلتها، وعنايته بترتيبها وتبويبها وتصنيفها. أو باعتبار أنه مؤمن بها، ويدين الله عز وجل بمدلولها ومضمونها، فهي عقيدته التي يدين الله بها.
ومن هنا نعلم أنه لا وجه لمنع مثل هذا الإطلاق:"عقيدة عبد الغني"بحجة أنها عقيدة المسلمين أو عقيدة الإسلام، وليست خاصة بأحد. فنقول: نعم هي عقيدة الإسلام، لكن الإضافة هنا إضافة نسبية بالاعتبارين المذكورين.
والشأن في هذه الكلمة ـ أعني عقيدة فلان ـ مثل كلمة دين، فيقال: دين
الله: باعتبار أنه هو تبارك وتعالى أمر به وشرعه. ويقال: دين الرسول صلى الله عليه وسلم: باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم آمن به وبلغه ودعا إليه. ويقال: دين المسلمين: باعتبار أنهم آمنوا به واعتقدوه. فالإضافة في كل موضع بحسب من أضيف إليه. ومن الشواهد اللطيفة على هذا المعنى: أن ابن أبي داود رحمه الله لمَّا ختم منظومته في العقيدة"الحائية"، وهي منظومة رائعة وجميلة، بدأها بقوله:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى
…
ولا تكُ بدعياً لعلك تفلحُ
في ثلاث وثلاثين بيتاً، وهي من أحسن المنظومات المختصرة في عقيدة أهل السنة والجماعة، لما ختمها قال: هذه عقيدتي، وما أدين الله به. ثم صار رواة هذه القصيدة ـ بعده ـ كل واحد منهم يقول: وأنا أقول: هذه عقيدتي، وما أدين الله به.
فقول ابن أبي داود: هذه عقيدتي. أي باعتبار أنه يدين الله عز وجل بمضمونها، وإلا فإن العقيدة المأخوذة من الكتاب والسنة هي عقيدة جميع المسلمين.
إذاً فدور الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله في هذه العقيدة إنما هو في جمعها، وترتيبها، وتنظيمها. وليس له فيها شيء أنشأه من قبل نفسه، وشاهد هذا أنك لا تجد فيها شيئاً إلا وهو مستند إلى دليل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل إنه ذكر في بدايتها ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ أن العقيدة إنما تبنى ويقام أمرها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن كذلك أخذت بصاحبها إلى سبيل الردى والهلاك.
وهذا بخلاف قول صاحب الهوى: هذه عقيدتي. فإن صاحب الهوى إذا أطلق هذه
المقالة فمقصوده: أنَّ هذا هو التصور الذي عندي، وخلصت إليه بعقلي، ووصلت إليه بفكري. فيقال عقيدة فلان؛ لأن عقائدهم خلاصات للآراء والتجارب والتصورات. بينما عقيدة أهل السنة مأخوذة من الكتاب والسنة، ودورهم فيها إنما هو الجمع والترتيب.
ولهذا ذكروا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مرة المعتقد وطلبوا منه تصنيف مختصر فيه، فقال لهم كلمة تدل على هذا المعنى، فقال:" أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم "1.
فلمَّا ألحوا عليه ألَّف كتابه العقيدة الواسطية، ولم يذكر فيه شيئاً إلا وعليه دليل من الكتاب والسنة. فهذا سَنن أهل السنة، ليس فيهم من ينشئ معتقداً من قبل نفسه، وإنما معتقدهم هو الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذا التأصيل المبارك الذي نشأ عليه هؤلاء الكرام ترتب عليه ثبات هذه العقيدة على مر الأيام، فلو نظرت في كتب أهل السنة في العقيدة: قديمها وحديثها، على اختلاف بلدانهم، وتباين ألسنتهم، وتباعد أزمانهم، تجدها عقيدة واحدة، وذلك لاتحاد وصفاء المنبع وسلامة المصدر الذي أخذت منه. فالعقيدة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وآمنوا بها، هي العقيدة التي يعتقدها أهل السنة في هذا الزمان، الذين يأخذون عقيدتهم من كتاب الله وسنة نبيه
1 مجموع الفتاوى 3/161، والعقود الدرية ص223، وانظر: مجموع الفتاوى 3/203
صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مأخوذة من منبع واحد.
قال أبو المظفر السمعاني: " ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا "1.
ولا يُعلَم أحدٌ منهم تنقَّل من دين إلى دين، أو من معتقد إلى آخر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن "2. بينما أهل الأهواء، الذين جعلوا المنبع: الهوى، أو الرأي، أو الوجد، أو الذوق، أو العقل، أو المنطق، أو الفلسفة، أو غير ذلك، فتجد عقيدة التلميذ مخالفة لعقيدة الشيخ؛ لأن الكل عنده تصورات وقناعات. بل تجد الشيخ نفسه له عقيدة، وبعدها بأيام تتغير إلى عقيدة أخرى.
1 مختصر الصواعق 2/425 وانظر: رسالة لي بعنوان: ثبات عقيدة السلف وسلامتها من التغيرات.
2 نقض المنطق ص42
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر. وهذا دليل عدم اليقين "1. ولهذا قال السلف في التحذير من أهل الأهواء: " إياكم والتلون في دين الله، فإن دين الله واحد " 2؛ لأن التقلب صفة لأهل الأهواء، يتقلبون من معتقد إلى آخر.
وقال معن بن عيسى: " انصرف مالك يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الجويرية ـ كان يتهم بالإرجاء ـ فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي. قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني. قال فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال نتبعه. قال مالك: يا عبد الله، بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين "3.
الأمر الثالث: وُجِد لهذه العقيدة ـ فيما أعلم ـ خمس نسخ خطية، اثنتان منها على ضوئهما حقق الكتاب بهذه الطبعة التي بعنوان:"الاقتصاد في الاعتقاد"، فقد اعتمد محققها الشيخ أحمد عطية الغامدي حفظه الله على نسختين خطيتين للكتاب.
وهناك طبعة ثانية، طبعت في الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بتحقيق الشيخ عبد الله البصيري حفظه الله، حققها على ثلاث نسخ خطية، والنسخ الثلاث التي اعتمد عليها غير النسختين الخطيتين
1 الفتاوى 4/50
2 انظر: الإبانة 2/505
3 الإبانة 2/508
اللتين اعتمد عليهما الشيخ أحمد، فتحصَّل من مجموع التحقيقين خمس نسخ خطية لهذا الكتاب.
وقد طبع الكتاب لأول مرة ـ فيما أعلم ـ عام 1391هـ، بعناية وتحقيق الشيخ العلامة عبد الله بن حميد رحمه الله ضمن مجموع بعنوان"المجموعة العلمية السعودية"، جُمِع فيها بعض متون العقيدة المهمة، من بينها: عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي.
الأمر الرابع: أن هذه الطبعة التي بين أيدينا طبعت بعنوان"الاقتصاد في الاعتقاد"، وجميع النسخ الخطية الخمس المتوفرة أُثبِت اسم الكتاب عليها بعنوان"عقيدة عبد الغني المقدسي"أو"عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي"أو"عقيدة الشيخ عبد الغني المقدسي"، وليس في نسخة منها ـ بما في ذلك النسختان الخطيتان اللتان اعتمد عليهما محقق هذه الطبعة ـ، لكنه ـ وفقه الله ـ اعتمد في ذلك على ترجمة الحافظ عبد الغني المقدسي، فقد ذكروا في ترجمته أن له جزءً في الاعتقاد اسمه"الاقتصاد في الاعتقاد"، فغلب على ظنه أنه هذا الكتاب. لكن الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن الاقتصاد في الاعتقاد كتاب آخر للمؤلف وليس هذا لأسباب، منها:
أولاً: أن"الاقتصاد في الاعتقاد"وُصِفَ ـ كما في ترجمة عبد الغني المقدسي ـ بأنه جزء كبير 1، وهذا فيما يظهر لي ـ والله أعلم ـ لا ينطبق على هذا الجزء الذي بين أيدينا، فهو يعتبر من الأجزاء الصغيرة.
ثانياً: أن النسخ الخطية الخمس للكتاب كلها عُنونت باسم"عقيدة
1 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/19
عبد الغني المقدسي"، ولا يوجد في أي نسخة منها تسمية الكتاب:"الاقتصاد في الاعتقاد".
ثالثاً: أن بعض من ترجم لعبد الغني المقدسي ذكر له كتاباً باسم العقيدة، وهو مطابق لما وُجد في نسخ هذا الجزء الصغير. ولهذا فالذي يترجح لي ـ حسب فهمي القاصر والله تعالى أعلم ـ أن اسم هذا الكتاب"عقيدة عبد الغني المقدسي". ثم لعله من المناسب هنا أن أوضح دلالة هذا العنوان:"الاقتصاد في الاعتقاد"سواء كان هو اسم كتابنا أو اسم كتاب آخر للحافظ عبد الغني رحمه الله. الاقتصاد في اللغة: هو التوسط والاعتدال، قال الله تعالى:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} 1، وفي الحديث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:" القصد القصد تبلغوا " 2 أي عليكم بالقصد. ويقول ابن مسعود"رضي الله عنه": " اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة "3. والمراد بالاقتصاد في الاعتقاد: التوسط فيه. ومن المعلوم أن عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة وسط بين أهل الغلو وأهل الجفاء، أهل الإفراط وأهل التفريط. يقول ابن القيم رحمه الله: " فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم
1 الآية 19 من سورة لقمان.
2 أخرجه البخاري رقم 6463
3 رواه المروزي في السنة رقم 89، والطبراني في الكبير 10/208، واللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 115
كما رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 116 عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل؛ لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل: هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها " 1.
الأمر الخامس: أود التنبيه على شيء قد نغفل عنه عند دراسة العقيدة. يقول ابن القيم رحمه الله: " كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول " 2، يعني دخله شيء، إما رياء، أو إرادة الدنيا، أو نحو ذلك. فلا يُنتفع به، ولا يبارك فيه.
ولهذا فإن حسن النية في دراسة العقيدة، ودراسة أمور الدين عموماً أمر لا بد منه. فعندما يتعلم العبد العقيدة لا يدرسها من أجل زيادة الاطلاع وكثرة المعرفة، وإنما عليه أن يتعلمها لأنها دين الله الذي أمر به عباده، ودعاهم إليه، وخلقهم لأجله، وأوجدهم لتحقيقه. فيجتهد في فهم أدلتها، ويتقرب إلى الله عز وجل باعتقادها والإيمان بها، ويرسخها في قلبه، ويُمكِّن لها في فؤاده.فإذا درس العقيدة بهذه النية أثمرت فيه ثمرات عظيمة، وأثرت في سلوكه وأعماله وأخلاقه، وفي حياته كلها. أما إذا كانت دراسته للعقيدة مجرد جدل ونقاش، ولم يعتن بجانب تزكية القلب بالإيمان والثقة والاطمئنان بهذا الاعتقاد الذي أمر الله عز وجل به عباده لم تكن مؤثرة.
ومن الأمثلة على ذلك ـ فيما يتعلق بالإيمان برؤية الله ـ: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر، لا تُضامُون ـ وفي رواية:"لا
1 إغاثة اللهفان 1/201
2 الفوائد ص 86
تُضارُّون"، وفي رواية:"لا تَضَّامون"ـ في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} 1 "2. يعني صلاة الفجر وصلاة العصر.
لاحظ الارتباط بين العقيدة والعمل، ذكر لهم العقيدة التي هي الإيمان برؤية الله، ثم ذكر لهم العمل الذي هو ثمرة هذا الاعتقاد الصحيح، فقال لهم:""فإن استطعتم ألا تغلبوا
…
"
فلو أن شخصاً درس أحاديث الرؤية، وتتبع طرقها وأسانيدها، وناقش المتكلمين في شبهاتهم حولها، ثم إنه مع ذلك أخذ يفضل السهر في الليل، ويضيع صلاة الفجر، بل قد لا يكون لهذه الصلاة وزن عنده، ينادي المؤذن الصلاة خير من النوم وهو بلسان حاله وفعله النوم عنده خير من الصلاة، فأي أثر لهذا الاعتقاد عليه. نسأل الله العافية.
إن مثل هذا يحتاج إلى تصحيح نيته ومقصده في دراسة العقيدة حتى تثمر الثمرة المرجوة، وتحقق الآثار المباركة على صاحبها. فالمسلم يتعلم العقيدة لأنها عقيدته، ودينه الذي أمره الله عز وجل به، ويجتهد في أن تكون لها أثر عليه، وعلى عبادته وتقربه إلى الله عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله: " والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من
1 الآية 130 من سورة طه.
2 متفق عليه، أخرجه البخاري رقم 554، ومسلم رقم 1432
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 1/41: " تضامون بضم أوله مخففاً أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، وروي بفتح أوله والتشديد من الضم، والمراد: نفي الازدحام ".
موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على العلم والجوارح. فعلم العبد بتفرد الرب بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية هي موجباتها. وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها " 1.
فهذه بعض المقدمات رأيت من المناسب أن أقف عندها بين يدي قراءة هذا الكتاب. وأسال الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل وأن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.
1 مفتاح دار السعادة ص90
مقدمة المؤلف
" بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يسر وأعن، والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل. قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي رحمه الله تعالى: الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء، والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء من السعادة والشقاء، واستوى على عرشه فوق السماء "
بدأ المصنف رحمه الله هذا الكتاب بالبسملة:"بسم الله الرحمن الرحيم"، وحمدِ الله والثناء عليه.
حَمِدَ الله عز وجل حمداً أرشد به إلى مضمون كتابه، ومقصوده في مؤلفه. وبعض أهل العلم يسمي هذا الصنيع: براعة الاستهلال، أي أنك من أول ما تقرأ الحمد أو الاستهلال الذي بدأ به المؤلف تعرف مضمون الكتاب ومقصوده.
الحمد لله"الحمد: هو الثناء على الله مع حبه سبحانه؛ فإن الحمد لا يكون حمداً إلا عن ثناء وحب، فإذا كان ثناءً عرياً عن الحب فهو مدح.
والله عز وجل يثنى عليه ويحب؛ لكماله وعزه وجلاله، وعظمته وكمال صفاته ونعوته سبحانه وتعالى، يُحمدُ على أسمائه وصفاته، ويُحمدُ على آلائه ونعمائه وأفضاله سبحانه.
المتفرد بالكمال"المتفرد أي المتوحد الذي له الوحدانية، وله التفرد بالكمال في أسمائه وصفاته ونعوته وعظمته سبحانه وتعالى، فهو السيد الكامل في سؤدده، العظيم الكامل في عظمته، الرحيم الكامل في رحمته،
الملك الكامل في ملكه، فله عز وجل الكمال المطلق في أسمائه وصفاته.
"والبقاء"أي والمتفرد بالبقاء، فهو الحي الذي لا يموت، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 1، وقال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} 2، وقال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} 3 فكل شيء إلى الهلاك إلا الله عز وجل.
والعز"فهو تبارك وتعالى العزيز. وللعز معان، منها: القهر، والغلبة، والقوة، والعظمة في أسمائه ونعوته وصفاته تبارك وتعالى.
والكبرياء"أي العلو والعظمة والتعالي والرفعة، فهي كلها من معاني الكبرياء، كما في قولنا:"الله أكبر"، فلا شيء أكبر من الله، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " إنما تفر أن تقول: الله أكبر. وتعلم أن شيئاً أكبر من الله؟ " 4. فالله عز وجل له الكبرياء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة " 5، يسبح الله عز وجل بهذه الأمور الدالة على كماله وعظمته سبحانه وتعالى.
الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء"وهذا الاستهلال من المصنف رحمه الله من أروع ما يكون، ففيه تقرير إجمالي لمعتقد أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وأنه قائم على أصلين،
1 الآية 58 من سورة الفرقان.
2 الآية 88 من سورة القصص.
3 الآية 27 من سورة الرحمن.
4 أخرجه الترمذي رقم 2953 وقال حسن غريب، وأحمد 4/378، وابن حبان رقم 7206
وانظر: كتاب فقه الأدعية والأذكار " القسم الأول " ص280 ـ 289
5 أخرجه أبو داود رقم 873، والنسائي رقم 1049، 1132، وأحمد 6/24 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
ضمَّنهما المصنف قوله هذا، هما: الإثبات بلا تمثيل، وإليه الإشارة بقوله:"الموصوف بالصفات والأسماء". والأصل الثاني: التنزيه بلا تعطيل، وإليه الإشارة بقوله:"المنزه عن الأشباه والنظراء"أي أنه عز وجل منزه عن الشبيه والنظير،:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
"الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء" بريته: أي المخلوقات التي برأها وأوجدها، فعلمه تبارك وتعالى في البرية أزلي، سابق لوجود المخلوقات، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال جل وعلا:{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 2، وقال سبحانه:{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 3.
أي أن ما يقع من قضائه محكم ـ وكل قضائه سبحانه وتعالى محكم ـ في بريته فعلمه فيه سابق. وفي هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
ما شئتَ كان وإن لم أشأْ
…
وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت
…
ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت
…
وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد
…
ومنهم قبيح ومنهم حسن4
الشاهد: قوله: خلقت العباد على ما علمت. هذا نظير قول المؤلف:"الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء"أي أن علمه سابق ومحيط.
من السعادة والشقاء"يعني علم عز وجل في الأزل مَن السعيد ومَن الشقي، مثل ما قال الشافعي رحمه الله:"
1 الآية 11 من سورة الشورى.
2 الآية 12 من سورة الطلاق.
3 الآية 28 من سورة الجن.
4 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 1304
فمنهم شقي ومنهم سعيد
…
ومنهم قبيح ومنهم حسن
كل هذا علمه الله عز وجل في الأزل، ثم كتبه في اللوح المحفوظ، ثم شاءه، ثم أوجده تبارك وتعالى كما شاء.
فسبق علمه في بريته بمحكم القضاء يعني بما قضى عليهم وقدَّر من شقاوة أو سعادة.
ومن"هنا تفسيرية بيانية، لقوله محكم القضاء. فمحكم القضاء للبرية أن منهم شقياً وسعيداً. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1 وقال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2 فسبق علمه تبارك وتعالى في بريته ـ يعني مخلوقاته ـ بمحكم القضاء من السعادة والشقاء.
" واستوى على عرشه فوق السماء " فيه:إثبات استواء الله تبارك وتعالى على العرش على ما يليق بكماله وجلاله.
فهنا ضمَّن المؤلف الحمد أصولاً ونتفاً من المعتقد، يأتي بسطها في هذه الرسالة.
ففي هذا الحمد الذي افتتح به المصنف أمران:
أولاً: إرشاد لمن يقرأ هذا الكتاب من أوله إلى مضمونه.
ثانياً: حمد لله تبارك وتعالى في أوله على نعمة التوفيق لهذا المعتقد، الذي هذه بعض أصوله وأسسه التي يقوم عليها.
"وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، محمد سيد المرسلين والأنبياء، وعلى آله وصحبه الطاهرين الأتقياء، صلاة دائمة إلى
1 الآية 36 من سورة النحل.
2 الآية 8 من سورة فاطر.
يوم اللقاء " ختم المصنف هذا الحمد والثناء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واكتفى بالصلاة دون السلام، والجمع بينهما هو الأكمل لقوله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1 لكن لعله ند عنه قلمه.
الهادي": الهداية هنا المراد بها هداية الدلالة والإرشاد.
إلى المحجة البيضاء" يعني الطريقة الواضحة البينة الظاهرة.
والشريعة الغراء " أي الدين القويم الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال:"اعلم ـ وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل ـ أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على: الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل".
اعلم"هذه الكلمة فعل أمر من العلم، ويؤتى بها في الأمور العظيمة المهمة، التي ينبغي أن يعتني بها المخاطَب، ففيها تحفيز للهمم، وحض للسامع على الاهتمام بالأمر الملقى عليه، وحسن الاستماع إليه، وإعطائه حقه من الرعاية والعناية والاهتمام.
وفي القرآن الكريم قرابة الثلاثين آية يأمر الله عز وجل فيها بالعلم بقوله جل وعلا:"اعلم"أو"اعلموا"ثم يذكر أموراً عظيمة، جلُّها يتعلق بتوحيد الله والإيمان به وبأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، إما علمه الشامل المحيط، أو قدرته، أو عظمته، أو غناه، أو كماله. ومن ذلك قوله جل وعلا:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} 2، وقوله سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3،
1 الآية 56 من سورة الأحزاب.
2 الآية 19 من سورة محمد.
3 الآية 231 من سورة البقرة.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 1. وهذا يشعر ـ كما أسلفت ـ بأهمية الأمر الذي يذكر عقب هذه الكلمة. ولا شك ولا ريب أن ما سيذكره المصنف رحمه الله"ـ في كتابه أمر في غاية الأهمية، بل هو أهم الأمور وأعظمها، ألا وهو توحيد الله عز وجل، والإيمان به وبأسمائه وصفاته ونعوته الدالة على عظمته وكماله وجلاله.
لأجل هذا صدر المؤلف رحمه الله كتابه بهذه الكلمة:"اعلم"أي: أيها القارئ لهذا الكتاب والمطلع عليه ثم ذكر مسائل الكتاب. ومن نصح المصنف رحمه الله وجزاه خير الجزاء ـ: أن دعا لقارئ الكتاب، ولمن يطلع عليه بدعوة مباركة، لها تعلق أيضاً بموضوع الكتاب ومضمونه فقال: وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل".
لما يرضيه"وهذا فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبغي أن يهتم به المسلم في حياته كلها نيل رضى الله عز وجل، فنيل رضى الله هو غاية الغايات، وأعظم المقاصد. فأهم غاية عند المسلم وأعظم مقصدٍ لديه أن ينال رضى ربه تبارك وتعالى.
والله عز وجل يرضى عن عبده بأقوال وأعمال واعتقادات، جاء بها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يُنال رضى الله عز وجل وولايته للعبد إلا بذلك، منها ما هو متعلق باللسان، ومنها ما هو متعلق بالقلب، ومنها ما هو متعلق بالجوارح، كما قال الحسن البصري رحمه الله: " ليس الإيمان بالتمني ولا
1 الآية 267 من سورة البقرة.
بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال " 1، والله عز وجل يقول:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} 2.
فلهذا دعا لك قارئ الكتاب بالتوفيق إلى هذه الأمور الثلاثة التي يُنال بها رضا الله: الأقوال والنيات والأعمال.
ثم في دعوته هذه: تنبيه على أمر في غاية الأهمية، ألا وهو أن صلاح العبد في أقواله وأعماله واعتقاداته إنما يكون بتوفيق الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإن حاجة العبد إلى إصلاح الله له وتوفيقه هي أعظم الحاجات، وأكبر الأمور التي ينبغي للعبد أن يسعى في طلبها ونيلها.
وإذا لم يوفق الله عبده لذلك ضل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرتجزون يوم الخندق:" والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا "3. وفي القرآن يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 4، ويقول سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5 والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ولهذا يجب على العبد أن يقبل على الله عز وجل إقبالاً صادقاً، ويسأله سبحانه"أن يصلح له عقيدته وإيمانه وعمله ونيته.
1 رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل رقم 56
2 الآية 123 من سورة النساء.
3 أخرجه البخاري رقم 4140 وفي لفظ عند البخاري رقم 6620: " ولا صمنا ولا صلينا ".
قال الحافظ في الفتح 11/524 عن اللفظ الأول: " به يحصل الوزن، وهو المحفوظ ".
4 الآية 7 من سورة الحجرات.
5 الآية 17 من سورة الحجرات.
ولو تأملت أدعية النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت الكثير منها يدور حول هذا المعنى، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر "1.
من القول والنية والعمل"في ذكره لهذه الأمور الثلاثة ـ القول والعمل والنية ـ: إشارة إلى أن الإيمان الذي يُنال به رضا الله عز وجل مكون من هذه الأمور الثلاث. قال تعالى: {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2 فليس الإيمان اعتقاداً فقط، ولا قولاً فقط، ولا عملاً فقط. بل الإيمان مكون من هذه الأمور الثلاثة: القول والنية والعمل. قال صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من"الإيمان " 3. ففي قول المصنف هذا: إشارة إلى أن الإيمان منه ما يتعلق بالقلب وهو النية أو الاعتقاد الصحيح، ومنه ما يتعلق باللسان وهو النطق بالشهادتين ثم الأقوال التي هي ذكر الله وتلاوة كتابه وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغير ذلك من الأقوال التي هي من الإيمان، ومنه ما يتعلق بالجوارح كالأعمال الصالحة المقربة إلى الله تبارك وتعالى. وسيأتي بيان هذا الموضوع لاحقاً إن شاء الله.
والنية: النية في كلام أهل العلم تقع بمعنين 4:
1 أخرجه مسلم رقم 7841
2 الآية 3 من سورة المائدة.
3 أخرجه البخاري رقم 7، ومسلم رقم 152 واللفظ له.
4 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص8
المعنى الأول: النية التي تميز بها العبادات بعضها عن بعض، ومحلها القلب. وهذا الاستعمال هو الذي يكثر عند الفقهاء في كتب الفقه والأحكام، فمثلاً: الأعمال والحركات والأقوال التي يؤتى بها في صلاتي الظهر والعصر واحدة، وإنما يحصل التمييز بينهما بالنية. وكذلك العمل المؤدى في صيام الفرض والنفل واحد، ولا يفصل بينهما إلا بالنية.
والمعنى الثاني: تمييز المقصودِ بالعمل ـ يعني مَن قُصِدَ بالعمل ـ، ما نية الإنسان في عمله؟ هل نيته وجه الله والدار الآخرة؟ هل النية لله أم لغير الله؟ أم النية لله ولغيره؟ ولهذا هناك نية صالحة وهي التي توصف بالإخلاص، ونية فاسدة وهي التي فيها تسوية لغير الله تبارك وتعالى به. ومقصود المؤلف رحمه الله بالنية هنا: الإطلاق الثاني، الذي هو بمعنى الإخلاص وصحة الاعتقاد وسلامة الإيمان وسلامة القصد بأن لا يبتغي العامل بعمله إلا وجه الله تبارك وتعالى 1.
والكلام على النية بهذا الإطلاق يكثر في كتب الاعتقاد: كتب التوحيد، فهي مؤلفة لتصحيح النية: نية العمل، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " 2
" وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل""أعاذنا أي وقانا، والعوذ: الالتجاء إلى
1 وفي هذا الموضوع كتب كثيرة، منها: كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا الإخلاص والنية، وهو كتاب جميل ومفيد لطالب العلم. والنية في إطلاقه بمعنى الإخلاص.
2 أخرجه البخاري رقم 1، ومسلم رقم 4904
الله عز وجل والاحتماء والاعتصام به سبحانه وتعالى. وهو عبادة من أجل العبادات، ولا تكون الاستعاذة إلا بالله، فهو الذي يعيذ عباده، لا معيذ لهم سواه، ولا حافظ لهم ولا واقي ولا كافي لهم إلا هو، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2 فالذي يستعيذ بالله تبارك وتعالى ويلتجئ إليه يوفَّق لكل خير وحفظ ووقاية وكفاية.
الزيغ": هو الميل والانحراف عن الجادة السوية والصراط المستقيم. فالمؤلف رحمه الله دعا لك بصلاح القول والعمل والنية، بمعنى أن تكون في قولك وعملك ونيتك مستقيماً على الجادة. ثم أتبع ذلك بسؤال الله أن يعصمك ويسلمك ويعيذك من الزيغ أي: من أن تميل عن هذه الأمور وتنحرف عنها.
والزلل الهويُّ والسقوط، يقال: زلت قدم فلان أي:سقط. فدعا لك بأن يجنبك الله الميل عن الصراط، وأن يجنبك أمراً أشد منه وهو السقوط.
فهذه دعوة مباركة وعظيمة، وجامعة لأبواب الخير، جمعت طلب الخير وتحصيله، وطلب الوقاية من الشر ومن الوقوع فيه.
"أنَّ صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على " هنا ينبه المصنف رحمه الله على أن أمور الاعتقاد مجمع عليها بين السلف، وفيها اتفاق في كلمتهم، ولا خلاف بينهم في شيء منها. فليس بين صالح السلف وخيار الخلف خلاف في المعتقد، بل
1 الآية 101 من سورة آل عمران.
2 الآية 36 من سورة الزمر.
معتقدهم واحد، وأصول الإيمان عندهم واحدة.
نعم هناك خلاف شاسع وبون واسع بين صالح السلف وسيئ الخلف، فهم لهم مخالفون، وعن طريقتهم منحرفون، وعن سبيلهم ضالون.
وسيئ الخلف: هو الذي انحرف عن الكتاب والسنة وطريقة السلف رحمهم الله، ومن كان كذلك فلا شك أنه مفارق ومخالف لأهل السنة والجماعة في المعتقد.
صالح السلف"الصلاح صفة للمعتصم بكتاب الله والمتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقتفي لآثار الصحابة رضوان الله عليهم، فمن كان هذا شأنه فهو الصالح، ومن كان بخلاف ذلك فهو الطالح.
وخيار الخلف"هم الذين يسيرون على طريقة صالح السلف، والشرار من كانوا على خلاف ذلك. وحظ الإنسان من الخير بحسب حظه من طريق صالح السلف، ومن كان بصالح السلف أشبه فهو إلى الحق والخير أقرب.
وسادة الأئمة"السيد هو المقدم، فقوله: سادة الأئمة أي: مقدموهم، أي: المتقدمون من أئمة أهل العلم، الذين لهم قدم صادقة وعلم راسخ وثبات على الحق والإيمان.
وعلماء الأمة": الذين تضلعوا بالعلم، وتمكنوا فيه.
كل هؤلاء:"اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل"هذه خلاصة لمعتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الأسماء والصفات ـ عند أهل السنة والجماعة ـ قائم على الإثبات والنفي: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له
رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال والأسماء الحسنى. ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ومن أن يشبهه أحد من خلقه في شيء من خصائصه وصفاته سبحانه. ثم ذكر أمثلة للإثبات ولا يقصد بها الحصر، بل تدل على غيرها، وترشد إلى ما سواها.
أحد فرد": أي متفرد بنعوت الكمال وصفات الجلال والعظمة والكبرياء، فهو سبحانه وتعالى أحد فرد في أسمائه وصفاته وجميل نعوته. وأهل العلم يقولون إن الأحد الفرد اسمان من أسماء الله الحسنى يدلان على أمرين: أولهما: نفي النظير والمثيل والمساوي والمشابه لله تبارك وتعالى، فالله أحد فرد أي: لا مثيل له في شيء من أسمائه وصفاته ونعوته سبحانه، فهو أحد ليس له مثيل.
وثانيهما: ثبوت صفات الكمال ونعوت الجلال له سبحانه وتعالى، فهو أحد أي: متفرد بالصفات الكاملة والنعوت العظيمة والصفات الجليلة"والأسماء الحسنى الكاملة. فهذان الأمران يدل عليهما الأحد الفرد الواحد.
الصمد": أي الذي تصمد إليه الخلائق، وتقصده في حاجاتها كلها، فهو صمد أي الخلائق تصمد إليه في حاجاتها كلها، وترجع إليه في كل مطالبها ومقاصدها. ومن معاني الصمد: الكامل، كما جاء عن ابن عباس: " الصمد: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه،
والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له " 1. فالصمد الذي له نعوت الكمال وصفات الجلال سبحانه وتعالى.
حي قيوم": هذان الاسمان ترجع إليهما كما يقول أهل العلم جميع الصفات، فالحي: ترجع إليه الصفات الذاتية، مثل: السمع والبصر واليد والقدم وغير ذلك. والقيوم ترجع إليه صفات الأفعال، مثل: الاستواء والنزول والإحياء والإماتة والإنعام والإكرام وغير ذلك. والقيوم: أي القائم بنفسه المقيم لغيره من خلقه. ومن الأقوال التي قيلت في الاسم الأعظم أنه الحي القيوم. وقيل: إنه اسمه الله. وهذان القولان من أقوى ما قيل في الاسم الأعظم، والخلاف فيه طويل عند أهل العلم، والأقوال التي قيلت فيه كثيرة، لكن من أقوى ما قيل في ذلك إنه اسمه الله، أو إنه اسمه الحي القيوم. ومن الأسباب المرجِّحة لكون"الحي القيوم"هو اسم الله الأعظم: أن جميع الصفات ترجع إلى هذين الاسمين. فالحي ترجع إليه الصفات الذاتية، والقيوم ترجع إليه صفات الأفعال.
سميع"أي أن الله عز وجل متصف بالسمع، فهو سبحانه يسمع جميع الأصوات، على تفنن الحاجات واختلاف اللغات. فلو أن الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا في صعيد واحد، كلهم من زمن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسألوا الله وتكلموا جميعاً في لحظة واحدة، كل واحد
1 رواه ابن جرير الطبري في تفسيره رقم 38329
بلغته، لسمعهم جميعاً دون أن يختلط عليه صوت بصوت، أو لغة بلغة، أو حاجة بحاجة. وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر " 1 فيسمع سبحانه الجميع، مع أن لغاتهم مختلفة، وحاجاتهم متباينة، وأصواتهم متغايرة. بينما الإنسان لو تكلم عنده اثنان، وبلغة واحدة، لاختلط عليه كلامهما، ولاحتاج أن يُسكِت أحدهما ليسمع كلام الآخر، كما قال"تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} 2.
بصير" أي متصف بالبصر، يرى سبحانه كل شيء من فوق سبع سماوات، يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء. لو كان ليل دامس، ونملة سوداء، على صخرة صماء، ودنوت منها واقتربت وحلَّقت بعينيك فإنك لا تراها، لكنَّ الله عز وجل يراها من فوق سبع سماوات، بل يرى جريان الدم في عروقها، ويرى سبحانه كلَّ جزء من أجزائها. فهو سميع بصير، يسمع كلَّ الأصوات، ويرى جميع المرئيات. ولإيمان المسلم بهذه الصفة وغيرها من صفات الله تعالى أثر على سلوكه وعمله. رأى أحد السلف رجلاً وامرأة في ريبة، فاكتفى بقوله لهما: إنَّ الله يراكما، سترنا الله وإياكم. ذكَّرهما بهذه العقيدة التي تؤثر عليهما غاية التأثير في استقامة العمل إن كان لهما قلب. فهذه أمثلة للصفات الثبوتية: الأحد الفرد الصمد الحي القيوم السميع البصير، وهي مرشدة إلى غيرها، ودالة على ما سواها.
1 أخرجه مسلم رقم 6517
2 الآية 4 من سورة الأحزاب.
ثم بدأ بذكر ما يتعلق بصفات النفي، فقال:"لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عَِدل ولا مثل": وهذه كلها صفات منفية، ينزه الله تبارك وتعالى عنها، فكما أن المسلم مطالب بإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، فهو كذلك مطالب بأن ينزه الله تعالى عما نزه عنه نفسه. فقد نزَّه الله عز وجل نفسه عن هذه الأمور كلها: الشريك والوزير والشبيه والنظير والعدل والمثل. والشريك: هو المساوي، والشرك هو التسوية، وسُمِّي الشرك شركاً لأن فيه تسوية لغير الله به. قال تعالى عن أهل النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. هذا هو الشرك: أي جعلوا غير الله مساوياً له، سواء في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته. ولهذا فإن الشرك أنواع ثلاثة: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات. كما أن التوحيد ثلاثة أقسام، فالشرك ثلاثة أقسام، كل نوع من أنواع التوحيد يقابله نوع من أنواع الشرك.
ولا وزير"الوزير: هو المعين والمساعد، وفي دعوة موسى عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} 2 أي معيناً ومساعداً، يعاونني ويساعدني في أمري. فالله عز وجل منزه عن الوزير، فليس له سبحانه معين ولا مساعد. قال الله عز وجل:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3، ظهير: أي معين ووزير ومساعد.
ولا شبيه"وفي أكثر النسخ:"ولا شبه"وهما بمعنى واحد.
والشبه أو الشبيه: هو المماثل والنظير. فالله عز وجل لا شبيه له في شيء من خصائصه وصفاته.
1 الآيتان 97، 98 من سورة الشعراء.
2 الآيتان 29، 30 من سورة طه.
3 الآية 22 من سورة سبأ.
ولا نظير له"النظير ـ أيضاً ـ المماثل، فالله عز وجل ليس له نظير، أي: ليس له مماثل أو مساوي في شيء من صفاته سبحانه وتعالى.
ولا عَِدل"ـ بفتح العين وبكسرها ـ، كلاهما صحيح، يقول الزجَّاج: " العَدل والعِدل واحد في معنى المثل " 1. فالعَدل والعِدل هما سواء في المعنى وهو المساوي والمماثل. مثل الشيء، يقال: عِدله وعَدله. فالله عز وجل لا عَدل له، ولا عِدل له أي: لا مماثل ولا مساوي له تبارك وتعالى.
ولا مثل"أي: ليس له مثيل في شيء من صفاته، كما قال سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، وقال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} 3، وقال:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 4، فالله عز وجل لا مثل له هذه الأمور التي نفاها: الشريك والوزير والشبيه والنظير والعَِدل والمثل، كثير منها متقارب في المعنى والدلالة، وبعضها يدل على بعض، لكن المؤلف أتى بهذه الألفاظ المتقاربة في النفي ليؤكد على أهمية تنزيه الله تبارك وتعالى عن ذلك.
" وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة " أي: من الأمور التي تطابقت عليها كلمة السلف، واتفق فيها قولهم أنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة، أي الموصوف بها في الأزل، فالله عز وجل الأول الذي ليس قبله شيء بصفاته تبارك وتعالى، فصفاته سبحانه وتعالى أزلية. ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه عند دخول المسجد: " أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه
1 تهذيب اللغة 2/209
2 الآية 11 من سورة الشورى.
3 الآية 65 من سورة مريم.
4 الأية 4 من سورة الإخلاص.
القديم، من الشيطان الرجيم " 1، ففي هذا الحديث وصفٌ لسلطان الله بالقدم، وهو من أوصافه سبحانه؛ لأن السلطان مصدر، والمصدر إذا أضيف إلى الله عز وجل يراد به تارة الصفة، وتارة يقصد به أثر الصفة، وهنا السلطان الموصوف بالقدم ليس أثر الصفة وإنما هو صفة الله سبحانه وتعالى.
فسلطانه موصوف بالقدم، والمراد بالقدم: الأولية التي ليس قبلها شيء، كما قال الله عز وجل:{هُوَ الأَوَّلُ} 2 وقد فسره النبي"صلى الله عليه وسلم"في دعائه فقال: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء " 3، فهذا هو مراد المصنف رحمه الله بقوله:"بصفاته القديمة".
1 أخرجه أبو داود رقم 466 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم441
2 الآية 3 من سورة الحديد.
3 أخرجه مسلم رقم 6827