المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الإيمان بالقضاء والقدر] - تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌[الإيمان بالقضاء والقدر]

[الإيمان بالقضاء والقدر]

" وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلاً، فهو سر استأثر به، وعِلمٌ حجبه عن خلقه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} . وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} "

شرع المصنف رحمه الله هنا في الكلام على القدر.

والإيمان ينبني على أصول ستة، لا قيام له إلا عليها، وهي الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقد

ر خيره وشره، وهذه الأصول الستة جاء ذكر أدلتها إجمالاً وتفصيلاً في مواضع كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق ذكر شيء منها.

فلا إيمان لمن لم يؤمن بالقدر، ومن كذب بالقدر فلا إيمان له ولا توحيد، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال:""الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن وكذب بالقدر فهو نقض للتوحيد " 1.

ومما يوضح هذا قول الإمام أحمد:""القدر قدرة الله " 2، فأي توحيد عند من ينكر قدرة الله.

1 رواه عبد الله بن أحمد في السنة " رقم 925"، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1224"

2 منهاج السنة " 3/254 "، وشفاء العليل " ص53 "

ص: 235

رومن لم يؤمن بالقدر لا تقبل أعماله، فلا ينتفع لا بصلاة ولا بصيام ولا بصدقة ولا غير ذلك، قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.

فإيمان العبد ودينه لا يمكن أن ينتظم إلا إذا آمن بأقدار الله جل وعلا، وأنَّ كلَّ شيء بقدر، وأن يؤمن بالقدر كلِّه حلوه ومره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وسيأتي عند المصنف رحمه الله ذكر شيء من الأدلة على هذا.

ثم إنَّ الإيمان بالقدر لا يصح إلا بالإيمان بمراتبه التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي أربعة:

الأولى: الإيمان بعلم الله عز وجل الأزلي المحيط الشامل لما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

الثانية: الإيمان بالكتابة، وأنَّ الله عز وجل كتب مقادير الخلائق، وكلَّ ما هو كائن، وهذه الكتابة تمت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث:""كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة " 2.

الثالثة: الإيمان بالمشيئة، وأنَّ الأمور كلَّها بمشيئة الله، وأنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالملك ملكُ الله، ولا يمكن أن يكون فيه شيء إلا بمشيئته، لا ذرة ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه.

الرابعة: الإيمان بالخلق والإيجاد، وأنَّ الله خلق كلَّ شيء، بما في ذلك أفعال العباد، قال تبارك وتعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال

1 الآية 5 من سورة المائدة.

2 سبق تخريجه.

3 الآية 62 من سورة الزمر.

ص: 236

سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1.

وقد جمع بعض أهل العلم هذه المراتب الأربعة في بيت من الشعر فقال:

علمٌ كتابةُ مولانا مشيئتُه

وخلقُه وهو إيجادٌ وتكوينٌ

فمن لم يؤمن بمراتب القدر الأربعة فليس بمؤمن بالقدر. فلو قال قائل: أنا أؤمن بالعلم والكتابة والإيجاد، ولكن لا أؤمن بالمشيئة. عُدَّ كافراً بالقدر. ولهذا يحسن بمن أراد تعريف الإيمان بالقضاء والقدر أن يذكر هذه المراتب الأربعة.

وللإمام الشافعي أبيات جميلة ذكر فيها القدر وما يتعلق به، وصفها ابن عبد البر رحمه الله بقوله:""ومن شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه " 2، وهي قوله:

ما شئتَ كان وإن لم أشأْ

وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت

وهذا أعنت وذا لم تعن

فمنهم شقي ومنهم سعيد

ومنهم قبيح ومنهم حسن 3.

فقوله: " ما شئتَ " أي: أنت يا الله كان، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. " وإن لم أشأ " أي: وإن لم أشأ أنا أيها العبد ذلك الأمر، " وما شئتُ " أي: أنا أيها العبد إن لم تشأ أنت يا الله لم يكن

1 الآية 96 من سورة الصافات.

2 الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء " ص80 "

3 رواه اللالكائي " رقم 1304 "، والبيهقي في الاعتقاد " ص162 "، وابن عبد البر في الانتقاء " ص80 "

ص: 237

وهذا فيه أن للعبد مشيئة لكنها تبع لمشيئة الله عز وجل، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.

" خلقت العباد على ما علمت " أي: خلقُك يا الله للعباد وإيجادك لهم هو على وفق العلم السابق الأزلي المحيط بكلِّ شيء. " ففي العلم يجري الفتى والمسن " فجري الناس في هذه الحياة وأعمالهم وحركاتهم وسكونهم كله إنما هو على ضوء العلم الأزلي السابق. " على ذا مننت " أي: بالإيمان والطاعة والهداية والاستقامة. " وهذا خذلت " فبقي على ضلاله وغيه وإعراضه وصدوده وكفره ونفاقه. " وهذا أعنت " أي على طاعتك، ووفقته لهداك. " وذا لم تعن " أي: لم تعنه على الطاعة والخير. ولهذا فإنَّ العبد في حاجة إلى عون الله تعالى في كلِّ حركة وسكون، وكلِّ قيام وقعود. " فمنهم شقي ومنهم سعيد " أي: إنَّ الناس على ضوء ذلك قسمان، شقي: وهم الذين كتبت عليهم الشقاوة وعملوا بعمل أهل الشقاوة. وسعيد: وهم الذين كتبت لهم السعادة وعملوا بعمل أهل السعادة. " ومنهم قبيح ومنهم حسن " أيضاً هيئاتهم متباينة ومختلفة، وكلُّ ذلك بقدر.

قال المصنف رحمه الله: " وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره بقضاء الله وقدره " أي: كله بقضاء الله وقدره.

وقد اجتمع في كلامه رحمه الله ذكر القضاء والقدر، وهي من الألفاظ التي يقول عنها أهل العلم: إذا افترقت اجتمعت وإذا اجتمعت افترقت، مثل

1 الآيتان 28، 29 من سورة التكوير.

ص: 238

الإسلام والإيمان، والبر والتقوى، والفقير والمسكين، وغيرها من الألفاظ الشرعية. فإنَّها إذا اجتمعت في الذكر افترقت في المعنى، وإذا افترقت في الذكر اجتمعت في المعنى فينتظم كلُّ منها معنى الآخر. يقول ابن رجب رحمه الله:""إنَّ من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها " 1.

فالقدر إذا ذكر مفرداً انتظم معنى القضاء، وإذا ذكر القضاء مفرداً انتظم معنى القدر، لكن إذا ذكرا معاً كما عند المصنف هنا: فمن أهل العلم من يجعل القدر هو التقدير السابق، والقضاء: هو الإبرام والإيجاد، فيكون القدر أسبق. ومنهم من يرى العكس، فيجعل القضاء هو السابق، والتقدير هو اللاحق 2.

" لا يكون شيء إلا بإرادته " السياق هنا واضح بأنَّ المراد بالإرادة: الإرادة الكونية القدرية، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.

" ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته " أي: إنَّ كلَّ الأمور خيرها وشرها بمشيئة الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

" خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً " أي: استعمله بالسير في طريق أهل السعادة وسلوك مسالكهم فضلاً منه ونعمة، كما قال سبحانه {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ

1 جامع العلوم والحكم " ص27 "

2 انظر: الدرر السنية " 1/315 " فتوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في الفرق بين القضاء والقدر.

3 الآية 82 من سورة يس.

ص: 239

وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ َضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 1.

" وخلق من أراد للشقاء " أي: للكفر والنفاق والضلال.

" واستعمله به عدلاً " لأنَّه سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً.

" فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه " القدر سِرُّ لله تبارك وتعالى استأثر به، ولهذا يجب أن يتنبه المسلم لهذه الكلمة:" القدر سر الله في خلقه "، وهذا مروي عن عدد من السلف 2. ولهذا نهينا عن التعمق فيه والبحث عن سره بالأسئلة الاعتراضية، والخوض في أفعال الله: بـ " لِمَ ": لِمَ فعل كذا؟ ولِمَ لَمْ يفعل كذا؟ ، يقول تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 3، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك عنه فقال:""إذا ذكر القدر فأمسكوا " 4. فعلى المسلم أن يسأل عما ينفعه في دينه، فلا تقل: لمَ فعل الله؟ ولكن قل بم أمر الله؟

أما بحث القدر من خلال الأحاديث والآيات والأدلة، والعناية بهذا الجانب فهو مطلوبٌ مرغَّبٌ فيه، وهو من جملة دين الله الذي أمرنا بفهمه والعناية به:" {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ."

منع سبحانه خلقه وحذرهم من أن يسألوا بـ " لم " في أفعاله، فلا يقال في أفعال الله:" لم "، كما لا يقال في صفاته:"كيف "، والسلف يسمون من يخوض في هذا الباطل: بالمكيفة واللمية كما تقدَّم

1 الآيتان 7،8 من سورة الحجرات.

2 انظر: بيان تلبيس الجهمية " 1/198 "، ومجموع الفتاوى " 8/408 "

3 الآية 23 من سورة الأنبياء.

4 أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده " رقم 742 "، والطبراني في الكبير " 10/198 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 210 "، وأبو نعيم في الحلية " 4/108 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 34 "

ص: 240

وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} تنبيه للمسلم لما ينبغي أن يبحث عنه في هذا الباب؛ فإنَّ كلَّ إنسان سيُسْأَل عما خُلق لأجله ووُجد لتحقيقه، فلن يُسأل عن أفعال الله: لمَ فعل كذا ولمَ لمْ يفعل، بل سيسأل عما قدم في هذه الحياة، فمن الخير له أن ينظر فيما يسأل عنه يوم القيامة فيقيمه، ويأتي به على التمام والكمال.

" قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} " هذا فيه دليل على أنَّ الأمور كلَّها بتقدير الله؛ لأنَّه سبحانه ذرأ لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أي خلقهم وأوجدهم ليكونوا حطباً لجهنم وقدَّر ذلك عليهم.

" وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} " أي: لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين، ولو شاء لجعلهم على مرتبة واحدة في الإيمان، ولكن اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فخلق خلقاً هم للنار، وخلق خلقاً هم للجنة.

وهذا من أوضح ما يبيِّن أنَّ الأمور كلَّها بقدر.

" وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} " يدخل تحت لفظة: " كلَّ " جميع الأشياء: القيام والقعود، والحي والميت، والأخضر واليابس، فكلُّ شيء خلقه الله بقدر.

" وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال:""ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقالوا: يا رسول أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال:

ص: 241

اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له، أمَّا من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآية " "

إيراد المصنف رحمه الله لحديث علي رضي الله عنه هذا عقب تقريره لمسألة القدر دال على دقة علمه وجودة ترتيبه؛ لأنَّه إذا آمن العبد بالقدر بمراتبه الأربعة، واعتقد أنَّ الله علم جميع الأمور في الأزل، وأنَّه كتبها في اللوح المحفوظ، وأنَّها لا يمكن أن تقع إلا بمشيئته، وأنَّها مخلوقة لله تبارك وتعالى بما في ذلك أفعال العباد، فإنَّ ثمة سؤالاً عظيماً يرد على بال كلِّ مؤمن في هذا المقام، ألا وهو: فيم العمل؟ ولماذا يعمل العبد وينشط ويجتهد مادام أنَّ القلم جف بما هو كائن، والمقادير كتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟

هذا سؤال عظيم ومثمر، وطرحه مفيد، ومازال الناس يطرحونه عند سماعهم تقرير مسائل القدر التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، ومن يتأمل في أجوبة الناس عنه يجد تبايناً في الأفهام، وانحرافات في الأفكار والتصورات والتقريرات، حتى إنَّ بعضهم يصل به الحال في هذا المقام إلى أن ينكر أموراً من القدر، بحثاً عن جواب لهذا السؤال.

والمصنف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليجيب به عن هذا السؤال.

فالصحابة رضوان الله عليهم ورد في أذهانهم هذا السؤال، وسألوا عنه غير مرة، سأله غير واحد من الصحابة، وفي كلِّ مرة يجيبهم صلى الله عليه وسلم بكلمة موجزة، لكنها كبيرة الفائدة عظيمة النفع، يجيبهم بقوله:" اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ".

وعندما يتأمل المسلم هذا الجواب العظيم يجده شافياً كافياً وافياً لمن منَّ الله

ص: 242

عز وجل عليه بفهمه والعمل على ضوئه، بل مهما بحث العبد عن جواب لهذا السؤال فلن يجد أشفى ولا أوفى ولا أسد من جواب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وهذا الجواب يقرر أصلين عظيمين وأساسين متينين يقوم عليهما صلاح العبد واستقامة شأنه في هذا الباب.

الأصل الأول: وهو داخل تحت قوله: " اعملوا "، فهذه الكلمة لا توجه إلا لمن له مشيئة، ولمن هو مخير، يستطيع أن يذهب إلى مكان الخير ويستطيع أن يذهب إلى مكان الشر، ويستطيع أن يفعل الخير ويستطيع أن يفعل الشر. فمن ليست عنده مشيئة ـ كالجمادات ـ لا يمكن أن يُخاطب بمثل هذا الخطاب.

فهذه الكلمة دالةٌ على أصل عظيم، وهو أنَّ الإنسان عنده مشيئة، وأنَّه يمكنه أن يختار طريق الخير وطريق الشر، وأنَّه مطلوب منه أن يجدَّ ويسعى في الأعمال الصالحة، وأن يجاهد نفسه على القيام بطاعة الله تبارك وتعالى.

والأصل الثاني: وهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: " فكلُّ ميسر لما خلق له "، فهو دالٌّ على أنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله، وأنَّه لا يمكن أن يكون في الكون شيء لم يشأه الله، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ الناس منهم من خلق للسعادة فييسر لعمل أهل السعادة، ومنهم من خلق للشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة.

وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ المطلوب من كلِّ إنسان يريد لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة أن يعمل ويجاهد نفسه، ويلزمها بالتمسك بطريق الحق إلزاماً، وفي الوقت نفسه يمد يد الضراعة إلى الله عز وجل ملحاً عليه أن يعينه ويسدده ويثبته وأن يجعله من السعداء، وأن يعيذه من طريق أهل الشقاء؛ فإنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله جل وعلا.

ص: 243

وعندما ننظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية نرى هذا الأمر فيها واضحاً جلياً في كلِّ عمل؛ لأنَّ هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على الجد والاجتهاد مع الاستعانة بالله خالق السماوات والأرض. هذه حياته صلى الله عليه وسلم. على حد قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله سبحانه:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:""احرص على ما ينفعك واستعن بالله " 2، وقوله صلى الله عليه وسلم:""اعقلها وتوكل "3.

أصلان متلازمان: بذل من العبد ومجاهدة ومصابرة ومرابطة وسعي بالأعمال الصالحة، وفي الوقت نفسه لجوء إلى الله تعالى واستعانة به وطلب منه واعتماد عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " 4، ويقول:""اللهم اهدني فيمن هديت " 5، ويقول:""اللهم إني أسألك الهدى والسداد " 6، ويقول لمعاذ:""يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كلِّ صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك "7.

1 الآية 123 من سورة هود.

2 أخرجه مسلم " رقم 6716 "

3 أخرجه الترمذي " رقم 2517 " وحسنه الألباني في صحيح الجامع " رقم 1068 "

4 أخرجه الترمذي " 3522 " من حديث أم سلمة وقال: " وفي الباب عن عائشة والنواس بن سمعان وأنس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو ونعيم بن عمار. وقال: هذا حديث حسن ".

5 أخرجه أبو داود " رقم 1425 "، والترمذي " رقم 464 وقال: هذا حديث حسن "، والنسائي " رقم 1745 "، وابن ماجه " رقم 1178 "، وأحمد " 1/199 "، وابن خزيمة " 1095 "، وابن حبان " رقم 722 "

6 أخرجه مسلم " رقم 6850 "

7 أخرجه أبو داود " رقم 1522 "، والنسائي " رقم 1303 "، وأحمد " 5/244 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 7969 "

ص: 244

الأمور كلُّها بقدر وقد كتبت على العبد، فأنت مفتقر إلى الله أن يعيذك من طريق الضلال، وأن يأخذ بناصيتك إلى طريق الهداية وأن يثبتك على الحق، وأن يمن عليك بالتوفيق والهداية والسداد، وأن يجعلك من أهل السعادة أهل الجنة.

أنت مفتقر إلى الله في كلِّ حركة وسكون، مفتقر إلى عفو الله سبحانه وتعالى، فليس أمامك إلا أن تلجأ إلى الله تبارك وتعالى في كلِّ وقت وحين أن يثبتك ويعينك ويسددك وأن يعيذك من طريق الضلال، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس"يموتون "1.

وفي الوقت نفسه لابد أن تبذل الأسباب وتصبر على فعلها وتجاهد نفسك مجاهدة تامة على لزوم طريق الخير، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 3.

فهذا أصل شريف وعظيم، لابد من فهمه، ولا نجاة ـ والله ـ للإنسان في هذه الحياة إلا بفهم هذا الأصل المبارك الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام رضي الله عنهم عليه، وأرشدهم إليه وهو الناصح الأمين.

والصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا هذا الجواب وجدوا فيه الكفاية والشفاء والغنية، ولم يحتاجوا بعده إلى جواب أحد، بل أخذوه مأخذ

1 أخرجه البخاري " رقم 7383 "، ومسلم " رقم 6837 " واللفظ له.

2 الآية 200 من سورة آل عمران.

3 الآية 69 من سورة العنكبوت.

ص: 245

التسليم، وتلقوه بالقبول، واتجهوا إلى تطبيق مدلوله وتحقيق مقصوده، بالبذل والعمل والجد والاجتهاد مع طلب العون من الله تبارك وتعالى.

اقرأ سيرهم وأخبارهم، وانظر نصحهم لأنفسهم في العبادة والطاعة والجد والاجتهاد والإقبال على الله تعالى وأطرهم لأنفسهم وإلزامهم لها"لتسلك طريق الحق وتسير في جادته، وفي الوقت نفسه يلجأون إلى الله عز وجل في كلِّ وقت وحين، يسألونه الثبات والهداية والرشاد، هكذا كانت حياتهم وحياة من اتبعهم بإحسان.

ولما وُجد من ضل في هذا الباب، ووُجِد من صار عنده جرأة على الاعتراض على أقدار الرب العظيم، والانتقاد لأفعاله، وطرح الأسئلة الاعتراضية على قدره تبارك وتعالى، تغيرت الحال عما كان عليه السلف، فجمع هؤلاء بين الانحراف في العقيدة والانحراف في العمل والعبادة.

وقد ضلت في هذا الباب طائفتان:

1ـ طائفة أنكرت القدر وجحدته، وقالوا: لا قدر، والأمر أنف. وهؤلاء يسمون عند أهل العلم: بالقدرية النفاة؛ لأنهم ينفون القدر، ويقولون: لم يقدِّر الله تبارك وتعالى أفعال العباد ولم يخلقها، وإنما الذي قدرها وخلقها الإنسان نفسه.

ويصفهم أهل العلم بمجوس هذه الأمة؛ لأنَّ اعتقادهم هذا يتضمن تقرير وجود خالقين: الله الخالق للإنسان، والإنسان الخالق لفعل نفسه.

2ـ ويقابل هؤلاء طائفة أخرى، يقولون: ليس للإنسان قدرة ولا مشيئة، فهو ـ عندهم ـ مسلوب الإرادة والمشيئة، والله عز وجل خالق لفعله وهو الفاعل الحقيقي؛ لأنَّ الإنسان ليس له مشيئة في أفعال نفسه، بل هو مجبور

ص: 246

عليها، ويصفون حاله بأنَّه كالورقة في مهب الريح. وهؤلاء يسميهم أهل العلم: القدرية المجبرة.

ولو قارنا بين هاتين العقيدتين وبين جواب النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له " لأدركنا ما لدى كلِّ طائفة من انحراف في هذا الباب. فلو كان الإنسان كالورقة في مهب الريح، هل يصح أن يقال له: اعمل؟!! من ليس له مشيئة لا يخاطب بمثل هذا الخطاب. ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا" رد على القدرية المجبرة، كما قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 1 أي: طريق الخير وطريق الشر، وكيف يؤمر بالطاعة وينهى عن فعل الحرام مَنْ لا مشيئة له ولا إرادة.

وإذا نظرت إلى عقيدة القدرية النفاة، وهي مبنية على إنكار القدر، وأنَّ الله عز وجل لا علاقة لمشيئته وقدرته بأفعال العباد، تجد الرد عليهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" فكلٌّ ميسر لما خلق له " أي أنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله وتوفيقه، فأهل السعادة ييسرهم لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرهم لعمل أهل الشقاوة.

وعليه ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكل ميسر لما خُلق له " رد على الطائفتين، وفيه تقرير للمعتقد الحق والقول الصواب: قول أهل السنة والجماعة: أن للإنسان مشيئة وإرادة واختياراً، ولكن مشيئته تبع لمشيئة الله جل وعلا.

" كنا في جنازة في بقيع الغرقد " سمي بقيع الغرقد لأنَّه كان فيه شجر ذو شوك يسمى شجر الغرقد.

" فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة " المخصرة: عود صغير كان بيده صلى الله عليه وسلم.

1 الآية 10 من سورة البلد.

ص: 247

" فنكس " أي: أنزل رأسه إلى جهة الأرض قليلاً.

" وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر: أنَّ الأمور كلَّها بقدر الله، قدَّر كلَّ شيء، وجف القلم بما هو كائن

والصحابة لما سمعوا هذا البيان " قالوا: يا رسول أفلا نتكل على كتابنا؟ " أي: أفلا نعطل الأعمال ونتكل على الكتاب المكتوب في اللوح المحفوظ، ولهذا جاء في روايات أخرى:" أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ " 1، وفي رواية:" فلمَ نعمل؟ "2.

فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب المبارك: " فقال: اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له " أي: مع إيمانكم بما قُضي وقُدر وكُتب اعملوا واجتهدوا في العمل، وفي الوقت نفسه الجأوا إلى الله واعتمدوا عليه واسألوه الإعانة والسداد والهداية والرشاد.

والناس في هذا قسمان: سعداء وأشقياء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة " أي: من كتب الله له السعادة فيما قدَّره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ فإنَّه سبحانه ييسر له العمل بعمل أهل السعادة وسلوك سبيلهم.

" وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاء " أي: من كتب الله له الشقاوة فيما قدَّره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ فإنه ييسر لعمل أهل الشقاء

1 أخرجه البخاري " رقم 4948 "، ومسلم " رقم 6673 "

2 أخرجه مسلم " رقم 6675 "

ص: 248

" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} " لاحظ دلالة هذه الآيات على تقرير هذا الأصل، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} هذا جانب العبد: عمل وبذل وتصديق،:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وهذا من الرب تعالى جده.

" وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ـ:""إنَّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " "

هذا الحديث مشهور بحديث: الصادق المصدوق؛ لأنَّه لما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه تحديث النبي صلى الله عليه وسلم لهم به ذكر صفته، فقال:" حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق " فهو صلى الله عليه وسلم الصادق في قوله وفيما يبلغه عن ربه. والمصدوق: أي المؤيد من الله عز وجل بما ينزله عليه من وحي السماء.

وذكرُ ابن مسعود رضي الله عنه لهذا الوصف في مقام ذكر القدر والكتابة فيه فائدة؛ لأنَّ من يأتي فيما بعد ويكون عنده ارتياب عليه أن ينظر إلى ما جاء في هذا الحديث على أنَّه لم يأت من أيِّ إنسان، وإنَّما جاء عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كان المحدِّثُ صادقاً مصدوقاً فما بال الإنسان يتردد؟ وما الموجب للشك وعدم القبول؟

ص: 249

ومع هذه اللفتة الكريمة من ابن مسعود رضي الله عنه، ومع علم المسلمين قاطبة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إلا أنَّ القدرية النفاة ردوا هذا الحديث؛ لأنَّه يناقض أصلهم الفاسد في نفي القدر، وبالغوا مبالغة شديدة شنيعة في رده، حتى إنَّه لما ذكر لعمرو بن عبيد ـ رئيس المعتزلة ـ قال:""لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته أو قال: لما أحببته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا " 1. فانظر إلى هذه الوقاحة الشنيعة من رؤوس البدع تجاه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر ليس غريباً على صاحب الهوى عندما يظلم فؤاده بالهوى ويكتنفه الضلال ويحتوشه الباطل.

" إنَّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك " هذا فيه مراحل تكون الجنين في رحم الأم، وأنَّه أولاً يكون نطفة وهي قطرة المني التي تستقر في رحم الأنثى. ثم تتحول إلى علقة، وهي القطعة الصغيرة من الدم. ثم تتحول إلى مضغة، وهي قطعة صغيرة من اللحم. ثم تبدأ تتفتق منها الأعضاء، وهذا حال جميع الناس، فتبارك الله أحسن الخالقين.

" ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات " هذه الكلمات الأربعة يكتبها الملك لكلِّ جنين في هذه المرحلة من تكوينه في رحم أمه.

" يكتب رزقه " وهو كلُّ ما سيطعمه ويشربه ويتغذى به في هذه الحياة إلى أن يموت.

1 انظر: تاريخ الإسلام " وفيات 141 ـ 160 "" ص238 ـ239 "

ص: 250

" وأجله " أي: متى يموت.

" وعمله " أي: الأعمال التي سيقوم بها من إيمان وصلاة وصيام وحج، أو كفر وضلال وزيغ وإعراض وفواحش.

" وشقي أو سعيد " أي: هل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة.

وهذا تقدير خاص بكلِّ إنسان، ويسميه أهل العلم: التقدير العمري، أي: التقدير المتعلق بعمر كلِّ إنسان فيما يخصه ويعنيه.

وعلى ضوء النصوص، يقول العلماء: أنواع التقدير أربعة:

1ـ تقدير عام: وهو الذي جاء في نصوص كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:""كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة " 1.

2ـ تقدير عمري: وهو المتعلق بعمر كلِّ إنسان، ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا.

3ـ التقدير السنوي: الذي يكون في ليلة القدر، كما قال الله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} 2 أي: يقدَّر في هذه الليلة كلُّ ما هو كائن إلى ليلة القدر التي تليها، ولهذا لما سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم:""أرأيت إن علمت أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني " 3 فما أجمل ملازمة العبد لهذه الدعوة في تلك الليلة العظيمة التي يكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر الأخرى.

4ـ التقدير اليومي: الذي دل عليه قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 4.

1 سبق تخريجه.

2 الآية 4 من سورة الدخان.

3 أخرجه الترمذي " رقم 3513 وقال: هذا حديث حسن صحيح "، والنسائي في السنن الكبرى " رقم 10708"، وابن ماجه " رقم 3850 "، وأحمد "6/171"، والحاكم " 1/712 وقال: صحيح على شرط الشيخين "

4 الآية 29 من سورة الرحمن.

ص: 251

وهذه التقديرات الثلاثة العمري والسنوي واليومي كلُّها داخلة تحت التقدير العام، وليست خارجة عنه، فهي تقدير بعد تقدير.

" فو الذي لا إله غيره " يحلف بالله العظيم.

" إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " فمن وُفِّق للطاعة وأُعِين على العبادة، يحتاج أن يسأل الله تبارك وتعالى أن يثبته عليها إلى الممات. قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1.

فعلى العبد الذي وُفِّق للعمل أن يصلح سريرته ما بينه وبين الله، بأن يكون منكسراً متذللاً خاضعاً لجنابه، طالباً عونه وتوفيقه وتسديده، وليحذر من العجب ورؤية العمل؛ فإنَّ من أسباب سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ فساد الباطن وسوء السريرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " 2.

وقد جاءت رواية توضح هذا المعنى، وأنَّ خذلان الله للعبد إنما يكون لسوء سريرته، فعن سهل بن سعد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة ـ فيما يبدو للناس ـ وهو من أهل النار، وإنَّ الرجل ليعمل عمل أهل النار ـ فيما يبدو للناس ـ وهو من أهل الجنة " 3.

ولذا قال ابن القيم رحمه الله:""وأمَّا كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإنَّ هذا عمل أهل الجنة

1 الآية 27 من سورة إبراهيم.

2 أخرجه مسلم " رقم 6844 "

3 أخرجه البخاري " رقم 4202 "، ومسلم " رقم 6683 "

ص: 252

فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله "1.

قال عبد الحق الإشبيلي:""واعلم أنَّ سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمِع بهذا ولا عُلِم به والحمد لله، وإنما تكون لمن له فساد في العقد أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم " 2.

" وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " أي حياته كلُّها على الكفر، ثم يشرح الله عز وجل صدره للإيمان في آخر حياته فيكون من أهل الجنة. ومن أمثلة هذا ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:""خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنَّ هذا الراكب إياكم يريد. فانتهى الرجل إلينا فسلم فرددنا عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي. قال: فأين تريد؟ قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أصبته. قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان. قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: قد أقررت. قال: ثم إنَّ بعيره دخلت يده في شبكة جِرذان فهوي بعيره وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بالرجل. قال: فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة فأقعداه، فقالا: يا رسول الله قبض الرجل. قال: فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهما

1 الفوائد " ص 213 "

2 الجواب الكافي لابن القيم " ص198 "

ص: 253

رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنَّه مات جائعاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من الذين قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، قال: ثم قال: دونكم أخاكم " 2. وفي رواية:""هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً "3.

" وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن وغيرهما من الأئمة:""أنَّ جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنتُ؟ قال: نعم """

ختم المصنف رحمه الله الأحاديث التي أوردها ليستدل بها على الإيمان بالقدر بطرف من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث جبريل؛ لأنَّ جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل وطرح عليه أسئلة، وفي كلِّ مرة بعد أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت. فعجب الصحابة من ذلك وقالوا: عجبنا له يسأله ويصدِّقه.

وللحديث قصة، يرويها يحيى بن يعمر قال:""كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر. فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد،

1 الآية 82 من سورة الأنعام.

2 أخرجه أحمد " 4/359 " قال الهيثمي في المجمع " 1/41 ": " في إسناده أبو جناب وهو مدلس، وقد عنعنه " لكن للحديث طرق يتقوى بها.

3 المصدر السابق.

ص: 254

فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم ـ وذكر من شأنهم ـ وأنهم يزعمون أن لا قدر وأنَّ الأمر أنف. فقال: فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم براء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنَّ لأحدهم ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي: عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقتَ

" الحديث 1.

وساقه ابن عمر رضي الله عنه لأجل هذه الجملة " وأن تؤمن بالقدر خير وشره " فهو دال على أنَّ الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان وأصل من أصول الدين، وأنَّه لا إيمان لأحد إلا بالإيمان بالقدر، وأنَّ من لم يؤمن بالقدر فلن يقبل الله عز وجل منه صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا فرضاً ولا نفلاً.

والكلام حول حديث جبريل والمعاني المستفادة منه يطول جداً، لكن أشير.

1 أخرجه مسلم " رقم 93 "

ص: 255

إلى فائدة جليلة أخذها أهل العلم من هذا، ألا وهي: أنَّ الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً حمل الإسلام على الأعمال الظاهرة، والإيمان على الاعتقادات الباطنة. وإذا ذُكِر كلُّ واحد منهما مفرداً تناول الآخر. ولهذا جاء في حديث وفد عبد القيس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس " 1، ففسر لهم الإيمان بالأعمال الظاهرة، وهو شاهد على دخول الأعمال في مسمى الإيمان.

ولما ختم المصنف رحمه الله ذكر الأدلة على القدر، قال:" وفيه من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال "

" وفيه " أي: القدر.

" من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال " يعني أنَّ أحاديثه كثيرة جداً، وأهل العلم الذين كتبوا في القدر أوردوا كثيراً من هذه الأحاديث، مثل الإمامين البخاري ومسلم في كتاب القدر من صحيحيهما، وكذلك أصحاب السنن، وغيرهم من أهل العلم، بل من أهل العلم من أفرده بالتصنيف، كالفريابي في كتاب " القدر "، وابن وهب في كتابه " القدر وما ورد في ذلك من الآثار "، وابن القيم في كتابه العظيم " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ".

1 أخرجه البخاري " رقم 53 "، ومسلم " رقم 116 "

ص: 256