الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِأَضْعَافِ أَضْعَافٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (1) ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَاتِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ (2) لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وَهُوَ عَذَابُهُ وَنَكَالُهُ الْمُحِيطُ بِالْمُكَذِّبِينَ {قُضِيَ بِالْحَقِّ} فَيَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَهْلَكُ الْكَافِرُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(79)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ، بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] ، فَالْإِبِلُ تُرْكَبُ وَتُؤْكَلُ وَتُحْلَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ فِي الْأَسْفَارِ وَالرِّحَالِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ. وَالْبَقَرُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَتُحْرَثُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ. وَالْغَنَمُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَالْجَمِيعُ تُجَزُّ أَصْوَافُهَا وَأَشْعَارُهَا وَأَوْبَارُهَا، فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَثَاثُ وَالثِّيَابُ وَالْأَمْتِعَةُ كَمَا فَصَّل وبَيَّنَ فِي أَمَاكِنَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي "سُورَةِ الْأَنْعَامِ"(3) ، وَ "سُورَةِ النَّحْلِ"(4)، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ: حُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ، إِلَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُكَابِرُوا.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، مع
(1) راجع تفسير الآية: 164 من سورة النساء.
(2)
في أ: "إلا بإذن الله".
(3)
راجع تفسير الآيات: 141-144 من سورة الأنعام.
(4)
راجع تفسير الآيات: 5-8 من سورة النحل.
شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثّروه فِي الْأَرْضِ، وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ (1) بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهَالَتِهِمْ، فَأَتَاهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ مَا لَا قِبَل لَهُمْ بِهِ.
{وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أَيْ: عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أَيْ: وَحَّدُوا اللَّهَ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَال الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 90]، قَالَ اللَّهُ [تَبَارَكَ وَ] (2) تَعَالَى:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 91] أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى دُعَاءَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ:88] . وَ [هَكَذَا](3) هَاهُنَا قَالَ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أَيْ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ (4) مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ"(5) أَيْ: فَإِذَا غَرْغَرَ وَبَلَغَتِ الرُّوحُ الْحَنْجَرَةَ، وَعَايَنَ الْمَلِكَ، فَلَا تَوْبَةَ حِينَئِذٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ "سورة غافر (6) ، ولله الحمد والمنة.
(1) في أ: "رسلهم".
(2)
زيادة من س، أ.
(3)
زيادة من س، أ.
(4)
في أ: "في جميع عباده".
(5)
رواه الترمذي في السنن برقم (3537) وابن ماجه في السنن برقم (4253) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
(6)
في س: "المؤمن".