الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صفة الكلام]
ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق بإثبات صفة الكلام لله جل وعلا، وأنَّه يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء.
والكلام في هذه الصفة طويل جداً ومتشعب، وله جوانب كثيرة، وكلام أهل الباطل فيه كثير، وشبههم فيه متعددة، وكثير من كتب الاعتقاد سواء المؤلف منها على عقيدة أهل السنة والجماعة أو على طريقة المتكلمين يبسط فيها القول بسطاً واسعاً فيما يتعلق بهذه الصفة، حتى إنَّه قيل: إنَّ علم الكلام إنما سمي بهذا الاسم لكثرة الكلام في صفة الكلام، لكن هذا القول غير صحيح، بل سمي علم الكلام بهذا الاسم لأنَّ فيه خوضاً في الدين بغير طريقة المرسلين، بل بآراء محضة وعقول صرفة ومنطقيات وفلسفات. ولهذا فإنَّ من التعدي البين أن يسمى علم التوحيد علم الكلام؛ لأنَّ علم التوحيد مبني على الوحي: كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما علم الكلام فمبني على آراء الرجال وتخرصاتهم وظنونهم.
وأهل السنة يؤمنون بهذه الصفة إيمانهم بسائر صفاته جل وعلا، ويمرونها كما جاءت، ويثبتونها كما وردت، وما يلزم في كلام المخلوق من لوازم فإنَّه ليس بلازم في كلام الخالق؛ لأنَّ من عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة الكلام ما يعتقدونه في جميع الصفات، ألا وهو أنَّ كلامه سبحانه ليس ككلام خلقه، بل كلامه يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه. والفرق بين كلامه سبحانه وبين كلام خلقه كالفرق بينه تعالى وبين خلقه، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي:"فضل كلام الله على كلام سائر خلقه، كفضل الله عز
وجل على خلقه"1، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح 2.
وقد جاءت في نصوص الكتاب والسنة أوصاف لكلام الله تبين عظمته، فقد ثبت في بعض الأحاديث أنَّ كلامه يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ، وهذا لا يكون إلا في كلامه.
وكلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه يضاف إليه، ويقال: إنه كلام الله وإن نقله غيره أداء؛ فإنَّ الكلام ينسب إلى من تكلم به ابتداء لا إلى من نقله أداء. أما قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} في موضعين من القرآن 3 فإضافة القول هنا إلى الرسول إضافة بلاغ لأنَّه ذكرهما بوصف الرسالة الدال على مهمة البلاغ. ففي موضع قصد بالرسول جبريل، وفي الآخر قصد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولو كابر مكابر فقال: بل هو كلام الرسول تكلم به ابتداءً من عند نفسه قيل له: أيُّ الرسولين الذي تكلم به؛ لأن أحدهما جبريل والآخر محمد صلى الله عليه وسلم، أم أنَّ كلَّ واحد منهما تكلم به ابتداءً من قبل نفسه؟!
وإذا نظرنا إلى الكلام من حيث هو فإنَّه صفة قائمة بالذات ملازمة لله جل وعلا في الأزل وفيما لم يزل، فهو صفة ذاتية بهذا الاعتبار.
وإذا نظرنا إلى هذه الصفة العظيمة من حيث إنها متعلقة بالمشيئة، وأنَّ
1 أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن " رقم 138 "، والفريابي في فضائل القرآن " رقم 14، 15 " والخطيب في الفصل للوصل المدرج " 1/255 ـ 256 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 556 "، والبيهقي في الاعتقاد " ص101 "
2 أخرجه الخطيب في الفصل للوصل " 1/254 ـ 255 " قال الخطيب: " المرفوع من الحديث: " خيركم من تعلم القرآن "، وأما ما بعده فهو كلام أبي عبد الرحمن السلمي ".
وقال الدارقطني في العلل " 3/57 ": " وإنما هو من كلام أبي عبد الرحمن السلمي ".
3 الآية 40 من سورة الحاقة، والآية 19 من سورة التكوير.
الرب العظيم يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، فإنها بهذا الاعتبار صفة فعلية. ولهذا فإن الصفات أقسام:
1ـ صفات ذاتية، مثل العلو والوجه ونحوها.
2ـ وصفات فعلية، مثل الاستواء.
3ـ وصفات ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر، ومن أمثلة ذلك صفة الكلام.
لقد جاء في إثبات هذه الصفة أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يتأمل مجموع هذه الأدلة يرى فيها دلالة على أمور عديدة تتعلق بالكلام، منها:
ـ أنَّ الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء.
ـ وأنَّ كلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت يسمع.
ـ وأنَّ كلامه سبحانه أينما توجه فهو كلامه، سواء حُفِظ في الصدور، أو كُتِب في السطور، أو سُمِع بالآذان، أو تُلِي بالألسن.
ـ كما يُعلم من خلال الأدلة أنَّ كلام الله نوعان: كلام كوني: كقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} 1. وكلام شرعي: وهو الكلام الذي في القرآن من أمر ونهي وإخبار، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2.
ـ وأنَّ كلامه تبارك وتعالى يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض.
ـ وأنَّه يتعاقب، فمثلاً:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، الرحمن ثم الرحيم وهكذا.
فمن الإيمان بكلام الله: الإيمان بكلِّ ما يتعلق بهذه الصفة مما ثبت في كتاب
1 الآية 171 من سورة الصافات.
2 الآية 6 من سورة التوبة.
الله وصح في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيأتي معنا ضمن النصوص التي أوردها المصنف ما يدل على جوانب عديدة تتعلق بهذا.
" ومن مذهب أهل الحق أنَّ الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع، مفهوم، مكتوب. قال الله عز وجل {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "
" لم يزل متكلماً " أي: لم يزل موصوفاً بهذه الصفة، وأنَّه عز وجل يتكلم متى شاء في أيِّ وقت شاء بأيِّ كلام شاء.
" بكلام مسموع " وهذا فيه رد على من يقول إنَّ كلام الله عز وجل كلام نفسي فقط، وهي البدعة التي أنشأتها الكلابية وأخذها عنهم الأشاعرة ومن شاكلهم.
وسبب هذه البدعة محاولة غير موفقة في الرد على المعتزلة؛ لأنها بنيت على أسس غير صحيحة. فالمعتزلة ينكرون وصف الله عز وجل بالكلام، ويقولون: إنَّ كلام الله عز وجل مخلوق، وإضافته إلى الله إضافة خلق وإيجاد، وألزموا الكلابية بأنَّ الكلام يلزم منه كيت وكيت من لوازم المخلوق. ولما أراد الكلابية رد بدعتهم هذه، والتوفيق بين شبهتهم والأدلة التي تثبت وصف الله عز وجل بالكلام، جاءوا بهذا التفصيل فقالوا: إنَّ الكلام نوعان: كلام نفسي وهو معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، وهذا الذي يوصف به الرب عندهم. أما الكلام اللفظي الذي يكتب ويسمع ويتلى ويقرأ فهذا ليس كلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله. ولهذا فإنَّ أئمة السلف رحمهم الله في الرد على هذه البدعة يقولون: إنَّ الله يتكلم بكلام مسموع.
فكلام الله عز وجل عندما يبلغ الخلق قد يبلغهم مباشرة وقد يبلغهم بواسطة، فجبريل سمع كلام الله من الله، وموسى عليه السلام سمع كلام
الله من الله، قال الله جل وعلا:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 ولهذا يسمى كليم الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عُرج به إلى السماء سمع كلام الله من الله بدون واسطة.
ولما يكلم الرب سبحانه الخلائق يوم القيامة فإن كلامه ينفذ جميع الآذان، ويسمعه القريب والبعيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان"2 وهذا شاهد لقول المصنف: " بكلام مسموع ".
وكلامه تبارك وتعالى بحرف، فـ:{الم} تتكون من ثلاثة أحرف: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، كما جاء في الحديث:"لا أقول " الم " حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"3.
وعندما نقول: إنَّ كلام الله بحرف وصوت يسمع فإنَّه لا يلزم منه تشبيه الله عز وجل بالمخلوقين، بل هذا كلام يخصه ويليق به سبحانه. ودلائل هذا في الكتاب والسنة كثيرة جداً، بل دل العقل من وجوه كثيرة على وصف الله عز وجل بالكلام، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء. ومن بين هذه الوجوه: أنَّ عدم الكلام نقص وعيب، والله عز وجل وهب الخلق هذا الكلام، وواهب
1 الآية 164 من سورة النساء.
2 علقه البخاري في صحيحه " 13/461 مع الفتح " ووصله في الأدب المفرد " رقم 970 "، وأحمد " 3/495 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 514 " والحاكم في المستدرك " 2/475 وقال: صحيح الإسناد "، والضياء في المختارة " 9/26 " وصححه الألباني في ظلال الجنة.
3 أخرجه الترمذي " رقم 2910 "، والدارمي " رقم 3308 "، وسعيد بن منصور " رقم 4"، والحاكم " 1/ 741، 755 وقال: صحيح الإسناد "
قال الترمذي: " رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود. هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ".
الكمال أولى بالكمال ولله المثل الأعلى. ولهذا نعى تبارك وتعالى على أهل الجاهلية وذم المشركين في عبادتهم للأصنام بأنَّهم يعبدون ما لا يرجع إليهم قولاً أي: لا يتكلم، فقال سبحانه:{أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 1، فمن لا يتكلم لا يصلح أن يُعبد. والمبتدعة يدَّعون في معبودهم الرب العظيم أنَّه لا يتكلم وأنَّ الكلام لا يليق به، وفي كلامهم إخلال بالرسالة والرسل؛ لأنَّ مهام المرسلين إبلاغ كلام مرسِلهم، فإذا قيل: إنَّ المرسِل لا يتكلم فما شأن المرسلَين وما مهمتهم؟!
" مفهوم " أي أنَّ كلام الله عز وجل ألفاظ لها معان، وليست ألفاظاً مجهولة، بل له دلالة تفهم، كما دلت عليه الآيات الكثيرة التي فيها الحث على تدبر كلام الله، كقوله تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2، وقوله سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 3، وقوله:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 4. ولو لم يكن مفهوماً لما أمر الناس بتدبره، إذ الأمر بتدبره ـ على هذا ـ أمر بما لا يطاق.
وفي هذا رد على المفوضة: مفوضة المعاني، الذين يدعون في نصوص الصفات أنَّها غير مفهومة المعنى، فكيف يقال عن أشرف ما في القرآن وهو وصف الرب جل وعلا أنه غير مفهوم المعنى.
" مكتوب " أي:كلام يُكتب، وجاء في الحديث الذي سبق:"لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فكتبه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي"فكلامه تبارك وتعالى يكتب، منه ما كتبه هو سبحانه بيده كالتوراة، ومنه ما سمعه منه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه منه
1 الآية 89 من سورة طه.
2 الآية 24 من سورة محمد.
3 الآية 82 من سورة النساء.
4 الآية 29 من سورة ص.
المؤمنون يكتبونه في الصحف والأوراق، ويحفظونه في الصدور، ويتلونه بألسنتهم. وقرءاتهم له وكتابتهم وتلاوتهم لا تخرجه عن كونه كلام الله؛ لأنَّ الكلام ينسب إلى من قاله ابتداءً.
ثم شرع المصنف رحمه الله في ذكر الأدلة على هذا المعتقد، فقال:
" قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} " الآية صريحة في معناها، واضحة في دلالتها على ثبوت وصف الله عز وجل بالكلام، وأنَّه كلَّم موسى كلاماً سمعه موسى من الله، وأكَّد سبحانه وتعالى ذلك بقوله:" تكليماً ". ومع هذا التأكيد يأبى أهل البدع إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى، فأتوا إلى هذه الآيات، فبذلوا جهدهم في صرفها وتكلفوا في ردها، وذهبوا إلى وحشي اللغات ومستكره التأويلات، وحاولوا شتى المحاولات حتى يبعدوا كلام الله عن دلالته الظاهرة.
فقال بعضهم: الكلْم في اللغة الجرح ومعنى الآية: أي: كلَمه بأظافير الحكمة!! ولا شك أنَّ الفرق بين كلَّم وكلَم ظاهر، لكنهم يحاولون رد النص بأيِّ طريقة.
وحاول بعضهم تغيير حركة الإعراب في الآية فقرأها: وكلم اللهَ موسى بنصب اسم الجلالة حتى يكون المتكلم هو موسى وليس الله سبحانه، حتى إنَّ أحدهم ذهب إلى أبي عمرو بن العلاء ـ وهو أحد القراء السبعة ـ، وطلب منه قراءة هذه الآية محرفة بنصب اسم الجلالة. فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 1 فبهت المعتزلي 2.
1 الآية 143 من سورة الأعراف.
2 انظر: الصواعق المرسلة " 3/1037 "، وشرح الطحاوية " ص170 "
" وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل""
" ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان " أي: كلاماً من الله، يسمعه المكلَّم مباشرة بدون واسطة. والمراد: الكلام الواقع في عرصات يوم القيامة لتقرير الإنسان ومحاسبته على أعماله في الحياة الدنيا.
" ثم ينظر " أي: الإنسان.
" أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه " أي: لا يجد إلا أعماله التي قدمها في الحياة الدنيا، ولعل الذي على اليمين أعماله الصالحة، والذي على اليسار أعماله غير الصالحة.
وفي الحديث فائدة، وهي أنَّ كلَّ عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة هو شيء يقدمه للآخرة، قال تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} 1، وقد يكون الإنسان نسي بعضها ولكن:{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} 2. وإذا نظرنا في أحوالنا فيما نقدم نجد أننا فرطنا كثيراً وضيعنا كثيراً نسأل الله العافية والتوفيق للخير وحسن الختام.
" ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار " وفي هذا أنَّ النار أمام الناس كلِّهم، ولا سبيل إلى الجنة إلا بالمرور من فوقها، وعلى النار صراط أحدُّ من السيف وأدق من الشعرة، وكلاليب تخطف الناس بأعمالهم كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 3. ثم يتفاوت الناس في مرورهم على الصراط بحسب أعمالهم التي قدموها في هذه الحياة، فمنهم من
1 الآية 110 من سورة البقرة.
2 الآية 6 من سورة المجادلة.
3 الآية 71 من سورة مريم.
يمر كالبرق، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يجري جرياً، ومنهم من يمشي مشياً.
وإيمان العبد بأنَّه سيكلمه ربه ليس بينه وبينه واسطة، وأنَّه سينظر عن يمينه وعن شماله فلا يجد إلا ما قدم، هذه عقيدة ينبني عليها جد وعمل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل " وهذا ربط للعمل بالاعتقاد، وكما أنَّ ذلك في النصوص فإنه ينبغي أن يكون كذلك في العمل، فكلُّ عقيدة تؤمن بها ينبغي أن تورث فيك عملاً وعبادة وطاعة وإقبالاً، فلا تتهاون في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى ولو كان قليلاً، فيسير العمل ينفع، وموازين الأعمال يوم القيامة موازين الذر، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 1. ولأهل العلم كلمات لطيفة في توضيح الذرة ما هي، فقال بعضهم: إذا ضربت يدك في الأرض تساقطت الأحجار الصلبة من يدك ويبقى فيها رذاذ هذا هو الذر. وقال بعضهم: هي التي تراها مع شعاع الشمس عندما تدخل مع النافذة. ويُذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت مرة بعنبة واحدة، فقالت لها امرأة: يا أم المؤمنين عنبة؟! قالت: أو تعلمين كم فيها من ذرة. وهذا لا أدري عن ثبوته عنها لكن معناه جميل للغاية، والدليل على جمال معناه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" اتقوا النار ولو بشق تمرة ". وقوله صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخرَّه، فشكر الله له فغفر الله له"2.
فإماطة الأذى عن الطريق والتصدق بشق تمرة ناشئ عن شيء في القلب
1 الآيتان 7، 8 من سورة الزلزلة.
2 أخرجه البخاري " رقم 2472 "، ومسلم " رقم 4917 " واللفظ له.
يأجر الله عليه، وهو محبة الخير للناس ورحمتهم والسعي في مساعدتهم، ولو لم يكن في يده شيء يقدم الدعاء.
وبعد أن عرفنا هذه الإيمانيات المكتسبة من هذا الحديث والآثار المباركة التي حصَّلها المؤمنون بإيمانهم بذلك والتي لا نحسن ـ لقصورنا ـ التعبير عنها، لننظر في حال أهل البدع في هذا المقام، فإنَّ صاحب البدعة عندما يأتي إلى هذه النصوص ينشغل ببدعته الباطلة وضلالته السوأى على طريقته في إنكار كلام الله سبحانه عن ثمرة الحديث وآثارِه المباركة. فأي بلاء جروا على أنفسهم بهذا الإنكار، وأي شؤم قادتهم إليه عقيدتهم؟! أعاقتهم عن سديد الأقوال وصالح الأعمال، وعن طاعة ذي الجلال والإكرام. ولهذا من تتبع تراجم رؤوس البدع يجد أنَّ كثيراً منهم من أسوأ الناس عملاً وأضعفهم عبادة.
قال الشيخ محمد بن مانع رحمه الله:"كنت أقرأ في كتب المقالات واختلاف الناس في المعتقدات، فأقف على غلو المعتزلة في عقائدهم، فأرجع إلى كتب التراجم وأبحث عن تراجم أكابر شيوخهم، فأجد فيها الأمر المنكر العجيب من التلاعب في الدين وانتهاك حرماته، فصح عندي أنَّ ذلك من شؤم عقائدهم وفساد نحلتهم. ومن قرأ ترجمة النظام وأبي الهذيل العلاف والماجن الجاحظ عرف ذلك نسأل الله السلامة"1.
" وروى جابر بن عبد الله قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى. قال: وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً، قال: يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنَّه سبق مني
1 تعليقاته على العقيدة الطحاوية " ص16 "
أنَّهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي. فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} " رواه ابن ماجه "
" لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى " قُتِل والد جابر رضي الله عنه شهيداً في معركة أحد فلحقه بعض الحزن، فسلَاّه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بهذا الأمر العظيم الذي خُص به والده، وهو أمر غيبي أطلعه الله عليه.
وللمسلم أن يسلي أهلَ المصاب بالأمور التي يعلمها عن الميت من خصاله الكريمة وشمائله الحميدة التي يؤمل أن ينال بها خيراً عظيماً ليسلوا بها أهله.
" وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب " المراد بأحد عموم الناس، وإلا فقد كلم الله عز وجل بعض أنبيائه، وسمعوا كلامه منه جل وعلا، كما سمعه نبينا محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم.
" وكلم أباك كفاحاً " أي: مواجهة، ومعنى ذلك أنَّ عبد الله بن حرام سمع كلام الله من الله، وهذا يفيد أنَّ الله يتكلم حقيقة بصوت يسمع.
" قال: يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك " أي ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الكلام الذي قاله الله لأبيه: " يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك " أي: اطلب شيئاً تتمناه.
" قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية " هذا الطلب من عبد الله رضي الله عنه يدل على عظم مكانة من يقتل في سبيل الله؛ لأنَّه إنما تمنى العودة إلى الحياة الدنيا ليقتل ثانية لما رآه من المكانة الرفيعة لمن يقتل في سبيل الله.
" قال: إنَّه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون " أي: قال الله تعالى له: إنَّ من مات لا يرجع إلى الحياة الدنيا. فلما لم يعطه الله عز وجل ذلك.
" قال: فأبلغ من ورائي " لما رأى هذه المكانة الرفيعة والدرجة السامية أحبها للناس، فطلب من الله عز وجل أن يخبرهم بهذا المقام الكريم الذي حصَّله، فلله ما أعظم مكانتهم في النصح أمواتاً وأحياءً رضوان الله عليهم.
" فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} " فأنزل الله في ذلك وحياً يتلى إلى يوم القيامة يبين المقام الرفيع الذي خُص به من استشهد في سبيله.
الشاهد من الحديث: ثبوت الكلام لله عز وجل، وأنَّه سبحانه يتكلم بما شاء متى شاء، وأنَّه كلَّم عبد الله بن حرام رضي الله عنه كفاحاً كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.