الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مسائل الإيمان]
" والإيمان بأنَّ الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} "
ذكر المصنف رحمه الله هنا خلاصة مفيدة وإيجازاً نافعاً يتعلق بقول أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وأمور متعلقة به.
والإيمان هو أجل المقاصد وأعظم المطالب وأنبل الغايات، وحاجة الناس إليه وضرورتهم إلى العلم به وتطبيقه أعظم الضرورات، بل ليس للناس حاجة في هذه الحياة مثل حاجتهم إلى الإيمان بالله وبما أمر الله تبارك وتعالى عباده بالإيمان به؛ فإنَّ حياة الناس الحقيقية في الدنيا والآخرة إنما تكون بذلك، قال الله تعالى:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 1 فالحياة الحقيقية لا تكون ولا تتحقق إلا بالإيمان.
ومن حكمة الله سبحانه وعظيم فضله أنَّ الأمر كلَّما كانت حاجة العباد إليه أعظم، وضرورتهم إليه ألزم كانت سبل نيله وطرائق تحصيله أوضح وأبين وأيسر من غيره. وتأمل هذا في حاجات الناس، فحاجتهم إلى الهواء أعظم من حاجتهم إلى الماء، ولهذا فإنَّ تحصيل الهواء أيسر من تحصيل الماء. وحاجة الناس إلى الماء أعظم من حاجتهم إلى الطعام، ولهذا فإنَّ تحصيل الماء أيسر من تحصيل الطعام. وحاجة الناس إلى الإيمان أعظم من ذلك كلِّه، ولهذا فإنَّ براهين الإيمان ودلائله وحججه أوضح ما يكون لمن منَّ الله عز وجل عليه بالهداية وشرح صدره للخير، والشواهد عليه أكثر من أن تعد أو تحصى.
1 الآية 24 من سورة الأنفال.
وعندما يقع للناس اشتباه فيه، فإنَّه ليس عائداً إلى الإيمان نفسه ولا إلى براهينه الصحيحة، وإنما هو عائد إلى ما يحدثه الناس من آراء واصطلاحات أو نحو ذلك؛ ولهذا فإنَّ كثيراً من الخلافات التي تنشب سببها الاصطلاحات الحادثة، والآراء التي تستجد، فيكون الناس فيها بين أخذ وعطاء وقبول ورد، وينشأ بينهم بسببها شقاق وخلاف.
ولهذا فإنَّ حل النزاع ورفع الاشتباه في هذا وغيره إنما يكون بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال جل وعلا:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1، ولهذا فإنَّ من جميل صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما بيَّن الإيمان في كتابه الفريد الفذ " الإيمان "، وتكلم عما نشأ فيه من خلاف وأقاويل بدأه أول ما بدأ بالإشارة إلى أنَّ النزاع الذي حدث ويحدث بين الناس سببه الاصطلاحات الحادثة، فيتخاصم الناس فيها ويختلفون عليها، والطريقة الصحيحة السليمة في جمع القلوب ومعرفة الحق إنما تكون بالعودة إلى الكتاب والسنة، فقال:""ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإنَّ هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداءً، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ما يبين أنَّ رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة " 2 ثم أخذ يأتي بالآيات والأحاديث التي فيها تعريف الإيمان، وهذه هي طريقة السلف في الإيمان وغيره، ولو سُلكت واتبعها الناس لما وُجِد خلاف.
وحقيقةً من يراقب حال الناس يرى عند بعضهم اهتماماً بالغاً باصطلاحات
1 الآية 59 من سورة النساء.
2 كتاب الإيمان " ص7 "
حادثة ويشتد فيها، وإذا سئل عن بعض الأحاديث المهمة في تعريف الإيمان وبيان حده لا يعرفها.
فهناك أحاديث مهمة في تعريف الإيمان وبيان حده، كحديث جبريل"، وحديث وفد عبد القيس، وحديث الشعب وغيرها، ينبغي أن تحفظ وتضبط وتعرف معانيها؛ ليعيش العباد مع نصوص الشريعة، دون زج بهم في مصطلحات حادثة، لا طائل من ورائها ولا ثمرة تقرب إلى الله من تحصيلها إلا زيادة الشقاق وتوسيع الخلاف.
والمصنف رحمه الله عرَّف الإيمان في هذا المختصر على طريقة السلف وذكر شيئاً من دلائله وبراهينه بعيداً عن التكلفات والتعقيدات والمصطلحات المتعبة، وبدأ بذكر تعريفه قبل التفاصيل الأخرى وفقاً للقاعدة المشهورة عند العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فقال:
" والإيمان بأنَّ الإيمان قول وعمل ونية " أي: ومن أمور الاعتقاد: أنَّ الإيمان قول وعمل ونية، وهذا باتفاق السلف رحمهم الله، ليس بينهم خلاف في ذلك. وإن اختلفت عباراتهم في بعض الأحيان إلا أن المؤدى واحد. فقال بعضهم: الإيمان قول وعمل. وقال بعضهم: قول وعمل واعتقاد. وقال بعضهم: قول وعمل ونية. وقال بعضهم: قول وعمل ونية واتباع.
فمن قال: الإيمان قول وعمل. عنى بالقول قول القلب، وهو الاعتقاد الحق الصحيح المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله؛ لأنَّ القول إذا أُطلق في النصوص شمل قول القلب الذي هو الاعتقاد، وقول
اللسان الذي هو النطق. كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} 1، أي: قولوا ذلك بقلوبكم وألسنتكم. وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 2، ونظائرهما. ولا يكون القول خاصاً بقول اللسان إلا إذا قيد كما في قوله تعالى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 3.
وعنى بالعمل: عمل القلب، وذلك بأن يأتي العبد بقلبه بأعمال الإيمان، مثل الحياء والتوكل والرجاء والخوف والإنابة وغير ذلك. وعمل اللسان: مثل التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعمل الجوارح: مثل الصلاة والصيام والحج والجهاد.
ولما كان دخول الاعتقاد في القول لا يظهر لكل أحد، نص بعض السلف عليه عند التعريف فقالوا: الإيمان قول واعتقاد وعمل. وقال بعضهم: الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح.
ومن زاد النية ـ كقول المصنف ـ فإنما زادها لتوقف قبول الأعمال عليها. ومن لم يذكرها فهي داخلة في كلامه؛ لأنَّ مراده بالعمل: العمل القائم على نية صالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:""إنما الأعمال بالنيات " 4.
وكذلك من زاد اتباع السنة فإنما زاده تنبيهاً على اشتراطه لقبول الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم:""من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " 5.
هذا هو تعريف الإيمان في الشرع، ودخول القول والعمل والنية في الإيمان عليه دلائل كثيرة من الكتاب والسنة، وهي مبسوطة في كتب أهل العلم، وسيشير المصنف رحمه الله إلى شيء منها.
1 الآية 136 من سورة البقرة.
2 الآية 30 من سورة فصلت.
3 الآية 11 من سورة الفتح.
4 أخرجه البخاري " رقم 1 "، ومسلم " رقم 4904 "
5 أخرجه مسلم " رقم 4468 "
أما تعريفه في اللغة فهو مشتق من الأمن وهو بمعنى القرار والإقرار، وكلاهما يعطي معنى الطمأنينة والثقة. ولهذا فإنَّ أحسن ما يعرف به الإيمان لغة هو الإقرار، وهو ما اختاره وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما التصديق فليس مرادفاً للإيمان، بل الإيمان: تصديق وقدر زائد عليه، وهو الإذعان وانقياد القلب؛ فإنَّ العبد قد يكون مصدقاً ولا يكون مقراً ولا مؤمناً، كما قال أبو طالب:
ولقد علمت بأنَّ دين محمد
…
من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامةُ أو حِذارُ مَسَبَّةٍ
…
لرأيتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو مصدِّق أنَّ الدين حق لكنه لم يوجد عنده الإذعان فلم يكن مؤمناً.
وللإيمان ـ عند السلف ـ شعب وأجزاء، منها ما هو متعلق بالقلب، ومنها ما هو متعلق باللسان، ومنها ما هو متعلق بالجوارح. كما أنَّ للإيمان أصلاً وفرعاً،قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} 1 فشبَّه الإيمان وكلمته بالشجرة التي لها أصل وفرع وثمار، وللإيمان كذلك أصل وفرع وثمار.
فالاعتقاد الراسخ والإيمان الجازم هو أصل الإيمان الذي عليه يبنى ويقوم. وفروعه: الأعمال الصالحة والطاعات الزاكية والقربات العظيمة التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله تعالى. وثماره: كلُّ خير وفضل يناله العبد في الدنيا وفي الآخرة.
وأمور الإيمان التي يتركب منها على ثلاثة أقسام:
1ـ قسم يزول الإيمان بزواله، ومن ذلك أصول الإيمان الستة، قال تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} 2.
1 الآية 24 من سورة إبراهيم.
2 الآية 54 من سورة التوبة.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.
2ـ وقسم يزول بزواله كمال الإيمان الواجب، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:""لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن " 2. فليس المنفي هنا أصل الإيمان كما يقوله الخوارج والمعتزلة، وإنما هو كمال الإيمان الواجب؛ لأنَّه واجب على كلِّ مسلم أن يبتعد عن الزنا. وهكذا القول في بقية الأمور المذكورة في الحديث.
3ـ وقسم يزول بزواله كمال الإيمان المستحب، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"" الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من"الإيمان "3. فعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، لكن من ترك إماطة الأذى فقد نقص إيمانه المستحب؛ لأنَّه ليس أمراً واجباً، بل هو أمر مستحب وأجره عند الله عظيم وثوابه جزيل، وهو من موجبات مغفرة الذنوب ودخول الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له، فغفر الله له " 4. ولهذا إذا قيل عن أمر من أمور الإيمان إنه مستحب لا يعني هذا أن يستهين به العبد، فإنه قد ينجو به من النار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في بيان هذا التقسيم ـ:""وهو مركب من
1 الاية 5 من سورة المائدة.
2 أخرجه البخاري " رقم 5578 "، ومسلم " رقم 200 "
3 سبق تخريجه.
4 سبق تخريجه.
أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة " 1.
وقد خالف أهل السنة في مسمى الإيمان إجمالاً طائفتان:
1ـ طائفة ترى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وعمل، إلا أنهم يعتقدون أنَّ الإيمان كلٌّ واحد لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كلُّه، ويخرج العبد من الإيمان بارتكابه الكبيرة أو فعله المعصية. وهذا هو مذهب الخوارج والمعتزلة. وزاد الخوارج الحكم بدخوله في الكفر، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار. وقالت المعتزلة: بل يبقى في منزلة بين المنزلتين، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار.
2ـ وطائفة أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، وهم المرجئة، وإنما سُمُّوا بذلك لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان، والإرجاء في اللغة التأخير، كما قال الله تبارك وتعالى:{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} 2 أي: أخِّرْه. وهم على أقسام:
أـ فمنهم من يرى أنَّ الإيمان هو مجرد المعرفة، وهم الجهمية.
ب ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان هو مجرد التصديق، وهم الأشاعرة.
ج ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان هو القول فقط، وهم الكرامية.
د ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان قول واعتقاد، وهم مرجئة الفقهاء.
فهؤلاء جميعاً يشملهم اسم الإرجاء لتأخيرهم العمل عن مسمى الإيمان، إلا أنهم ليسوا على درجة واحدة فيه، بل أحسنهم حالاً القسم الأخير، وقولهم هذا مع كونه أخف حالاً من غيره إلا أنَّه باطل مخالف لأدلة لا تعد ولا تحصى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دالةٍ على دخول العمل في مسمى الإيمان.
1 مجموع الفتاوى " 7/637 "
2 الآية 111 من سوة الأعراف.