الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[زيادة الإيمان ونقصانه]
" يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية " مما امتن الله به على أهل السنة والجماعة وميزهم به، وفارقوا فيه كلَّ الطوائف الضالة قولهم: بأنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنَّ أهله ليسوا فيه سواء، بل يتفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً، فإذا أقبل العبد على طاعة ربه وحافظ عليها زاد إيمانه، وإذا غفل عن ذكره أو اقترف شيئاً من المعاصي نقص إيمانه بحسب ذلك.
وزيادة الإيمان ونقصانه تكون من أوجه كثيرة، أوصلها شيخ الإسلام ابن تيمية في "كتاب الإيمان " 1 إلى تسعة أوجه، هي في الجملة راجعة إلى وجهين: زيادة الإيمان من جهة أمر الرب، وزيادة الإيمان من جهة فعل العبد 2.
والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه كثيرة، ذكر المصنف رحمه الله طرفاً منها، فقال:" قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} " فهذه الآيات صريحة في أنَّ الإيمان يزيد، وهي أحد أنواع الأدلة الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه.
ومن يتأمل القرآن الكريم يجد أنَّه دلَّ على زيادة الإيمان ونقصانه من خلال أنواع كثيرة، منها هذا النوع الذي أشار إليه المصنف وهو: التصريح بزيادة الإيمان.
ومنها: التصريح بزيادة الهدى، والهدى من الإيمان، قال تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3.
1 " ص199 ـ 204 "، وانظر: مجموع الفتاوى " 7/562 ـ 584، 672 "
2 انظر: مجموع الفتاوى " 13/51 ـ 55 "، " 18 /277 ـ 278 "
3 الآية 17 من سورة محمد.
ومنها: التصريح بزيادة الخشوع، والخشوع من الإيمان، كقوله تعالى:{وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 1.
ومنها: أمر المؤمنين بالإيمان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} 2، وقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} 3 فهذا أمر للمؤمنين بالإيمان، والأمر بالشيء لمن هو قائم به أمر بالزيادة منه والمحافظة عليه والعناية به.
ومنها: ذكر تفاضل درجات أهل الإيمان في الآخرة، كقوله تبارك وتعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 4، وقوله تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 5 والتفاضل في درجات الجنة وثواب الآخرة إنما هو لتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم.
ومنها: إخبار الله تبارك وتعالى بأنَّ أهل الإيمان على طبقات، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 6 فذكر تعالى الظالم لنفسه وهو الذي وقع في بعض الذنوب بترك بعض الواجبات أو الوقوع في بعض المعاصي والمحرمات التي هي دون الشرك، ثم المقتصد وهو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات، ثم السابق بالخيرات وهو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات والمكروهات ونافس في فعل المستحبات. وهؤلاء بلا ريب ليسوا على درجة واحدة في الإيمان، ولا شك أن الظالم لنفسه أنقص إيماناً من المقتصد، والمقتصد أنقص إيماناً من السابق بالخيرات.
1 الآية 109 من سورة الإسراء.
2 الآية 135 من سورة النساء.
3 الآية 28 من سورة الحديد.
4 الآية 19 من سورة الأحقاف.
5 الآية 21 من سورة الإسراء.
6 الآية 32 من سورة فاطر.
فأنواع الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه في الكتاب والسنة كثيرة جداً، وللسلف من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان أقوال كثيرة أيضاً في تقرير ذلك، منها: قول عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه:""الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه " 1. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقول بعضهم لبعض:""اجلس بنا نؤمن ساعة " 2 أو""قم بنا نزداد إيماناً "3.
وإذا تقرر عند العبد أنَّ الإيمان يزيد وينقص فلابد له"أن يعرف أسباب زيادته ليحرص على تطبيقها والعمل بها، وأن يعرف أسباب نقصانه ليحذرها ويجتنبها.
ومن أهم أسباب زيادة الإيمان:
1ـ معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته.
2ـ تدبر كتاب الله.
3ـ معرفة سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسنته.
4ـ قراءة سير الصحابة الأبرار والسلف الأخيار.
5ـ التأمل في آيات الله الكونية.
6ـ البعد عن المعاصي، والجد في فعل الطاعات.
7ـ مرافقة أهل الخير ومصاحبتهم.
1 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان " رقم 14 "، وعبد الله بن أحمد في السنة " رقم 624 "
2 أخرجه أبو عبيد في الإيمان " رقم 20 "، وابن أبي شيبة " رقم 105 " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وقال الألباني:" إسناده صحيح على شرط الشيخين ".
3 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان " رقم 108 " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما أهم أسباب نقص الإيمان وضعفه، فهي ترجع إلى قسمين:
1ـ أمور ترجع إلى الإنسان نفسه، ومن أهمها:
النفس الأمارة بالسوء، والجهل بالدين، والغفلة والإعراض.
2ـ مؤثرات خارجية، ولعلها ترجع إلى ثلاثة:
الشيطان: وهو أعظم دعاة إنقاص الإيمان وإضعافه وإذهابه. وقرناء السوء وخلطاء الشر والفساد. والدنيا بفتنها ومغرياتها. ويمكن أن نضيف أمراً آخر استجد في زماننا هذا ألا وهو القنوات الفضائية، فهي وإن كانت داخلة فيما سبق إلا أنها يتعين التنصيص عليها لشدة خطورتها ولفداحة أضرارها وأخطارها.
" وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:""الإيمان بضع وسبعون، ـ وفي رواية بضع وستون ـ شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ". ولمسلم وأبي داود:""فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " "
هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث الشعب، وللعلماء عناية فائقة به، حتى أفرده بعضهم في مصنف، كما فعل البيهقي رحمه الله في كتابه:" شعب الإيمان "، وقبله الحليمي، وابن حبان.
" الإيمان بضع وسبعون، وفي رواية بضع وستون شعبة " من أهل العلم من يرى أنَّ هذا العدد لا مفهوم له وأنَّ المراد التكثير، قالوا: وهذا كثير في لغة العرب لاسيما في العدد سبعة وما تضاعف منها.
ومنهم من يرى أنَّ العدد مقصود، وأنَّ المراد أنَّ عدد شعب الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون. وقد اعتنى عدد منهم بجمع هذه الشعب وذكر
أدلتها، وتفاوتت مناهجهم في جمعها، وأعجب طريقة مرت عليَّ في مناهج من جمعها هي طريقة ابن حبان البستي رحمه الله، حيث قال:""تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أنَّ مذهبنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيء لا يعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعت إلى السنن فعددت كلَّ طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا، وتلوته آية آية بالتدبر، وعددت كلَّ طاعة عدها الله جل وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطت المعاد منها، فإذا كلُّ شيء عدَّه الله جل وعلا من الإيمان في كتابه، وكلُّ طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء، فعلمت أنَّ مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر أنَّ الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرت هذه المسألة بكمالها بذكر شعبه في كتاب " وصف الإيمان وشعبه " بما أرجو أنَّ فيها الغنية للمتأمل إذا تأملها، فأغنى عن تكرارها في هذا الكتاب " 1.
وللحافظ ابن حجر كلام مختصر جميل في عد هذه الشعب بدون ذكر للأدلة، استخلصه مما أورده أهل العلم من هذه الشعب، فقال:""ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره: وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله
1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان " 1/387 ـ 388 " وكتابه " وصف الإيمان وشعبه " مفقود.
ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنَّه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه 1. والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره. والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار. ومحبة الله. والحب والبغض فيه. ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه: الصلاة عليه، واتباع سنته. والإخلاص ويدخل فيه: ترك الرياء والنفاق. والتوبة. والخوف. والرجاء. والشكر. والوفاء. والصبر. والرضا بالقضاء. والتوكل. والرحمة. والتواضع، ويدخل فيه: توقير الصغير، وترك الكبر والعجب. وترك الحسد. وترك الحقد. وترك الغضب. وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد. وتلاوة القرآن. وتعلم العلم. وتعليمه. والدعاء والذكر، ويدخل فيه الاستغفار. واجتناب اللغو. وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة. والصلاة فرضاً ونفلاً. والزكاة كذلك. وفك الرقاب. والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف. والصيام فرضاً ونفلاً. والحج والعمرة كذلك. والطواف. والاعتكاف. والتماس ليلة القدر. والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك. والوفاء بالنذر. والتحري في الأيمان. وأداء الكفارات. ومنها ما يتعلق بالأتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح. والقيام بحقوق العيال. وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق. وتربية الأولاد. وصلة الرحم. وطاعة السادة. أو الرفق
1 الصواب: أن يقال: الإيمان بالله، ويدخل فيه أركان الإيمان بالله الثلاثة، وهي الإيمان بوحدانيته في ربوبيته، ووحدانيته في أسمائه وصفاته، ووحدانيته في ألوهيته.
بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل. ومتابعة الجماعة. وطاعة أولي الأمر. والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة. والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحدود. والجهاد، ومنه المرابطة. وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه. وإكرام الجار. وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف. ورد السلام. وتشميت العاطس. وكف الأذى عن الناس. واجتناب اللهو. وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر والله أعلم " 1.
وفي الحديث فوائد، منها: أنَّه صريح في أنَّ الإيمان يتناول ما يقوم بالقلب وما يقوم باللسان وما يقوم بالجوارح، أمَّا ما يقوم بالقلب ففي قوله صلى الله عليه وسلم:" والحياء شعبة من شعب الإيمان "، وأمَّا ما يقوم باللسان ففي قوله صلى الله عليه وسلم:" فأفضلها قول: لا إله إلا الله "، وأمَّا ما يقوم بالجوارح فقوله صلى الله عليه وسلم:" وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ".
ومنها: فضل كلمة التوحيد وأنَّها أفضل الكلمات، ولهذا عدها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل شعب الإيمان وأرفع درجاته ومراتبه.
ومنها: أنَّ شعب الإيمان ليست على مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعبٌ كثيرةٌ منها ما هو قريب من الأعلى ومنها ما هو قريب من الأدنى.
ومنها: أنَّ الإيمان يزيد وينقص؛ فإنَّه إذا كان متناولاً لهذه الشعب وهي
1 فتح الباري " 1/68 ـ 69 "
شعب متفاوتة لها أعلى وأدنى، والناس متفاوتون في تطبيقها قوة وضعفاً زيادة ونقصاً، فهذا فيه أبين دلالة على أنَّه يزيد وينقص، بل إنَّ الشعبة الواحدة من شعبه يتفاوت الناس في تحقيقها والقيام بها تفاوتاً كبيراً، فليسوا على درجة واحدة في الحياء مثلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أصدقهم حياء عثمان " 1.
وكذلك الحال في إماطة الأذى عن الطريق، فإنَّ الناس مع هذه الشعبة على ثلاثة أقسام: قسم يميط الأذى عن الطريق، وقسم يدع الأذى في الطريق، وقسم يضع الأذى في الطريق. وكلُّهم من أهل الإيمان لكنهم لا يستوون.
وفي الحديث فائدة لطيفة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، والمراد بالأذى: أي الحسي الذي يؤذي الناس ويعيقهم في سيرهم لتحصيل مصالحهم الدنيوية. وعليه فإنَّه من باب أولى أن يكون إماطة الأذى المعنوي الذي يعيق الناس في طريقهم إلى طاعة ربهم إيماناً، ولهذا كان الرد على أهل البدع وتحذير الناس من باطلهم والرد على شبهاتهم من إماطة الأذى عن الطريق وهو من الإيمان.
1 أخرجه الترمذي " رقم 3791 وقال: حسن صحيح "، وابن ماجه " رقم 154 "، وأحمد " 3/281 "، وابن حبان " رقم 7131 "، وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 1224 "