الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أَيْ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّذِي خَلَقَنِي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: يَوْمَ الْمَعَادِ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} أَيْ: هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا. فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ، {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [يُونُسَ: 107] وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا تَمْلِكُ دَفْعَ ذَلِكَ وَلَا مَنْعَهُ، وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: إِنِ اتَّخَذْتُهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} : قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ -فِيمَا بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ وَوَهْبٍ-يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ، {فَاسْمَعُونِ} أَيْ: فَاسْمَعُوا قَوْلِي.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُهُ لِلرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أَيِ: الَّذِي أَرْسَلَكُمْ، {فَاسْمَعُونِ} أَيْ: فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ عِنْدَهُ. وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَاطَبَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ، وَقَالَ لَهُمْ: اسْمَعُوا قَوْلِي، لِتَشْهَدُوا لِي بِمَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّي، إِنِّي [قَدْ](1) آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ وَاتَّبَعَتْكُمْ. (2)
وَهَذَا [الْقَوْلُ](3) الَّذِي حَكَاهُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ -فِيمَا بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ وَوَهْبٍ-: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُ عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلُوا يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ". فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَقَعَصُوهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ، فَقَتَلُوهُ، رحمه الله.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
(26)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) }
(1) زيادة من ت.
(2)
تفسير الطبري (22/104) .
(3)
زيادة من ت.
{وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ
(28)
إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) } .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُمْ وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قُصْبُه مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ، فَدَخَلَهَا فَهُوَ يُرْزَقُ مِنْهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سُقْم الدُّنْيَا وَحُزْنَهَا ونَصَبها.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لِحَبِيبٍ النَّجَّارِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتل فَوَجَبَتْ لَهُ (1) ، فَلَمَّا رَأَى الثَّوَابَ {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} .
قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا نَاصِحًا، لَا تَلْقَاهُ غَاشًّا؛ لَمَّا عَايَنَ [مَا عَايَنَ](2) مِنْ كرامة الله
(1) في ت، س، أ:"له الجنة".
(2)
زيادة من ت، أ.
{قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} . تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ [لَهُ] ، (1) وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَحَ قَوْمَهُ فِي حَيَاتِهِ بِقَوْلِهِ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي قَوْلِهِ:{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَز:{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بِإِيمَانِي بِرَبِّي وَتَصْدِيقِي الْمُرْسَلِينَ.
وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ لَوِ اطَّلَعُوا عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ قَوْمِهِ.
قَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ -وَهُوَ مُحَمَّدٌ-عَنْ (3) عَبْدِ الْمَلِكِ -يَعْنِي: ابْنَ عُمَيْرٍ-قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْعَثْنِي إِلَى قومي أدعوهم إِلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ". فَقَالَ: لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انطلق". فَانْطَلَقَ فَمَرَّ عَلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ: لأصبحَنَّك غَدًا بِمَا يَسُوءُكِ. فَغَضِبَتْ ثَقِيفٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، إِنَّ اللَّاتَ لَا لَاتَ، وَإِنَّ العُزى لَا عُزى، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. يَا مَعْشَرَ الْأَحْلَافِ، إِنَّ الْعُزَّى لَا عُزَّى، وَإِنَّ اللَّاتَ لَا لَاتَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَأَصَابَ أكْحَله فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هَذَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (4)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَر بْنِ حَزْم: أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ -أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ-الَّذِي كَانَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قَطَّعه بِالْيَمَامَةِ، حِينَ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَيَقُولُ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَعُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَجَعَلَ يُقَطِّعه عُضْوًا عُضْوًا، كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ. فَقَالَ كَعْبٌ حِينَ قِيلَ لَهُ: اسْمُهُ حَبِيبٌ، وَكَانَ وَاللَّهِ صَاحِبُ يس اسْمَهُ حَبِيبٌ. (5)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} : يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ انْتَقَمَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ، غَضَبًا مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَقَتَلُوا وَلَيَّهُ. وَيَذْكُرُ تَعَالَى: أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ، وَمَا احْتَاجَ فِي إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى إِنْزَالِ جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، بَلِ الْأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} أي: ما كاثرناهم بالجموع الأمر
(1) زيادة من أ.
(2)
في ت: "روى".
(3)
في أ: "بن".
(4)
ورواه الحاكم في المستدرك (3/615) والطبراني في المعجم الكبير (17/148) مِنْ طَرِيقِ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير، بنحوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/148) من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري، بنحوه. وقال الهيثمى في المجمع (9/386) :"وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن".
(5)
رواه الطبري في تفسيره (22/103) .
كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قَالَ: فَأَهْلَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَأَهْلَكَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ، فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ (1) مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ.
وَقِيلَ: {وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} أَيْ: وَمَا كُنَّا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، بَلْ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يُدَمِّرُهُمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ: مِنْ رِسَالَةٍ أُخْرَى إِلَيْهِمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا وَاللَّهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ، {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُسَمَّى جُنْدًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جِبْرِيلَ، عليه السلام، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ بَلَدِهِمْ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ رُوحٌ تَتَرَدَّدُ فِي جَسَدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ هِيَ أَنْطَاكِيَةُ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ كَانُوا رُسُلًا مِنْ عِنْدِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ عَنْ (2) وَاحِدٍ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْمُفَسِّرِينَ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ، عز وجل، لَا مِنْ جِهَةِ الْمَسِيحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} إِلَى أَنْ قَالُوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 14-17] . وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ لَقَالُوا عِبَارَةً تُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمَسِيحِ، عليه السلام، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَوْ كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ لَمَا قَالُوا لَهُمْ:{مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15] .
الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ آمَنُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عِنْدَ النَّصَارَى إِحْدَى الْمَدَائِنِ الْأَرْبَعَةِ اللَّاتِي فِيهِنَّ بتَاركة، وَهُنَّ الْقُدْسُ لِأَنَّهَا بَلَدُ الْمَسِيحِ، وَأَنْطَاكِيَةُ لِأَنَّهَا أَوَّلُ بَلْدَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ عَنْ آخِرِ أَهْلِهَا، وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةُ لِأَنَّ فِيهَا (3) اصْطَلَحُوا عَلَى اتِّخَاذِ الْبَتَارِكَةِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةِ (4) وَالشَّمَامِسَةِ وَالرُّهَابَيْنِ. ثُمَّ رُومِيَّةُ لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلَكِ قُسْطَنْطِينَ الَّذِي نَصَرَ دِينَهُمْ وأطَّدَه. وَلَمَّا ابْتَنَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ نَقَلُوا الْبُتْرَكَ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَيْهَا، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرَ تَوَارِيخَهُمْ كَسَعِيدِ بْنِ بِطْرِيقَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ، فَأَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ (5) ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ أَخْمَدَتْهُمْ (6) ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قِصَّةَ أَنْطَاكِيَةَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ إِنْزَالِهِ التَّوْرَاةَ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ عَنْ آخِرِهِمْ بِعَذَابٍ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، ذَكَرُوهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} [الْقَصَصِ: 43] . فعلى هذا يتعين أن هذه القرية
(1) في س: "تبق".
(2)
في أ: "غير"
(3)
في ت، س:"منها".
(4)
في ت، س:"القساقسة".
(5)
في ت: "رسلهم".
(6)
في ت، س:"أخذتهم".