المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[مصدر التلقي] التي نطق بها كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل - تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌[مصدر التلقي] التي نطق بها كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل

[مصدر التلقي]

التي نطق بها كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر"

هنا يتكلم المصنف رحمه الله عن مصدر الاستدلال لهذه العقيدة، وهذا الأمر في غاية الأهمية، ولو طالعت عامة كتب السلف المؤلفة في الاعتقاد سواء المطول منها أو المختصر لوجدت أنها تبدأ بهذه البداية: بذكر مصدر الاستدلال، الذي هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا إرشاد إلى أن المعتقد الذي ضُمِّن هذا الكتاب هذا مصدره، وهذا منبعه: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وإذا سلِم للإنسان مصدره سلِم له ـ تبعاً لذلك ـ إيمانه ومعتقده، فمن كان مصدره في الاعتقاد: الكتاب والسنة سلم له اعتقاده. ومن اتخذ لنفسه مصدراً سواهما ضل وانحرف.

يقول ابن القيم رحمه الله: " كثيراً ما كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم "1. ولابن أبي العز الحنفي كلمة جميلة، يقول فيها: " كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " 2، أي أن هذا محال، فلا يمكن للعبد أن يصل إلى الأصول التي هي العقيدة الصحيحة السليمة إلا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بأن يأخذ عقيدته من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا اعتنى السلف رحمهم الله بافتتاح مؤلفاتهم في المعتقد بالإرشاد

1 مفتاح دار السعادة ص 90

2 شرح العقيدة الطحاوية ص 18

ص: 43

إلى هذا المصدر؛ تنبيهاً للمسلم وطالب العلم إلى أهمية إقامة المعتقد على هذا المصدر؛ ليسلم له معتقده. فليس المعتقد للرجال، ولا لآرائهم وأقوالهم"، ولا لأذواقهم ومواجيدهم وأهوائهم، وإنما المعتقد يؤخذ عن الله عز وجل. يقول الوالد ـ حفظه الله ـ: " إنَّ عقيدة أهل السنة والجماعة نزلت من السماء، ولم تخرج من الأرض " نزلت من السماء لأنها وحي من الله، فليس ثمة مجال لأن يخترع إنسان، أو ينشئ، أو يبتدع، أو يتصور، أو يتكلف؛ لأن العقيدة وحي من الله عز وجل.

ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد البلاغ، قال تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلاغُ} 1، فهو مبلغ عن الله تبارك وتعالى، فالرسول مهمته إبلاغ كلام مرسله، ومهمة أتباعه والواجب عليهم سلوك نهجه، وترسم خطاه، فهذا شأن عقيدة أهل السنة، أما عقائد أهل الأهواء فقد خرجت من الأرض ونبتت فيها؛ لأنها من نتاج عقولهم ونسج أفكارهم وحصاد أوهامهم.

بدأ المؤلف هذه العقيدة بهذه البداية المهمة، لينبه طالب العلم على أهمية إصلاح مصدر التلقي وتصحيحه؛ بأن يقيم دينه على الكتاب والسنة. كما قال الأوزاعي رحمه الله:" ندور مع السنة حيث دارت " 2 أي نفياً وإثباتاً، ما ثبت في الكتاب والسنة أثبتناه، وما نفي في الكتاب والسنة نفيناه. ويقول الإمام أحمد رحمه الله:" لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث " 3، وأقوالهم في هذا

1 الآية 48 من سورة الشورى.

2 رواه اللالكائي 1/64

3 انظر: أقاويل الثقات ص234

ص: 44

المعنى كثيرة جداً.

فالسلف هذه طريقتهم: يبنون المعتقد، ويؤسسون الديانة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن أظهر الأمثلة على حرص السلف على تأصيل هذا المبدأ، والتأكيد عليه: أنهم يذكرونه حتى في كتبهم الصغيرة. فهذا مثلاً ابن أبي داود رحمه الله بدأ قصيدته"الحائية"بقوله:

تمسك بحبل الله واتبع الهدى

ولا تك بدعياً لعلك تفلح

ودن بكتاب الله والسنن التي

أتت عن رسول الله تنجو وتربح

هذه البداية لتصحيح مصدر الاستدلال، فإذا صُحِحَ المصدر أُعطِي الطالب أمثلة من أمور الاعتقاد التي جاءت في الكتاب والسنة، وبهذا يسير المؤمن مطمئناً، سوياً على صراط مستقيم.

بينما أصحاب الأهواء يتأرجحون في مصادر الاستدلال، تارة العقل، وتارة الوجد، وتارة المنطق، وتارة الرأي، وتارة الهوى، فأنى لهم أن يستقيم لهم اعتقاد، أو يصح لهم إيمان، أو يسلم لهم طريق؟!

ولهذا كان من أهم ما ينبغي أن يهتم به المسلم وطالب العلم في الإيمان والاعتقاد أن يصحح المصدر الذي يقيم عليه دينه واعتقاده.

ولأجل هذا قال المصنف:"التي نطق بها كتابه العزيز". لاحظ مقارنة بين هذه الطريقة وطريقة المتكلمين، فصفات الله الثبوتية عند المتكلمين لا مجال لمعرفتها إلا بالعقل. فمثلاً الصفات السبعة التي يثبتها الأشاعرة، إنما يثبتونها لدلالة العقل عليها، أما الصفات الأخرى التي جاءت

ص: 45

في القرآن يقولون: لم يدل عليها العقل فلا نثبتها. إذاً مصدر التلقي اختلف، فصاحب السنة يقول: التي نطق بها الكتاب. بينما يقول الأشعري والمتكلم عموماً: التي نطق بها عقلي وتوصل إليها فكري، أما ما سوى ذلك فلا أثبته. فشتان بين الطريقتين، وفرقٌ بين المسلكين.

لما ذكر المصنف رحمه الله مصدر التلقي عند أهل السنة، وصف هذا المصدر فقال:"كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"وأراد بذلك أن ينبه طالب العلم إلى أن هذا المصدر هو كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كل ما فيه حق، قال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 1، وقال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} " 2، وقال سبحانه {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} 3، وقال:{و َتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 4 أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فكلماته سبحانه وتعالى حق وصدق، ولا يأتيه الباطل.

فلو كان هذا من كلام الناس لأخذت منه وأنت خائف، فربما يكون خطأً، أو يكون فيه انحراف، قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 5. أما وهو كلام رب العالمين، فخذ وأنت مطمئن؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. إذا مرت عليك آيات الصفات في القرآن الكريم، هل يجوز لك أن تقلق أو تتردد في قبولها؟ عندما يمر عليك قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6، أو قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 7 أو قوله: {غَضِبَ اللَّهُ

1 الآية 122 من سورة النساء.

2 الآية 87 من سورة النساء.

3 الآية 95 من سورة آل عمران.

4 الآية 115 من سورة الأنعام.

5 الآية 82 من سورة النساء.

6 الآية 5 من سورة طه.

7 الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 46

عَلَيْهِمْ} 1 أو نحوها، عندما تمر عليك مثل هذه الآيات، هل لك أن تقلق؟! أو تستوحش منها؟! أم أنك تأخذها بغاية الاطمئنان؟! "لا شك أنك تأخذها بغاية الاطمئنان؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد.

أمَّا المبتدع فطريقته في التعامل مع هذه الصفات التي في القرآن طريقة أخرى، بل وضع المبتدعة لطلابهم قواعد يحذرونهم بها من نصوص القرآن الكريم، فيقرأ المبتدع القرآن الكريم وهو خائف أن يفسد عليه عقيدته؛ لأنَّ ظواهر القرآن ـ عندهم ـ فيها تشبيه وتجسيم، وفيها أمور لا تليق بالله ـ بزعمهم ـ. ولهذا يقولون لطلابهم: اقرأوا القرآن مجرد قراءة، إياكم أن تحاولوا أن تفهموا شيئاً من القرآن. ووضعوا قواعد كثيرة في هذا الصدد، ولهم كلام في غاية السوء والخبث في هذا المجال.

ومن ضمن هذه القواعد التي وضعوها في الصد عن تدبر القرآن: أن القرآن لا يتدبره إلا مجتهد. وأنه لا يوجد مجتهدون في زماننا. والنتيجة: أن القرآن لا يؤخذ منه ولا يُتدبر، وإنما يقرأ قراءة عابرة لمجرد التعبد.

وعندما يمرون بنصوص الصفات يقرأونها مجرد قراءة، بدون أي فهْم، فهم يستوحشون من كلام الله ومن المعتقد الذي ذكره الله في كتابه وتعبَّد عبادَه بتفهمه وتدبره غاية الاستيحاش، وينفرون منه أشد النفور.

وصح بها النقل عن نبيه": هذا تنبيه للعناية بالصحيح الثابت، وأن المسلم لا يأخذ كلَّ ما يقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يصح به السند إليه صلى الله عليه وسلم. أما الأحاديث الضعيفة، والأحاديث الواهية والموضوعة فلا تقام عليها عقيدة، ولا يؤسس عليها إيمان. إنما تؤسس العقيدة والإيمان على الأحاديث الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ص: 47

وخيرته من خلقه"، في بعض النسخ"من جميع خلقه"والمؤدى واحد.

محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً

تحت هذه الكلمة كلام قد يطول، لكن المصنف رحمه الله لمَّا وصف كتاب الله بتلك الصفات التي توجب على المسلم الإقبال عليه وتدبره والأخذ عنه، ثنَّى بذكر هذه الصفات للنبي المختارصلى الله عليه وسلم؛ ليقبل المسلم وطالب العلم على الأحاديث التي صحت عنه، ويأخذ منها عقيدته بغاية الاطمئنان؛ لأنَّه رسول مبلغ عن الله، بلَّغ البلاغ المبين، ونصح لعباد الله، وأرشدهم لدينه، وبيَّن المحجة، وأقام الملة، ولم يدع لقائل مقالاً ولا لمتكلم مجالاً. وإذا كان الأمر بهذه المثابة وبهذه المكانة، فلماذا يُترك قولُه ويصار إلى قول غيره في المعتقد؟! لماذا لا يسع الناس ما جاء عنه.

الذي بلغ رسالة ربه"بلغ"صلى الله عليه وسلم رسالة الله وافية كاملة، بلا نقص ولا زيادة.

ونصح لأمته"فكان"صلى الله عليه وسلم في غاية النصح، إذ هو أنصح للإنسان من نفسه، وهذا من المعاني التي قيلت في قوله تبارك وتعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1 أي أنه أنصح لك من نفسك، فينصح لنفسك أكثر من نصحك لنفسك، وأحرص على نفسك منك صلى الله عليه وسلم.

وجاهد في الله حق جهاده وأقام الملة الملة هي دين الله عز وجل: الإسلام، فأقامه صلى الله عليه وسلم بالبيان والإيضاح والدلالة والإرشاد والمجاهدة في الله حق جهاده.

1 الآية 6 من سورة الأحزاب.

ص: 48

وأوضح المحجة: المحجة: هي الطريق السوية المستقيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوضح المحجة، كما قال الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} 1.

وأكمل الدين"أي أن الله عز وجل أكمل به الدين، فلم يبق منه شيء إلا بينه صلى الله عليه وسلم، ولم يمتةصلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل في ذلك ـ تنصيصاً وتبييناً ـ قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 2.

وقمع الكافرين"القمع: هو الضرب على الرأس والدفع، فقمعهم أي دفعهم ورد باطلهم، وأزهق شبهاتهم.

ولم يدع لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً"من تمام بيانه أنَّه لا مجال فيه لملحد، ولا لقائل أو متكلم.

وهذا فيه أن الكتاب والسنة فيهما الوفاء والغنية والكفاية، وهذا كلُّه ـ كما أشرت ـ تأكيد على أهمية الاطمئنان والوثوق بالمعتقد الذي يؤخذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنَّه ينبغي على طالب العلم أن يقبل على الكتاب والسنة تمام الإقبال، وأن يتلقى دينه عنهما، ويأخذه منهما، ويعتصم بحبل الله، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.

فروى طارق بن شهاب قال: " جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب"رضي الله عنه "فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر يهود نزلت، نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ

1 الآيتان 52، 53 من سورة الشورى.

2 الآية 3 من سورة المائدة.

3 الآية 101 من سورة آل عمران.

ص: 49

دِيناً} . فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بعرفة عشية جمعة "".

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله مصدر الاستدلال والتلقي عند أهل السنة والجماعة، وبين أنهم يعتمدون في دينهم وإيمانهم بربهم وأسمائه وصفاته على ما نطق به الكتاب وصحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أن الله أكمل بنبيه صلى الله عليه وسلم دينه، وأتم به نعمته، وأقام به حجته، وقمع به الكافرين، وأنه لم يدع لقائل مقالاً ولا لمتكلم مجالاً، لما ذكر ذلك أورد دليلاً على ذلك، وهو قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وقد نزلت في حجة الوداع، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام

فالآية دالة على أن دين الله عز وجل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كامل، وأنه صلى الله عليه وسلم بينه غاية البيان، وأوضحه غاية الإيضاح، فلم يبق شيء من الدين لم يبين، لا في الأصول ولا في الفروع، فلا مجال لإنشاء العقائد من خلال أفكار الناس وآرائهم، ولا لإحداث العبادات وأنواع التقربات إلى الله عز وجل من خلال مواجيد الناس وأذواقهم.

وقول الله تعالى:"دينكم" شامل للأصول والفروع، الدين كله أُكْمل وبُين في الأصول والفروع: بُين فيه ما يتعلق بالاعتقاد والإيمان، وما يتعلق بالأعمال والتقربات إلى الله عز وجل، وما يتعلق بالآداب والأخلاق، كلها بينت بالكتاب والسنة غاية البيان. فإن جئت إلى العقائد التي جاءت في الكتاب والسنة فهي أصح العقائد وأقومها وأسلمها، وإن جئت إلى العبادات التي بينت في الكتاب والسنة فهي أكمل العبادات وأتمها، وإن جئت

ص: 50

إلى الأخلاق التي بينت في الكتاب والسنة فهي أزكى الأخلاق وأطيبها.

فدين هذا شأنه ـ وصفه الباري سبحانه بأنَّه كامل ـ لم يبق على أهله إلا أن يُقبلوا عليه ويتعلموه ويفهموه ويقوموا به على التمام والكمال، فما عليهم إلا أن يتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيأخذوا عنهما دينهم، ويتلقوا منهما إيمانهم، ويعبدوا من خلالهما ربهم تبارك وتعالى. كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. يقول ابن القيم رحمه الله: " فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقدم بين يديه، فأيُّ تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به. قال غيرُ واحد من السلف:"لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر". ومعلوم قطعاً أنَّ من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي، وأشدهم تقدماً بين يديه " 2.

فقول السلف:"لا تقولوا حتى يقول"هذا يتعلق بالاعتقاد. وقولهم:"لا تفعلوا حتى يأمر"هذا يتعلق بالعبادة والعمل.

بينما حال المبتدع على خلاف ذلك، فتجده مفرطاً في جوانب كثيرة من الدين، مخلاً بواجباته التي دل عليها الكتاب والسنة، متشبثاً ببدع اخترعها هو، أو اخترعها له بعض شيوخه.

فأين عقول المبتدعة؟! أين تذهب أفهامهم عن مثل هذه الآية الكريمة الدالة على كمال هذا الدين وتمامه؟! ولهذا من أتى بعقيدة أو عبادة ليست في القرآن والسنة فهو في حقيقة الأمر كالمستدرك على الشارع، بل إنَّ فعله هذا يتضمن اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم أنَّه ترك جوانب من دين الله تبارك وتعالى دون بيان. ولأجل هذا قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله كلمته العظيمة، واستشهد لها بهذه

1 الآية 1 من سورة الحجرات.

2 الصواعق المرسلة 3/996 وقال في إعلام الموقعين 1/51: " والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل ".

ص: 51

الآية الكريمة قال: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "1.

ولما كانت هذه الآية بهذه المكانة،كان على المسلم أن يعرف لها شأنها، ويقدر لها حقها. ولهذا لم يكتف المصنف رحمه الله بإيرادها فقط، وإنما أوردها وأورد معها ما يبين عظم شأنها وجلالة قدرها في قلوب أهل الإيمان. فأورد حديث طارق بن شهاب المتفق عليه:" قال جاء يهودي إلى عمر ابن الخطاب"رضي الله عنه"فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها " أدرك هذا اليهودي قيمة هذه الآية ومكانتها، وعرف أنَّ شأنها عظيم، ومكانتها عالية، فأتى عمر"رضي الله عنه"، وقال:"لو علينا معشر اليهود نزلت، نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً"يعني لعظمنا اليوم الذي نزلت فيه، ولكان له عندنا شأن من أجلها، ولأجل مكانتها وعظم شأنها. فقال عمر"رضي الله عنه":"أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} فذكر عمر" رضي الله عنه"كلاماً مفاده أنَّ هذه الآية لها مكانتها في نفوس المؤمنين، وأنَّ لها قدرها ومنزلتها عندهم، وأنهم يعرفون لها شأنها، فقال"رضي الله عنه":"إني لأعلم اليوم الذي نزلت ـ وفي بعض النسخ: فيه ـ والمكان"فيعلم اليوم أي الوقت الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم المكان الذي نزلت فيه هذه الآية. ثم بين ذلك فقال:

1 الاعتصام للشاطبي 1/111

ص: 52

نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بعرفة، عشية جمعةنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، في ذلك اليوم العظيم، الذي هو سيد أيام السنة وأفضلها، على خلاف بين أهل العلم في أيهما أفضل: يوم عرفة أو يوم النحر الذي بعده. والأقوى أنه يوم عرفة لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله "1. فكان صلى الله عليه وسلم يكثر من أفضل الذكر في أفضل الأيام؛ لأن سيد الأيام يوم عرفة، وسيد الأذكار هو لا إله إلا الله. فالإكثار من سيد الأذكار في سيد الأيام هو في غاية المناسبة والتوافق

فنزلت في يوم عظيم، أعظم أيام السنة: يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة ـ وهو أفضل أيام الأسبوع ـ، وفي هذه الموافقة مزيد فضل لاجتماع فضل الوقتين 2، ولا سيما عشية يوم الجمعة وعشية يوم عرفة، فكل منهما جاءت فيه نصوص خاصة.

والشاهد من هذا الحديث أنَّ لهذه الآية مكانتها في قلوب أهل الإيمان، فينبغي لكلِّ مسلم أن يقدر لها قدرها، وأن يرعى لها حقها، وأن يحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة.

لما ذكر المصنف رحمه الله هذه الآية الكريمة، بنى عليها بيان طريقة السلف رحمهم الله في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، ولا سيما في هذا الباب الذي ألف هذا المصنف لأجله، ألا وهو باب الإيمان والاعتقاد

1 أخرجه مالك في الموطأ 1/422 ـ 423، والترمذي رقم 3585، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 1503.

2 انظر: زاد المعاد لابن القيم 1/60 ـ 65

ص: 53

فقال

: فآمنوا": أي أهل الحق والسنة والاستقامة على هدي خير الأمة محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه"يعني كل ما جاء في الكتاب والسنة من أمور الإيمان تلقوه بالقبول والتسليم والإيمان والتصديق، وعدم الاعتراض أو التردد، كما قال الإمام الزهري رحمه الله: " من الله عز وجل الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم " 1

. وأمرُّوه كما ورد"يعني أمرُّوا هذه الأخبار ـ وفي مقدمتها الأخبار المتعلقة بالأسماء والصفات ـ كما جاءت.

وقول المصنف هذا هو نظير المقولة المشهورة عن السلف، والمنقولة عن غير واحد، منهم: الإمام مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، أنهم يقولون في نصوص الصفات:" أمروها كما جاءت بلا كيف "2.

ومما ينبغي التنبه له: أن السلف في مقالتهم هذه لم يطلقوا إمرار النصوص، بل قيدوا ذلك بأن يكون كما جاءت أو كما وردَت. ونصوص الصفات لم تأت ألفاظاً جوفاء لا معنى لها ولا مدلول، وإنما جاءت محملة بمعاني، فمثلاً قول الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} " 3 جاء محملاً بمعنى، وهو إثبات استواء الله على العرش. وقوله سبحانه: {بَلْ

1 رواه البخاري في صحيحه 13/512 تعليقاً، ووصله الحميدي في النوادر، وابن أبي عاصم في الأدب كما في الفتح 13/513

2 انظر: شرح الاعتقاد لللالكائي رقم 875، 930، والصفات للدارقطني ص70، والاعتقاد للبيهقي ص118

3 الآية 5 من سورة طه.

ص: 54

يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1 جاء محملاً بمعنى، وهو إثبات اليدين لله عز وجل ووصفهما بالبسط، إلى غير ذلك من نصوص الصفات.

فلا يستقيم لأحد إمرارها كما جاءت إلا بإثبات المعنى الذي دلت عليه، فإن عطَّل المعنى، أو فوضه، أو لم يؤمن به لم يكن ممن أمرها كما جاءت. وبهذا يُعلم فساد قول من يقول من الخلف، ولا سيما مَنْ هم على مسلك التفويض، عندما يقولون: إن تفويض المعنى هو طريقة السلف؛ بدليل قولهم:"أمروها كما جاءت"، أي اقرءوها قراءة مجردة بدون أن تفهموا منها أي معنى.

وهذا فهم بعيد ومنحرف. ومما يؤكد هذا الانحراف في الفهم: أن السلف يعقبون قولهم: أمروها كما جاءت بقولهم:"بلا كيف": أي بلا علم منا بالكيفية. وقولهم هذا دال على إثباتهم للمعنى؛ فإنَّ الذي لا يثبت المعنى أصلاً لا يحتاج أن ينفي الكيفية.

ولهذا لو كان مراد السلف بقولهم:"أمروها كما جاءت": مجرد التلاوة بدون فهم لما احتاجوا أن يقولوا: بلا كيف، فإنَّ الذي يحتاج أن يقول: بلا كيف هو من يثبت المعنى. قال الذهبي: " المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحداً سبقهم بها. قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يُعنى به أمران:

أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم. وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها. يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى لها مضايق التأويل والتحريف. وهذا هو مذهب السلف، مع

1 الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 55

اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له، لا في ذاته ولا في صفاته.

الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد؛ فإنَّ الله تعالى فرد صمد، ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا؟! ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ والله إنا لعاجزون كالُّون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كلَّ ليلة إذا توفاها بارئها وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً؟ ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق، وبأنَّ اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأنَّ بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني، فالله أعلم وأعظم، وله المثل الأعلى والكمال المطلق، ولا مثل له أصلاً:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1 " 2.

من غير تعرض لكيفية"هنا يأتي التفويض عند السلف رحمهم الله وهو تفويض علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى لا يفوض بل يثبت. لكن الكيف لا يجوز لأحد ـ كائناً من كان ـ أن يخوض فيه، أو أن

1 الآية 52 من سورة آل عمران.

2 مختصر العلو ص270 ـ 271

ص: 56

يتعرض له، أو أن يقحم فهمه القاصر في معرفته، فإنَّ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل.

ومما يقطع طمع العبد عن إدراك كيفية صفة الرب تبارك وتعالى: علمه بعجزه وقصوره عن إدراك كيفية صفة كثير من المخلوقات، فإنَّه إن عجز عن إدراك كيفية صفة المخلوق، فهو عن معرفة كيفية صفة الخالق تبارك وتعالى أعجز.

وفي هذا الباب قصة لطيفة حصلت لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مع غلام كان يحاول معرفة كيفية صفة الرب جل وعلا، فقال له ابن مهدي:" بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبهه. قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان. فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له: رويدك يا بني، حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه فنحن عن الخالق أعجز. أخبرني عمَّا حدثني شعبة عن سعيد بن جبير عن عبد الله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1 قال: رأى جبريل له ستمائة جناح. فبقي الغلام ينظر. فقال: أنا أهون عليك، صف لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، ورَكِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم. قال: يا أبا سعيد عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت ورجعت " 2

. ومما يقطع الطمع في إدراك كيفية صفات الله: قول المسلمين: الله أكبر أي: أكبر من كلِّ شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم عندما دعاه إلى الإسلام، قال: " ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى

1 الآية 18 من سورة النجم.

2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد 3/530، والذهبي في سير أعلام النبلاء 9/196 ـ 197 واللفظ له.

ص: 57

الله؟ قال: قلت: لا. قال ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفر أن تقول: الله أكبر، وتعلم أن شيئاً أكبر من الله؟ " 1.

فالله عز وجل أكبر من كلِّ كبير، ومهما يخطر في بال الإنسان، ويدور في خياله من كبر في الوصف والجمال والجلال والحسن والكمال فالله أكبر من ذلك، لا يبلغ كنه صفاته الواصفون، ولا يدرك كيفية ذاته الناعتون، الله أكبر وأعظم وأجل من أن تدرك كماله وجلاله وجماله وعظمة صفاته عقول الناس القاصرة.

والسلف رحمهم الله يعدون الخائض في هذا الباب، وهو معرفة كيفية صفة الله من المبتدعة أهل الأهواء، ويعدون مسلكه مسلكاً محدثاً مبتدعاً، كما فعل الإمام مالك رحمه الله عندما سأله السائل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فغضب حتى علاه الرحضاء، أي: العرق وقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، أخرجوه عني "2. فأمر بإخراجه من مجلسه، لأنَّ طريقته طريقة محدثة وباطلة، إذ سأل عن الكيفية، والسؤال عنها أمر باطل، لا يجوز لأحد أن يتعرض له أو يخوض فيه.

إذاً من المحاذير التي ينبغي للمسلم أن يحترز منها عندما يثبت لله تبارك وتعالى صفاته الواردة في الكتاب والسنة: التكييف. ولهذا درج أهل السنة في العقائد التي يكتبونها على التنصيص على التحذير من الوقوع في هذا

1 سبق تخريجه.

2 انظر طرق هذه القصة والكلام عنها في كتابي: الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء دراسة تحليلية وهو مطبوع ضمن العددين 111، 112 من مجلة الجامعة الإسلامية.

ص: 58

المحذور، فيقولون: نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

فلما ذكر المصنف رحمه الله الإثبات ذكر المحذور الأول، وهو عدم التعرض للكيفية، ثم ذكر المحذور الثاني فقال:

أو اعتقاد شُبهَةٍ أو مِثليةٍ"، وفي بعض النسخ:"اعتقاد شِبْهِه أو مِثليةٍ"، وفي بعضها:"شِبْهِه أو مَثِيلِه"والمقصود هنا عدم اعتقاد التشبيه أو التمثيل، يعني أن يحترز المؤمن من الخوض في صفات الله تبارك وتعالى بالتشبيه أو التمثيل، ومعناهما متقارب، وبينهما فروق.

والفرق بين التكييف والتمثيل:

أن التكييف: أن يتصور الإنسان للصفة كيفية في ذهنه يقدرها، سواء كان هذا على سبيل القياس على صفة المخلوق ـ وهذا هو التمثيل ـ أو على سبيل تقدير أمر في الذهن يتوصل إليه بتصوره وفهمه. فالتكييف قد يكون تمثيلاً، وقد لا يكون كذلك

والتمثيل: إثبات الصفة لله تبارك وتعالى على وجه يماثل صفة المخلوق، فيقيس صفة الخالق تبارك وتعالى على صفة المخلوق. ولهذا يقول الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله:" إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يدي، أو سمع كسمعي. فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع. فهذا لا يكون تشبيهاً عنده، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 "2.

وعلى هذا فكلُّ ممثل مكيف؛ لأنه جعل لصفة الله تبارك وتعالى كيفية،

1 الآية 11 من سورة الشورى.

2 اجتماع الجيوش ص152 ـ 153

ص: 59

وهي ككيفية صفة المخلوق. وليس كلُّ مكيف ممثلاً؛ لأنَّه في بعض أحواله لا يقيس صفة الخالق تبارك وتعالى على صفة المخلوق؛ وذلك إذا قدَّر لصفة الله صفة في ذهنه يخترعها، وليست على ضوء ما يراه ويشاهده من المخلوقات. ومما يدل على بطلان التكييف، والتحذير منه قول الله تبارك وتعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1، وقول الله تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2.

وأما الأدلة على بطلان التشبيه، فالنصوص في إبطاله كثيرة، منها قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 4، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، أي: لا سمي له. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 5، وقوله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6.

فالسلف رحمهم الله يقولون في الله عز وجل: " لا يقاس بخلقه "، ومرادهم بذلك إبطال التمثيل؛ لأنَّ التمثيل قياس للربِّ الكامل العظيم بالمخلوق الناقص الضعيف.

" أو تأويل يؤدي إلى التعطيل"وهذا هو المحذور الثالث من المحاذير التي ينبغي أن يجتنبها المسلم عند إثباته الصفات لله تبارك وتعالى: التأويل.

والتأويل منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم، ولهذا قيد المصنف رحمه الله التأويل بقوله:"الذي يؤدي إلى التعطيل".

فالتأويل الممدوح هو: تفسير النص، وفهم معناه ومدلوله على ضوء مراد الله تبارك وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا حق ومطلوب، وهو الذي

1 الآية 36 من سورة الإسراء.

2 الآية 110 من سورة طه.

3 الآية 11 من سورة الشورى.

4 الآية 65 من سورة مريم.

5 الآية 4 من سورة الإخلاص.

6 الآية 22 من سورة البقرة.

ص: 60

يسميه السلف تأويلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس:" اللهم علمه التأويل "1. ومنه قول ابن جرير الطبري رحمه الله:"تأويل هذه"الآية كذا"أي: تفسيرها. وكذا قوله:"قال أهل التأويل"أي: أهل التفسير.

والتأويل الذي يُحذر ويجتنب ويذم هو: الذي يؤدي إلى التعطيل، ويفضي إلى الإنكار، وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير قرينة تدل عليه. والمبتدعة معطلة الصفات عندهم قرينة واحدة مبنية على التوهم الفاسد اتكأوا عليها في تأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها، ألا وهي دفع التشبيه، فزعموا أنَّ ظواهر نصوص الأسماء والصفات في الكتاب والسنة موهمة للتشبيه، ولهذا خاضوا فيها بالتأويل تنزيهاً لله تبارك وتعالى بزعمهم ـ، فنزهوا الله بتعطيل صفاته، وصرفها عن ظواهرها إلى معان ليست مرادة له تبارك وتعالى، ولا لرسوله"صلى الله عليه وسلم."

كما قال صاحب الجوهرة:

وكلُّ نص أوهم التشبيه

أوِّلْه أو فوض ورُمْ تنزيهاً

فقوله:"أوِّله"مبني على توهم التشبيه، فهؤلاء الذين تأولوا النصوص عن ظواهرها وصرفوها عن مرادها سبب ذلك فيهم أنهم تلوثوا بالتشبيه أولاً، فأرادوا أن ينزهوا الله عن هذا الذي وقع في نفوسهم، فأولوا النص وصرفوه

1 أخرجه أحمد 1/266، وابن حبان رقم 7055، والحاكم 3/617 وقال: صحيح الإسناد.

وأصل الحديث بدون لفظ التأويل في البخاري رقم 75، ومسلم رقم 6318

ص: 61

عن مراده، فعطَّلوا بذلك الرب تبارك وتعالى عن صفة كماله. وكما قيل: البدع يولد بعضها بعضاً. فكلُّ تأويلات المبتدعة لنصوص الصفات مبنية على هذا التوهم

. وفي مثل هذا يقول أبو حيان التوحيدي: " أناس مضوا تحت التوهم، وظنوا أنَّ الحق معهم، ولكنَّ الحق وراءهم " فهم سائرون تحت التوهم، يتوهمون شيئاً فيبنون عليه أشياء، يظنون أنَّ الحق معهم، ولكنَّ الحق وراءهم. قال الذهبي ـ معلقاً على هذه الكلمة ـ:" قلت: أنت حامل لوائهم " 1؛ لأنَّه متكلم وفيلسوف.

فهؤلاء ماضون تحت توهم التشبيه، يظنون في النص أنَّه موهم للتشبيه. ولهذا قال قائلهم: وكلُّ نص أوهم التشبيه. والنص لا يوهم التشبيه إلا عند المريض الذي فيه لوثة. يقولون: لا نعقل من هذه النصوص إلا ما نراه في الشاهد. أي ما ثمة إلا المشابهة، ثم إنهم أرادوا الفرار من التشبيه الذي تلوثوا به فصاروا إلى التأويل والتعطيل، ظلمات بعضها فوق بعض.

أما صاحب السنة فلا يتوهم في كلام الله تشبيهاً، وحاشاه سبحانه"أن يوهم كلامه أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً. ولهذا لما سمع الصحابة رضوان الله عليهم آيات الصفات وأحاديثها لم يدر في خواطرهم الصفات التي يرونها في المخلوقين، بل عرفوا أنَّ هذا وصف يليق بالرب العظيم وجلاله وكماله.

وقول المصنف:"يؤدي إلى التعطيل"هذا فيه إشارة إلى المحذور الرابع الذي يجب على المسلم اجتنابه عند إثباته لله الصفات، وهو التعطيل.

1 سير أعلام النبلاء 17/121 ـ 122

ص: 62

والتعطيل: هو النفي وعدم الإثبات، ومنه قول الله تعالى:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 1 أي: متروكة ومهجورة.

فتعطيل الصفات: نفيها وعدم إثباتها لله تبارك وتعالى، والمؤول الذي هو في الحقيقة محرف للنص معطل لصفة الله تبارك وتعالى؛ لأنَّه لا يستقيم التحريف إلا بتعطيل الصفة الثابتة بالنص، ولهذا يقول العلماء:"كلُّ محرف معطل، وليس كلُّ معطل محرفاً.

فكلُّ محرف معطل؛ لأنَّ من يحرف الصفة، مثل من يقول: رحمة الله هي إرادة الإنعام. هذا محرف، وفي الوقت نفسه معطل؛ لأنَّه عطل صفة الرحمة لله تبارك وتعالى ولم يثبتها. وكذلك من يقول عن الغضب إنَّه إرادة الانتقام فهو محرف، وفي الوقت نفسه معطل.

وليس كلُّ معطل محرفاً؛ لأنَّ المعطل قد يكتفي بالتعطيل دون أن يخوض في ذكر معنى آخر للنص، كأن يقول في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لم يستو على العرش. أو يقول في قول الله تعالى: {قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ليست لله يدان. فهذا تعطيل، لكن ليس فيه تحريف للنص، إذ لم"يذكر له معنى آخر.

وعلى كلٍّ فهذا تلخيص جميل بدأ به المصنف رحمه الله بيَّن من خلاله منهج أهل السنة والجماعة في الصفات، وأنَّ منهجهم قائم على الإثبات، وهو واضح في قوله:"وأمروه كما ورد". مع الاحتراز من المحاذير الأربعة التي ذكرها: التكييف، والتمثيل، والتحريف الذي هو التأويل، والتعطيل. فهذه هي طريقة أهل السنة الجماعة: يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف،

1 الآية 45 من سورة الحج.

ص: 63

ولا تمثيل. ولو قارنت بين هذا وبين ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية 1، وما يذكره أئمة السلف في كتب العقيدة، تجده كله على نسق واحد؛ لأنَّه كلَّه مأخوذ من مشكاة واحدة.

" ووسعتهم السنة المحمدية" وسعتهم: أي كفتهم السنة، يعني وجدوا فيها الكفاية والغنية والشفاء، فلم يحتاجوا إلى غيرها، ولم يتجاوزوها إلى ما سواها.

كان أحد السلف في مناظرة مع أحد المتكلمين، في شيء يتعلق بالصفات، فقال: هذا الذي تقوله، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل علمه الصحابة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ أم هو شيء علمته أنت ولم يعلمه هؤلاء وادُّخِرَ لك دونهم؟

إنْ قال: علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه الصحابة فيطالب بالبيان، أين ما يدل على ذلك في الأحاديث، وأين ما يدل على ذلك في كلام الصحابة.

وإن قال: لم يعلموه، فيكون ادعى لنفسه شيئاً ادُّخِر له لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه. وفي أثناء المناظرة قال له: ألا يسعك ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، وما وسع أصحابه. فالصحابة رضوان الله عليهم وسعهم القرآن، ووسعتهم السنة، ووجدوا فيهما الكفاية والغنية.

ومما يدل على هذا المعنى في القرآن: قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) 2، فالقرآن فيه الكفاية والغنية.

1 قال رحمه الله ص 65: " ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وبما وصفه به رسوله محمد ? من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ".

2 الآية 51 من سورة العنكبوت.

ص: 64

"المحمدية"أي: سنة النبي الكريم محمدصلى الله عليه وسلم.

والطريقة المرضية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه"رضوان الله عليهم". والمرضية: أي التي رضيها الله كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1، وقال سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} 2، فهذا طريق رضيه الله لعباده، وطريقة مرضية كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

ولم يتعدوها إلى البدعة أي لم يتجاوزوا السنة المحمدية والطريقة المرضية إلى البدعة، وإنما اكتفوا بالسنة، واقتصروا عليها، ولم يتجاوزوها

. ثم وصف البدعة بصفتين فقال:

"المردية"أي: المهلكة لصاحبها، ومنه قوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، أرداكم: أي أهلككم، فالبدعة مهلكة لصاحبها.

" الردية"أي: الفاسدة في نفسها. فهاتان صفتان للبدع عموماً، فهي كلها فاسدة في نفسها ومهلكة لصاحبها.

والمصنف رحمه الله وصف أهل الحق بصفتين، الأولى: تمسكهم بالسنة. والثانية: بعدهم عن البدعة. وهذان الأمران هما اللذان تكون بهما النجاة والسلامة عند حدوث الافتراق والاختلاف، كما قال"صلى الله عليه وسلم:" إنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار " "4. وقد عبَّر

1 الآية 3 من سورة المائدة.

2 الآية 153 من سورة الأنعام.

3 الآية من سورة فصلت.

4 سبق تخريجه.

ص: 65

عنهما بقوله:"وسعتهم السنة المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية".

" فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية"يعني بتمسكهم بالسنة ومجانبتهم"للبدعة حازوا أي: نالوا وحصَّلوا بذلك الرتبة السنية

."والرتبة السنية": الدرجة الرفيعة، من السناء وهو العلو والرفعة.

و"المنزلة العلية": أي العالية الرفيعة.

وبهذا يُعلم أن نيل المراتب العالية والمنازل الرفيعة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بهذين الأمرين: التمسك بالسنة، ومجانبة البدعة، وبالله وحده التوفيق.

ص: 66