المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[فضائل الصحابة] بعد أن تكلم المصنف رحمه الله عن شيء من - تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌[فضائل الصحابة] بعد أن تكلم المصنف رحمه الله عن شيء من

[فضائل الصحابة]

بعد أن تكلم المصنف رحمه الله عن شيء من فضائل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وخصائصه، أتبعه بالكلام عن فضائل أصحابه الكرام.

والصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام.

وهم خيار هذه الأمة، شرفَّهم الله وأكرمهم برؤية نبيه صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه، وأخذ الدين منه غضاً طرياً. شهد الله لهم بالخيرية وعدلهم ورضي عنهم، وشهد لهم بذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وهم أولى الناس دخولاً في قول الله"تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2. وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 3.

ومناقبهم وفضائلهم وميزاتهم كثيرة مشهورة لا تحصى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " 4.

وهم مع فضلهم ليسوا في الفضل سواء، بل بعضهم أفضل من بعض، والمصنف رحمه الله عقد هذا الفصل لبيان فضل الصحابة وبيان المفاضلة بينهم.

وهذا التفاضل عائد إلى الإيمان وطاعة الله عز وجل وامتثال أوامره، فيكون دليلاً آخر على زيادة الإيمان ونقصانه، وأنَّ أهله ليسوا فيه سواء، ويتفاضلون في خصال الإيمان، فليس أحد منهم في الصديقية مثل أبي بكر،

1 الآية 18 من سورة الفتح.

2 الآية 110 من سورة آل عمران.

3 سبق تخريجه.

4 أخرجه البخاري " رقم 3673 "، ومسلم " رقم 6434 "

ص: 345

ولا في الحياء مثل عثمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""أصدقهم حياء عثمان " 1، وفي الحديث الآخر:""ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه "2. وفي هذا ردٌّ على المرجئة وبيانٌ لشناعة قولهم وفداحته؛ إذ كيف يقال: إنَّ آحاد الأمة في الفضل كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

" ونعتقد أنَّ خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار: أبو بكر الصديق، وزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته: عبد الله بن عثمان عتيق ابن أبي قحافة "

هذا من جملة اعتقاد أهل السنة: اعتقاد أنَّ أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، فهو أفضل الصحابة على الإطلاق.

" ونعتقد أنَّ خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص " فله في الصحبة خصوصية وسبق وتميز، وله مواقف عظيمة، بل هو الصحابي الوحيد الذي ذُكِر بهذا اللقب الشريف في القرآن:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} 3. فهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم الأخص، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الصحابة في الصحبة متفاضلون.

وأبو بكر رضي الله عنه كان سباقاً إلى كلِّ خير، وشهد له الصحابة بذلك.

" وأخوه في الإسلام " الصحابة كلُّهم أخوة للنبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لكن المصنف يشير إلى خصوصية أبي بكر بذلك؛ لأنَّه وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم من أول الأمر، فهو أول من أسلم من الرجال.

" ورفيقه في الهجرة والغار " لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ودخل الغار

1 سبق تخريجه.

2 أخرجه النسائي " رقم 5008 "، وابن ماجه " رقم 147 "، وابن حبان " رقم 7076 "، والحاكم " 3/443 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 807 " وفي صحيح الجامع " رقم 5888 "

3 الآية 40 من سورة التوبة.

ص: 346

كان معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفي ذلك نزل قول الله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1، وهذه معية خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه.

" وزيره في حياته " الوزير: المعاون والمساعد والمستشار، ووزارته قديمة، فهو وزيره من أول الأمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في كثير من شؤونه، ويأخذ برأيه إلى أن مات صلى الله عليه وسلم.

" وخليفته بعد وفاته " فهو أول الخلفاء الراشدين، وهو خليفة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد مماته.

ثم ذكر الخليفة الثاني ـ وهو في ضمن هذا يشير إلى طرف من مناقب كلِّ صحابي يذكره بحسب ما يحتمله هذا المختصر ـ فقال:

" ثم بعده الفاروق: أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به وأظهر الدين "

لُقِّبَ بالفاروق لأنَّ الله عز وجل فرق به بين الحق والباطل، وأيد به الدين، ونصر به الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب " 2، فأسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفرح الصحابة بإسلامه، ونصر الله به دينه كما قال ابن مسعود:""مازلنا أعزة منذ أسلم عمر "3.

1 الآية 40 من سورة التوبة.

2 أخرجه الترمذي "رقم 3681 وقال: حديث حسن صحيح غريب "، وأحمد "2/95"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي "رقم 2907". وأورده القاري في المصنوع في الموضوع "ص49 " بلفظ:" أحد العمرين " وقال: " لا أصل له بهذا اللفظ ".

3 أخرجه البخاري " رقم 3684 "

ص: 347

" ثم بعده ذو النورين: أبو عبد الله عثمان بن عفان، الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان "

" ذو النورين " ولُقب بهذا اللقب لأنَّه تزوج بابنتي النبي صلى الله عليه وسلم: رقية وأم كلثوم، وهذا لم يحصل لأحد مع أي نبي. وقيل أقوال أخرى، أوصلها المحب الطبري إلى خمسة أقوال 1.

" الذي جمع القرآن " بإشارة من بعض الصحابة، جمعهم على رسم واحد للمصحف حتى لا يختلف الناس في كتاب الله عز وجل.

" وأظهر العدل والإحسان " نص المصنف رحمه الله على هذه الفضيلة لعثمان رضي الله عنه رداً على دعاوى بعض المبطلين من أنَّه رضي الله عنه كان يحابي قرابته ولم يكن عدلاً ولا منصفاً وغير ذلك مما ذكر في مبررات قتله. وهذا قول باطل في حق هذا الصحابي الجليل 2.

" ثم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه: علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم. فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون "

" وخَتَنُه " الختن: زوج البنت، وعلي رضي الله عنه كانت تحته ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، ومناقبه وفضائله رضي الله عنه كثيرة.

" رضوان الله عليهم " أي: الأربعة المذكورين.

" فهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون " هذه ألقاب لهم جميعاً، فلقبوا بالخلفاء لأنَّهم خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم. والراشدون من الرشاد وهو ضد الغواية. والأئمة من الإمامة فهم قدوة في الخير. والمهديون من الهداية وهي ضد الضلال.

1 انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة " 3/6 "

2 انظر في هذا الباب كتاب " فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه " للدكتور محمد الغبان وفقه الله.

ص: 348

وهذه الأوصاف الأربعة مأخوذة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض ابن سارية رضي الله عنه:""فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " 1.

ففي هذا الحديث إشارة إلى صلاح العلم والعمل وأنَّهم قدوة في هذين الأمرين؛ فالراشد: من ليس عنده غواية، بل عنده بصيرة وعلم وفهم ودراية بدين الله جل وعلا. والمهدي من ليس عنده ضلال، بل عنده عبادة وطاعة وتقرب إلى الله تبارك وتعالى. ومن كان كذلك فهو إمام وقدوة في الخير. وهذا نظير وصف الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 2، فنفي الضلال فيه إثبات كمال ضده وهو الهداية، ونفي الغواية فيه إثبات كمال ضدها وهو الرشاد.

وهذا الترتيب الذي ذكره المصنف رحمه الله للخلفاء هو من عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يخالف فيه أحد، وإنما عُرِفَ عن بعض أهل السنة تفضيل علي على عثمان. أما ترتيبهم في الخلافة فلا خلاف في أنَّ أحقهم بها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. ثم استقرت كلمة أهل السنة والجماعة فيما بعد على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

وهذا الترتيب كان معروفاً عند الصحابة، كما جاء في صحيح الإمام البخاري 3 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله:""كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان

1 سبق تخريجه.

2 الآية 2 من سورة النجم.

3 الصحيح " رقم 3655 "

ص: 349

رضي الله عنه ". زاد الطبراني 1:""فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا ينكر ".

وجاء في هذا المعنى آثار عديدة عن الصحابة والسلف، منهم علي رضي الله عنه، فقد سأله ابنه محمد بن الحنفية، فقال:""أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال ما أنا إلا رجل من المسلمين ""2.

لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام عن الخلفاء الراشدين انتقل للكلام على بقية الستة المبشرين بالجنة فقال:

" ثم الستة الباقون من العشرة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم. فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة "

وهؤلاء يعرفون بالعشرة المبشرين بالجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشَّرهم بالجنة في مجلس واحد، كما ورد ذلك في عدة أحاديث، منها: حديث سعيد بن زيد 3، وحديث عبد الرحمن بن عوف 4، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة،

1 ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري " 7/20 "

2 أخرجه البخاري " رقم 3671 "

3 أخرجه أبو داود " رقم 4749 "، والترمذي " رقم 3748، 3757 وقال حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد "، وابن ماجه " رقم 134 "، وأحمد " 1/187 "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 2955 "

4 أخرجه الترمذي " رقم 3747 "، وأحمد " 1/193 " قال الترمذي: " وقد رُوي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وهذا أصح من الحديث الأول

وسمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول: هو أصح من الحديث الأول ".

ص: 350

والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ".

وقد نظم غير واحد هؤلاء العشرة في أبيات، منها هذان البيتان:

للمصطفى خير صحب نص أنهم

"في جنة الخلد نصاً زادهم شرفاً

هم طلحة وابن عوف والزبير مع

أبي عبيدة والسعدان والخلفاء1

وقد أفرد بعض أهل العلم فضائل هؤلاء العشرة بمصنفات خاصة، منهم المحب الطبري رحمه الله في كتابه " الرياض النضرة في مناقب العشرة ".

" فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها؛ اتباعاً لقوله وامتثالاً لأمره "

وفي هذا إشارة إلى طريقة أهل السنة والجماعة في التعامل مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كلِّ شيء، ومن ذلك: الشهادة بالجنة والتفضيل بين الصحابة رضوان الله عليهم.

" وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لثابت بن قيس، وعبد الله بن سلام، ولبلال بن رباح، ولجماعة من الرجال والنساء من أصحابه "

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس رضي الله عنه بالجنة ثابتة في الصحيحين 2 من حديث أنس رضي الله عنه:""أنَّه لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ} 3 جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ قال سعد: إنَّه لجاري، وما علمت له بشكوى. فأتاه سعد فذكر له قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ثابت: أنزلت

1 انظر هذه الأبيات وأبيات غيرها في مقدمة الرياض المستطابة للعامري.

2 البخاري " رقم 3613 "، ومسلم " رقم 310 " واللفظ له.

3 الآية 2 من سورة الحجرات.

ص: 351

هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو من أهل الجنة ".

وأما عبد الله بن سلَام 1 رضي الله عنه، فثبت أيضاً في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنَّه قال:""ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنَّه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام " 2.

وأما بلال رضي الله عنه فثبت في الصحيحين 3 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ".

" وبشَّر خديجة ببيت من قصب لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب "

وهذا الحديث في الصحيحين 4، وقيل: إنَّ القصب هو اللؤلؤ المجوف، أي: ليس فيه أصوات مزعجة، ولا شدة فيه ولا عنت ولا تعب.

" وأخبر أنَّه رأى الرميصاء بنت ملحان في الجنة "

الرميصاء هي زوجة أبي طلحة، أم أنس بن مالك، وقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة هي وبلال في حديث واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أريت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال " 5.

لما أشار المصنف رحمه الله إلى بعض من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة قال:

1 ابن سلَام بتخفيف اللام. وللفائدة ينظر كتاب " مختصر من الكلام في الفرق بين من اسم أبيه سلَام وسلَاّم " لأبي محمد بن أسعد الجواني ت 588. لم يطبع، وله نسخة مصورة بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية " رقم 20537 "

2 البخاري " رقم 3812 "، ومسلم " رقم 6330 "

3 البخاري " رقم 1149 "، ومسلم " رقم 6274 "

4 البخاري " رقم 1792 "، ومسلم " رقم 6224 "

5 أخرجه البخاري " 3679 "، ومسلم " رقم 6271 "

ص: 352

" فكلُّ من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم " أي: لا نشهد لأحد معين غير من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

" بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء "

هذه طريقة أهل السنة في الشهادة، لا يشهدون لمعين بجنة أو نار، إذا رأوا أحداً على خير وإحسان وطاعة وعبادة وإقبال على الله قالوا: نرجو أن يكون من أهل الجنة، أو نحسبه من أهل الجنة، أو إن شاء الله من أهل الجنة. ومن أساء خافوا عليه النار، بدون جزم بها.

" ونكل علم الخلق إلى خالقهم "

أي: نفوض العلم بحالهم وخاتمتهم وصدق إيمانهم وما يستحقونه من جنة أو نار وسعادة أو شقاء إلى الله

" فالزم ـ رحمك الله ـ ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم ولا تحد عنه "

هذا الكلام عائد لكلِّ ما سبق، فالعقيدة التي أوردها المصنف في هذا الكتاب كلُّها مبنية على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى هذا المعنى في مقدمة الكتاب وفي ثناياه غير مرة، وأعاده هنا في تمامه. فأهل السنة يبنون كلَّ صغير وكبير، وكلَّ أمور المعتقد والدين على كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول المصنف: خذ كلَّ ما ذكرته لك في هذا الكتاب، وهو ليس مني، ولم آت به من عند نفسي، فهذه العقيدة لم أنشئها من قبل نفسي، ولم أبتكرها من بنات عقلي، بل جمعت فيها ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن أخذ من المنهل الأول وجد بقية الموارد كدرة، لكن هذا أمر لا يدركه أهل الأهواء. فكلُّ من اشتغل بالعقول أو اشتغل بالمنامات أو اشتغل بالأذواق والمواجيد لا يدرك ما يدركه أهل السنة من حلاوة في المعتقد ولذة في الإيمان

ص: 353

لكونه مأخوذاً من هذا المنبع الصافي والمنهل العذب كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

" ولا تبتغ الهدى في غيره " لأنَّ من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة ضل، كما قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:""تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " 2، فالذي يتبع الهدى وهو ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لن يضل.

ثم حذَّر قارئ هذا المعتقد من أباطيل أهل الأهواء فقال:

" ولا تغتر بزخارف المبطلين " فسمَّى ما عند المبطلين زخارف، وذلك لأنَّه باطل مردود يأباه كلُّ مسلم، لكنَّ أهل الباطل لا ينفِّقون باطلهم إلا بإلباسه لباس الحق وزخرفته وتزيينه وتنميقه؛ فينفق على جهال الناس وعوامهم، ويغترون به. فكلُّ حق لا يريدونه يسمونه باسم مستشنع، وكلُّ باطل يريدون تقريره يلقبونه بألقاب جميلة، كما سمى المعطلة تعطيلهم للصفات تنزيهاً، وإثبات الصفات تجسيماً، وكما سمَّوا تعطيلهم للصفات توحيداً، وإنكارهم للقدر عدلاً، ونحو ذلك.ولهذا لا ينبغي لمسلم أن يغتر بزخرفة القول.

قال الأوزاعي رحمه الله:""عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول " 3.

" وآراء المتكلفين " وهذا فيه إشارة إلى أنَّ ما عند أهل الباطل إنَّما هو مجرد آراء، هي من نتاج عقولهم وبنات أفكارهم، ولهذا عندما يقرأ المسلم في كتاب لأهل السنة وكتاب لأهل الأهواء في المعتقد يجد صاحب السنة ينطلق فيه

1 الآية 123 من سورة طه.

2 أخرجه الحاكم " 1/172 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 2937 "

3 رواه الآجري في الشريعة " ص102 "، والخطيب في شرف أصحاب الحديث " ص7 "، وابن عبد البر في بيان العلم " 2/114 "، وصحح إسناده الألباني في مختصر العلو " ص138 "

ص: 354

من آيات وأحاديث. ويجد صاحب البدعة والهوى ينطلق من آراء، ثم يتكلف ليستدل لها، فترى الواحد منهم يعتقد ثم يستدل، فيلوي الآيات والأحاديث ويأطرها لتكون دليلاً له على معتقده، أو يوردها ليردها، حتى إنَّ قارئ كتبهم والمطلع عليها ليلمس فيهم عند إيرادهم لنصوص الشرع أنَّهم إنَّما أوردوها ليشرعوا في ردها وتأويلها شروع من قصد ذلك أصلاً وابتداء بأيِّ طريقة كانت. فمثلاً يقرر بعضهم بشواهد عقلية فاسدة نفي العلو ثم يقول: فإن قيل: ما قولكم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، ثم يشرع في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فهو لم يأت بالآية أصلاً إلا ليردها.

" فإنَّ الرشد والهدى " عندما يجتمع الرشد مع الهدى، فالرشد: في العلم، وضده الغواية. والهدى: في العمل، وضده الضلال. وإذا ذكر كلُّ واحد منهما مفرداً تناول الآخر.

" والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله " وهنا ينبه المصنف على شيء سبق أن نبه عليه ألا وهو أنَّ المسلم ينبغي أن يعوِّد نفسه على تلقي كلِّ ما يأتي في الكتاب والسنة بالرضى والقبول والتسليم. وإن استوحش من بعض الأمور لضعف بصيرته، وقلة علمه فليتهم رأيه في الدين، وليرض بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري:""من الله عز وجل الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم " 2، فإنَّ في ذلك الفوز والفلاح.

" لا فيما أحدثه المحدثون " المحدثون من الإحداث وهو الابتداع أي إنشاء شيء في الدين ليس منه، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 3.

1 الآية 5 من سورة طه.

2 سبق تخريجه.

3 أخرجه البخاري " رقم 2697 "، ومسلم " رقم 4467 "

ص: 355

" وأتى به المتنطعون " التنطع: التكلف، أي الذين لم يسعهم ما في الكتاب والسنة وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فأخذوا يتكلفون أشياء ويستحسنون أموراً يأتون بها من قبل أنفسهم يلصقونها بالدين.

" من آرائهم المضمحلة " الاضمحلال هو التلاشي والتصاغر، فهي آراء حقيرة واهية، لا تقوم على عقول راجحة ولا أفهام سوية، بل على عقول فاسدة وأفهام ردية.

" ونتائج عقولهم الفاسدة " وهؤلاء إنَّما أتوا من فساد العقول؛ فسدت عقولهم فبنوا عليها الدين، وإلا لو صحت العقول لتلقوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضا والتسليم.

ثم عاد رحمه الله ناصحاً فقال:

" وارض بكتاب الله وسنة رسوله " وبهذا الرضا ينال العبد حلاوة الإيمان وطعمه كما قال صلى الله عليه وسلم:""ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً " 1.

" عوضاً من قول كلِّ قائل وزخرف وباطل " يعني لا تغتر بكلام الناس ولا زخارفهم ولا باطلهم، بل عليك بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والرضا بما جاء فيهما.

ونظير كلام المصنف قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:""العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول علماً، وهو النقل المصدق والبحث المحقق. فإنَّ ما سوى ذلك ـ وإن زخرف مثله بعض الناس ـ خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق " 2.

1 سبق تخريجه.

2 مجموع الفتاوى " 6/388 " وانظر: مجموع الفتاوى " 13/329 "، والرد على البكري " ص375 "

ص: 356

فأهل الباطل ليس عندهم إلا هذيان وآراء فاسدة وتقريرات باطلة لكنَّهم زخرفوها وزوقوها ونمقوها وألبسوها قوالب الحق فنفَّقوها بذلك بين الناس وروجوها فيهم.

وقد ختم المصنف رحمه الله بهذه الخاتمة التي فيها التأكيد على التمسك بالكتاب والسنة والتعويل على ما جاء فيهما، والحذر من الباطل وأهله، والبراءة من الأهواء وأهلها.

ونظراً لعظم هذا المقام وأهميته وحاجة الناس لمزيد التأكيد عليه وبيان بعض أدلته، لم يكتف بذلك، بل أفرد له فصلاً خاصاً فقال:

ص: 357