الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الاستثناء في الإيمان]
" والاستثناء في الإيمان سنة ماضية. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله. رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم "
شرع المصنف رحمه الله في الكلام عن مسألة الاستثناء في الإيمان، ومن عادة أهل العلم في كتبهم أن يبحثوا هذه المسألة عقب زيادة الإيمان ونقصانه، لما بين المسألتين من ارتباط من جهات كثيرة؛ فإنَّ القول بزيادة الإيمان ونقصانه له تأثير في مسألة الاستثناء في الإيمان.
وقول أهل السنة في هذه المسألة واضح، وقد أعطى المصنف في ذلك خلاصة نافعة فقال:" والاستثناء في الإيمان سنة ماضية "، ثم عرَّفه بقوله:" فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله " وهذه صيغة من صيغ الاستثناء اقتصر المصنف على ذكرها، وإلا فهناك صيغ أخرى معروفة عند السلف كأن يقول ـ إذا سئل أمؤمن أنت ـ:" إن شاء الله " أو يقول: " مؤمن أرجو " أو: " آمنت بالله " أو: " لا إله إلا الله ". فالمراد بالاستثناء: عدم الجزم والقطع.
وامتحان الناس بهذا السؤال ليس من هدي السلف، وأول من امتحن الناس بذلك المرجئة، ولهذا جاء عن غير واحد من السلف تبديع من امتحن الناس بهذا الأمر 1.
1 انظر: الإيمان لابن أبي شيبة " رقم 60 "، والسنة لعبد الله بن أحمد " رقم 608، 713 "
لكن إن طُرِح السؤال وسئل المسلم عن إيمانه، فالسنة التي مضى عليها السلف رحمهم الله أن يستثنوا. وهم في هذا يلحظون اعتبارات أربعة تعرف بالتتبع لأقوالهم، هي:
1ـ أنَّ الإيمان المطلق شامل للقول والاعتقاد والعمل، شامل للأمور الواجبة والمستحبة، ولا يمكن لأحد أن يجزم لنفسه بأنَّه استكمل هذه الأمور كلها.
2ـ أنَّ الإيمان النافع هو المتقبل، ولا يمكن لأحد أن يجزم بأن عمله متقبل. قال الله عز وجل في وصف المؤمنين الكُمَّل:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1. وثبت في الحديث الصحيح أنَّ عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت:""أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت أبي بكر ـ أو يا بنت الصديق ـ"ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه " 2. وقال الله عز وجل واصفاً إمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام حال بنائه البيت الحرام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3 وقد كان وهيب بن الورد يقرأ هذه الآية ويبكي ويقول:""يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك " 4.
3ـ أنَّ الجزم بالإيمان فيه تزكية للنفس، وقد قال تعالى:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 5، فلا يقول: أنا مؤمن خشية الوقوع في تزكية النفس.
1 الآية 60 من سورة المؤمنون.
2 أخرجه الترمذي " رقم 3175 "، وابن ماجه " رقم 4198 "، وأحمد " 6/205 "، والحاكم " 2/427 وقال: صحيح الإسناد "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 2537 "
3 الآية 127 من سورة البقرة.
4 تفسير ابن كثير " 1/167 "
5 الآية 32 من سورة النجم.
ومن لطيف ما يُروى في هذا الباب: أنَّه""قيل لأعرابي أمؤمن أنت؟ فجعل يقول: أزكي نفسي! " 1. فهذا الأعرابي بفطرته خير من مئات المتكلمين الذين تاهوا في خضم بحر الكلام الباطل.
4ـ أنَّ الاستثناء لا يعني الشك، فقد يستثنى في الأمور المتيقنة، قال تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لأهل القبور:""وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون " 3، وقد نعيت له نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4.
فالاستثناء في الإيمان لا يقتضي الشك، ومن لا يستثني في الإيمان ـ كما سيأتي الإشارة إليهم ـ يلمزون السلف بأنَّهم شكاك، وهذا لمز لهم بأمر لا يلزمهم، فقد عرفنا من أدلة القرآن والسنة أنَّ الاستثناء قد يكون بدون شك، والسلف رحمهم الله لما استثنوا لم يكن ذلك عن شك منهم في أصل الإيمان، وإنما استثناؤهم راجع إلى كمال الإيمان وتمامه.
ومن جميل ما يُروى في هذا الباب أنَّ الحسن البصري رحمه الله سئل مرة أمؤمن أنت؟ فقال:""الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والبعث والحساب أنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1853 "
2 الآية 27 من سورة الفتح.
3 أخرجه مسلم " رقم 2252 "
4 الآية 30 من سورة الزمر.
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 فوالله ما أدري أنا منهم أو لا""2. وإنما فصَّل الحسن رحمه الله لأنَّ الإيمان يطلق في النصوص أحياناً ويراد به أصل الإيمان، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 4. ويطلق أحياناً، ويراد به تمامه، كما قال عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} ونظائرها من الآيات.
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الملاحظ الأربعة ولخصها في سياق واحد، فقال:""فإذا كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكلِّ ما أوجب الله عليَّ، وأنَّه يُقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده أن لا يزكي نفسه، وأن لا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس " 5.
ثم أورد المصنف رحمه الله أسماء جماعة من السلف ثبت عنهم الاستثناء فقال: " رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم "
" وهذا استثناء على يقين " أي: ليس عن شك، ثم ذكر على ذلك دليلاً
1 الآيات 2ـ 4 من سورة الأنفال.
2 رواه البيهقي في الاعتقاد " ص182 "
3 الآية 9 من سورة الحجرات.
4 الآية 92 من سورة النساء.
5 مجموع الفتاوى " 13/41 "
واحداً فقال: " قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} " وقد سبق ذكر بعض الأدلة الأخرى.
وقد خالف السلف في الاستثناء في الإيمان طائفتان:
1ـ طائفة ـ وهم مرجئة الفقهاء والماتريدية ـ قالت بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وعللوا ذلك بأنَّ الاستثناء لا يكون إلا عن شك، والشك في الإيمان كفر، حتى غلا بعضهم فنص على عدم جواز تزويج من يستثني في الإيمان.
2ـ طائفة ـ وهم الكلابية والأشاعرة ـ قالت بوجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، فيقولون: إيمان الحال نقطع به ولا نستثني فيه، لكن إيمان المآل وهو الذي يوافي به العبد ربه نستثني فيه. وهذا على اعتبار أنهم لا يدرون بم يختم لهم، وهل سيبقون على هذا الإيمان أم لا. فاستثناؤهم باعتبار المآل لا باعتبار الحال.
وبسبب هذا القول الفاسد نشأت بدعة المرازقة المنتسبين لأبي عمرو عثمان بن مرزوق ـ وكان في الاستثناء على طريقة السلف ـ إلا أنَّهم انحرفوا عن منهجه، فأخذوا يستثنون في كلِّ شيء، فيسأل أحدهم ـ وفي يده حبل ـ فيقول: هذا حبل إن شاء الله. فإن قيل: هذا لا شك فيه. قال: إن شاء الله أن يغيره غيره 1.
وهناك حديث موضوع ربما استشهد به هؤلاء، وهو""إنَّ من تمام إيمان العبد أن يستثني في كلِّ حديثه " قال الذهبي ـ معلقاً على هذا الحديث ـ:""هذا الحديث باطل، قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم: أنت مسيلمة الكذاب لقال: إن شاء الله " 2.
1 انظر: كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية " ص371 "
2 ميزان الاعتدال " 4/134 "