الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[القرآن كلام الله]
" والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، وإنما سمعه من التالي. وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} . وهو محفوظ في الصدور، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} "
ثم بدأ المصنف رحمه الله في الكلام على القرآن على وجه الخصوص، وأنَّه كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، تكلم به الرب العظيم حقيقة، وسمعه منه جبريل، ونزل به جبريل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، ثم سمعه الناس بعضهم من بعض، فاتصل إسنادهم في سماعه إلى الصحابة إلى النبي الكريم إلى جبريل إلى الله، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، وقال سبحانه:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، و" مِنْ " في هذه الآية للابتداء أي: هو سبحانه الذي تكلم به: تكلم بسورة الفاتحة والبقرة وآل عمران وجميع سور القرآن، هو الذي تكلم به، ومنه بدأ
وأما من تأثروا ببدع المتكلمين وأهل الباطل ممن يعطون إجازات في القرآن فيوقفون الإسناد إلى اللوح المحفوظ، حتى يسلموا من إضافة الكلام إلى الله
1 الآيات 192 ـ 195 من سورة الشعراء.
2 الآية 2 من سورة السجدة.
عز وجل، فالقرآن عندهم إنما هو عبارة عن كلام الله، يقول بعضهم: خلقه الله في اللوح المحفوظ، وأخذه جبريل من اللوح المحفوظ مباشرة.
" والقرآن كلام الله عز وجل " المضافات إلى الله تعالى على نوعين:
1ـ أوصاف لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بموصوف، مثل سمع الله وبصر الله وعلم الله وكلام الله ومشيئة الله، فإضافتها إلى الله إضافة وصف.
2ـ أعيان قائمة بنفسها، مثل بيت الله وعبد الله وأمة الله وناقة الله، فإضافتها إلى الله إضافة خلق.
ولأهل البدع تلبيس في هذا الموضع فيقول بعضهم: يصح أن يضاف الكلام إلى الله، لكن إضافته إليه إضافة خلق، فيقولون في نحو قول الله تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 القول من الله خلقاً وإيجاداً، فيجعلونه كقول الله تبارك وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2. وهذا تلبيس منهم؛ لأنهم جعلوا الأوصاف المضافة إلى الله كالأعيان المضافة إليه وليس الباب واحداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"كلُّ ما يضاف إلى الله إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله"3.
فقول المصنف هنا: " القرآن كلام الله " الإضافة إضافة وصف.
" ووحيه وتنزيله " أي: أنزله على النبي صلى الله عليه وسلم وحياً، وفي إيماننا بأنَّ القرآن نزل من الله دلالة على علوه سبحانه؛ لأنَّ النزول إنما يكون من علو، ولهذا تذكر هذه الآيات التي فيها نزول القرآن من الله ضمن أدلة العلو.
" والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} " فالمشرك الذي أجير حتى يسمع كلام الله إنما سمعه من
1 الآية 13 من سورة السجدة.
2 الآية 13 من سورة الجاثية.
3 مجموع الفتاوى " 9/290 "
التالي، ومع ذلك لم يخرج عن كونه كلام الله. فالآية شاهد واضح على أنَّ كلام الله أينما توجه يبقى كلامه سبحانه وتعالى. قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان:"أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته"1. أي: سواء تلي بالألسن، أو حفظ في الصدور، أو كتب في السطور، أو سمع بالآذان؛ لأنَّ الكلام ينسب لمن قاله ابتداء لا لمن نقله أداء. ولهذا يقول السلف في مثل هذا المقام: الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري.
ولهذا قال المصنف مؤكداً على هذا المعنى: " وإنما سمعه من التالي " أي مع سماعه من التالي لا يخرج عن كونه كلام الله.
" وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} " فكلام الله الذي يريدون تبديله كلام مكتوب، فحال كتابته سمي كلام الله.
" وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} " ففي الآية دلالة على أنَّه كلام منزل، تكلم الله به فوق عرشه في علوه، وسمعه منه جبريل ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
" وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} " وإنَّه أي: القرآن، والروح الأمين: هو جبريل، وإنما سمي بالروح لأنَّه ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب. ولهذا فإنَّ الوحي كذلك يسمى روحاً، كما قال تعالى:{ينزل الملائكة بالروح من أمره} 2، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 3.
1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " 1/76 "
2 الآية 2 من سورة النحل.
3 الآية 52 من سورة الشورى.
فجبريل الروح الأمين نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بلَّغه للأمة.
" وهو محفوظ في الصدور، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} " أي: وهو في هذه الحالة ـ حال حفظه في الصدور ـ أيضاً هو كلام الله.
" وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله""
وفي هذا أيضاً تأكيد للمعنى السابق، وهو أن القرآن أينما توجه فهو كلام الله.
" استذكروا القرآن " أي: تعاهدوه وراجعوه.
" تفصياً " أي: تفلتاً.
" من عقله " العقل جمع عقال، وأهل الإبل يستعملون العقل لوضعها في ركب البعير إذا بُرِّك وأريد أن يبقى في مكانه، فإذا أراد أن يقوم منعه العقال من ذلك. لكن في كلِّ مرة يحاول البعير أن يقوم ينسحب العقال إلى الأمام شيئاً فشيئاً حتى يسقط فيقوم البعير. فعلى صاحب الإبل أن يتعاهد هذه العقل فما أوشك على السقوط منها أدخله مرة أخرى.
فانظر إلى جمال هذا المثال الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لتعاهد القرآن، ولما خاطب الصحابة خاطبهم بشيء يعقلونه، فهم يعرفون حاجة راعي الإبل إلى مثل هذا التعاهد.
وفي هذا الحديث أهمية ضرب الأمثال في التعليم، فكثيراً ما تضرب الأمثال في القرآن والسنة، وفي القرآن كما يقول ابن القيم أكثر من أربعين مثلاً 1،
1 انظر: مقدمة النونية.
ولبعض المتقدمين كتب خاصة في أحاديث الأمثال، منها: كتاب الأمثال للرامهرمزي.
فالشاهد من الحديث: أنَّ القرآن حال حفظه في الصدور يبقى كلام الله.
" وهو مكتوب في المصاحف منظور بالأعين "
المؤلف رحمه الله يؤكد على المعنى الذي أشرت إليه، ألا وهو أنَّ القرآن أينما توجه فهو كلام الله. فمر معنا: إن تلي بالألسن فهو كلام الله، وإن سمع بالآذان فهو كلام الله، وإن كتب فهو كلام الله، وإن حفظ في الصدور فهو أيضاً كلام الله. وهنا يبين أنه إن رئي بالأعين أو كتب في المصاحف والأوراق فهو كلام الله. كما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنَّه قال:"يتوجه العبد لله تعالى بالقرآن بخمسة أوجه، وهو فيها غير مخلوق: حفظ بقلب، وتلاوة بلسان، وسمع بآذان، ونظر ببصر، وخط بيد. فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق، والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق، والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق"1.
ثم أورد المصنف رحمه الله بعض الأدلة على أنَّ القرآن وإن كُتب في المصاحف أو نُظر إليه بالأعين فهو كلام الله، فقال:
" قال الله عز وجل: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} أي: وهو في هذه الحالة ـ مكتوباً في كتاب ـ أيضاً لا يخرج عن كونه كلام الله عز وجل.
1 معارج القبول " 1/290 "
" وقال عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} "
وأيضاً كونه كتب في الكتاب المكنون لا يخرجه عن كونه كلام الله.
" وروى عبد الله بن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو "
وفي هذا تعظيم كلام الله وإبعاده عن أن يمتهن أو أن يسيء إليه أحد، ولهذا نهي عن أن يسافر به إلى أرض العدو.
" وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله عز وجل"يعني القراءة في المصحف "
وفي هذا عناية السلف رحمهم الله بالقرآن، واهتمامهم بقراءته، وحرصهم على ألا يمر عليهم يوم إلا وقد شغلوه بتلاوة كلام الله سبحانه.
وفيه أنَّ النظر إلى المصحف بالأعين لا يخرجه عن كونه كلام الله، نظرنا إليه بالأعين أو تلوناه أو كتبناه أو حفظناه، فأينما توجه فهو كلام الله تعالى.
وفيه أهمية قراءة القرآن من المصحف حتى للحافظ؛ لأنه يقرأ ويتدبر وينظر إلى كلام الله جل وعلا، فيجمع في تلاوته بين القراءة باللسان والنظر إلى كلام الله جل وعلا بالعين.
" وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه على وجهه، فيقول: كتاب ربي عز وجل وكلام ربي عز وجل "
الشاهد في هذا قول عكرمة رضي الله عنه عن هذا المكتوب: كتاب ربي، وكلام ربي. وهذا فيه أنَّ القرآن وإن كتب فهو كلام الله.
فإذا آمن العبد بأنَّ هذا القرآن الموجود في المصاحف المتلو بالألسن هو كلام
الرب العظيم، وأنَّه هو سبحانه الذي تكلم به، لا شك أنَّه سيزداد"رعاية للقرآن واهتماماً به ومعرفة لحرمته ومكانته، والمصنف رحمه الله لما أورد حديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو قصد هذا المعنى، فلكلام الله الذي تكلم به حرمة خاصة، فلا يُذهب به إلى أرض العدو كي لا يمتهن.
وعلى العكس من ذلك، إذا اعتقد الشخص أنه ليس كلام الله وإنما هو مخلوق من مخلوقات الله شأنه كشأن بقية المخلوقات، فلا ريب أنَّ هذا الاعتقاد سيوجد في قلب صاحبه إضعافاً لمكانة القرآن ولابد، ولهذا يؤثر عن بعض أئمة هذه البدعة كالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأضرابهم الشيء الكثير من الامتهان للمصحف والاستخفاف به ورميه 1.
" وأجمع أئمة السلف والمقتدى بهم من الخلف على أنَّه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر "
مضت كلمة الصحابة رضوان الله عليهم على الإيمان بأنَّ القرآن كلام الله، وأنَّه سبحانه هو الذي تكلم به. وليس عند أحد منهم إلا هذه العقيدة. فكان يكفي في الاعتقاد أن يقول القائل: القرآن كلام الله.
ثم ظهرت بدعة الجهمية، وجحد الجعد بن درهم أن يكون الله كلَّم موسى تكليماً، أو أن يكون اتخذ إبراهيم خليلاً، ونشر بدعته هذه بين الناس. ثم نشأت المعتزلة فلبَّسوا على الناس وقالوا: يصح أن يضاف الكلام إلى الله، لكن إضافته إضافة خلق، فيقال كلام الله مثل ما يقال ناقة الله أو بيت الله أو عبد الله. فأصبح ـ مع وجود هذه البدع ـ لا يكفي في المعتقد أن يقول القائل: أنا أؤمن بأنَّ القرآن كلام الله. بل لا بد من التنصيص على كلمة: " غير
1 انظر: خلق أفعال العباد للبخاري " رقم 70 "، والسنة لعبد الله بن أحمد " رقم 190 "، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام " 8/425 "
مخلوق " لتحرير المعتقد الحق وتمييزه عن بدعة المعتزلة ومن ماثلهم. ولهذا أجمع أئمة السلف ـ كما حكاه الحافظ عبد الغني هنا، وحكاه غيره كذلك ـ على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق،"ومن قال مخلوق فهو كافر.
ومن أكثر من توسع في نقل كلام السلف في هذا الباب اللالكائي في شرح الاعتقاد، حيث ذكر خمسمائة نفس من أئمة السلف يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم قال:"فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأمصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل أقوال المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكنني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار ونقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه"1.
وإليه يشير ابن القيم في النونية بقوله:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
…
بل حكاه قبله الطبراني
فاللالكائي لم يستقص، ومع ذلك جاء بهذا العدد الكبير، وهذا يفيدنا أن كلمة غير مخلوق باتت جزءً من المعتقد لابد منها لقطع الطريق على شبهة أولئك أو بدعتهم.
" وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود "
1 شرح الاعتقاد " 2/ 312 "
هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وكذلك عدة آثار عن الصحابة ـ روى جملة منها اللالكائي في شرح الاعتقاد ـ فيها التنصيص على أن القرآن غير مخلوق، لكن لم يثبت منها شيء، ولم يكن في زمانهم حاجة إلى التنصيص على هذه الكلمة، لكن لما ظهرت بدعة الجهمية ونشأت مقالتهم احتاج الناس إلى هذه الكلمة، وباتت جزءً من المعتقد كما أسلفت.
ولهذه الكلمة نظائر في باب المعتقد، فمنها كلمة:" بائن من خلقه " فقد أصبحت جزءً من المعتقد، والسبب في ذلك أنه وُجِد من يقول أنا مؤمن بأنَّ الله مستو على عرشه ولكن الاستواء هو الاستيلاء، فاحتاج السلف رحمهم الله إلى هذه الكلمة لرد بدعة هؤلاء، فمن لم يؤمن بأن الله بائن من خلقه لم يؤمن بأنَّ الله على عرشه، ومعنى بائن من خلقه: أي ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
" وقال عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود "
وهذه الكلمة تنقل عن السلف رحمهم الله بكثرة، بل إنها محل إجماع بينهم، ودلائلها في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة.
" منه بدأ " أي أنه هو سبحانه الذي تكلم به ابتداءً، ومن سواه ـ كجبريل والرسول صلى الله عليه وسلم وحملة القرآن من الأمة ـ إنما هم نقلة له، وسمعه منه جبريل عليه السلام وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة.
والسلف رحمهم الله لما قالوا: " منه بدأ " أرادوا إبطال قول المعتزلة وغيرهم ممن ينكرون أنَّ القرآن كلام الله عز وجل، ويزعمون أنَّ الله عز وجل خلق الكلام في اللوح المحفوظ أو خلقه في جسم من الأجسام، وأخذه جبريل منه. وهذا معناه أنَّ القرآن بدأ من اللوح أو من ذلك الجسم، وهو ضلال
وباطل، ردَّه السلف بقولهم:" منه بدأ " أي: من الله.
" وإليه يعود " أي: القرآن يعود إلى الله، وقد ذكر أهل العلم في المراد بهذا معنيين:
أحدهما: ما دلت عليه بعض النصوص من أنَّ القرآن في آخر الزمان يرفع من المصاحف ومن الصدور، عندما يضيعه الناس ولا يهتمون به ولا يعطونه حقه وقدره، فيرفع إلى الله عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله":"وأما " إليه يعود " فإنه يُسْرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف"1.
والثاني: أن المراد بـ " إليه يعود " أي: وصفاً، فـ " منه بدأ " يعني هو الذي تكلم به ابتداءً، و" إليه يعود " أي: وصفاً فهو الموصوف به، وهو كلامه.
" ورُوي عن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون:"القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود". رواه محمد بن جرير بن يزيد الفقيه وهبة الله بن الحسن ابن منصور الحافظ الطبريان في كتاب السنة لهما. وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة وابن عباس وابن عمر "
" أدركت مشايخنا " عمرو بن دينار أدرك بعض الصحابة وكبار التابعين، فلما يقول أدركت مشايخنا، فهذا بمثابة حكاية إجماع ذلك العصر، أي: إن من أدركهم ورآهم يقولون هذه المقالة، ولهذا علق إسحاق بن راهويه عقب هذا الأثر بقوله:"قد أدرك عمرو بن دينار أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدريين والمهاجرين والأنصار، مثل: جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وأجلة التابعين
1 مجموع الفتاوى " 3/ 174 ـ 175 "
وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة"1.
ويكفينا في هذا أنَّ هذه الكلمة مشهورة ومتداولة تداولاً واسعاً بين السلف، يتناقلونها ويقررونها في مجالسهم وكتبهم، شائعة ذائعة عنهم.
" منذ سبعين سنة " هذا يفيد الامتداد الزمني للسماع، ففي هذه المدة الطويلة الكل ماضون على هذه الكلمة، وهذا يؤكد أنها كلمة مضى عليها السلف.
" رواه محمد بن جرير بن يزيد الفقيه " هذا الطبري إمام المفسرين صاحب جامع البيان في تأويل القرآن.
" وهبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ " المشهور في زماننا باللالكائي، صاحب كتاب " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ".
" في كتاب السنة لهما " السنة لابن جرير مطبوع باسم " صريح السنة " وفيه هذا الأثر، ويقال عنه: السنة.
والسنة لللالكائي مطبوع واسمه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم " وعادة أهل العلم في الكتب التي تكون عناوينها طويلة أنهم يختصرونها بما يدل على مضمونها.
" وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة وابن عباس وابن عمر " أي أن عمرو بن دينار تابعي جليل أدرك جمعاً من الصحابة، وهذا فيه تنويه بقوله:" أدركت مشايخنا " وأنَّ فيهم جمعاً من الصحابة.
" واحتج أحمد على ذلك بأنَّ الله كلَّم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى. وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} "
1 رواه البيهقي في السنن الكبرى " 10/205 "، وفي الأسماء والصفات " 1/598 "
" واحتج أحمد " أي: إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله، وله في هذه المسألة بلاء حسن، وجهد مبارك في تقرير الحق وإبطال الباطل، وامتحن في ذلك وابتلي ابتلاء عظيماً، والله عز وجل أيد به الحق ونصره.
" على ذلك " أي: على ما قرره أهل العلم من أنَّ كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ. احتج على هذا بأدلة، منها:
" بأنَّ الله كلم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى " يشير رحمه الله إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنها تدل على أنَّ الله موصوف بالكلام، وأنَّ موسى سمع كلام الله من الله.
والجهمية الضُّلَاّل يقولون: إنَّ موسى سمع الكلام من الشجرة، وأنَّ الله خلق الكلام في الشجرة. إذاً ما معنى موسى كليم الله، بل أصبح ـ بزعمهم ـ كليم الشجرة!! ، وأي منقبة خُصَّ بها إذا كان إنما سمع الكلام من الشجرة؟! وهل يمكن أن تقول الشجرة لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1، هل يمكن أن يصدر هذا الكلام من غير الله؟! ولهذا قال السلف: من قال: إن قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قالته الشجرة أو جبريل فهو كافر.
" وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} " مني أي: منه بدأ، تكلم به هو سبحانه وتعالى.
والقول وصف لا يقوم بنفسه، بل لا يقوم إلا بموصوف. وما يقال فيه:" من الله " هو على نوعين:
1ـ أعيان قائمة بنفسها، مثل قوله تعالى:{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2، فما في السماوات وما في الأرض أعيان
1 الآية 14 من سورة طه.
2 الآية 13 من سورة الجاثية.
قائمة بنفسها، فهي من الله خلقاً.
2ـ أوصاف لا تقوم بنفسها، كقوله تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ، القول ليس عيناً قائمة بنفسها، وإنما هو وصف لا يقوم إلا بموصوف، فهو منه تبارك وتعالى وصفاً.
وبهذا يظهر وجه استشهاد السلف بهذه الآية على أنَّ القول من الله عز وجل وصف له، وأنه منه بدأ.
وقد ضل في هذا الباب طائفتان:
1 ـ طائفة تجعل الجميع من الله وصفاً، وهم ضلال المتصوفة وغلاتهم، فكل ما في الكون من الله أي: جزء منه سبحانه، فالكون كلُّه هو الله، وما ثم إلا هو. وهذا قول من يقول بوحدة الوجود.
2ـ وطائفة أخرى تجعل الجميع من الله خلقاً، وهم المعنزلة ومن لف لفهم.
" وروى الترمذي من رواية خباب بن الأرت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه"يعني القرآن "
هذا الحديث ليس موجوداً عند الترمذي، بل هو موجود عند البخاري في خلق أفعال العباد 1 والآجري في الشريعة 2 وغيرهما عن خباب بن الأرت موقوفاً عليه، وجاء في سنن الترمذي 3 من رواية أبي أمامة وجبير ابن مطعم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
" مما خرج منه " هذا شاهد لمقالة السلف رحمهم الله: " منه بدأ "، فهو سبحانه الذي تكلم به ابتداءً وليس غيره جل وعلا.
1 " ص13 "
2 " ص77 "
3 " رقم 2911، 2912 " وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي " رقم 3090، 3091 "
ثم بنى رحمه الله على ما سبق قوله:
" ونعتقد أنَّ الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عينُ كلام الله عز وجل، لا حكاية ولا عبارة "
قول المصنف رحمه الله: إنَّ الحروف المكتوبة عين كلام الله كلام واضح، فالقرآن الذي هو كلام الله مكون من سور، والسور مكونة من كلمات، وهذه الكلمات مكونة من أحرف. وعندما يقال: القرآن كلام الله أي بحروفه وكلماته وسوره وآياته، فالحروف المكتوبة في القرآن هي عين كلام الله، وأمَّا الحبر والمداد الذي كتبت به فإنَّه مخلوق، وقد دلت السنة وآثار السلف رحمهم الله على أنَّ القرآن مكون من أحرف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"1.
وهذا الذي لأجله أتى المصنف رحمه الله بالحروف المقطعة ـ كما تسمى بذلك عند عامة المفسرين ـ ليبين أنَّ الحروف المكتوبة في المصحف هي عين كلام الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تكلم بها لا غيره، ولا تخرج بكتابتها بالحبر والمداد عن كونها من كلام الله، فالقرآن أينما توجَّه فهو كلام الله، سواء كُتب في السطور، أو حُفظ في الصدور، أو تُلي بالألسن، وقد مضت الأدلة على ذلك.
أما قوله: " والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل " فهذا محل نظر؛ لأنَّه إن أريد بالأصوات صوت القارئ فهو مخلوق باتفاق السلف، ولهذا يقولون: الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري
فالمقرؤ المتلو كلام الله غير مخلوق، لكن الصوت وحركة لسان العبد
1 سبق تخريجه.
ومخارج صوته كلها مخلوقة، وأفعال العباد مخلوقة. وهذا يقال أيضاً في الرق والحبر والمداد فهذه كلها مخلوقة، لكن المكتوب فيها وبها غير مخلوق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"زينوا القرآن بأصواتكم"1 فنسب صلى الله عليه وسلم الصوت للقارئ، أما المسموع"فكلام الله.
فإن قيل الأصوات المسموعة ـ بهذا الاعتبار ـ عين كلام الله يكون في هذا الكلام نظر. لكن لو قال: " والكلمات المسموعة عين كلام الله " لم يبق إشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فإنَّ أصوات العباد محدثة بلا شك، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ. فإنَّ جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه
…
وأما التلاوة في نفسها التي هي حروف القرآن وألفاظه فهي غير مخلوقة، والعبد إنَّما يقرأ كلام الله بصوته"2.
على أنَّ هذه العبارة " والأصوات المسموعة " ليست موجودة في بعض نسخ الكتاب، فلعلها من اجتهاد بعض النساخ، والأمر يحتاج إلى تحقيق والله أعلم.
والذي دفع كاتب هذه الكلمة إلى كتابتها ـ سواء كان المصنف أو الناسخ ـ أنَّ المتكلمين يقولون في عقائدهم: كلام الله ليس بحرف ولا صوت. ويبنون ذلك على لوازم سيأتي نقضها عند المصنف رحمه الله؛ لأنهم يقولون:
1 أخرجه أبو داود " رقم 1468 "، والنسائي " رقم 1015 "، وابن ماجه " رقم 1342 "، وأحمد " 4/283 "، والدارمي " 2/556 "، وابن خزيمة " رقم 1551، 1556 "، وابن حبان " رقم 749 "، والحاكم " 1/761 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 771 "
2 مجموع الفتاوى " 12/573 ـ 574 "، وانظر: درء التعارض " 2/38 ـ 40 "
الحروف والأصوات يلزم منها وجود الحنجرة والمخارج واللهاة والأضراس، وإذا أثبتنا الحرف والصوت في كلام الله لزم التشبيه.
فأراد المصنف ـ أو الناسخ ـ الرد على هذا الباطل، فقال:" الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله " أي: ليس كما يدعيه هؤلاء من أنَّ كلام الله ليس بحرف ولا صوت.
لكن كما سبق فإنَّ الحروف المكتوبة هي عين كلام الله، أما الأصوات المسموعة ففيها تفصيل، فجبريل سمعه من الله بصوت الله سبحانه وتعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل بصوت جبريل. فالصوت المسموع الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم هو صوت جبريل، والكلام المتلو المقرؤ هو كلام الله. وأيضاً الصحابة لما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم سمعوه بصوته صلى الله عليه وسلم. ونحن عندما نسمعه من القراء نسمعه بأصواتهم ولهذا نقول: صوت فلان جميل بالقرآن. ويعجبني صوت فلان، ولا يعجبني صوت فلان. ولا أحد يقول: لا يعجبني القرآن؛ فهذا كفر باتفاق العلماء. وكذلك قول الله جل وعلا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1 أي: إذا قرأه عليك جبريل، فالكلام الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل هو كلام الله لكن الصوت صوت جبريل.
فنحن نرد هذا الباطل بأن نقول: الحروف والأصوات التي سمعها جبريل من الله هي كلام الله وصوت الله، وهذا فيه إثبات أنَّ الله تكلم بالقرآن بصوت سمعه منه جبريل.
" لا حكاية ولا عبارة " يردُّ المصنف رحمه الله هنا على الكلابية ومن تأثر بهم من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، ممن يجعلون القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله. وكلا القولين باطل وضلال، بل القرآن عين كلامه، وهو الذي تكلم به سبحانه وتعالى.
1 الآية 18 من سورة القيامة.
أما الحكاية، فمحاكة الشيء: أن يؤتى له بمثيل، يقال: حاكى فلان فلاناً أي أتى بشيء يماثل فعله. ولا يمكن لأحد أن يحاكي القرآن أو أن يأتي بمثيل له، قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 1.
والقول بأنَّه عبارة عن كلام الله أيضاً باطل؛ إذ العبارة هي التعبير عما في نفس الغير، فمثلاً: رجل لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه من كلام لخرس أو غيره، يشير إشارات يفهمها بعض من يراه، فيتكلم بكلام يبين به مقصود هذا الأخرس بإشارته، فيسمى هذا الكلام عبارة عن كلام فلان.
فالقرآن على مذهب هؤلاء ليس كلام الله بل هو عبارة عنه، بعضهم يقول عبَّر به جبريل، وبعضهم يقول عبر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من أباطيلهم.
ففي كلام المصنف رحمه الله هنا: إشارة إلى بدعة الكلابية ومن تأثر بهم من الأشاعرة والماتريدية في تقسيمهم الكلام إلى قسمين: كلام نفسي وكلام لفظي. وقد خالفوا بهذا التقسيم الناس جميعاً؛ فقد تناظر ابن كلاب مع بعض المعتزلة فقالوا له: القرآن ليس كلام الله؛ لأن الكلام مكون من حروف وأصوات، فإذا وصفنا الله بالكلام لزمنا إثبات الحنجرة واللهاة واللسان وغير ذلك، وهذا يلزم منه التشبيه بزعمهم. فأراد ابن كلاب أن يوفق بين الآيات المثبتة للكلام لله وبين الشبهة التي أوردها عليه هؤلاء من إلزامه بالمخارج واللهاة، فأتى ببدعة لم يسبق إليها لا من العقلاء ولا من المجانين: وهي بدعة الكلام النفسي، وهو معنى واحد قائم بنفس الموصوف ليس بحرف ولا صوت، وهو الأمر والنهي والخبر والاستفهام، فجعل ما قام بالنفس ولم يتكلم به صاحبه كلاماً. وقال: إن الله عز وجل موصوف بالكلام النفسي دون اللفظي 2.
1 الآية 88 من سورة الإسراء.
2 انظر: مختصر الصواعق " 2/290 ـ 291 "
بالإيمان هذه العمارة جدَّت الجوارح واجتهدت عملاً وطاعة وتقرباً إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ألا وهي القلب " 1.
أما المحسن فأعلى من هؤلاء، إذ الإحسان: الإتقان والإجادة، فالمحسن هو الذي أتقن في تحقيق الدين وأجاد في تتميم العبادة والطاعة لرب العالمين حتى بلغ به الحال أنْ يعبد الله كأنَّه يراه. وهذه رتبة عالية رفيعة لا يصل إليها كلُّ أحد كما قال تعالى:{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} 2.
فهذه مراتب الدين، وقد جاء نظيرها في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 3.
ومن لا يفرق بين الإسلام والإيمان يحتج بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 فإنَّ المعنيين في الآية أهلُ بيت واحد وقد ذكروا مرة بالإيمان ومرة بالإسلام.
والجواب على هذا أن التنويع في الوصف في الآية قد جاء للفرق بين حالين: حال الإخراج وحال الوجود، فلما ذُكر الموجودون ذكروا بصفة الإسلام على اعتبار العمل الظاهر، ولما ذُكر المخرجون ذكروا بصفة الإيمان؛ لأنَّ الموجودين فيهم من عمله الظاهر عمل أهل الإسلام لكنه ليس منهم، كامرأة لوط، ولهذا لم تكن من المخرجين، مع أنها من الموجودين.
1 أخرجه البخاري " رقم 52 "، ومسلم " رقم 4070 "
2 الآيتان 13، 14 من سورة الواقعة.
3 الآية 32 من سورة فاطر.
4 الآيتان 35، 36 من سورة الذاريات.
وقال للرسول: أخبرهم أنني لا آتي، ولكن أبلغهم أنَّ كلامهم باطل من وجوه: أولاً ثانياً وأخذ يعدد أوجه الرد عليهم، فقال الرسول: لا أحسن نقل ذلك، ولكن اكتب هذا الكلام، فكتب لهم وهو في السجن تسعين وجهاً وسلمها إليه. يقول شيخ الإسلام: وبلغني أنهم كتبوا إلي ورقة ثم مزقوها وكتبوا بدلها أخرى وأرسلوها إليَّ، ولما أرسلوها إليه نقدها من وجوه كثيرة 1.
ثم شرع المصنف رحمه الله في ذكر بعض الأدلة على أنَّ الحروف المكتوبة هي كلام الله عز وجل، فقال:
" قال الله عز وجل: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً} . وقال: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} . وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} وقال: {المر} . وقال {كهيعص} . {حم عسق} "
هذه كلها كلام الله، وهي حروف مقطعة: ألف، لام، ميم، كاف، هاء، ياء، عين، صاد. فهذا صريح الدلالة على"بطلان قول من أنكر أن يكون كلام الله بحرف.
ثم قال ـ بعد ذكره هذه الأدلة ـ:
" فمن لم يقل إنَّ هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين، وخرج عن جملة المسلمين، ومن أنكر أن يكون حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان "
يشير المصنف رحمه الله إلى أن الذين يرد عليهم بين أمرين:
إما أن يقولوا: إن هذه ـ ألف، لام، ميم، كاف، هاء، ياء، عين، صاد ـ ليست حروفاً ويكونوا بذلك قد كابروا العيان وأتوا بالبهتان؛ لأنَّ كلَّ
1 انظر حكاية شيخ الإسلام لقصته معهم في الفتاوى الكبرى " 5/3 وما بعدها "
أحد يدرك أنَّها حروف، فلو سألت صغار الأطفال لقالوا: هذه حروف.
أو يقولوا: إنها ليست كلام الله، ويخرجوا بهذا من الدين؛ لأنهم جحدوا شيئاً من كلام الله وهو هذه الحروف المقطعة.
" وروى الترمذي من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من قرأ حرفاً من كتاب الله عز وجل فله عشر حسنات" قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ورواه غيره من الأئمة وفيه:"أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف""
هذا الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد فيها ضعف، لكن بعض أهل العلم قواه بمجموع طرقه 1.
وفيه دلالة واضحة على ما سبق من أنَّ القرآن مكون من أحرف، وأنَّ هذه الأحرف من كلام الله.
" وروى يعلى بن مَمْلَك عن أم سلمة "أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً" رواه أبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو عيسى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب "
" يعلى بن مَمْلَك " على وزن جعفر.
" نعتت " أي: وصفت، وهذا فيه أنَّ النعت يطلق ويقصد به الوصف، خلافاً لمن قال بالتفريق بينهما، وأنَّ النعت ما كان خاصاً بعضو، والصفة للعموم.
" قراءة مفسرة " فأم سلمة رضي الله عنها وصفت قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها مفسرة، أي: قراءة مرتلة فيها ترسل وتتبع للمعاني والدلالات. فمن يقرأ ويقف عند أماكن الوقوف المناسبة كأنه فسَّر لك الآية ووضح معناها.
1 وقد صححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 6469 "
الشاهد من الحديث: أنَّ القرآن مكون من أحرف، وهو كلام الله عز وجل، فكلام الله بأحرف، لا كما يقول أهل الضلال: إنَّه بلا حرف ولا صوت.
" وروى سهل بن سعد الساعدي قال: بينا نحن نقترئ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرءوا القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يتجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه"رواه أبو بكر الآجري وأئمة غيره "
هذا الحديث إسناده ضعيف، لكن له شاهد عند أبي داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه يتقوى به، ولهذا أورده الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلته الصحيحة 1.
" نقترئ " أي: يقرئ بعضنا بعضاً القرآن الكريم.
" الحمد لله " يحمد الله على كلامه العظيم سبحانه، ويحمده سبحانه على اجتماع الصحابة رضوان الله عليهم على تلاوة القرآن والعناية بمراجعته واستذكاره وتدبر معانيه ودلالاته.
" كتاب الله واحد " المقصود بكتاب الله: القرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الكتاب واحداً فما هناك موجب للاختلاف؛ لأنَّ الكلَّ يرجعون إلى هذا الكتاب الواحد ويجتمعون عليه. فلا يمكن أن تجتمع أمة الإسلام إلا على القرآن والسنة، وهذا معنى قوله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 2.
1 " رقم 259 "
2 الآية 103 من سورة آل عمران.
" وفيكم الأحمر والأسود " هذا يوضحه ما جاء في رواية أخرى للحديث: " فيكم العربي والعجمي "، فالناس أصناف والكتاب واحد، والمطلوب من الجميع أن يرجعوا إلى هذا الكتاب الواحد.
" اقرءوا القرآن " أي: قراءة بتدبر وتفهم وعمل بما يدل عليه. وعلى هذا مضى الصحابة ومن تبعهم بإحسان. وهذا معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} 1؛ لأن تلاوة القرآن حق التلاوة تتضمن هذه الأمور الثلاثة: القراءة، والفهم، والعمل. ومعنى تلا فلان فلاناً أي: تبعه.
" قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه " أي: يجودون ألفاظه ويحسنون في ترتيله وتجويده وضبط مخارجه.
" كما يقام السهم " أي: في دقة متناهية وضبط متقن.
" لا يتجاوز تراقيهم " أي: حناجرهم، فحظهم من القرآن تزيين الحنجرة به، وضبط الأحرف والمخارج. أما التعقل والتفهم والعمل فلا يقيمون لها وزناً، كما سيأتي قول الحسن:"إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً. وقد أسقطه ـ والله ـ كلَّه، لا يرى عليه القرآن لا في خلق ولا عمل". ولهذا قد يوجد في بعض من يوصف بأنَّه من القراء ممن يعتنون بالترتيل والتجويد من لا يقيم للعمل به وزناً، وترى بعضهم متهاوناً في الصلاة. حتى إنَّ أحد هؤلاء افتتح مرة أغنية لإحدى المغنيات بآيات من القرآن الكريم والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وللحسن البصري كلمة أخرى جميلة في هذا المعنى، قال:"أُنزِل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً"2. وليس هذا تهويناً من الترتيل
1 الآية 121من سورة البقرة.
2 مجموع الفتاوى " 25/170 "، ومفتاح دار السعادة " 1/187 "
والتجويد، فهو مطلوب بحدود ما دلت عليه السنة وعمل السلف رحمهم الله، لكن المقصود عدم الانشغال به عن إقامة حدود القرآن وتدبر معانيه والعمل بما يقتضيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيانه لحال صاحب القرآن الذي ينال بالقرآن رفيع الدرجات وعالي المنازل:"فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قبله وإلا ردَّه، وإن لم يشهد له بقبول ولا ردٍّ وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه. ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك؛ فإنَّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه
…
1.
" يتعجلون أجره " أي: يريدون أجره في الدنيا.
" ولا يتأجلونه " أي: لا يتأجلون أجره ثواباً عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وإنما يريدون أجرهم على التلاوة في الدنيا، ولهذا بعضهم يمتهن نفسه، فيأتي في المآتم ونحوها يرتزق بالقرآن ويتساوم معهم في ذلك. قال أبو داود:"سمعت أحمد سئل عن إمام قال لقوم: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهماً. قال: أسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا"2.
أمَّا أن يصلي الرجل بالناس ويُعطى الجعل الذي خصصه الوالي أو إمام المسلمين فهذا لا حرج فيه.
1 مجموع الفتاوى " 16/50 "
2 مسائل الإمام أحمد لأبي داود " ص63 "
" رواه أبو بكر الآجري " في كتاب: " أخلاق حملة القرآن "، وهو مطبوع، أنصح بقراءته والعناية به، فهو فريد في بابه.
الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " يقيمون حروفه "، وفي هذا إثبات الأحرف لكلام الله عز وجل.
" ورُويَ عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا:"إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه""
" وروي " هذه صيغة تمريض، وإسناد هذا الأثر ضعيف، لم يثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
" إعراب القرآن " الإعراب في اللغة هو الإفصاح عن الشيء والإبانة، تقول: أعرب عن الشيء أبان عنه وأفصح، ومعنى إعراب القرآن: فهمه وتدبره، وتعقل معانيه، ومعرفة دلالاته، والعمل بمقتضاه.
" أحب إلينا من حفظ بعض حروفه " لأنَّ حفظ الحروف بدون تعقل لا يحقق مقصد القرآن؛ لأنَّه إنما أنزل ليعمل به، فإذا حفظ الحروف ولم يفهم ولم يعمل به لم يحقق المقصود.
والأكمل: أن تُحفظ الأحرفُ، وتفهم المعاني، ويعمل بالدلالات، وهي تلاوة القرآن حق تلاوته كما أشرنا إليه سابقاً.
" وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده قال:"سئل علي رضي الله عنه عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال: لا، ولا حرفاً""
هنا فائدة لطيفة، وهي تنوع مصادر المصنف رحمه الله في هذا الكتاب، فينقل من أخلاق حملة القرآن، ومن فضائل القرآن، ومن السنن، ومن صريح السنة، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة التي أخذ منها رحمه الله.
الشاهد هو قوله: " ولا حرفاً " أي: ولا حرفاً من القرآن، وفي هذا دلالة
على أنَّ القرآن مكون من أحرف، خلافاً لمن يقول: إن كلام الله ليس بحرف.
" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كفر بحرف منه ـ يعني القرآن ـ فقد كفر به أجمع "
القرآن كلُّه كلام الله، والإيمان ببعضه يقتضي الإيمان بباقيه، والكفر ببعضه كفر بباقيه؛ لأنَّه كلَّه كلام الله عز وجل، قال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 1.
أما إن كان عن اشتباه أو التباس أو نحو ذلك فتزال الشبهة وتبين، لكن من حيث الحكم: من كفر بحرف من كلام الله فهو كافر بالقرآن.
" وقال ـ أيضاً ـ: من حلف بسورة البقرة فعليه بكلِّ حرف يمين "
الشاهد: قوله " بكلِّ حرف " أي أنَّ سورة البقرة التي هي سورة من سور القرآن مكونة من أحرف، فمن حلف بسورة البقرة فعليه بكلِّ حرف يمين.
لكن هذه المسألة تحتاج إلى نظر: من حلف بالقرآن هل عليه بكل حرف كفارة، أم أنها كفارة واحدة.
" وقال طلحة بن مصرف: قرأ رجل على معاذ بن جبل فترك واواً فقال: لقد تركت حرفاً أعظم من جبل أحد "
الشاهد: قوله: " لقد تركت حرفاً " ألا وهو الواو، ففيه أنَّ القرآن مكون من أحرف.
" أعظم من جبل أحد " وفي هذا مكانة أحرف القرآن، وعظم شأنها عند السلف رحمهم الله.
" وقال الحسن البصري في كلام له: قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وما تدبرُ آياته إلا اتباعه، أما والله ما هو بحفظ
1 الآية 85 من سورة البقرة.
حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كلَّه فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه والله كلَّه "
" في كلام له " أي أنَّه لم يذكر كلامه كاملاً، وإنما اجتزأ منه ما ذكر.
": {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} " الآية الكريمة فيها توضيح للغاية من إنزال القرآن، وهي أن تُتَدبَّر آياته وتفهم وتعقل ويعمل بمقتضاها، ويوضح الحسن البصري رحمه الله هذا المعنى فيقول:
" وما تدبرُ آياته إلا اتباعه " أي: أن يُفهم المعنى ويُعمل به.
" أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده " أي: ليس تدبر آيات القرآن بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. وشاهد هذا حديث سهل بن سعد الذي أورده المصنف سابقاً.
" حتى إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كلَّه فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه والله كلَّه " بقية كلامه:"فلا يرى فيه القرآن لا في خلق ولا عمل". أي: ليست أخلاقه أخلاق القرآن ولا أعماله أعمال القرآن.
هذا قاله الحسن رحمه الله وهو يتحدث عن نوع من القراء سمع بهم أو رآهم في عصره: عصر"التابعين، فما عسى أن يقال في أهل زماننا.
والشاهد من هذا الأثر: قوله: " ما هو بحفظ حروفه " ففيه إثبات الحرف لكلام الله تعالى.
" وقال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أومن بهذه اللام فقد كفر "
" من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن " هذا نظير ما سبق في أثر ابن مسعود رضي الله عنه.
" ومن قال: لا أومن بهذه اللام فقد كفر " في بعض المصادر: " بهذا
الكلام " يعني إن جحد حرفاً أو جحد كلاماً من القرآن فإنَّه يكفر بذلك.
والشاهد: قوله: " بحرف من القرآن ".
" وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يحشر الناس يوم القيامة ـ وأشار بيده إلى الشام ـ عراة غرلاً بُهماً. قال: قلت: ما بُهْماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقُصُّه منه. قالوا: وكيف، وإنما نأتي الله عراة غرلاً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات" رواه أحمد وجماعة من الأئمة "
لمَّا فرغ المصنف رحمه الله من ذكر جملة من الأدلة الدالة على أنَّ كلام الله بحرف، شرع في إيراد الأدلة على أنَّ كلام الله بصوت، وبدأها بحديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه. وهو صريح في أنَّ كلام الله بصوت؛ لأنَّه قال:" فيناديهم بصوت "، وقوله:" يناديهم " وحده دال على ثبوت الصوت في كلام الله عز وجل؛ لأنَّ النداء لا يكون إلا بصوت.
وفي القرآن الكريم أدلة كثيرة على أنَّ كلام الله بصوت، وذلك من خلال الآيات التي فيها إثبات النداء، وهي كما قال أهل العلم تزيد على عشر آيات، كقوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 1، ونظائرها من الآيات. فذكر الصوت في هذا الحديث إنما هو للتأكيد، وإلا فقوله صلى الله عليه وسلم:" فيناديهم " دالٌّ على ثبوت الصوت في كلام الله تعالى.
" يحشر الناس يوم القيامة " الحشر هو الجمع والإخراج، فيجمعون في مكان واحد على الصفة: المذكورة في هذا الحديث: عراة غرلاً بهماً. واستدل
1 الآية 65 من سورة القصص.
بعض أهل العلم على هذا المعنى بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 1 فأول ما يخرج الإنسان يخرج وليس عليه لباس، وليس مختتناً، وليس عليه نعال، فتكون حالة الناس في أرض المحشر كما هي حالتهم عند خروجهم للحياة أول مرة.
" قال: قلت: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء " أي من أموال الدنيا وما يمتلكونه فيها، فلا يبقى مع الإنسان إلا عمله الذي قدمه في هذه الحياة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله"2.
" يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " وهذا خاص بكلام الله عز وجل، وفيه دلالة على أنَّ كلام الله عز وجل لا يشبه كلام المخلوقين؛ فإنَّ كلام المخلوق يسمعه القريب، ثم يضعف الصوت حتى ينقطع عن البعيدين عنه، بحسب قوة أصوات الناس وضعفها.
وفي الحديث دليل على أنَّ الناس يتفاوتون في قربهم من الله في أرض المحشر، وأنهم ليسوا في القرب منه سواء، بل منهم القريب ومنهم البعيد، ومع ذلك فإنهم جميعاً يسمعون صوته سبحانه الذي يناديهم به.
" أنا الملك " الذي له ملكوت كلِّ شيء، فله ملك السماوات والأرض والإنس والجن وجميع المخلوقات.
" أنا الديان " الذي يجازي العباد ويحاسبهم على أعمالهم التي قدموها. ومنه قوله تعالى: {مالك يوم الدين} أي: يوم الجزاء والحساب.
" لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه
1 الآية 104 من سورة الأنبياء.
2 أخرجه البخاري " رقم 6514 "، ومسلم " رقم 7350 " وللحافظ ابن رجب رحمه الله جزء لطيف في شرح هذا الحديث.
بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقُصُّه منه " قائل هذا هو الرب العظيم.
فيقتص لأهل الجنة من أهل النار، ولأهل النار من أهل الجنة، يقتص سبحانه للمظلوم من ظالمه.
" قالوا: وكيف، وإنما نأتي الله عراة غرلاً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات " قد جاء بيان هذا القصاص في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طرح في النار"1، فالمظالم التي تكون من العبد في الدنيا لا تذهب ولا تضيع ـ وإن نسيها ـ، فإذا قدم على الله عز وجل وجدها كلَّها محضرة، فيقتص للمظلوم من الظالم، فيؤخذ من حسنات الظالم، حتى إذا فنيت حسناته بسبب كثرة مظالمه، يؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الظلم ثلاثة: فظلم لا يتركه الله، وظلم يُغفر، وظلم لا يُغفر، فأما الظلم الذي لا يغفر: فالشرك، لا يغفره الله. وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه. وأما الذي لا يُترك فقَصُّ الله بعضَهم من بعض"2."
بل من كمال عدل الرب عز وجل أنَّه يقتص للبهائم بعضها من بعض،
1 أخرجه مسلم " رقم 6522 "
2 أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده " رقم 2223 " وسنده ضعيف، لكن حسَّنه الألباني رحمه الله في الصحيحة " رقم 1972 " لوجود شاهد له من حديث عائشة رضي الله عنها.
فعلى العاقل أن يتقي الله ويحاسب نفسه ويحذر من الظلم كثيره وقليله، وألا يتيح لنفسه استمراء الظلم وإن قل؛ فإنَّ النفس إذا عُوِّدت على الشيء تنامى فيها وازداد. كما ينبغي للعبد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لأنَّ الشيطان يأتي إلى الإنسان ويُلبِّس عليه فيجعله يظلم ويعتدي ويوهمه أن فعله هذا نوع من العدل والحق.
فأسأل الله عز وجل أن يعيذني وإياكم من الظلم، وأن يسلمنا منه، وأن يوفقنا للتوبة النصوح إنَّه سميع مجيب.
" رواه أحمد وجماعة من الأئمة " هذا الحديث له قصة، وفيه ذكر رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه لسماع هذا الحديث منه، وقد أورده الإمام البخاري معلقاً في صحيحه في موضعين، فجزم به في موضع بقوله:" ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد " 1، وذكره في موضع آخر بصيغة التمريض، فقال:"" ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان " 2، وهذه الصيغة يستعملها أهل العلم ـ في الغالب ـ إشارة إلى التضعيف، لكن الإمام البخاري قد يستعمل هذه الصيغة في بعض الأحاديث الصحيحة عندما يختصرها. قال الحافظ ابن حجر:"صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح على ما سنبينه، فأمَّا ما هو صحيح فلم نجد فيه ما هو على
1 الصحيح " 1/208 مع الفتح "
2 الصحيح " 13/461 مع الفتح "
شرطه إلا مواضع يسيرة جداً، ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى"1.
ثم رجع الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فقال:"نظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأنَّ الإسناد حسن وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به؛ لأنَّ لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت"2.
فأبى ابن حجر الاحتجاج بهذه اللفظة مع تصريحه بحسن إسنادها ووجود ما يعضدها، وهذا ـ بلا شك ـ ليس مبنياً على طريقة المحدثين في النقد، وإنما هو مبني على مناهج المتكلمين الذين لا يثبتون الصوت لكلام الله سبحانه لحاجته بزعمهم إلى التأويل.
وهذه اللفظة " بصوت " لم ينفرد بها هذا الحديث، بل في صحيح البخاري وغيره أحاديث كثيرة فيها إثبات الصوت، بل في القرآن آيات كثيرة فيها إثبات النداء لله، والنداء لا يكون إلا بصوت كما سبق بيانه. والحديث ثابت، إسناده حسن كما قال ابن حجر، وله ما يعضده، وقد حسنه أهل العلم 3، بل منهم من صححه بمجموع طرقه 4.
1 هدي الساري " ص20 "، وانظر أيضاً: الفتح " 1/111 "، " 2/46، 205 "، " 13/460 "، والتقييد والإيضاح للعراقي " ص39 "، والفوائد المنتقاة من كتاب فتح الباري وكتب أخرى للوالد " ص 64 "
2 فتح الباري " 1/209 "
3 ممن حسنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب " 4/202 "
4 قال الشيخ الألباني رحمه الله في ظلال الجنة " رقم 514 ": " ومن هذا التخريج يتبين للبصير أن الحديث صحيح بمجموع طرقه الثلاثة ".
" وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان، فيخرون سجداً "وذكر الحديث "
الشاهد من الحديث: قوله: " سمع صوته " وفيه إثبات الصوت في كلام الرب العظيم سبحانه وتعالى.
" كجر السلسلة على الصفوان " الصفوان: الحجر، فأهل السماء وهم الملائكة يسمعون هذا الصوت كجر السلسلة على الصفوان، والتشبيه هنا للسماع بالسماع لا للمسموع بالمسموع. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنكم سترون ربكم كما ترون القمر"فالتشبيه هناك للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي كما سبق.
" وذكر الحديث " أي إنَّه اختصره، وفي الحديث ذكر قوله تبارك وتعالى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1.
وقد أبطلت هذه الآية الشرك بترتيب بديع عجيب، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2، يقول أهل العلم ـ على ضوء دلالة هذه الآية ـ: من يصلح أن يُعبد لابد أن تكون فيه إحدى صفات أربع:
1ـ فإما أن يكون مالكاً، فإذا كان ثمة مخلوق عنده ملك استقلالي بدون تمليك الله له فإنَّه يستحق أن يعبد، فنفت الآية ذلك بقوله سبحانه وتعالى:{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} .
1 الآية 23 من سورة سبأ.
2 الآيتان 22، 23 من سورة سبأ.
2ـ فإن لم يكن مالكاً، فهناك احتمال دونه، إن وجد فإنَّه يستحق أن يعبد، وهو أن يكون شريكاً للمالك في ملكه، وقد نفت الآية هذا الاحتمال أيضاً بقوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} .
3ـ فإن لم يكن مالكاً ولا شريكاً للمالك، فثمة احتمال ثالث، إن وجد فإنه يستحق أن يعبد، وهو أن يكون ظهيراً للمالك ومعيناً، فنفت الآية ذلك أيضاً بقوله تعالى:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} .
4ـ ويبقى احتمال رابع، وهو أن يملك الشفاعة الابتدائية عند المالك بدون إذنه، فنفته الآية بقوله:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . ثم ذكر مثالاً لحال الملائكة الذين هم أشد المخلوقات وأقواها، فبين حالهم مع الله، فإنَّهم مع عظم قوتهم وشدتهم وجسامتهم وقدرتهم ـ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إنَّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" 1 ـ"فهذه المخلوقات العظيمة إذا تكلم الله بالوحي خرت صعقة، فهي لا تملك شيئاً لنفسها ولا لغيرها، فكيف تدعى من دون الله. ولهذا قال الله عز وجل في ختام الآية:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي: الذي يستحق أن يعبد هو العلي الكبير.
بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من ذكر النصوص والأدلة التي فيها إثبات الحرف والصوت في كلام الله، ختم هذه الصفة بإيراد شبهة أهل الكلام التي لأجلها أنكروا الحرف والصوت في كلام الله، فقال:
" وقول القائل: بأنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج: باطل ومحال "
1 أخرجه أبو داود " رقم 4727 "، وقال الذهبي في العلو " ص58 ":" إسناده صحيح "، وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 151 "
" وقول القائل ": أي من المعتزلة ومن تأثر بهم من الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
" بأنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج " شبهتهم في إنكار الحرف والصوت في كلام الله هي أنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج، نظروا إلى ما يشاهدونه من المخلوقات، ثم وضعوا قاعدة ردوا بموجبها جميع الآيات والأحاديث المثبتة للحرف والصوت في كلام الله، فلم يعارضوها إلا لما قام في أنفسهم من التشبيه، حيث قاسوا الخالق على المخلوق، ثم نزهوا الخالق عن هذا التشبيه فعطلوا صفته سبحانه.
وقد أَوْدتْ هذه القاعدة بالمعتزلة إلى جحد كلام الله بالكلية، وأفضت بالكلابية إلى نفي الحرف والصوت. وامتن الله على أهل السنة فأثبتوا الكلام لله عز وجل بحرف وصوت كما دلت عليه النصوص، بدون تشبيه لكلام الباري بكلام خلقه سبحانه.
" باطل ومحال " أي: إنَّ القاعدة التي أقاموا عليها باطلهم باطلة في أصلها، أحالتها النصوص؛ لأنَّ اللازم الذي ذكروه لا يلزم في حق كثير من المخلوقات فضلاً عن الخالق العظيم، فقد دلت النصوص الكثيرة على أن مخلوقات تكلمت وستتكلم وليس لها مخارج.
ثم شرع المصنف رحمه الله بذكر هذه الأدلة فقال:
" قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . وكذلك قال عز وجل إخباراً عن السماء والأرض أنهما ـ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كلمه الذراع المسمومة. وصح أنَّه سلم عليه الحجر. وسلمت عليه الشجرة "
" قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} " في هذه الآية بيان سعة جهنم وأنها تستوعب كلَّ ما يلقى فيها، وهذا أبلغ ما يكون في وصف سعة النار، يذكر أنَّ رجلاً جمع مجموعة من الأدباء وطلب منهم المبالغة في وصف سعة جهنم، فبذل كل منهم ما استطاع من المبالغة في بيان سعتها، كلٌّ بما تجود به قريحته، فلما انتهوا قال: ما رأيكم في قول الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 1. فذهلوا وأذعنوا لهذا الوصف الباهر، فمهما يلقى فيها تستوعبه وتطلب الزيادة، وقد وعدها الله بملئها فقال سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 2، ومِنْ شأنها أنها يلقى فيها حتى يكتمل أهل النار الذين هم أهلها وهي تطلب المزيد، ولا تكتفي حتى يضع الجبار عليها قدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد. حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة" 3.
بهذا يتحقق وعد الله لها بالامتلاء، أما الجنة فقد اقتضت حكمته سبحانه أن ينشئ لها خلقاًَ يدخلونها فتمتلئ؛ فهي دار فضله، والله عز وجل يتفضل بها على من يشاء.
والشاهد من الآية: قول النار: " هل من مزيد " فهي تنطق به، فأين اللازم الذي ذكروه من لزوم المخارج، فالنار تتكلم وليس لها شيء من ذلك.
" وكذلك قال عز وجل إخباراً عن السماء والأرض أنهما: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} " فالقول هنا بلسان المقال، تقوله السماء والأرض حقيقة.
1 الآية 30 من سورة ق.
2 الآية 13 من سورة السجدة.
3 أخرجه البخاري " رقم 7384 "، ومسلم " رقم 7108 " واللفظ له.
" فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات " فإنَّ السماوات والأرض والنار معروفة، ليس لها ما يدعيه هؤلاء من المخارج.
" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كلمه الذراع المسمومة " ذراع الشاة التي كان فيها السم كلمته، وليس لها تلك المخارج.
" وصح أنَّه سلم عليه الحجر " يقول صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن"1. والحجر معروف ليس فيه مخارج ولا لهاة ولا لسان فأين اللازم؟!
" وسلمت عليه الشجرة " وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وإذا بطل اللازم بطل الملزوم
1 أخرجه مسلم " رقم 5898 "