الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صفة العلو]
"فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه: أنَّه مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه"
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تأصيلاً عاماً لمنهج أهل السنة والجماعة، وبيَّن طريقتهم في الصفات، وأنهم يثبتون لله تعالى صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه الذي يليق به، بلا تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل، بدأ يسوق بشيء من التفصيل بعض صفات الله الثابتة في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعض أدلتها على سبيل المثال لا الحصر، شأنه في ذلك شأن أهل العلم في مثل هذه المختصرات.
وهو بما يذكره يرشد إلى ما لم يذكره من صفات الله تبارك وتعالى العظيمة ونعوته الكريمة التي دل عليها كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبدأ رحمه الله بهذه الصفة العظيمة: علو الله تبارك وتعالى على خلقه، وذلك فيما يظهر لي ـ والله تعالى أعلم ـ لسببين:
الأول: كثرة الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الدالة على هذه الصفة. ومن أهل العلم من عد أدلة علو الله في الكتاب والسنة بالآلاف، كما قال ابن القيم في كافيته الشافية:
يا قومنا والله إنَّ لقولنا
…
ألفاً تدل عليه بل ألفان
فيقسم رحمه الله بالله أنَّ أدلة علو الله تبارك وتعالى ألف أو ألفان. وهي كما بين أهل العلم تدخل تحت أنواع، عدَّ ابن القيم منها عشرين نوعاً، سأذكر بعضها؛ لأنَّ المصنف رحمه الله أشار إلى جملة منها.
فمنها: تصريحه سبحانه باستوائه على العرش.
ومنها: إخباره سبحانه بأنَّه في السماء. ومنها: إخباره سبحانه بصعود بعض المخلوقات وعروجها إليه
ومنها: إخباره سبحانه بنزول كلامه منه، والنزول لا يكون إلا من علو.
ومنها: تصريحه سبحانه بعلوه. ومنها: تصريحه سبحانه بالفوقية: فوقيته على خلقه. وتحت كلِّ نوع من هذه الأنواع عشرات الأدلة.
أما السبب الثاني فهو: أنَّ علو الله عز وجل على كثرة أدلته ووضوح براهينه ودلائله فإنَّ غلط أهل الأهواء والباطل وضلالهم فيه كثير، وكلامهم في إنكار العلو وعدم إثباته كثير جداً، فشككوا الناس في عقائدهم وأديانهم وإيمانهم، وترتب على قولهم الباطل هذا؛ إنكار العلو: الخلوص إلى أحد مذهبين فاسدين:
الأول: أنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه. وهذا وصف لله تبارك وتعالى بالعدم كما قال بعض السلف في وصف هؤلاء المعطلة:" المعطل يعبد عدماً "1. وقال آخر: " تأملت قول الجهمية، فوجدت مؤداه أنه ليس فوق العرش إله يُعبد، ولا رب يُصلى له ويُسجد " 2؛ لأنهم إذا قيل لهم: صفوا لنا ربكم الذي تعبدون يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. وهذا هو العدم، بل لو طُلِب من أحد أن يصف العدم بصفة بليغة لما وجد أكمل ولا أحسن من هذه
1 انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية 4/406، والصواعق المرسلة 1/148
2 انظر: الصواعق المرسلة 1/235
الصفة التي يصف بها الجهمية ربهم 1.
الثاني:"أنَّ الله ـ تعالى عما يقول الظالمون ـ في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان، فهو في السماء وفي الأرض وفي الهواء، وفي كلِّ مكان. وترتب على هذا القول ظهور العقائد التي كثرت في أهل الباطل، مثل: الاتحاد، والحلول، ووحدة الوجود، وغير ذلك من العقائد المنحرفة الفاسدة.
فليس أمام من ينكر علو الله إلا إحدى هاتين العقيدتين، وكتب أهل الباطل والأهواء ـ الذين حادوا عن طريقة الكتاب والسنة وكثر كلامهم وضلالهم ـ مليئة بهذا الباطل بنوعيه، مشحونة بالشبه في تقريره.
فلأجل هذين السببين ـ والله تعالى أعلم ـ بدأ المصنف بذكر صفة العلو.
ولما شرع رحمه الله في بيان هذه الصفة، سلك مسلك غير واحد من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في ذكر أنواع أدلة العلو مكتفياً بذكر أمثلة من أفراد أدلتها؛ ليرشد بها إلى نوع الدليل، لأنَّه ـ كما ذكرت ـ ليس الاتجاه في مثل هذه المختصرات إلى الاستقصاء، وإنما ذكر شيء يدل"على غيره. فبدأ بالاستواء، واستواء الله سبحانه على عرشه أحد أدلة علوه تبارك وتعالى على خلقه؛ لأنَّ الاستواء في لغة العرب هو: العلو والارتفاع، فمعنى:" استوى على العرش"أي ـ بإجماع السلف ـ: علا وارتفع عليه؛ لأننا خوطبنا بلغة العرب، ومدلول هذه الكلمة في لغة العرب هو هذا، ليس لها مدلول إلا العلو والارتفاع.
فالاستواء إذاً علو وارتفاع، لكن بين صفتي العلو والاستواء بعض
1 ولهؤلاء الجهمية ورثة إلى عصرنا هذا، وأحد المعاصرين كتب كتاباً بعنوان: حسن المحاججة في بيان أن الله لا داخل العالم ولا خارجه قرر فيه هذه العقيدة الباطلة.
الفروق، منها: أنَّ العلو صفة ذاتية لله تعالى. أما الاستواء فهو صفة فعلية اختيارية تتعلق بالمشيئة. ومنها: أنَّ الاستواء صفة خبرية: دل عليها الخبر، ولولا الخبر والأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة لما عرف الناس هذه الصفة. أما العلو فهو صفة دل عليها العقل مع دلالة الخبر، فالعقل يدل على علو الله، ومن الأدلة التي ذكرها أهل العلم على علو الله: العقل والفطرة بالإضافة إلى النقل. ولهذا فإنَّ الله خاطب المشركين ـ مخوفاً لهم بهذا الذي يؤمنون به ـ فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أ} 1 أي أأمنتم مَنْ تعلمون أنَّه في السماء.
وكذلك يأتي في أشعار الجاهليين الإقرار بأنَّ الله في السماء، مما يؤكد استقرار ذلك في فطرهم، كما قال أحدهم:
يا عبل أين من المنية مهربُ
…
إن كان ربي في السماء قضاها
وعن عمران بن حصين"رضي الله عنه"قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: "يا حصين، كم تعبد إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستاً في الأرض وواحداً في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " 2 فعرف حصين"رضي الله عنه" أنَّ ربه في السماء وهو مشرك.
والاستواء دليل على علو الله تبارك وتعالى على خلقه، فعرش الرحمن هو سقف المخلوقات وأعلاها، والله عز وجل مستو على عرشه. قال رسول
1 الآية 16 من سورة الملك.
2 أخرجه الترمذي رقم 3483 وقال: هذا حديث غريب، وأحمد 4/444، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم 2355، والبزار رقم 3580 وإسناده جيد.
الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنَّه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة "1. ومعنى العرش في لغة العرب: سرير الملك، قال الأزهري: " العرش في كلام العرب: سرير الملك، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله عز وجل عرشاً فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ2 " 3.
وقد ورد للعرش في الكتاب والسنة صفات عديدة.
ـ منها: أنَّه سقف المخلوقات وأعلاها وأكبرها وأوسعها، قال رسول الله" صلى الله عليه وسلم:" ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة "4.
فإذا كان الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في صحراء، فماذا تساوي السماوات والأرض بالنسبة للعرش؟! أو ماذا تساوي الأرض التي نحن عليها بالنسبة للعرش؟!
ـ ومن أوصافه الواردة في السنة: أن له قوائم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" لا تخيروا بين الأنبياء، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش "5.
1 أخرجه البخاري رقم 2790
2 الآية 23 من سورة النمل.
3 تهذيب اللغة 1/413
4 أخرجه ابن أبي شيبة في العرش رقم 58، وأبو نعيم في الحلية 1/166، وأبو الشيخ في العظمة 2/648 ـ 649، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم 861 وللحديث طرق أخرى ذكرها الألباني في الصحيحة رقم 109 وقال:" وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح ".
5 أخرجه البخاري في صحيحه رقم 2412، ومسلم رقم 6103
ـ ومنها: أنَّه أثقل المخلوقات وزناً، كما قال صلى الله عليه وسلم:" سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته "1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فهذا يبين أنَّ زنة العرش أثقل الأوزان " 2.
ـ ومنها: أنَّه مجيد، كما قال تعالى:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 3. قال ابن كثير: " المجيد فيه قراءتان: الرفع على أنَّه صفة للرب عز وجل، والجر على أنَّه صفة للعرش. وكلاهما معنى صحيح " 4.
والمجد في لغة العرب يعطي معنى السعة، تقول العرب: أمجد الناقة علفاً أي أوسع لها وأكثر لها العلف. ويقولون: استمجد المرخ والعفار ـ وهما نوعان من الشجر ـ أي كثر وجودهما بشكل واسع وكبير.فهذا الوصف: المجيد يدل على السعة، وهو في حق الله تعالى دال على سعة صفاته وعظمتها وكمالها وجلالها.
وقد نبه ابن القيم رحمه الله على قاعدة مفيدة فيما يتعلق بأسماء الله، وهي أنَّ منها ما يدل على صفة واحدة، مثل السميع فهو دال على صفة السمع. والبصير دال على صفة البصر. والرحيم دال على صفة الرحمة. ومنها ما يدل على أكثر من صفة، مثل السيد والعظيم والمجيد، فالمجيد هذا يدل على صفات كثيرة 5.
1 أخرجه مسلم رقم 6851
2 الرسالة العرشية ص 8
3 الآية 15 من سورة البروج.
4 التفسير 4/497
5 انظر: بدائع الفوائد 1/168
ـ ومنها: أنَّ له حملةً من الملائكة، قال تبارك وتعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 1.
ـ ومنها: الكرم والعظمة، قال تعالى:{لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 2، وقال:{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وهذه الصفات كلُّها تدل على أنَّه مخلوق عظيم موجود، والله تبارك وتعالى مستو عليه استواءً يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه، لا يشبه استواء المخلوقين.
فالمؤلف بدأ بهذا الدليل، وهو ذكر الآيات الدالة على استواء الله تبارك وتعالى على عرشه، وذكر رحمه الله أنَّ الله سبحانه صرح باستوائه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه الكريم، ثم ساقها فقال
: فقال عز من قائل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة يونس عليه السلام {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة الرعد:{الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال في سورة الفرقان:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} ، وقال في سورة السجدة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة الحديد:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش"
1 الآية 17 من سورة الحاقة.
2 الآية 116 من سورة المؤمنون.
3 الآية 129 من سورة التوبة.
فهذه سبعة مواضع في القرآن ورد فيها التصريح بالاستواء، ولم يرد في أيِّ موطن من القرآن بلفظ آخر كـ"استولى على العرش"، وكأن المصنف رحمه الله يشير بتنصيصه على هذه المواضع السبعة إلى إبطال تأويل من تأول الاستواء على غير معناه، إذ لو كان المراد الاستيلاء عليه لجاء ولو في موضع من هذه المواضع السبعة"ثم استولى على العرش"حتى يمكن القول بحمل هذا على هذا، أمَا وقد اتفق اللفظ في هذه المواضع السبعة فلا يمكن ذلك.
وقد نبَّه أهل العلم على فائدة مهمة فيها رد على أهل الأهواء الذين يتأولون الاستواء، ألا وهي أنَّ السياق في جميع هذه المواضع السبعة في بيان عظمة الله وجلاله وكماله بذكر صفاته ونعوته سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يثني على نفسه ويمجدها ويعظمها بذكر صفاته، ومن بين هذه الصفات التي أثنى بها على نفسه: استواؤه على العرش: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . ومع ذلك يأتي المبتدعة إلى هذه الآيات فيقولون: الاستواء على العرش لا يليق به سبحانه، ونحن ننزهه عن ذلك، فينزهون الله عما مدح به نفسه، وأثنى عليها به. {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1 كما أنَّ الاستواء على العرش جاء في أكثر هذه المواضع معطوفاً بالحرف" ثم"ـ الذي يفيد الترتيب والمهلة ـ بعد ذكره خلق السماوات والأرض:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
وهذا ـ أيضاً ـ فيه إبطال لمن يتأول الاستواء بغير معناه، كمن يقول: الاستواء على العرش هو الاستيلاء عليه، يعني مُلْكَه للعرش وغلبته
1 الآية 140 من سورة البقرة.
وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه دراسات في منهج أهل السنة في الأسماء والصفات ص 15 ـ 17 كلام جميل حول هذه الآيات السبع، وبيان أنها سيقت في سياق بيان عظمة الله تبارك وتعالى بذكر عظمة صفاته.
عليه، إذ لو كان استواء الله على عرشه ـ الذي هو المُلك كما يزعمون ـ للزم منه أنه لم يحصل ملك الله للعرش إلا بعد خلق السماوات والأرض!!
فحاول هؤلاء المعطلة التخلص من هذا اللازم فقالوا:"ثم"ليست على بابها، فهي في هذه المواضع لا تفيد الترتيب والمهلة.
إذاً فـ"ثم"محمولة عندهم على غير بابها، واستوى محمولة على غير بابها، والعرش"محمول على غير بابه؛ لأنه ـ بزعمهم ـ كناية عن العظمة، والرحمن"أيضاً محمول على غير بابه؛ لأنه كناية عن إرادة الإنعام. إذاً فليس في الآية شيء على بابه!! فركبوا مجازات بعضها فوق بعض وتحريفات بعضها فوق بعض، وكلُّ ذلك إمعان منهم في إنكار استواء الله تبارك وتعالى على عرشه.
ثم إنَّ استواءه تبارك وتعالى على عرشه ليس عن حاجة، بل عن غنى تام، فهو تبارك وتعالى الممسك للعرش والسماوات والأرض بقدرته، وهو الغني عن العرش وما دونه، والعرش وما دونه فقراء محتاجون إلى الله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} 1، وقال تبارك وتعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2 فهو الممسك للسماوات والأرض والعرش وكل المخلوقات بقدرته تبارك وتعالى.
أما المخلوق فإذا استوى على شيء، فإنما يستوي عليه عن حاجة، كما في قوله تعالى:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 3 أي الفلك والأنعام. فاستواء المخلوق على الفلك والأنعام هو عن حاجة منه إليها، بحيث لو غرقت الفلك لغرق، ولو سقطت الدابة لسقط.
1 الآية 41 من سورة فاطر.
2 الآية 2 من سورة الرعد.
3 الآية 13 من سورة الزخرف.
وهنا قاعدة يقررها أهل العلم في هذا الباب مهمة للغاية، وهي أنَّ لازم الصفة عند إضافتها إلى الله تبارك وتعالى لا يكون لازماً للصفة عند إضافتها إلى المخلوق، وكذلك العكس.
فمثلاً: من لوازم إضافة الاستواء إلى المخلوق: احتياجه لما هو مستو عليه، وهذا اللازم خاص بمن أضيف إليه وهو المخلوق. فإذا أضيف الاستواء إلى الله تبارك وتعالى لا يصح بأيِّ وجه من الوجوه أن نضيف إليه لازم الصفة حال إضافتها إلى المخلوق.
وبهذا يُعلم فساد أقوى شبهة عند هؤلاء لإنكار الاستواء، وهي قولهم: لو أثبتنا أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه حقيقة للزم من ذلك أن الله محتاج إلى العرش.
وقد جاءتهم هذه الشبهة من جعلهم لازم الصفة حال إضافتها للمخلوق لازماً للصفة حال إضافتها للخالق، وهذا سبب الفساد وأساسه في هذه الصفة، بل وفي كلِّ صفة خاض فيها هؤلاء بالباطل.
وأهل العلم يقولون: الصفة لها ثلاثة اعتبارات 1:
الاعتبار الأول: من حيث الإطلاق، أي بدون أن تضاف لا إلى خالق ولا إلى مخلوق. فعندما نقول الاستواء، ولا نضيفه لا إلى الله، ولا إلى الخلق. فهو في هذه الحال أمر في الذهن، لا حقيقة له في الخارج.
الاعتبار الثاني: اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى، مثل استواء الله على العرش:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهنا الصفة مضافة إلى الله، والإضافة تقتضي التخصيص، فالصفة المضافة إلى الله تخصه سبحانه وتعالى وتليق بجلاله وكماله، ولازمها: الكمال اللائق
1 انظر: بدائع الفوائد 1/165
بجلاله وعظمته. وهذا اللازم لا يجوز أن يجعل لازماً للصفة عندما تضاف للمخلوق.
الاعتبار الثالث: اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى المخلوق، ولازم الصفة في هذه الحال: النقص والضعف، وهي تليق بالمخلوق وبضعفه ونقصه وكونه مخلوقاً. وهذا اللازم الذي يلزم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق ليس لازماً للصفة باعتبار إضافتها إلى الخالق.
فإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق لازماً لها باعتبار إضافتها إلى الخالق يكون بذلك تشبيه للخالق بالمخلوق، وإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها للخالق لازماً للصفة باعتبار إضافتها للمخلوق يكون بذلك تشبيه للمخلوق بالخالق، والله عز وجل لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه، فكلا التشبيهين باطل: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله:" لا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه "1.
والوجوه التي ذكرها أهل العلم في إبطال هذا التحريف لعلو الله واستوائه على عرشه كثيرة جداً، وهي مبسوطة في الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله 2.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إنَّ رحمتي سبقت غضبي. فهو عنده فوق العرش "
1 الفقه الأكبر ص14، وانظر: شرح الطحاوية ص117
2 مختصر الصواعق 2/126 ـ 158
بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من ذكر النوع الأول من الأدلة على علو الله، وهو: التصريح بالاستواء على العرش شرع بذكر النوع الثاني: وهو التصريح بالفوقية.
وقد جاء هذا النوع من الأدلة في القرآن والسنة، كما قال الله تبارك وتعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1، وقال سبحانه:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 2.
وحديث أبي هريرة الذي أورده المصنف فيه التصريح بفوقية الله تبارك وتعالى على عرشه، والشاهد فيه قوله: وهو" عنده فوق العرش " عنده أي عند الله فوق العرش.
والحديث مشتمل ـ إضافة إلى دلالته على فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه ـ على ذكر صفتين، وهما الرحمة والغضب، في قوله:"إن رحمتي سبقت ـ وفي رواية غلبت ـ غضبي".
كما أنه أحد الأدلة التي استدل بها أهل العلم على التفاضل بين صفات الله تبارك وتعالى، فقد بيَّن سبحانه أنَّ رحمته سبقت غضبه وغلبته، وهو دليل على أن الرحمة أفضل.
ومن الأدلة ـ أيضاً ـ على التفاضل: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في سجوده: " اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " 3 والمستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، والكلُّ صفة لله تبارك وتعالى 4.
وروى العباس بن عبد المطلب "رضي الله عنه" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر
1 الآية 50 من سورة النحل.
2 الآية 18 من سورة الأنعام.
3 أخرجه مسلم رقم 1090
4 لأخينا الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو سيف حفظه الله رسالة قيمة جداً بعنوان: مباحث المفاضلة في العقيدة تناول فيها هذا الموضوع وبسط الكلام فيه.
سبع سماوات وما بينها، ثم قال:" وفوق ذلك بحر: بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش، ما بين أعلاه وأسفله ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني"
هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال، وهو دال على ما دل عليه الحديث السابق من فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه.
والشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخره:"والله فوق ذلك"، والمؤلف رحمه الله ساق الحديث لهذا الشاهد، وقد عرفنا أن فوقية الله دلت عليها نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الحديث الذي ساقه المصنف رحمه الله ضعيف الإسناد، قال الذهبي:" تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة " 1، وقال الألباني:" إسناده ضعيف "2.
فالحديث فيه كلام، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عدم ثبوته لا يضر هنا، لأنَّ الصفة التي ساق المصنف لأجلها هذا الحديث ثابتة في الحديث الذي قبله، وفي القرآن الكريم، فلعله ذكره هنا استئناساً لا اعتماداً ـ إن كان غير ثابت عنده 3 ـ فإنَّ من أهل العلم من حسَّن هذا الحديث 4، وهذا ربما للشواهد
1 العلو ص50
2 ظلال الجنة ص 254
3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقض المنطق ص23: " وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة، بل إما في تأييده، وإما في فرع من الفروع ".
4 قال الترمذي في سننه رقم 3320: " حسن غريب "، وصححه الحاكم في مستدركه 2/410
العامة فيما يتعلق بالفوقية، أما فيما يتعلق بالأوعال فلا أعرف له شاهداً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الملاحظ أنَّ المصنف رحمه الله أعقب هذا الحديث بذكر من خرَّجه فقال:"رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني"وقد سبقت أحاديث لم يعزها إلى من أخرجها، وذلك أنَّ له رحمه الله"قاعدة في كتابه هذا، نبَّه عليها في آخره، وهي أنَّ الحديث إذا كان متفقاً عليه عند الشيخين البخاري ومسلم فإنَّه يتركه بدون عزو. أما إذا كان في البخاري وحده أو في مسلم وحده أو في غيرهما من الكتب فإنَّه يذكر من خرجه ويعزوه إليه. وعليه فإذا رأيت في هذا الكتاب حديثاً لم يخرجه المصنف فاعلم أنه متفق عليه رواه البخاري ومسلم.
ثم أورد المؤلف رحمه الله هذا الأثر: وقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومالك بن أنس في قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ""
أولاً: فيما يتعلق بأم سلمة، لم يصح عنها هذا القول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" رُوِي هذا الجواب عن أم سلمة"رضي الله عنه"موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه "1. وقال الذهبي: " فأمَّا عن أم سلمة فلا يصح " 2.
أما عن الإمام مالك بن أنس، فقد جمعت من روى عنه هذا الأثر في رسالة 3 فبلغوا عشرة"، وهو ثابت عنه بأسانيد صحيحة، وتناقله أهل العلم
1 الفتاوى 5/365
2 العلو ص 65
3 سبق الإشارة إلى هذه الرسالة، وهي بعنوان الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء دراسة تحليلية
عنه وتلقوه بالقبول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " قد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره "1.
ويعتبر هذا الأثر قاعدة متينة، تغيظ أهل الأهواء كثيراً؛ وذلك لأنَّه يقرر منهجاً متكاملاً لأهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، وليس مختصاً بالاستواء فحسب. قال ابن القيم رحمه الله:" وهذا الجواب من مالك"رضي الله عنه"شاف، عام في جميع الصفات "2.
ولهذا دأب المبتدعة قديماً في محاولة تحريف معناه بأنَّ الإمام مالكاً أراد بقوله:"الاستواء معلوم"أنَّه معلوم الورود في القرآن الكريم. هكذا يقولون. وقد تصدى أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المحاولات وبينوا فسادها من وجوه كثيرة. ولم يتجرأ أحد منهم ـ فيما أعلم ـ على نقض إسناده والطعن في ثبوته، حتى جاء أحد المعاصرين فتجرأ على ما لم يتجرأ عليه أسلافه، فجمع بعض طرق هذا الأثر وأخذ ينتقدها بذكر كلام أهل العلم في جرح بعض رواته ـ مع إهمال ذكر من وثقه ـ مع غضه الطرف عن بعض الطرق الصحيحة، الواضحة الثبوت. فانتقى بعض الأسانيد وقال: جميع هذه الأسانيد لا تثبت. ثم قال: فإن قيل ألا يقوي بعضها بعضاً؟ قال: لا؛ لأنَّ ضعفها شديد. ثم قال: وعلى فرض ثبوته ـ هذا على سبيل التنزل ـ يبقى رأياً للإمام مالك، وليس قولاً ملزماً للأمة.
وهي محاولة فاشلة للإطاحة بهذا الأثر إسناداً أو متناً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، والحق أبلج والباطل لجلج.
1 مجموع الفتاوى 13/309، وانظر: 5/520
2 مدارج السالكين 2/86
"الاستواء غير مجهول"يعني: معلوم المعنى عند من يعرف اللغة العربية؛ معناه: العلو والارتفاع، أي لا يجهل معناه أحد يعرف اللغة.
"والكيف غير معقول"أي الكيف الذي تسأل عنه مجهول. ولم يقل معدوم. وفي هذا فائدة أن صفة الله لها كيفية لكننا نجهلها. ففرق بين أن يقال: الكيف معدوم، والكيف مجهول. فالكيف مجهول يعني أنه ثابت لله، وأن صفة الله لها كيفية؛ فإن ما لا كيفية له لا وجود له، لكن النفي هنا لعلمنا بالكيفية.
"والإقرار به إيمان والجحود به كفر": لفظ الإمام مالك:"والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
الإيمان به يعني الاستواء. والسؤال عنه أي: عن كيفية الاستواء: بدعة. ثم أمر بإخراج الرجل من ذلك المكان.
هذا الذي قاله مالك رحمه الله تستطيع أنَّ تقوله في كلِّ صفة. مثلاً لو قال قائل: قال"صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا " 1 كيف ينزل؟ تقول: النزول: معلوم أي معلوم المعنى، وكيفيته: مجهولة، والإيمان به: واجب، والسؤال عنه: بدعة.
وكذلك لو قال قائل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كيف يداه؟ يقال: اليدان: معلومتان، وكيفيتهما: مجهولة، والإيمان بهما: واجب، والسؤال عن كيفيتهما: بدعة.
قال ابن القيم رحمه الله: " وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف، عام في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا
1 أخرجه البخاري رقم 1145، ومسلم رقم 1769
أَسْمَعُ وَأَرَى} 1 كيف يسمع ويرى؟ أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول. وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك، فمعانيها كلُّها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟!
والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله"صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تُثْبِتُ له الأسماء والصفات وتَنفي عنه مشابهة المخلوقات. فيكون إثباتك منزَّهاً عن التشبيه، ونفيُك منزَّهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل، ومن شبَّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل، ومن قال: استواء ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزه "2.
" وروى أبو هريرة"رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى "
هذا هو النوع الثالث من أنواع أدلة العلو: التصريح بأنَّه سبحانه في السماء. وقد جاء في القرآن، قال تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3.
و" في السماء" تحتمل أحد معنيين، إما أن يكون المراد بها المبنية كقول الله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} 4، أو مطلق العلو كما في قوله
1 الآية 46 من سورة طه.
2 مدارج السالكين 2/86، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/25
3 الآية 16 من سورة الملك.
4 الآية 47 من سورة الذاريات.
تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 1.
فإن كان المراد بالسماء المبنية فـ"في"بمعنى على، فيكون معنى:" في السماء"أي على السماء. وإذا كان المراد بالسماء مطلق العلو فـ"في"على بابها. وهو بكلا الاعتبارين يدل على علو الله تبارك وتعالى على خلقه، العلو الذي يليق بجلاله وكماله.
"الذي في السماء"أي الله، وهذا موضع الشاهد.
وفي الحديث أيضاً إثبات صفة السخط لله جل وعلا، وهي من صفاته الفعلية.
ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " 2، وهو مما يوضح المراد بقوله:"في السماء"لأنك لو قابلت بين أول الحديث وآخره اتضح لك المعنى، فمثلاً إذا قال قائل من أهل الأهواء"في"هنا ظرفية، لأنهم يقولون إذا قلتم: إنَّ الله في السماء فمعنى ذلك أنَّ السماء محيطة به لأنَّ"في"تفيد الظرفية. فيقال لهؤلاء: قابلوا بين أول الحديث وآخره،"ارحموا من في الأرض"أي على الأرض. فإذا قيل: لا تستعمل"في"إلا على الظرفية، فيكون معنى الحديث ـ على هذا الفهم ـ: ارحموا الديدان والحشرات الموجودة داخل الأرض، أما الناس الذين يمشون فوق الأرض فلا يشملهم الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"في الأرض"وهؤلاء فوق الأرض!!
1 الآية 22 من سورة البقرة.
2 أخرجه أبو داود رقم 4941، والترمذي رقم 1924 وقال: حسن صحيح، وأحمد 2/160، والحاكم في المستدرك 4/175، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 925
والحق الذي يظهر لكلِّ متأمل: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم:"ارحموا من في الأرض"أي على الأرض، فـ"في"هنا بمعنى"على". وقوله:"يرحمكم من في السماء"أي من على السماء. فإذا قابلت بين أول الحديث وآخره اتضح لك المعنى 1.
وروى أبو سعيد الخدري"رضي الله عنه"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءً " لا يزال المصنف رحمه الله يذكر الأحاديث المشتملة على التصريح بأنَّ الله في السماء، وهذا كما تقدم أحد أنواع الأدلة الدالة على علو الله تبارك وتعالى على خلقه.
" من في السماء"أي: الله جل وعلا، فقد ائتمنه على أعظم الأمور وأجلها على الإطلاق: ائتمنه على وحيه وتنزيله، فبلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه وافية كاملة. وهو صلى الله عليه وسلم السفير والواسطة بين الله وبين عباده في بلاغ دينه وكلامه لهم، فائتمنه من في السماء، ومع ذلك لم يأتمنه بعض من في الأرض على قليل من المال، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".
وللحديث قصة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قسم مالاً، فجاءه ذو الخويصرة فقال: إنك لم تقسم بالعدل أو بالسوية، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال كلمته هذه. ثم بيَّن ما هو الذي ائتمنه عليه من في السماء أي: الله عز وجل، فقال: يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءاً" أي يتنزل عليه الوحي"باستمرار في الصباح والمساء"، فهو مؤتمن على أعظم الأمور: وحي الله وتنزيله، فكيف لا يؤتمن على المال، وهو أمر دنيوي ليس بشيء في مقابل هذا الأمر الجلل العظيم.
1 هذه الفائدة لم أرها مكتوبة، وإنما سمعتها من الشيخ الألباني رحمه الله.
الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم مرتين في الحديث:"من في السماء "في قوله: وأنا أمين من في السماء"، ثم قال:"يأتيني خبر من في السماء"، فهذا فيه التصريح بأنَّ الله في السماء، والسماء ـ كما قدمت ـ إما أن تكون المبنية، فتكون"في"بمعنى على. أو تكون بمعنى العلو، وتكون"في"على بابها.
وروى معاوية بن الحكم السلمي"رضي الله عنه"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: قال لجاريته: " أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة ". رواه مسلم بن الحجاج وأبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي
ثم أورد المصنف رحمه الله حديث معاوية بن الحكم في قصته مع جاريته التي كانت مكلفة عنده برعاية أغنامه، فعدى يوماً ذئب على شاة منها فأكلها، فغضب معاوية"رضي الله عنه"وأسف على هذا الأمر وصكها صكة أي: ضربها ضربة شديدة، لكنه ندم على ضربها، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعرض عليه عتقها، لعل الله أن يكفِّر عنه تلك الضربة التي ضربها. فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بها ليَمتحن إيمانَها وليختبرها. فكان الاختبار مكوناً من سؤالين:
سؤال عن المرسِل وهو الله جل وعلا: عن توحيد الله، فسألها:"أين الله؟ "أي الذي يُعبد، ويُخضع له ويُسجد، ويُطاع أمره ويمتثل؟ فأشارت إلى السماء وقالت: في السماء.
والسؤال الثاني عن المرسَل صلى الله عليه وسلم، يتعلق بتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه شهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
وهذه الشهادة ليست مجرد قول يقوله العبد، أو دعوى يدعيها فقط، بل هي متضمنة لأمور ثلاثة: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1.
وعندما تتأمل ما جاء به صلى الله عليه وسلم تجده مكوناً من هذه الأمور الثلاثة: أوامر ونواهي وأخبار، فمن قال: أشهد أنَّ محمداً رسول الله عليه أن يطيع الأوامر، وأن ينتهي عن النواهي، وأن يصدق الأخبار، وبهذا تكون شهادته للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة صادقة.
فعندئذ قال صلى الله عليه وسلم:"أعتقها فإنها مؤمنة"فحكم لها بالإيمان بناءً على هذين الجوابين: الإقرار بأنَّ الله في السماء، والشهادة بأنَّ محمداً"صلى الله عليه وسلم رسول الله. ومن أقر بأنَّ الله في السماء، وشهد حقاً أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مؤمن؛ لأنَّه مقر بربه مؤمن به، ومؤمن بهذا الرسول المرسَلِ من الله جل وعلا، ومن كان هذا حاله فسيقبل على عبادة ربه وطاعته. فجواب هذا السؤال إذا كان جواباً صحيحاً من قلب صادق دليل على الإيمان.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله: " ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أنَّ الرجل إذا لم يعلم أنَّ الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبداً فأُعتِق لم يُجْزِ في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أنَّ رسول الله جعل أمارة إيمانها معرفتها أنَّ الله في السماء "2.
وفي هذا الحديث فوائد عظيمة: منها:"التأكيد على أهمية هذين
1 الآية 64 من سورة النساء.
2 الرد على الجهمية ص 17
السؤالين، وأنهما أعظم المسائل وأجلها، بل إنَّ الناس ـ يوم القيامة ـ لا يُسألون إلا عنهما: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
وفيه ـ أيضاً ـ دليل على أنَّ الإنسان يُحكم عليه بظاهره، أما الباطن فإلى الله عز وجل، فمن ذَكرَ أمور الإيمان وأقر بها حكم بإيمانه، فليس للناس إلا الظاهر، والله يتولى السرائر.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أين الله": دليل على صحة هذا السؤال ومشروعيته، وجواز إلقائه على الناس للحاجة والفائدة والتعليم. وجواب هذا السؤال هو هذا الجواب الذي أجابت به الجارية، وأقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان جوابها غير صحيح لما أقرها على ذلك كما لا يخفى.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: " ففي الخبر مسألتان: إحداهما: شرعيةُ قول المسلم: أين الله. وثانيهما: قول المسؤول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم "1.
والمبتدعة أهل الكلام كثيراً ما يقولون في عقائدهم: لا تجوز في حقه ـ أي الله ـ الأينية، أي: لا يُسأل عنه بـ"أين"، ولا يشار إليه بإصبع، بل قال بعضهم: إنَّ الإصبع التي ترفع إلى السماء مشيرة إلى الله يجب أن تقطع؛ لأنها إشارة باطلة.
فعندهم قولك:"أين الله؟ "، ومتى الله؟ في البطلان سواء. يقولون هذا مع ثبوت هذه الإشارة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع، وأكبر مشهد، وأوسع محفل: في حجة الوداع لما خطب الناس، وكان أمامه أمم لا يحصيهم إلا الله عز وجل، فيهم من هو حديث الإسلام، ومن هو
1 العلو ص 46، وانظر كلام ابن القيم في الصواعق المرسلة 4/ 1238 ـ 1239
متقدم الإسلام، أشار أمام هؤلاء هذه الإشارة، ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات يشير إلى السماء، كما قال جابر بن عبد الله"رضي الله عنه":" فقال صلى الله عليه وسلم بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات "1.
فحديث الجارية فيه التصريح بأن الله في السماء.
ثم قال المصنف ـ معلقاً على هذا الحديث ـ:
" ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله"أي كما هو حال المتكلمين أهل الأهواء، الذين يقولون: لا يسأل عنه بـ"أين".
فالمؤلف يقول: من أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يمنع طرح هذا السؤال بعد طرح النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو أعلم الناس بربه، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " 2،:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 3، فيأتي عنه التصريح بهذا السؤال:"أين الله"في حديث صحيح ثابت، تلقته الأمة بالقبول، ثم يقول بعض هؤلاء الضلال أهل الأهواء: هذا سؤال باطل لا يجوز. فهذا ـ كما قال المصنف رحمه الله دليل على جهل قائله وسخف عقله وضلاله في مسلكه وسبيله.
" بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: أين الله"إذا كان صاحب الشريعة المبلغ عن الله قال: أين الله. فلا شك أنَّ هؤلاء المتكلمين ـ الذين يقولون: لا يجوز أن يقال أين الله ـ أصحاب هوى وضلالة.
1 أخرجه مسلم رقم 2941
2 أخرجه البخاري رقم 20
3 الآيتان 3، 4 من سورة النجم.
فصاحب الشريعة، ومن تبع سبيله وسلك نهجه وترسم خطاه ولزم غرزه يقولون: أين الله. وأما هؤلاء فأهل أهواء، ليسوا على طريقة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 1.
ولهذا فأهل الأهواء مغتاظون من هذا الحديث أشد الغيظ، فما أن تقرأه على أحدهم إلا وتراه اشمأز وانكمش وانقبض. ولأجل هذا اجتهد بعضهم في تضعيفه، واجتهد بعضهم في تحريفه، وسلكوا فيه مسالك شتى، وحالهم مع هذا الحديث هو حال أسلافهم مع كلِّ حديث لا يوافق أهواءهم، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنَّه دارت بينه وبين بعض المتكلمين مناظرة في صفة الكلام، فقال هذا المتكلم:"نحن وسائر الأمة نقول: القرآن كلام الله لا ينازع في هذه الإضافة أحد، ولكن لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلماً ولا أنَّه يتكلم، فمن أين لكم ذلك؟ قال ابن القيم: فقال له بعض من كان معي من أصحابنا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا تكلم الله بالوحي " 2، وقالت عائشة رضي الله عنها: " ولشأني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى " 3. قال: فرأيت الجهمي قد عبس وبسر وكلح وزوى وجهه عنه كالذي شم رائحة كريهة أعرض عنها بوجهه، أو ذاق طعاماً كريهاً مراً مذاقه"4. فهذا شأن أهل الأهواء مع النصوص المخالفة لأهوائهم.
1 الآية 50 من سورة القصص.
2 أخرجه أبو داود رقم 4738، وابن خزيمة في التوحيد رقم 207 عن ابن مسعود مرفوعاً. وعلقه البخاري في صحيحه 13/461 مع الفتح عن ابن مسعود موقوفاً جازماً به. قال الألباني في الصحيحة رقم 1293:" والموقوف وإن كان أصح من المرفوع ـ ولذلك علقه البخاري في صحيحه ـ فإنه لا يعل المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر ".
3 أخرجه البخاري رقم 4750، ومسلم رقم 6951
4 الصواعق المرسلة 3/1037 ـ 1038
أما صاحب السنة وصاحب الشريعة إذا سمع هذا الحديث أو غيره من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يستبشر ويتهلل وجهه ويفرح ويتلقاه بالقبول. كيف لا، وهو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد المصنف أثراً عن أنس بن مالك"رضي الله عنه"فقال: وروى أنس بن مالك"رضي الله عنه"قال: " كانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات " رواه البخاري وفيه التصريح بالفوقية، وهو ـ كما سبق ـ أحد أنواع الأدلة الدالة على علو الله تبارك وتعالى.
وزينب بنت جحش رضي الله عنها زوَّجها الله من فوق سبع سماوات، كما قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} 1، فكانت تفخر بذلك على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهاليكنَّ، أي: كلُّ واحدة منكنَّ زوجها أهلها، إما أبوها أو وليها. أما أنا فزوجني الله من فوق سبع سماوات.
الشاهد من ذلك قولها:"من فوق سبع سماوات".
وفي حديث أبي هريرة"رضي الله عنه"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمن عند موته، وأنه يعرج بروحه حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل. رواه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما" ثم أورد هذا الحديث: حديث أبي هريرة"رضي الله عنه"وهو في ذكر قبض روح المؤمن عند موته والعروج بها إلى السماء، وأنها تمر بالسماء الأولى فيرحب بها من في تلك السماء من الملائكة، ويقولون: أيتها الروح الطيبة. ثم يصعد بها إلى السماء التي تليها، إلى أن قال: حتى ينتهي إلى السماء التي
1 الآية 37 من سورة الأحزاب.
فيها الله" أي التي عليها الله، والمراد بالسماء هنا المبنية على حسب التسلسل الذي جاء في الحديث: السماء الأولى، السماء الثانية، إلى أن قال: حتى يأتي إلى السماء التي فيها الله، يعني السماء السابعة التي عليها الله؛ لأنَّ العرش فوق السماوات، والله فوق العرش سبحانه وتعالى.
فالشاهد منه: التصريح بأنَّ الله في السماء، فيضم إلى الأدلة السابقة المصرحة بذلك.
وروى أبو الدرداء"رضي الله عنه"قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اشتكى منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ". رواه أبو القاسم الطبري في سننه"
هذه رقية تقال للمريض، سواء اشتكى هو، أو اشتكى أخ له، لو صح الحديث، لكنَّ الحديث لم يصح، إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعمل به، وإنما يعمل بالصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الباب رقى كثيرة ثابتة، منها ما هو في الصحيحين وفي غيرهما، فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ""أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " 1.
الشاهد:"ربنا الله الذي في السماء"، وهذه اللفظة التي هي موضع الشاهد من هذا الحديث، سبق ما يدل عليها في أحاديث كثيرة جداً، بل في القرآن الكريم، كما قال تبارك وتعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2،
1 أخرجه البخاري رقم 5675، ومسلم رقم 5671
2 الآية 16 من سورة الملك.
والأحاديث المصرحة بأنَّ الله جل وعلا في السماء كثيرة، ولعل المؤلف ـ إن لم يثبت عنده سند هذا الحديث ـ"إنما أورده على سبيل الاستئناس، إذ الاعتماد إنما يكون على الأحاديث الصحيحة الثابتة لا على الضعيف والواهي منها كما سبق تقريره.
" رواه أبو القاسم الطبري"هو صاحب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، مشهور باللالكائي 1.
ثم لما انتهى المصنف من ذكر أمثلة من أنواع الأدلة على العلو قال:
" وفي هذه المسألة أدلة من الكتاب والسنة يطول بذكرها الكتاب، ومنكر أن يكون الله في جهة العلو بعد هذه الآيات والأحاديث مخالف لكتاب الله، منكر لسنة رسول الله"
أي أيها القارئ إنما سقت لك نماذج وأمثلة يسيرة على أدلة هذه الصفة: صفة العلو، وإلا فإنَّ أدلتها يطول بها الكتاب. ومن أهل العلم من بسطها بسطاً موسعاً في مجلد كبير، مثل الذهبي في كتابه"العلو"، وابن قدامة ابن خالة المؤلف في كتابه"العلو"، وابن القيم في كتابه"اجتماع الجيوش"، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه"الحموية"2.
فالمؤلف رحمه الله ذكر طرفاً يسيراً من هذه الأدلة، وأشار إلى أنها كثيرة جداً يطول الكتاب بذكرها، وأنَّ المخالف في هذه المسألة مخالف للآيات والأحاديث الصريحة فيها.
1 وهو مطبوع في خمس مجلدات بتحقيق د. أحمد سعد حمدان. وهو فيه رقم 648 وفي سنده: زيادة بن محمد الأنصاري. قال في التقريب: منكر الحديث.
وقد تصحف اسمه في مطبوعة اللالكائي إلى زياد بن محمد في المتن والحاشية.
2 وانظر ما قاله السفاريني في لوامع الأنوار عن مصنفات أهل العلم حول هذه الصفة 1/195 ـ 196
" وقال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو من علمه مكان"
لما أنهى المصنف رحمه الله ذكْرَ الآيات والأحاديث في هذا الباب، وأكد على خطورة عدم الإيمان بمدلولها، أورد بعض الآثار عن سلف الأمة في الباب نفسه، فأورد أثر الإمام مالك هذا، وفيه تصريحه بعلو الله تبارك على خلقه، وأنَّه في السماء أي: في العلو، مستو على عرشه، بائن من خلقه. ومع كونه سبحانه وتعالى في السماء فعلمه محيط بالخلق، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وكثيراً ما يأتي الجمع بين هاتين الصفتين: الاستواء والعلم في القرآن، نحو قوله تعالى في سورة الحديد:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} ، وقال تبارك وتعالى في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} فذكر الاستواء ثم ذكر العلم. وفي سورة السجدة، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم بعدها بآية قال: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . وفي سورة الرعد، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم بعدها بخمس آيات قال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} ،
فمع كونه سبحانه مستوياً على عرشه بائناً من خلقه، فإنَّ علمه محيط بخلقه، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية.
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه"صلى الله عليه وسلم"والشاهد من هذا الأثر هو قول الشافعي:"في سمائه"وهذا فيه التصريح بأن الله عز وجل في السماء.
"وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سماوات بائناً من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض"هذا هو الذي يعتقده أهل السنة، ويعتقده المسلمون المتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ممن لم تخالط قلوبهم الأهواء، ولم تتلقفهم الشبهات، يعرفون ربهم بأنَّه فوق سبع سماواته بائن من خلقه.
ومعنى "بائن": أي: ليس في خلقه شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، ومن لا يثبت البينونية أو المباينة لم يثبت علو الله، ولم يؤمن بعلوه سبحانه.
وفي قوله:"بائناً": إبطال لقول أهل الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، وغيرهم من أهل الضلال، فإنَّ الله عز وجل بائن من خلقه.
وهذه الكلمة مشهورة عن السلف، متناقلة عنهم كثيراً 1؛ إذ هي التي تمحص المحق من المبطل في هذا الباب، فقد وجد من بعض المتكلمين من
1 انظر: مقدمة تحقيق رسالة ابن أبي زيد القيرواني للشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية ـ فقد جمع نقولات كثيرة من مصادر كثيرة جداً عن السلف فيها تصريحهم بهذه الكلمة بائن من خلقه.
يقول: أن أؤمن بأنَّ الله مستو على العرش، لكن للاستواء ـ عنده ـ معنى غير الذي يدل عليه النص، فاحتيج إلى هذه الكلمة"بائن من خلقه"حتى يتبين المحق من المبطل. فمن أثبت أنَّ الله مستو على عرشه بائن من خلقه أثبت العلو الحقيقي الذي دل عليه لفظ الاستواء.
وكان أحد القضاة من أهل السنة 1 أمر بسجن أحد الجهمية؛ لأنَّه لا يثبت استواء الله على عرشه. فقيل: إنه تاب. فقال: ائتوني به أمتحنه. فجاءوا بالرجل، فقال له: أتؤمن بأنَّ الله مستو على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أنا أؤمن بأن الله مستو على عرشه، ولا أدري ما بائن. فقال: ردوه إلى السجن فإنه لم يتب.
"ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض" الجهمية يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكان، وهذا القول عند متصوفة الجهمية؛ لأنَّ الجهمية ـ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ على قسمين: قسم متكلمون، وقسم متصوفة. فمتكلمو الجهمية يقولون: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. أما متصوفتهم فإنهم يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكان.
فالمتكلم صاحب كلام وجدل، ليس للعبادة عنده مجال. أما المتصوف فعنده تعبد، والمتعبد يريد شيئاً يتجه إليه، فلو قال: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله فهذا يعني أنَّ معبوده عدم، وما ثمة شيء يتجه إليه.
1 هو هشام بن عبيد الله الرازي، عالم الري من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة. وانظر القصة في اجتماع الجيوش الإسلامية ص140
لذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ بعض الجهمية نقل عنه أنَّه مرة يقول: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله. ومرة يقول: إنَّ الله في كلِّ مكان. فقيل له تناقضتَ. فقال: هذا مقتضى عقلي، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي !! 1
يعني لما أشتغلُ بالنظر والجدل والكلام أقول: لا فوق ولا تحت. ولما أشتغل بالوجد والتعبد أقول: في كل مكان. لأنَّه إذا قال: الله لا فوق"ولا تحت ويريد أن يتعبد، فما هناك شيء يعبده.
ولهذا قال بعض السلف عن الجهمية: قد ضيعوا معبودهم.
1 مجموع الفتاوى 2/298 ـ299