الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
فصل في فضل الاتباع
"
يجب على كلِّ مسلم أن يدرك فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ السعادة إنَّما تنال باتباعه والسير على نهجه صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث الله الرسل إلا ليُتَّبعوا ولتقتفى آثارهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1.
وفضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المتقررة والأصول المتأكدة، فلا دين إلا بالاتباع، ولا سعادة ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا به. وما كان الناس بحاجة إلى أن تعقد الفصول وتؤلف المؤلفات في بيان فضل اتباعه، ولكن لمَّا عمت في الناس الأهواء وكثرت البدع والآراء وفشت الضلالات احتاج أهل العلم إلى تأليف الكتب وعقد الفصول وكتابة الرسائل وجمع الأدلة في بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الأهواء وأهلها حتى تستبين الجادة وتتضح الطريق، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 2.
فالباطل إذا وُجد في الناس وانتشر يجب أن يحذر منه، وأيضاً إذا ضعف الحق والتمسك به ينبغي أن ينشر بين الناس فضله. وإذا نظرت في كثير من مجتمعاتنا اليوم ترى أنَّهم يحتاجون إلى هذه الأصول، يحتاجون إلى أن تذكر لهم الأحاديث والأدلة الدالة على فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا عرفوا فضل ذلك، بُين لهم كيف يكون الإنسان متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم سائراً على نهجه مقتفياً لآثاره.
وإذا قيل: ما علاقة الاتباع بالاعتقاد؟ يقال: لا صحة للاعتقاد إلا إذا كان مبنياً على الاتباع، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3 أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. فلا يقبل من الناس أي اعتقاد أو عمل إلا إذا كان مبنياً على الاتباع. ولهذا فالاتباع
1 الآية 64 من سورة النساء.
2 الآية 55 من سورة الأنعام.
3 الآية 1 من سورة الحجرات.
هو أصل أصول الإيمان، وإنما تبنى أصول الإيمان على الاتباع وعلى العلم الصحيح المتلقى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول:""من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول"صلى الله عليه وسلم "1.
ويقول ابن أبي العز الحنفي:""كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " 2.
ولهذا ترى عامة المصنفين من أهل السنة أول ما يبدءون المعتقد يبدءونه بالحث على الاتباع والتمسك بالكتاب والسنة؛ لأنَّ هذا هو الركيزة والأساس الذي يبنى عليه المعتقد، فإن لم يبن على هذه الركيزة لا يكون صحيحاً ولا مقبولاً. وهذا تأصيل مبارك ينبغي أن يغرس في قلب كلِّ مسلم.
وقد أورد رحمه الله تحت هذا الفصل أحاديث بدأها بحديث جابر ابن عبد الله فقال:
" روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:""كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله تعالى ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار. ثم يقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين. وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنَّه منذر جيش، صبَّحكم ومسَّاكم. ثم قال: من ترك مالاً فلأهله، ومن
1 انظر: مفتاح دار السعادة " ص 90 "
2 شرح العقيدة الطحاوية " ص 18 "
ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ، وأنا ولي المؤمنين " رواه مسلم والنسائي. ولم يذكر مسلم:""وكلُّ ضلالة في النار "
" أحسن الهَدي هَدي محمد " وتروى أيضاً بلفظ: " الهُدى: هُدى محمد " والهَدي: هو الطريق، والهُدى: هو الدلالة والإرشاد، فأحسن الطرق طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن الدلالة والإرشاد هو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث بيان أساس ذلك التأصيل المبارك والمنهج الطيب الذي سار عليه أهل السنة في افتتاح عقائدهم بالإرشاد والتنبيه على أهمية الاتباع، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم في كلِّ خطبة يقرر للناس هذا الأصل:" إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد " تأكيداً على أنَّ العقيدة والعبادة والأخلاق مبناها على لزوم الكتاب والسنة. وتكرار ذلك في كلِّ جمعة فيه تنويه بهذا الأصل العظيم والأساس المتين، وأنَّه أصل ينبغي أن يفهم في كلِّ مقام، وهو أنَّ العمدة على أصدق الكلام وهو كلام الله، وخير الهدي وهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار " وهذا فيه التحذير من البدع، وبيان شدة خطورتها وعظم ضررها، وأنَّها مفضية إلى الضلال، وأنَّ الضلال مفض إلى النار.
" ثم يقول: بُعثت أنا والساعةَُ كهاتين " يقول النووي رحمه الله:""روي بنصبها ورفعها. والمشهور: نصبها على المفعول معه " 1. وزاد في صحيح مسلم 2: " ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى " وهذا فيه إشارة إلى قرب
1 شرح مسلم " 6/392 "
2 الصحيح " رقم 2002 "
الساعة، وأنَّ بعثته صلى الله عليه وسلم من علاماتها.
" وكان إذا ذكر الساعة " أي القيامة، وإنما سميت الساعة لأنَّها تجيء بسرعة، وقيل: لأنَّها تقوم في ساعة.
" احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنَّه منذر جيش، صبَّحكم مسَّاكم " كان صلى الله عليه وسلم لمَّا يذكر الساعة وأمرها وأحوالها يكون على هذه الصفة، كأنَّه منذر جيش، وهو الرجل الذي خرج من بلده فوجد جيشاً قادماً لمداهمة البلد وإهلاك من فيها، فرجع فزعاً خائفاً يصيح بالناس، يقول: صبَّحكم أو مسَّاكم أي: الجيش.
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ليس متكلفاً، وإنما هو تأثرٌ ونصحٌ وقيامٌ ببيان هذا الأمر العظيم والمقام الخطير، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
وهذا يدل على أنَّ الواعظ والخطيب إذا كان متأثراً بما يقول أثر في الناس غاية التأثير، وانتفعوا بمواعظه وخطبه.
" من ترك مالاً فلأهله " أي: يرثونه عنه.
" ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ " أي: من ترك ديناً أو أولاداً ليس لهم من يعولهم فهو يقوم بهم ويتولاهم. وهذا إنَّما قاله صلى الله عليه وسلم لما حصلت الفتوحات وتيسر المال والحال؛ لأنَّه كان في أول الأمر إذا جيء إليه بمن عليه دين لم يصل عليه حتى يُقضى عنه دينه.
" وأنا ولي المؤمنين " وجاء في صحيح مسلم 2: " أنا أولى بكلِّ مؤمن من نفسه "، وفي معناه قول الله تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
1 الآية 128 من سورة التوبة.
2 سبق تخريجه.
أَنْفُسِهِمْ} 1، وله معان كثيرة، منها: أنَّه أحرص عليهم وأنصح لهم من أنفسهم. ومنها: أنَّ محبته مقدمة على محبة المؤمن لنفسه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:""لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كلِّ شيء إلا من نفسي ـ:""لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنَّه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر "3.
" وروى زيد بن أرقم قال:""قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، فإنَّما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة. وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات " رواه مسلم "
" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً " هذه الخطبة كما ثبت في الصحيح قالها النبي صلى الله عليه وسلم بماء أو غدير يقال له: خم، أو قم، بين مكة والمدينة، فخطب الناس في ذلك المكان خطبة.
" فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر " أي: ذكَّر الناس بطاعة الله والتزام أمره والبعد عن معصيته.
" ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، فإنَّما أنا بشر مثلكم " فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّه بشر
1 الآية 6 من سورة الأحزاب.
2 أخرجه البخاري " رقم 15 "، ومسلم " رقم 167 "
3 أخرجه البخاري " رقم 6632 "
من بني آدم، وأنَّ شأنه شأن البشر في الأكل والشرب واللباس وكلِّ ما هو من أوصاف البشر، ولكن فضَّله الله جل وعلا بكمال العبودية وبأن جعله رسولاً للعالمين، فلا يُعبد ولا يعطى شيئاً من خصائص الإله، وهذا البيان منه صلى الله عليه وسلم امتثال لأمر الله تبارك وتعالى له بقوله:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} 1.
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر مثلكم " تحذير من الغلو فيه، وأنَّه أمر باطل محرم. ومع هذا التحذير البين في القرآن والسنة إلا أنَّ الغلو فيه عند بعض الطوائف ـ لا سيما المتصوفة ـ يصل إلى درجة إعطائه ما هو من خصائص الرب العظيم ويخرجه عن خصائص البشر. كقول البوصيري في بردته:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
فإنَّ من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
فهذا غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطاءٌ له من خصائص الله في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ففيما يتعلق بالألوهية قال: ما لي من ألوذ به سواك. وهذا التجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستنجاد به وطلب منه. وفيما يتعلق بالربوبية قال: وإن من جودك الدنيا وضرتها. وفيما يتعلق بالأسماء والصفات قال: ومن علومك علم اللوح والقلم. وجميع ذلك من خصائص الرب، فلو أنه قال: يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به سواك.. الخ لأصاب الحق ولسلم من الضلال.
وافتتح آخر أبياتاً له يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
هو الأول والآخر محمد
…
هو الظاهر والباطن محمد
1 الآية 110 من سورة الكهف.
فلو عقل هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر مثلكم " لما غلو فيه مثل هذا الغلو، ولما أعطوه من خصائص الرب جل وعلا.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء دون هذا في زمانه، ففي صحيح البخاري 1 أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع جارية من الأنصار قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال:""دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين "، زاد ابن ماجه 2: "ما يعلم ما في غد إلا الله ".
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قال: ما شاء الله وشئت قال:""أجعلتني لله عِدلاً؟ قل: ما شاء الله وحده " 3.
وسد صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك، وقال:""لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " 4. وعبد الله: تبطل الغلو، ورسوله: تبطل الجفاء، والحق هو التوسط بين الغلو والجفاء، فلا يرفع فيعطى خصائص الرب، ولا يجفى فلا يمتثل أمره ولا تتبع سنته.
" يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه " أي: ملك الموت، وهذا أيضاً من خصائص البشرية، فهو صلى الله عليه وسلم يلحقه ما يلحق البشر من الموت، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5، فمن كان بشراً، ويلحقه ما
1 الصحيح " رقم 5147 "
2 " رقم 1897 "
3 أخرجه البخاري في الأدب المفرد " رقم 783 "، والنسائي في الكبرى " رقم 10824 "، وأحمد " 1/241 "، والبيهقي في الكبرى " 3/217 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 139 "
4 أخرجه البخاري " رقم 3445 "
5 الآية 30 من سورة الزمر.
يلحق البشر لا يستحق أن يعبد، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 1، وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته لما مات النبي صلى الله عليه وسلم:""أمَّا بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت " 2. فالعبادة والذل والخضوع حق لله سبحانه وتعالى لا يصرف لأيِّ أحد من البشر كائناً من كان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3.
لكن بسبب انتشار الضلال وكثرة الجهل، ودروس الدين وعدم فهمه، تمادى أقوام في الغلو والإطراء حتى صرفوا العبادة لغير الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم.
" وأنا تارك فيكم الثقلين " فنصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته حياً وميتاً، في حياته بذل وسعه وجاهد في الله حق جهاده وبلَّغ البلاغ المبين، ولما شعر بدنو أجله نصح أمته هذه النصيحة البالغة.
" أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور " ولهذا من ابتغى الهدى ومعرفة الخير وإصابته والوقوف عليه فهو في كتاب الله، كما قال تبارك وتعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 4، ومن أراد النور والضياء وإبصار الطريق ومعرفة الحق، فهو في كتاب الله، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5، ومن التمس الهدى والنور في غير كتاب الله جل وعلا ضل.
" من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على
1 الآية 58 من سورة الفرقان.
2 أخرجه البخاري " رقم 1442 "
3 الآية 18 من سورة الجن.
4 الآية 123 من سورة طه.
5 الآية 52 من سورة الشورى.
الضلالة " ومن التمسك بكتاب الله: التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، فالوصية بالكتاب: وصية بالسنة، ومن لم يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمسك بالكتاب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:""تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ما إن تمسكتم به لن تضلوا "2.
" وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " وهذه وصية منه صلى الله عليه وسلم بأهل بيته المؤمنين؛ بأن يعرف الناس قدرهم، وأن تحفظ مكانتهم، وألا يبغض أحد منهم، وأن يقابلوا بالحب والدعاء والثناء. ولم يحفظ أحد هذه الوصية المباركة إلا أهل السنة والجماعة، فهم الذين توسطوا فيهم بين الغلو والجفاء: بين غلو الرافضة الذين أعطوهم أموراً كثيرة من خصائص الله فادعوا فيهم أنَّهم يعلمون الغيب وأنَّهم يعلمون متى يموتون، وأنَّهم لا يموتون إلا بإذنهم وأنَّهم يتصرفون في الكون إلى غير ذلك من الغلو العجيب الذي امتلأت به كتبهم، وجفاء النواصب الذين وقعوا في أهل البيت وطعنوا فيهم، وأخذوا يتكلمون فيهم ويلعنونهم. ولم يحفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم إلا أهل السنة، فعرفوا لهم قدرهم، وحفظوا مكانتهم، وأحبوهم، وتولوهم، ودعوا لهم، وترضوا عنهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:""ويحبون ـ يعني أهل السنة ـ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم:" أذكركم الله في أهل بيتي " " 3
وهذه عادة أهل السنة: وسط عدول في كلِّ الأمور، وسط بين الإفراط
1 الآية 7 من سورة الحشر.
2 سبق تخريجه.
3 الواسطية " ص109 " وبسط هذا المعنى بسطاً واسعاً في منهاج السنة، وبين أن أهل السنة هم الذين حفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته.
والتفريط. أمَّا من سواهم ففي أحد طرفي النقيض، إما الجفاء أو الغلو.
وللرافضة في يوم غدير خم انحراف متزايد مبني على هذا الغلو، ولهذا يتخذون هذا اليوم عيداً، ويجتمعون فيه على الضلال والانحراف والزيغ والغلو في أهل البيت ورفعهم فوق مكانتهم، وفي هذا اليوم أيضاً يقعون في بقية الصحابة رضوان الله عليهم، بل يقعون في أفضل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أموراً يدَّعون أنَّه قالها في هذا اليوم. ومن ادعاءاتهم في هذا اليوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه، وادَّعوا أنَّ الصحابة كتموا ذلك، ولهذا يجتمعون في هذا اليوم ويلعنون الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم بزعمهم كتموا وصية النبي صلى الله عليه وسلم. فيجتمعون على لعن بعض الصحابة والغلو في بعضهم الآخر. ثم يتباكون على أهل البيت تباكياً يخدعون به جهال الناس1.
فأين حفظهم للوصية؟! فهل حفظ الوصية بالكذب والافتراء عليه صلى الله عليه وسلم وتقويله ما لم يقل؟! أم بالطعن في أصحابه وإضاعة سنته والغلو في آل بيته والتمادي في البدع؟! ومع ذلك يدَّعون أنَّ أهل السنة لم يحفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وهذا كما قال القائل: رمتني بدائها وانسلت.
" ثلاث مرات " وهذا مما يبين عظم قدر أهل البيت ورفعة مكانتهم، وقد صدر للوالد ـ حفظه الله ـ رسالةٌ في هذا الباب بعنوان:" فضل أهل البيت ومكانتهم عند أهل السنة والجماعة " ساق فيها فضائل أهل البيت في القرآن، وفي السنة، وعند الصحابة، وعند أئمة السلف، وأخذ يسوق فضائل أهل البيت عبر التاريخ، إلى أن وصل إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية " ص 293 ".
رحمه الله، وبيَّن ثناء الشيخ محمد على أهل البيت، وأنَّه من شدة حبه لآل البيت رحمه الله سمَّى أكثر أبنائه ـ كلهم إلا واحداً ـ بأسماء آل البيت، فسمى الحسن والحسين وعلياً وفاطمة وإبراهيم وعبد الله، بل أسماء آل البيت مازالت باقية في ذريته إلى وقتنا هذا. وأهل الضلال يدَّعون أنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون آل البيت، وأشار الوالد ـ حفظه الله ـ أيضاً أنَّه قد سمَّى عدداً من أبنائه بأسماء آل البيت. فمكانة آل البيت محفوظة وقدرهم معروف عند أهل السنة في القديم والحديث، لكن الغلاة لا يرضيهم إلا الغلو، ولا يعجبهم إلا الإطراء الزائد عن الحد، وقد سلَّم الله أهل السنة ووقاهم من ذلك كلِّه، فله الحمد والمنة.
والشاهد من الحديث: وصية النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وأنَّه فيه الهدى والنور، وهذا متضمن للوصية بسنته صلى الله عليه وسلم.
" وروى العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال:""وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنَّ هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال أوصيكم بتقوى الله تعالى، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح. ورواه ابن ماجه، وفيه قال:""وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " "
في هذا الحديث وصية من النبي صلى الله عليه وسلم على إثر موعظة وصفها العرباض
رضي الله عنه بأنها: " موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب " وهذا يبين لنا حال الصحابة مع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم، ترق القلوب وتدمع العيون ويتأثر الجميع.
فلما وعظهم هذه الموعظة وتأثروا هذا التأثر قالوا: " كأنَّ هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ " أرادوا وصية مودع، وعادةً وصيةُ المودعِ تكون جامعة.
" قال أوصيكم بتقوى الله تعالى " وهذه أعظم الوصايا، وهي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من خلقه، كما قال:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} 1، وهي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فقد كان صلى الله عليه وسلم""إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً " 2. وهنا لما طلب منه الصحابة وصية بدأها بتقوى الله.
وتقوى الله: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من سخط الله وعقابه وقاية تقيه. وهذا إنَّما يكون بفعل الأوامر وترك النواهي. ولهذا فإنَّ من أحسن ما عرفت به التقوى: قول طلق بن حبيب رحمه الله:""تقوى الله العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عقاب الله " 3. وقد وقفت لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والذهبي وابن رجب على ثناء على هذا التعريف وأنَّه من أحسن ما عرفت به التقوى.
فقال الذهبي:""أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍّ من
1 الآية 131 من سورة النساء.
2 أخرجه مسلم " رقم 4497 "
3 حلية الأولياء " 3/64 "، وجامع العلوم والحكم " ص158 "
العلم والاتباع. ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله " 1. وقال ابن القيم:""وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى "2.
" والسمع والطاعة " أي: لمن تأَمَّر على الناس، أوكان أميراً عليهم.
" وإن كان عبداً حبشياً " إن استتب له الأمر، وصارت له الإمارة فلا يجوز للمسلم أن يفتات عليه، وما ثم إلا السمع والطاعة. وقد دلت النصوص على أنَّ الطاعة في المعروف، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
" فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً " وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، يخبر عن أمور مغيبة وتقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:""وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة " 3.
لما أخبر صلى الله عليه وسلم بالاختلاف الذي سيقع أرشد إلى المخرج منه دون أن يُسأل، فكلُّ من يسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً " لابد ـ إن كان ناصحاً لنفسه ـ أن يرد في ذهنه هذا السؤال، ولهذا فمن تمام نصح النبي صلى الله عليه وسلم وكمال بيانه: أجاب دون أن يُسأل، فقال:" فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور " هذا هو المخرج، وهو يتلخص في أمرين: لزوم السنة، وهذا في قوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي.. ". ومجانبة البدعة، وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور
…
". فالمخرج من الاختلاف الكثير والفرقة التي تنشأ
1 السير " 4/601 "
2 الرسالة التبوكية " ص10 "
3 سبق تخريجه.
والشقاق الذي ينشب بين الناس يكون بهذين الأمرين: لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجانبة البدع.
والشاهد من الحديث: أنَّ فيه وصية بالاتباع، ولا يكون العبد متبعاً إلا بهذين الأمرين: لزوم السنة ومجانبة البدعة.
" فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة " وهذا عام في كل البدع بدون استثناء، والبدعة هي الأمر الذي أحدث في الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1. فكلُّ ما كان هذا شأنه فهو محدث مردود ليس مقبولاً من صاحبه.
ومن قال إنَّ في البدع شيئاً حسناً، فإنَّ معنى ذلك أنَّ في الدين أموراً حسنة لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله:""من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 2 فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " 3. فالبدع كلُّها ضلال، والدين كلُّه تام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولم يبق إلا الاتباع، ولهذا كان شأن الصحابة الاتباع، وستأتي بعض أقوالهم في ذلك.
ولو نظرت في حال من يستحسنون كثيراً من البدع ترى أنَّ عشرات بل مئات من السنن الثابتة بالأحاديث الصحيحة الصريحة مهجورة عندهم ومتروكة ولا يعملون بها. فإن لم يكونوا مفضلين لبدعهم على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يهجرون سنته وينهمكون في هذه البدع؟!
1 سبق تخريجه.
2 الآية 3 من سورة المائدة
3 سبق ذكره.
بل إنَّ بعضهم يترك بعض الفرائض ولا يفوت بعض البدع، وخاصة البدع الموسمية والتي فيها استرواح للنفس بالباطل ومتع من متع الدنيا كالطبول وغيرها، ومن يتركها ولا يحضرها يعد عند بعضهم غير محب للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان محافظاً على الفرائض والسنن، وإنما المحب من يحضر هذه البدع وإن فعل ما فعل، فصار المعيار في صدق المحبة البدعة لا السنة، وهذا من قلب الحقائق. قال ابن القيم رحمه الله شارحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:""تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض. والآخر أسود مُربادَّاً كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه " 1 ـ قال:""فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وانقياده للهوى واتباعه له " 2. نسأل الله العافية والسلامة.
" وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها " تركنا على السنة الواضحة والجادة المستقيمة التي لا خفاء فيها ولا لبس."
" لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " أي إلا من كتب الله عز وجل عليه الهلاك.
1 أخرجه مسلم " رقم 367 "
2 إغاثة اللهفان "1/12"
ثم أورد المصنف حديث أبي الدرداء وهو بمعنى الحديث السابق، فقال:
" وروى أبو الدرداء قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال:""الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبَّنَّ الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ، وأيم الله قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء ". قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء. رواه ابن ماجه "
" الفقر تخافون؟ " أي: هل تخافون من الفقر؟
" والذي نفسي بيده لتُصَبَّنَّ الدنيا عليكم " أي: يوسع عليكم في الرزق، وهذا أيضاً كسابقه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فلم يمض بعد كلامه إلا وقت يسير حتى جاءت كنوز الدنيا إلى الصحابة.
" حتى لا يُزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ " أي: الدنيا والركون إليها، والتكالب عليها وشغل الأوقات بها. فمن أسباب الزيغ: الافتتان بالدنيا، فتكون أكبر هم الإنسان، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن يكون عبداً للدينار وللدرهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:""تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض "
ثم نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يهتم به فقال: " وأيم الله قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء " أي أنَّه صلى الله عليه وسلم أبان الدين وأوضح الطريق وأقام الحجة وأزال المعذرة ونصح للأمة، وما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، وبهذا الذي أبانه تكون النجاة.
1 أخرجه البخاري " رقم 2886 "
" قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " فدين هذا شأنه في الوضوح، ما الذي يحوج أتباعه إلى الرغبة عنه والاشتغال بغيره، كما يفعل أهل البدع، يهجرون هذا الواضح البين ويشتغلون بالشبهات والأهواء.
فالحديث شاهد على أهمية الاتباع وفضله وعظم شأنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن دين الله أتم البيان، ولم يمت حتى أتم الله به الدين وأكمله، وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1.
" وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " رواه أبو القاسم الطبري الحافظ في السنن " وإسناد هذا الحديث عند اللالكائي ضعيف، لكن له شواهد يتقوى بها 2 وهو بمعنى ما سبق.
" ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " وفي هذا دلالة على التلازم بين الكتاب والسنة والارتباط الوثيق بينهما، وأنَّ المسلم مأمور بأن يعمل بالكتاب والسنة؛ إذ هما متلازمان لا يتفرقان حتى يردا على الحوض. قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث ـ:""فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر " 3 أي: الكتاب والسنة.
ثم أخذ المصنف رحمه الله يورد جملة من الآثار عن السلف الصالح ـ
1 الآية 3 من سورة المائدة.
2 انظر: تفصيل هذه الشواهد في السلسلة الصحيحة " رقم 1761 "
3 إعلام الموقعين " 2/307 "
رحمهم الله ـ في فضل الاتباع والبعد عن الابتداع، وذكرنا فيما سبق أنَّ النجاة إنما تكون بلزوم السنة والتمسك بها ومجانبة البدع والبعد عنها.
" وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته:""إنما أنا متبع، ولست بمبتدع ""أي: متبع لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أتقيد بها وأتمسك بما جاء فيها، ولا أتجاوزها. ولا أبتدع في الدين شيئاً من عندي. وإذا كان الصديق رضي الله عنه وهو من هو في الإمامة والفضل ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ولست بمبتدع " فكيف يتجرأ على الابتداع أناس لا شأن لهم في العلم ولا دراية؟!
" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:""قد فُرضت لكم الفرائض، وسُنت لكم السنن، وتُركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً " "
لهذا الأثر قصة، ألا وهي:""أنَّ عمر رضي الله عنه لما صدر من منى أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً
…
قال سعيد بن المسيب ـ الراوي عن عمر رضي الله عنه: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله " 1. ولهذا فإنَّ هذه الوصية تُعد من أواخر وصايا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي في مجملها وصية باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين رضي الله عنه أنَّ الدين قد بُيِّن ـ الفرائض والسنن ـ، وأنَّه لا نقص فيه بأيِّ وجه من الوجوه، وما مات
1 أخرجه مالك في الموطأ " 2/824 "
صلى الله عليه وسلم حتى أتم الله به الدين وأكمله، ولم يبق شيء من الدين لم يوضَّح. وهذا من أعظم الأصول التي يبطل بها الابتداع والإحداث؛ لأنَّه إذا سُلِّم بهذا الأصل العظيم: كمال الدين، لم يبق أمام الناس إلا الامتثال والاتباع والاقتفاء لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو الموجب للابتداع؟ إذا أراد العبد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب إليه بدينه الذي شرعه وأتمه.
" إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً " يعني تفترق بكم الأهواء والسبل عن الصراط المستقيم والجادة السوية. ومصداق هذا فيما رواه ابن مسعود رضي الله قال:""خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل متفرقة، على كلِّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1 " 2.
" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:""إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " "
" إنا " أي: الصحابة عموماً، فهو يبين النهج والمسلك الذي كانوا عليه.
" نقتدي " أي: بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ونترسم خطاه، ونلزم غرزه، ونتمسك بسنته.
" ولا نبتدي " أي: لا نبتدئ شيئاً من الدين من قبل أنفسنا، ولا نأتي بشيء من الدين ابتداء من عند أنفسنا، وإنما حالنا: الاقتداء بما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
1 الآية 153 من سورة الأنعام.
2 أخرجه النسائي في الكبرى " 11174 "، وأحمد " 1/435، 465 "، والطيالسي " رقم 244 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 17 " وحسن الألباني إسناده.
" ونتبع ولا نبتدع " وهذا نظير قول الصديق رضي الله عنه، أي: نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نبتدع شيئاً في الدين من قبل أنفسنا.
" ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " أي: مادام هذا هو مسلكنا فلا سبيل للضلال إلينا؛ لأنَّ السالك في هذا الطريق على الجادة القويمة التي لا يضل من سلكها وسار عليها، والذي يضل إنَّما هو الذي يحيد وينحرف عنها، وهو الذي يدخل في متاهات الأهواء ودروب الباطل.
كما قال محمد بن سيرين رحمه الله:""مادام على الأثر فهو على الطريق " 1، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه آثار كثيرة ونقول عديدة في ذم البدع والتحذير منها، وذلك لأنَّه وقف على بدايات ظهور البدع والمبتدعة ونشأتهم 3.
" وروى الأوزاعي عن الزهري أنَّه روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""لا يزني الزاني حين يزنى وهو مؤمن " فسألت الزهري ما هذا؟ فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. أمِرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت. وفي رواية: فإنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها "
هذا يبين المنهج الذي كان عليه السلف رحمهم الله فيما ثبت وصح عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فطريقتهم في جميع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أمور الإيمان المغيبة ـ مثل ما يتعلق بصفات الرب جل وعلا، أو الجنة والنار، أو أحاديث الوعيد
1 رواه الدارمي في سننه " رقم 141 "
2 الآية 22 من سورة الملك.
3 انظر جملة من هذه الآثار في الإبانة لابن بطة.
وغيرها ـ أن يُمر النص كما جاء، ويثبت كما ورد، دون أن يقابل بشيء من الانتقاد أو الاعتراض أو التساؤل الذي فيه شيء من الإنكار.
" من الله العلم " أي: بيان الدين وأمور الشريعة، فالحكم لله والتشريع لله، يحكم بما يشاء ويشرع ما يريد سبحانه.
" وعلى الرسول البلاغ " أي أنَّ مهمة الرسول إبلاغ كلام مرسله، لا أن ينشئ كلاماً من عنده ينسبه إلى من أرسله، كما قال تعالى:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ} 1.
فالذي من الله تحقق، فشرع لعباده ما يريد. والذي على الرسول حصل على التمام والكمال، فبلغ البلاغ المبين، ووضح الدين، وأبان الحجة. وبقي الذي على الناس فقال:
" وعلينا التسليم " أي: نسلِّم لكلِّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم،:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، فليس أمام المسلم تجاه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتلقاها بالقبول والرضا والتسليم.
ثم بين المنهج الذي كان عليه الصحابة والسلف الكرام فقال: " أمِرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت. وفي رواية: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها " هذا هو المنهج، وقد جاء عن غير واحد من السلف ـ منهم مالك والأوزاعي والثوري ـ أنهم سئلوا عن بعض أحاديث الصفات فقالوا: أمروها بلا كيف 3.
ولا يعني هذا أنَّهم لا يعرفون معاني هذه النصوص، فهم أجلُّ مكانة
1 الآية 99 من سورة المائدة.
2 الآية 65 من سورة النساء.
3 سبق تخريج هذه الآثار.
وأنبل قدراً من ذلك؛ فإنَّ الأحاديث مفهومة المعنى واضحة الدلالة. بل المراد بقولهم: " أمروها كما جاءت " أي مع إثبات المعنى، فليس مرادهم تفويض المعنى وعدم العلم به، وإنما وُجِد هذا عند طائفة من المتأخرين ممن عُرِفوا بالمفوضة: مفوضة المعاني، ولم يكن أحد من السلف مطلقاً على هذه الطريقة. ومن تعلق من المفوضة بمثل هذه المقالة عن السلف فقد تعلق بشيء لا حجة له فيه، بل هو حجة عليه؛ لأنَّ السلف لما قالوا:" أمروها " قيدوا هذا الإمرار بأن يكون " كما جاءت "، والنصوص جاءت محملة بمعاني ودلالات، فإمرارها كما جاءت يكون بإثبات معانيها التي جاءت محملة بها.
ومما يؤكد هذا: قولهم عقب هذه الكلمة: " بلا كيف " فإنَّ نفي الكيفية لا يكون إلا ممن يثبت المعنى، لأنَّ من لا يثبت المعنى، لا يحتاج أن يقول:" بلا كيف ".
وأيضاً لهم مقصود آخر من هذه الكلمة، وهو أن أحاديث الوعيد تترك بدون تفسير، حتى تبقى هيبتها وزجرها وردعها للعوام، وهذا ملحظ يلحظه بعض السلف في نصوص الوعيد حتى تكون أبلغ في الزجر وأقوى في الردع.
وعندما نتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " نجد أنَّه نفى الإيمان عن الزاني، فهل هو نفي لأصل الإيمان بمعنى أن من فعل هذا الأمر الذي هو الزنا أو السرقة ـ كما في بقية الحديث ـ ينتقل من الملة ويخرج من الدين، أم أنَّه نفيٌ لكمال الإيمان الواجب؟
والجواب عن هذا السؤال يتضح بمقارنة الحديث ببقية الأحاديث، فهذا حديث من أحاديث الوعيد، وهناك أحاديث وعد، وعندما يأخذ العبد في هذا المقام أحاديث الوعيد مجردة عن أحاديث الوعد يشتط وينحرف به الفهم
كما هو حال الخوارج والمعتزلة. وإذا أخذ أحاديث الوعد وأهمل أحاديث الوعيد يشتط وينحرف كما هو حال المرجئة.
فالخوارج والمعتزلة يتكئون على مثل حديث أبي هريرة هذا:""لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 1، والمرجئة يتكئون على مثل حديث أبي ذر:""ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق " 2، والطريقة السليمة القويمة أن يجمع بين أحاديث الوعد وأحاديث الوعيد وعلى ضوء ذلك يخرج الإنسان بالحكم.
فكيف نجمع بين حديث أبي هريرة النافي للإيمان عن الزاني والسارق، وحديث أبي ذر الذي أثبت لهما الإيمان؟
إذا تأملنا نصوص الشريعة في هذا الباب نجد أنَّ النفي في حديث أبي هريرة ليس هو نفياً لأصل الإيمان، وإنما المنفي كماله الواجب، الذي إذا نفي بقيت دونه رتبة الإسلام. فمعنى الحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان الكمال الواجب، فقد انتقص إيمانه الواجب بقدر كبيرته. وهذا الأسلوب في النفي يرد في لغة العرب كثيراً، فتقول العرب:" لا رجل إلا زيد " ومرادهم كمال الرجولة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:""اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة " 3، ومراده صلى الله عليه وسلم نفي الكمال، فإنَّ الدنيا فيها عيش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي "4.
1 سبق تخريجه.
2 أخرجه البخاري " رقم 5827 "، ومسلم " رقم 269 "
3 أخرجه البخاري " رقم 2961 "، ومسلم " رقم 4649 "
4 أخرجه مسلم " رقم 6841 "
فعقيدة السلف في عصاة الموحدين أو من يسمى بالفاسق المِلِّي أنَّه مؤمن ناقص الإيمان. أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يقال: خرج من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة، ولا يقال: هو كامل الإيمان كما قالت المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأنَّ إيمان العاصي وإيمان الصديق رضي الله عنه سواء.
ومن الطرائف التي تُذكر في هذا الباب:""أن أحد المرجئة مرَّ على رجل سكران، فقال له: يا مرجئ وآذاه، فقال له: صدقت، الذنب مني جئت سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان " 1.
" وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:""سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً " "
جاءت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله آثار كثيرة في الترغيب في السنة والحث على اتباعها والتحذير من البدع، وله نصوص عديدة في العقيدة جمعها أحد الباحثين في رسالة علمية بعنوان " الآثار المروية عن عمر ابن عبد العزيز في العقيدة " وهي آثار قوية ومتينة في تقرير السنة وبيان المعتقد والتحذير من البدع والأهواء.
" سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً " سبق أن ذكر المصنف رحمه الله آثاراً عن الصحابة تبين أنَّهم يقتدون ولا يبتدئون ويتبعون ولا يبتدعون،
1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1838 "
ولهذا فإنَّ السنن التي جاء بها من بعد الرسول ليس المراد بها أنَّهم أتوا بشيء في الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هي سنن للنبي صلى الله عليه وسلم أحيوها ونشروها ومكنوا لها وأشاعوها في الأمة. وهذا كقول عمر رضي الله عنه عند جمعه الناس للتراويح:""نعم البدعة هذه " 1؛ لأنَّه لم يحدث التروايح من قبل نفسه، وإنَّما أحيا سنة الاجتماع لها. وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:""من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده " 2 وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي تصدق فتتابع الناس على إثر صدقته يتصدقون، وهذه السنة الحسنة ليست أمراً في الدين جاء به من قبل نفسه؛ فإنَّ الصدقة مشروعة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم 3.
وفي هذا المقام يغلط بعض أهل الأهواء فيتخذون مثل هذا متكأً للإحداث في الدين.
" الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله " هذا يصلح شاهداً لما سبق تقريره من أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأنَّ الدين يستكمل بالطاعة التي هي المتابعة والاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر بعض أهل العلم هذا الأثر شاهداً على زيادة الإيمان ونقصانه.
" ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها " فهذا هو الشأن الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه السنن: لا يغير ولا يبدل، ولا ينظر في آراء المخالفين لها، وإنَّما يتمسك بها وينهج نهجها، ويلزم هذه السنن والآثار الثابتة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
1 أخرجه البخاري " رقم 2010 "
2 أخرجه مسلم " رقم 2348 " مطولاً بذكر القصة.
3 انظر: الاعتصام " 1/182 "
" فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً " ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1.
" وقال الأوزاعي:""اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل في ما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يسعك ما وسعهم " "
" اصبر على السنة " ولابد عموماً من الصبر على طاعة الله، كما قال الله تعالى لنبيه:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 2، وهذا يتناول الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأنَّ حكم الله نوعان:
1ـ حكم ديني شرعي، وهذا يتناول الأوامر والنواهي.
2ـ حكم كوني قدري، وهذا يتناول المصائب.
وقد يبتلى العبد بصوارف عن السنة وصواد عن التمسك بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فليصبر على السنة، وليحبس نفسه عليها، وليلزم بها نفسه إلى أن يتوفاه الله عز وجل.
ويسمي ابن القيم هذه الصوارف عوائق، فقال:""أما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها فإنَّها تعوق القلب عن سيره إلى الله، وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور: شرك وبدعة ومعصية. فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة " 3.
1 الآية 115 من سورة النساء.
2 الآية 48 من سورة الطور.
3 الفوائد " ص154 "
" وقف حيث وقف القوم " المراد بالقوم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وهم الذين لا يشقى من سلك سبيلهم. فقف حيث وقفوا، ولا تتجاوز خطاهم ومسارهم، تنظر ماذا فعلوا فتفعل، ولا تتجاوز ذلك؛ فإنَّهم لم يقفوا حيث وقفوا عن عجز أو عدم قدرة، بل لتمسكهم بالسنة ولزومهم لها وحرصهم عليها، كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:""قف حيث وقف القوم، فإنَّهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنَّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم " 1.
" وقل في ما قالوا " أي: إذا أردت أن تقول قولاً فقل فيما قال السلف ولا تزد. كما قال الإمام أحمد رحمه الله:""إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام من السلف " 2؛ لأنَّهم أهل هدى وحق وبصيرة في دين الله تعالى.
" وكف عما كفوا " أي: الشيء الذي كف عنه السلف كف عنه، واعلم أنَّ الخوض فيه مما لا خير فيه؛ لأنَّه لو كان خيراً لسبقونا إليه.
" واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يسعك ما وسعهم " وقد قال بعض السلف:""من لم يسعه ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسَّع الله عليه " 3،
1 مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي " ص83 ـ 84 "، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة " ص42 ـ 43 "
2 مجموع الفتاوى " 21/291 "، وانظر: السنة للخلال " 3/ 552 "
3 انظر: الإبانة لابن بطة " الرد على الجهمية 2/273 "
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله":""ومن لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين؛ فلا وسَّع الله عليه "1. ولهذا فإنَّ السلف وسعتهم السنة وعاشوا عليها، ودافعوا عنها، وماتوا عليها، وهم في رفيع درجات الخير والسبق والفضل والنبل، فمن لم يسعه هذا الذي وسعهم فلا وسَّع الله عليه.
" وقال نعيم بن حماد:""من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه تشبيهاً " "
هذا أيضاً يتعلق بالاتباع والتمسك بما كان عليه السلف رحمهم الله ولا سيما في باب الصفات، وما من مسألة من مسائل الدين إلا والناس فيها طرفان ووسط: غلو وجفاء. وأهل السنة والجماعة دائماً يتوسطون، والتوسط إنما يكون بلزوم السنة، وههنا يبين نعيم رحمه الله الوسطية التي عليها السلف في صفات الله، فهم وسط بين المشبهة الذين يقولون في صفات الله إنَّها كصفات خلقه. والمعطلة الذين يعطلون صفات الله ويجحدونها ولا يؤمنون بها، وفي هذا أيضاً تقرير للقول الحق: قول أهل السنة والجماعة القائم على الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل.
" من شبه الله بخلقه فقد كفر " وأيُّ كفر أشنع من أن يقال في حق الرب العظيم: إنَّ صفاته تماثل صفات المخلوقين، تعالى الله عما يقولون، وسبحان الله عما يصفون.
" ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر " ومن أدلة كفر من يجحد شيئاً من صفات الله: قول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 2.
1 نقد القومية العربية "ص48 "
2 الآية 30 من سورة الرعد.
" وليس ما وصف الله به نفسه تشبيهاً " وهذا فيه إشارة إلى أنَّ إثبات الصفات على الوجه الذي يليق بالله لا يستلزم التشبيه، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، فأثبت لنفسه سبحانه السمع والبصر بعد نفيه للمثلية، فدلَّ ذلك على أنَّ إثبات الصفات لا يستلزم التشبيه.
ومما ينبه عليه في هذا المقام أنَّ كلَّ من وقع في التعطيل فقد وقع في التمثيل، وكلَّ من وقع في التمثيل فقد وقع في التعطيل، ولهذا يقول العلماء: كلُّ معطل ممثل، وكلُّ ممثل معطل.
فالمعطل مثَّل مرتين: مرة قبل تعطيله؛ لأنَّه لم يعطل إلا لتشبيه قام في نفسه، ومرة بعد تعطيله؛ لأنَّ تعطيله جره إلى تشبيه الله إما بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات بحسب نوع تعطيله.
والممثل عطَّل ثلاث مرات؛ لأنَّه عطل الرب تبارك وتعالى عن صفة كماله، وعطل الآيات التي أثبتت هذه الصفات، وعطل الآيات التي فيها نفي التمثيل كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولم يسلم من هذه الأدواء والشرور إلا صاحب السنة، فهو برئ ـ كما يعبر ابن القيم ـ من فرث التعطيل ومن دم التمثيل 2. وشأن السني كاللبن الذي يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. قال ابن القيم:""فكان مذهبهم مذهباً بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " 3.
1 الآية 11 من سورة الشورى.
2 انظر: بدائع الفوائد " 1/173 "
3 الصواعق المرسلة " 2/426 "
" وقال سفيان بن عيينة:""كلُّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل " "
" فقراءته تفسيره " أي: لا يجوز أن يصرف عن معناه، أو يبعد عن دلالته، أو أن يتكلف تأويله، بل يمر كما جاء، ويؤمن به كما ورد، ويفهم معناه على ضوء لغة العرب. فعندما نقرأ قوله سبحانه:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1 نثبت لله يدين، وعندما نقرأ قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 نثبت لله الاستواء، وعندما نقرأ:{غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 3 نثبت الغضب. فقراءتها تفسيرها: أي نثبت ظاهرها على الوجه اللائق بجلال الله وكماله سبحانه. قال الذهبي:""يعني أنَّها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى لها مضايق التأويل والتحريف " 4.
" لا كيف ولا مثل " أي لا يجوز أن نقول في شيء من هذه الصفات بالتمثيل أو التكييف، فكلاهما باطل في الصفات وضلال.
والتكييف هو إثبات الصفات على كيفية مقدرة في الذهن. والتمثيل إثبات الصفة على كيفية مماثلة لكيفية صفات المخلوقين. ولهذا كلُّ ممثل مكيف، وليس كلُّ مكيف ممثلاً؛ لأنَّ المكيف قد يكون في بعض حالاته قد اخترع صورة قدَّرها في ذهنه وليس عن قياس على أشياء يراها في المخلوقات. بينما الممثل فهو في كلِّ تمثيله مكيف؛ لأنَّه جعل بتمثيله كيفية صفة الله ككيفية صفة المخلوق.
" وقال أبو بكر المروذي: سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والرؤية، والإسراء، وقصة العرش، فصححه أبو عبد
1 الآية 64 من سورة المائدة.
2 الآية 5 من سورة طه.
3 الآية 14 من سورة المجادلة.
4 مختصر العلو " ص270 "
الله، وقال: تلقتها العلماء بالقبول، تُمر الأخبار كما جاءت "
" سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات، والرؤية، والإسراء، وقصة العرش " من المعلوم أنَّ طريقة الجهمية في التعامل مع أحاديث الصفات أنَّهم"لا يثبتونها ولا يؤمنون بها، بل يجحدونها، فأيُّ حديث يثبت الصفات يردونه ويكذبون به. وهي بعينها طريقة المعتزلة، فهم أول من أنشأ القول بأنَّ أحاديث الآحاد لا يحتج بها في الاعتقاد، والقوم ليسوا أهل حديث، ولا يدرون ما المتواتر وما هو الآحاد، ولكن جعلوها قاعدة ومتكأً للرد، ولهذا ردوا أحاديث متواترة كثيرة جداً بقولهم: أحاديث آحاد لا يحتج بها في الاعتقاد. فهم أنشأوا هذه القاعدة ليردوا بها كلَّ حديث فيه عقيدة لا يؤمنون بها ولو كان متواتراً. وإذا كان الحديث يوافق عقيدتهم أثبتوه واحتجوا به ولو كان موضوعاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من أبرز العلامات على أنَّ القوم أهل أهواء وضلال.
" فصححه أبو عبد الله " أي صحَّح الأحاديث الواردة في ذلك، ثم بين منهج السلف في التعامل معها، فقال:
" تلقتها العلماء بالقبول، تُمر الأخبار كما جاءت " وقد سبق أن عرفنا مراد السلف رحمهم الله ومقصودهم بقولهم: تمر كما جاءت.
" وقال محمد بن الحسن الشيباني ـ صاحب أبي حنيفة ـ:""اتفق الفقهاء كلُّهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير ولا تشبيه. فمن فسر اليوم من ذلك شيئاً فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنَّهم لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول
جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنَّه وصفه بصفة لا شيء " "
" اتفق الفقهاء كلُّهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل " اتفقوا على الإيمان بها وإثباتها، وعدم إنكار شيءٍ منها. وطريقتهم في هذه الأحاديث أنَّهم يمرونها كما جاءت " من غير تفسير ولا تشبيه، فمن فسر اليوم من ذلك شيئاً فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإنهم لم يفسروا " وليس المراد بالتفسير في قوله: " لم يفسروا " أنهم فوضوا المعنى، حاشاهم، بل مرادهم التفسيرات المحدثة التي وُجدت عند الجهمية ومن سار مسارهم التي هي التحريف والتغيير والتبديل وصرف النص عن دلالته. قال مجاهد:""عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات أقفه على كلِّ آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت " 1. فقد فسر ابن عباس لمجاهد آيات الصفات. وعندما تقرأ الآثار المروية عن الصحابة والسلف الصالح تجد فيها تفسيراً لمعاني الآيات وفقاً لدلالة اللغة، مثل قولهم: الاستواء: العلو والارتفاع، وهذا منقول عن بعض الصحابة وعن عدد من التابعين 2، وهكذا في صفات الله تبارك وتعالى الأخرى يفسرونها بمعناها الذي دلت عليه اللغة.
ولهذا لما أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأثر عن محمد بن الحسن وأثراً آخر نظيره عن أبي عبيد القاسم بن سلام علق عليها بقوله:""فقد أخبر ـ يعني أبا عبيد ـ أنه ما أدرك أحداً من العلماء يفسرها تفسير الجهمية " 3.
1 رواه أحمد في فضائل الصحابة " رقم 1868 "، وأبو نعيم في الحلية " 3/279 ـ 280 "، والذهبي في السير " 4/456 ـ 457 "
2 انظر: مسند الشافعي " ص70 ـ 71 "، وتفسير البغوي " 1/59 "، والأسماء والصفات للبيهقي " 2/310 "
3 الحموية " ص40 "
" ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة " وهذا صريح في أنَّ التفسير الذي نفاه وحذر منه إنما هو تفسيرات الجهمية المحدثة الباطلة. ثم ذكر نتيجة قول جهم في الصفات، وتفسيرها تلك التفسيرات الباطلة فقال:
" لأنَّه وصفه بصفة لا شيء " أي: وصفَ الرب العظيم بصفة العدم. قال حماد بن زيد رحمه الله:""الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء"" 1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ تعليقاً على كلام حماد هذا ـ:""وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد وخفيت السنة وانقرضت الأئمة صرحت الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره " 2 وعلى كلٍّ فإنَّ صفات الله جل وعلا عندما تعطل وتجحد ولا تثبت يكون نتيجة هذا وصف الرب بالعدم.
" وقال عباد بن العوام: قدم علينا شريك بن عبد الله فقلنا: إنَّ قوماً ينكرون هذه الأحاديث: " إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا " والرؤية وما أشبه هذه الأحاديث فقال:""إنَّما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن في الصلاة والزكاة والحج، وإنَّما عرفنا الله بهذه الأحاديث " "
" إنَّ قوماً ينكرون هذه الأحاديث: " إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا " والرؤية وما أشبه هذه الأحاديث " يعني أحاديث الصفات.
" إنَّما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن في الصلاة والزكاة والحج " أي:
1 اجتماع الجيوش لابن القيم " ص72 "
2 المصدر السابق.
إنَّ جحد أحاديث الصفات يقتضي جحد الدين؛ لأنَّ الذين نقلوا أحاديث الصفات هم الذين نقلوا بقية الدين من صلاة وزكاة وحج وغيرها، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
" وإنَّما عرفنا الله بهذه الأحاديث " فمن جحد هذه الأحاديث أو شكك فيها فقد قطع على نفسه الطريق إلى معرفة الله سبحانه وعبادته؛ لأنَّ هذه الأحاديث هي التي علمت من خلالها صفات الرب، وعلم من خلالها الدين كلُّه.
وعلى ضوء هذه القاعدة التي ذكرها شريك، يمكننا أن نسأل من جحد أحاديث الصفات، فنقول: ما رأيك في الأحاديث التي رواها الصحابة ومن تبعهم بإحسان، في الصلاة والصيام والحج وبقية الأحكام هل تقبلها أم تردها؟ فإن قال: ليست مقبولة فقد جحد الدين كلَّه. وإن قال: مقبولة. يقال: الذين نقلوا هذه الأحاديث هم الذين نقلوا أحاديث الصفات أنفسهم، فعليك أن تقبل أحاديثهم في الصفات كما قبلت أحاديثهم في الأحكام. [خاتمة]
" فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة وآثار من سلف، فالزمها وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من كان عندهم محقوراً مهجوراً، مبعداً مدحوراً ومذموماً ملوماً، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " رواه مسلم وغيره "
" فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة وآثار من سلف " أي: النصوص التي أوردها في هذا الفصل.
" فالزمها وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة " يشير بهذا إلى أنَّه لم يذكر إلا نبذاً يسيرة من النصوص تتناسب مع هذه الرسالة المختصرة.
ثم لما أكَّد على التمسك بالكتاب والسنة ولزوم ما كان عليه السلف رحمهم الله، أتبعه بالتحذير من أقاويل أهل الباطل فقال:
" ودع أقوال من كان عندهم محقوراً " أي: حقيراً.
" مهجوراً " أي: مهجور في كلامه وأقواله وشخصه.
" مبعداً " أي: مطروداً من المجالس؛ لأنَّ السلف رحمهم الله كانوا يخرجون دعاة البدع ورؤوس الباطل من مجالسهم، مثل ما فعل الإمام مالك مع ذاك السائل الذي سأل عن كيفية الاستواء.
" مدحوراً ومذموماً ملوماً " كلُّ هذه صفات لأهل البدع.
ثم أكدَّ تحذيره بقوله رحمه الله: " وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل " ولا تستوحش من الحق لقلة أهله وسالكيه، فالحق أحق أن يتبع ولو كان أهله قلة. ثم استدل على ما قال بقوله:
" فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " وعليه فإنَّ أمور الدين لا تقاس بالكثرة والقلة، بل الدين ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وليست الجماعة الكثرة على أيِّ شيء كانوا، ولكن الجماعة ما كان عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. والحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف بموافقة الكتاب والسنة. والإنسان إذا كان متبعاً للسنة هو الجماعة ولو كان وحده.
" وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة " وفي رواية:""قيل: فمن الناجية؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " رواه جماعة من الأئمة "
هذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث الافتراق، وهو من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع الأمر طبقاً لما أخبر، فوُجدت الفرق وكثرت وتعددت وتشعبت.
" كلُّها في النار " هذا حكم عام مطلق في حق كلِّ من كان من هذه الفرق أو على قول من أقوالها، لكن إلحاق هذا الوعيد بمعيَّنٍ ممن ارتكب هذا الأمر المتوعد به متوقف على وجود شروط وانتفاء موانع، فالقول في هذا الحديث كالقول في بقية أحاديث الوعيد."
" إلا واحدة. ـ وفي رواية ـ قيل: فمن الناجية؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " وهذا فيه أنَّ الحق لا يتعدد، وأنَّه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
" واعلم ـ رحمك الله ـ أنَّ الإسلام وأهله أُتوا من طوائف ثلاث، فطائفة ردت أحاديث الصفات وكذبوا رواتها، فهؤلاء أشد ضرراً على الإسلام وأهله من الكفار. وأخرى قالوا بصحتها وقبولها، ثم تأولوها، فهؤلاء أعظم ضرراً من الطائفة الأولى. والثالثة: جانبوا القولين الأولين، وأخذوا بزعمهم ينزهون وهم يكذبون، فأداهم ذلك إلى القولين الأولين، وكانوا أعظم ضرراً من الطائفتين الأولتين "
" واعلم " أي: يا صاحب السنة، ويا من يريد لنفسه العقيدة الصحيحة الصافية النقية المتلقاة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
" رحمك الله " وهذا دعاء من المصنف رحمه الله لمن يطَّلِع على كتابه
بالرحمة.
" أنَّ الإسلام وأهله أُتوا من طوائف ثلاث " أي أنَّ الخلل والانحراف الذي وُجد في باب الصفات إنما وُجِد بسبب طوائف ثلاث، بيَّن مذاهبها فقال:
1ـ " فطائفة ردت أحاديث الصفات وكذبوا رواتها، فهؤلاء أشد ضرراً على الإسلام وأهله من الكفار " ونتيجة قول هؤلاء: تعطيل الرب ونفي وجوده؛ لأنَّه إذا عطلت الصفات بقي الموصوف عدماً؛ لأنَّ نفي الصفات عن الله تبارك وتعالى وصف له بالعدم. وضررهم على الإسلام من هذه الجهة ومن جهة أنَّ أقاويلهم تُنشر على أنَّها من الإسلام، أما الكفار فالمفاصلة بينهم وبين أهل الإسلام موجودة، وكراهية ما عندهم والحذر منهم قائم في نفوس المسلمين.
2ـ " وأخرى قالوا بصحتها وقبولها " أي: صححوا هذه الأحاديث، وقالوا: نثبتها ولا نكذب بها.
" ثم تأولوها " أي: صرفوها عن معناها ودلالتها. فالمراد بالتأويل هنا تحريف نصوص الصفات بصرفها وإمالتها عن مقصودها والمراد منها. والتحريف تعطيل؛ لأنَّ من حرف الصفة وصرفها عن معناها عطل صفة الرب التي دلت عليها تلك النصوص.
" فهؤلاء أعظم ضرراً من الطائفة الأولى " فإنَّ تكذيب أولئك بالأحاديث يعطي من يستمع إليهم من الناس توقفاً وحذراً منهم. أمَّا هؤلاء فلم يكذِّبوا بها، بل قالوا: نؤمن بها ولا نجحدها. لكنَّهم تأولوها وصرفوها عن دلالتها فالتقوا مع أولئك في النتيجة وهي التعطيل.
3ـ " والثالثة: جانبوا القولين الأولين " أي جانبوا قول المكذبين بالأحاديث، وقول المحرفين لها.
" وأخذوا بزعمهم ينزهون وهم يَكْذبون " فزعموا أنَّهم ينزهون الله سبحانه، ويكذبون بزعمهم أنَّ هذه الأحاديث ظاهرها التشبيه، فلم يكذِّبوا بالأحاديث ولم يؤولوها، بل فوضوا معانيها، فقالوا: هذه نصوص مجهولة المعاني وظاهرها غير مراد، ونحن نقرأ هذه الأحاديث ونصدق أنَّها جاءت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونفوض معناها إلى الله، فآيات الصفات وأحاديثها ـ عندهم ـ تماماً كقوله تعالى:{الم} ،:{حم} وغيرها من الحروف المقطعة، مجهولة وغير معروفة المعاني.
" فأدَّاهم ذلك إلى القولين الأولين " لأنَّ حقيقة قولهم تعطيل الرب تبارك وتعالى عن صفات كماله الثابتة له في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد وُجِد في المفوضة التحريف؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّها مصروفة عن ظاهرها، وأنَّ ظاهرها غير مراد، وإن لم يعينوا المعنى، فهذا تأويل إجمالي، ووُجِد فيهم التكذيب أيضاً.
" وكانوا أعظم ضرراً من الطائفتين الأولتين " لأنَّ ظاهر التفويض عند من يجهل حقيقة الأمر السلامة، ولهذا هم يدَّعون أنَّ السلف أهل تفويض، ويقولون: مذهب السلف أسلم. وفي الحقيقة أنَّ ظاهره وباطنه فيه الضرر والتلف.
" فمن السنة اللازمة: السكوت عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله، أو يتفق المسلمون على إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات. فكما لا يثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي "
" فمن السنة اللازمة " أي: التي يلزم كلَّ مسلم أن يعضَّ عليها بالنواجذ وأن يتمسك بها.
" السكوت عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله أو يتفق المسلمون على
إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات " سبق للمصنف رحمه الله أن بيَّن طريقة السلف في الصفات، وهي أنَّهم يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وينفون ما نُفي فيهما، ولا يتجاوزون القرآن والسنة، كما قال الإمام أحمد رحمه الله:""لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث " 1، وكما قال الإمام الأوزاعي:""ندور مع السنة حيث دارت " 2 أي: نفياً وإثباتاً.
فهذا منهجهم فيما ثبت في الكتاب والسنة إما نفياً أو إثباتاً. أما ما سُكِت عنه فلم يذكر في الكتاب والسنة، فبيَّن المصنف هنا أنَّه لا يُثبت ولا يُنفى، ولا يتعرض له بنفي أو إثبات. وعلَّل ذلك بقوله:
" فكما لا يثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي " يعني كما أنَّ صفات الله توقيفية لا تثبت إلا بنص شرعي ودليل من الكتاب والسنة، كذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي؛ فإنَّ النفي علم، والعلم يحتاج إلى دليل يستند عليه، بل إنَّ أمر النفي أشد؛ فإنَّه يحتاج إلى استقراء تام وتتبع كامل ودراية واسعة بالنصوص.
ثم ختم رحمه الله بهذه الدعوة التي بدأ بها في أول هذه العقيدة، وهي منطلقة من المعاني التي قررها في هذا الكتاب، فقال:
" نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يرضيه من القول والعمل والنية، وأن يحيينا على الطريقة التي يرضاها " وهي السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
" ويتوفانا عليها " وأن يرزقنا الوفاة عليها.
" وأن يلحقنا بنبيه وخيرته من خلقه محمد المصطفى وآله وصحبه،
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
ى
ويجمعنا معهم في دار كرامته، إنَّه سميع قريب مجيب " وهذه الدعوة مباركة وعظيمة، ولا تتحقق للعبد إلا بسلوكه المعتقد الحق وبلزومه القول والعمل والنية على الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تنال مرافقة المصطفى صلى الله عليه وسلم في دار كرامته: الجنة إلا بالعمل، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة ـ قال:""فأعني على نفسك بكثرة السجود "2. فلابد من اعتقاد صحيح وعمل جاد وسعي حثيث مع سؤال الله تبارك وتعالى والاستعانة به وطلب الثبات والعون منه تبارك وتعالى، فالتوفيق منه وحده.
" وكلُّ حديث لم نضفه إلى من أخرجه فهو متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما " هذه قاعدة المصنف في تخريج النصوص الواردة في هذا الكتاب، وقد سبق وأن أشرت إليها، وهي أنَّ كلَّ حديث تركه غفلاً بدون أن يذكر من خرجه فهو في الصحيحين، وهذا منه مراعاة للاختصار.
" آخره والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً " والله تعالى أعلم، وكان الفراغ من هذا الشرح مراجعة وتصحيحاً في منتصف شهر شعبان من عام ثلاثة وعشرين وأربعمائة وألف، فلله الحمد وحده لا شريك له، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
1 الآية 123 من سورة النساء.
2 سبق تخريجه.