الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه]
بعد انتهاء المصنف رحمه الله من ذكر الإسراء والمعراج دخل في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فقال:
" وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل،كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} . قال الإمام أحمد ـ فيما روينا عنه ـ: وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنَّه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره، ولا نناظر فيه أحداً "
هذه المسألة فيها نزاع معروف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عندما عُرِج به إلى السماء، ونُقِل ذلك عن بعض الصحابة.
القول الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه.
وبعض أهل العلم في كتب الاعتقاد انتصروا للقول بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ومنهم المصنف هنا، وكذلك ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1.
لكنَّ التحقيق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وليس مع من قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج دليل واضح يبنى عليه القول بذلك، بل الأدلة في عدم الرؤية أصرح، سواء الأدلة العامة في هذا الباب، أو الأدلة الخاصة المتعلقة به صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الأدلة: ما جاء في صحيح مسلم 2 عن أبي ذر رضي الله عنه
1 " 2/477 ـ 562 "
2 الصحيح " رقم 442 "
قال:""سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه ". فهذا واضح في الدلالة على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. ولعله صلى الله عليه وسلم رأى النور، كما جاء في الحديث:""حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:""قد ثبت بالنصوص الصحيحة واتفاق سلف الأمة أنَّه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، إلا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة " 2. وقال ـ أيضاً ـ:""وليس في الأدلة ما يقتضي أنَّه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل " 3.
والمصنف رحمه الله لما انتصر لقول من قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه لم يذكر دليلاً واضحاً على ذلك فقال:
" كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} " وهذه الرؤية لجبريل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته الحقيقية مرتين، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها"أنَّها قالت ـ لما قال لها مسروق بن الأجدع: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} 4،:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 5"ـ:""أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض "6.
" قال الإمام أحمد فيما روينا عنه " هذه رواية عبدوس بن مالك العطار عن الإمام أحمد.
1 تقدم تخريجه.
2 مجموع الفتاوى " 6/510 "
3 مجموع الفتاوى " 6/ 509 ـ 510 "
4 الآية 23 من سورة التكوير.
5 الآية 13 من سورة النجم.
6 أخرجه مسلم " رقم 438 "
" وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنَّه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحٌ، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس " لهذا الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما روايتان، الرواية الأولى مطلقة، قال فيها:""رأى ربه تبارك وتعالى " 1. والرواية الأخرى مقيدة، قال فيها:""رآه بفوائده مرتين " 2، وقال مرة:"" رآه بقلبه " 3. ولم يأت عنه رضي الله عنه أنه قال: رآه بعينه 4.
فإذا حملت الرواية المطلقة على المقيدة اتفقت أقاويل السلف في هذا الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:""ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإنَّ ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه " 5.
والرؤية التي بالفؤاد ثابتة له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله:""إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة " 6.
1 أخرجه الترمذي " رقم 3280 "، وابن أبي عاصم " رقم 439 "، وابن حبان في صحيحه " رقم 57 "، والبيهقي في الأسماء والصفات " رقم 933 "، وقال الألباني:" إسناده حسن ".
2 أخرجه مسلم " رقم 436 "
3 أخرجه مسلم " رقم 435 "
4 انظر: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه للشيخ محمد بن خليفة التميمي " ص126 " ضمن العدد 113 من مجلة الجامعة الإسلامية فقد أشار إلى جملة من الروايات عن ابن عباس بهذا المعنى لكنها لم تصح.
5 اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم " ص48 "
6 أخرجه الترمذي " رقم 3235 "، وأحمد " 5/ 243 "، وابن خزيمة في التوحيد " رقم 320 " قال الترمذي:" هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح ".
" والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث كما سبق موقوف على ابن عباس وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتحقيق في هذا كما سبق أن يحمل المطلق من كلامه رضي الله عنه على المقيد.
" والكلام فيه بدعة " يعني إذا ردَّ المسلم الشيء الصحيح الثابت المتقرر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيعترض عليه وينتقده بعقله فهذا بدعة"، لكن الشأن في ثبوت ذلك.
" ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس قال:""إنَّ الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية " "
أورد المصنف رحمه الله هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنه مستدلاً بها على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وهي محمولة على الرواية المقيدة والله أعلم.
" وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:""رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين " "
وهذه الرواية مقيدة بما جاء في الرواية الأخرى:""بفؤاده مرتين " 1.
" ورُوي عن أحمد رحمه الله أنَّه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنها:""من زعم أنَّ محمداً قد رأى ربه عز وجل
…
" الحديث؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم:""رأيت ربي عز وجل " "
1 أخرجه مسلم " رقم 436 "
?
المروي عن الإمام أحمد رحمه الله في هذا الباب مثل ما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، إمَّا روايات مطلقة، قال فيها:" رأى ربه "، أو روايات مقيدة بفؤاده. وعلى هذا فتحمل الرواية المطلقة على المقيدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو العارف المستقرئ لكلام الإمام أحمد ـ:""وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده. ولم يقل أحد إنَّه سمع أحمد يقول: رآه بعينه. لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين " 1.
" بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"" رأيت ربي عز وجل "" إن كان المقصود بهذا حديث ابن عباس الذي استدل به الإمام أحمد في رواية عبدوس فقد سبق الكلام عليه. وإن كان المقصود حديث:""رأيت ربي في أحسن صورة " فهذه رؤية منامية وليست يقظة كما قرر ذلك أهل العلم. يقول ابن القيم رحمه الله:""وكلام أحمد يصدق بعضه بعضاً، والمسألة رواية واحدة عنه؛ فإنَّه لم يقل بعينه، وإنما قال:" رآه ". واتبع في ذلك قول ابن عباس: " رأى محمد ربه ". ولفظ الحديث:""رأيت ربي " وهو مطلق، وقد جاء بيانه في الحديث الآخر. ولكن في رد الإمام أحمد قول عائشة ومعارضته بقول النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأنَّه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تنكر رؤية المنام، ولم تقل: من زعم أنَّ محمداً رأى ربه في المنام فقد أعظم على الله الفرية. وهذا يدل على أحد أمرين: إمَّا أن يكون الإمام أحمد أنكر قول من أطلق نفي الرؤية؛ إذ هو مخالف للحديث. وإمَّا أن يكون رواية عنه بإثبات الرؤية، وقد صرح بأنَّه رآه
1 مجموع الفتاوى " 6/509 "
رؤيا حلم بقلبه، وهذا تقييد منه للرؤية، وأطلق عنه بأنَّه رآه، وأنكر قول من نفى مطلق الرؤية، واستحسن قول من قال: رآه ولا يقول بعينه ولا بقلبه. وهذه النصوص عنه متفقة لا مختلفة، وكيف يقول أحمد:" بعيني رأسه يقظة "، ولم يجد ذلك في حديث قط. فأحمد إنما اتبع ألفاظ الحديث كما جاءت، وإنكاره قول من قال: لم يره أصلاً، لا يدل على إثبات رؤية اليقظة بعينه، والله أعلم " 1.
" وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""فرجعت إلى ربي وهو في مكانه " والحديث بطوله مخرج في الصحيحين، والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله "
ورد هذا في صحيح البخاري 2 في سياق تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وبين الله عز وجل، لكن بلفظ:""فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا ". والضمير في قوله:" وهو مكانه " يعود إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أي: في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى عليهما الصلاة والسلام 3.
وهذا السياق ـ كما هو واضح ـ ليس فيه ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم رآه.
" والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله " نعم المنكر لهذه اللفظة ـ حسبما هو ثابت في الصحيح ـ راد على الله ورسوله؛ لأنها ثابتة فلا يجوز ردها، لكن ليس فيها ما يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
1 التبيان في أقسام القرآن " ص260 ـ 261 "
2 " رقم 7517 "
3 انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان " 2/461 "
وعلى هذا فليس فيما استدل به المصنف رحمه الله شيء صريح في الدلالة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
والتحقيق أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يره، وأنَّ رؤية الله في الدنيا وإن كانت غير ممتنعة إلا أنَّه اقتضت حكمته عز وجل أن تكون يوم القيامة في دار الجزاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إنَّكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " 1. ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة بمنه وكرمه.
1 سبق تخريجه.