الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويسخط ويحب ويبغض؟ الجواب بلا إشكال: لما نطقت بذلك النصوص جسرنا على ذلك. وإلا فمن الذي يجرؤ أن يتكلم في شأن الرب العظيم بلا مستند من الكتاب أو السنة.
[النَّفْس]
" ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النفْس، قال الله عز وجل إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال ـ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ، وقال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، وقال عز وجل لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} "
هنا يتكلم المصنف عن النفس في مثل قول الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 1، وقوله:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 2 ونظائرها من الآيات.
والمراد بالنفس ـ كما نبه عليه أهل العلم ـ: ذاته سبحانه الموصوفة بالصفات الثابتة له، وليس المراد بالنفس ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا أنها صفة مستقلة قائمة بالذات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ"3.
1 الآية 116 من سورة المائدة.
2 الآية 28 من سورة آل عمران.
3 مجموع الفتاوى " 9/292 ـ 293 "
وعليه فمعنى قول الله تعالى: {لا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: لا أعلم ما في ذاتك. وهكذا بقية النصوص التي ورد فيها هذا الإطلاق.
وكلام المصنف رحمه الله هنا يحتمل أمرين:
الأول: أنَّه يعد النفس صفة مستقلة، مثل الرضا والغضب والمحبة والسخط. وهذا ـ كما قرر شيخ الإسلام ـ خطأ.
الثاني: ونأخذه من منهجه الذي هو بصدد الكلام عليه، وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون مراده إطلاق ما أطلقه عز وجل في كتابه العزيز من أوصاف أو أخبار. وعلى هذا المعنى يكون كلامه مستقيماً.
ووقع لابن خزيمة رحمه الله نظير ما وقع للمصنف فقال:"فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه جل ربنا أن تكون نفسه كنفس خلقه، وعز أن يكون عدماً لا نفس له"1.
لكن كما قرر شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم فليست النفس صفة مستقلة، والنصوص لا تدل على ذلك.
" النفْس " بإسكان الفاء، ويأتي في بعض الأحاديث النفَس بتحريكها مضافة إلى الله كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إني أجد نفَس الرحمن من هاهنا"2. والمراد بالنفَس هنا تنفيسه تبارك وتعالى على عباده، وما يترتب على ذلك من إعانة وتوفيق وسداد.
1 كتاب التوحيد " 1/11"
2 أخرجه البخاري في التاريخ الكبير " 4/70 "، والبزار " رقم 3702 "، والطبراني في الكبير " 7/52 "
" قال الله عز وجل إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنَّه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} " أي: لا أعلم ما في ذاتك المقدسة، فأنت تعلم ما في نفسي، فلو أخفيتُ شيئاً في نفسي ولم يطَّلع عليه أحد من الخلق لعلمتَه، كما قال تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 1، فهو سبحانه وتعالى عليم بكلِّ شيء، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم ما في نفوس العباد.
وفي هذه الآية أدب رفيع من نبي الله عيسى عليه السلام، وهذا يتبين بالنظر في سياق الآية، قال الله عز وجل:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} ، ومعنى سبحانك: أنزهك يا الله عن ذلك: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: ما ليس لي بحق أن أقوله: لا أقوله، ومن الأمور التي ليست حقاً الافتراء على الله وادعاء أنَّ مع الله إلهاً آخر. {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لم يقل: لم أقل ذلك. وإنما أتى بهذه العبارة التي تدل على كمال الأدب ورفيعه، فقال:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: لو أنَّ شيئاً عندي أخفيته في نفسي فعلمك محيط به. {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: الشيء الذي لم تُعلِمْني إياه واستأثرت بعلمه فلا علم لي به؛ لأنَّه لا علم لي إلا ما علمتني إياه، فعلم الله محيط بكلِّ شيء، وأما علم العبد مهما بلغ فهو كما قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 2.
" وقال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} " الكتابة في الآية كتابة كونية قدرية؛ لأنَّ الكتابة المضافة إلى الله عز وجل نوعان:كتابة كونية قدرية.
1 الآية 19 من سورة غافر.
2 الآية 85 من سورة الإسراء.
وكتابة شرعية دينية. والقول في الكتابة كالقول في الإرادة، ومثله يقال ـ أيضاً ـ في الإذن والقضاء والتحريم.
والمراد بالنفس في الآية ذاته المقدسة الموصوفة بالصفات.
" وقال عز وجل لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " الاصطناع في الآية يتضمن معاني كثيرة، منها: الرعاية والعناية والتربية والتوفيق والاصطفاء للنبوة والرسالة، ففي الآية تشريف لنبي الله موسى عليه السلام وتمييز له.
والشاهد من الآية: قوله تعالى: نفسي. والمراد: هو سبحانه وتعالى بذاته الموصوفة بالصفات.
" وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة""
" أنا عند ظن عبدي بي " هذا فيه إحسان الظن بالله تبارك وتعالى، وأن يكون العبد حسن الظن بربه، وحسن الظن لا يكون إلا مع إحسان العمل وإلا كان غروراً. يقول ابن القيم ـ"مبيناً تلازم حسن الظن مع صلاح العمل تمام الملازمة ـ:"حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإنَّ المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته. وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه"1.
1 الجواب الكافي " ص13 ـ 14 "
وهذا المعنى الذي نبه عليه ابن القيم رحمه الله مستفاد من قول الله عز وجل في هذا الحديث: " أنا عند ظن عبدي بي " فالإضافة إلى الله: عبدي. تقتضي عبودية من العبد وصلاحاً فيه، كما في قوله تبارك وتعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} 1. فقوله: " عبدي " دال على صلاح في العمل، فمع هذا الصلاح يستقيم حسن الظن بالله تبارك وتعالى.
" أنا عند ظن عبدي بي " أي: إن ظن بي خيراً حصَّل خيراً، وإن ظن بي شراً حصَّل شراً. ولهذا على العبد المؤمن أن يقبل على طاعة الله وأن لا يظن بربه إلا خيراً، ويتأكد هذا الأمر عند الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن"2. فيظن بربه أنَّه سيرحمه ويغفر له، ويدخله الجنة وينجيه من النار.
" وأنا معه " المعية نوعان:
1ـ معية عامة: وهي علم الله بالعباد واطلاعه عليهم ورؤيته لهم، وأنَّه لا تخفى عليه منهم خافية.
2ـ ومعية خاصة: كما في هذا الحديث، وهي تقتضي الرعاية والتأييد والحفظ والتسديد والتثبيت والتوفيق. فمعنى:" أنا معه " أي: أسدده وأعينه وأوفقه وأحفظه.
" حين يذكرني " في هذا فضل ذكر الله عز وجل، فالعبد إذا حافظ على ذكر الله نال بذلك معية الله الخاصة له.
" فإن ذكرني في نفسه " أي: ذكرَ الله سراً بينه وبين نفسه.
1 الآية 63 من سورة الفرقان.
2 أخرجه مسلم " رقم 7158 "
" ذكرته في نفسي " أي: ذكرَه الله عز وجل مقابل ذلك في نفسه، وهذا موضع الشاهد من الحديث، والمراد بنفسه ذاته المقدسة الموصوفة بالصفات.
" وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " أي: الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وفي هذا الحديث شاهد للقاعدة المشهورة: الجزاء من جنس العمل، قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلا الأِحْسَانُ} 1،هذا في الإحسان.
وفي الإساءة يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} 2.
" في ملأ خير منهم " هذا من أقوى ما استدل به من قال بتفضيل الملائكة على البشر، والأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
القول الأول: أنَّ الملائكة أفضل مطلقاً.
والقول الثاني: أنَّ البشر أفضل مطلقاً.
والقول الثالث: وهو الحق والصواب، وهو أنَّ الأنبياء وصالحي البشر أفضلُ من الملائكة 3.
" وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً " وهذا فيه إثبات صفة القرب لله سبحانه وتعالى، وأنَّه يقرب متى شاء وكيف شاء على الوجه الذي يشاء.
ونحن نؤمن بأنه سبحانه يقرب من عباده كما دل عليه كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
1 الآية 60 من سورة الرحمن.
2 الآية 10 من سورة الروم.
3 انظر بسط هذه المسألة في كتاب " مباحث المفاضلة في العقيدة " لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو سيف.
" وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " فيه إثبات هذه الصفة لله تعالى 1، والقاعدة: أنَّ كلَّ ما يضاف إلى الله عز وجل من الصفات فهو على الوجه الذي يليق بكماله وجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
" وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فكتبه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي""
هذا فيه تفسير للآية السابقة، وهي قوله جل وعلا:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2، ولهذا يورده المفسرون بالمأثور عند هذه الآية.
ولكتابته تبارك وتعالى لهذا الكتاب حِكَمٌ، قد يظهر لنا منها شيء وقد لا يظهر، ومما ذكره أهل العلم من الحكم في ذلك: تعظيم هذا الأمر ومزيد العناية به؛ ففي إعلام العباد بهذا الكتاب من الآثار المباركة الشيء الكثير، فإذا علم العبد أنَّ الرب العظيم كتب ـ عندما قدر إيجاد الخلائق ـ كتاباً، كتب فيه: إنَّ رحمتي غلبت غضبي ووضعه عنده فوق العرش، فلا شك أنَّه سيعظم رجاؤه في الله، ويعظم أمله في نيل رحمة الله، ويقبل في طلبها.
ونحن نؤمن بهذا الكتاب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سواء علمنا الحكمة من هذه الكتابة أو لم نعلمها.
وفي الحديث فوائد أخرى، منها: إثبات علو الله عز وجل على عرشه.
وفيه: إثبات العرش.
وفيه: إثبات هذا الكتاب، وأنه موضوع عنده تعالى فوق العرش.
" إنَّ رحمتي تغلب غضبي " أي أنَّ الرحمة أشمل وأوسع من الغضب،
1 انظر: فتاوى اللجنة الدائمة " 3/196 "
2 الآية 12 من سورة الأنعام.
وفي دعاء الملائكة وحملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} 1. فرحمة الله عز وجل وسعت كلَّ شيء، وآثار رحمته في عباده لا تعد ولا تحصى. وغضبه خص به من عصاه وخالف أمره.
كما أنَّ في هذا الحديث دليلاً على التفاضل بين صفات الله تبارك وتعالى، ومن الأدلة على هذا أيضاً: أنَّ كلام الله عز وجل من صفاته، وكلامه متفاضل، فآية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة الفاتحة أفضل سورة في القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وكلُّه كلام الله عز وجل.
ومن الأدلة ـ أيضاً ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"2.
1 الآية 7 من سورة غافر.
2 أخرجه مسلم " رقم 1090 "