المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا إلهنا حمد من أقر بربوبيتك؛ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا إلهنا حمد من أقر بربوبيتك؛

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك يا إلهنا حمد من أقر بربوبيتك؛ واعترف بوحدانيتك، وصدق بكتابك، واقتدى بمحكمه، وآمن بمتشابهه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيّدُ الأولين والآخرين، من أنزلت عليه الكتاب المستبين، والقرآن المبين، وصلّ وسلّم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأتباعهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء السادس عشر من القرآن الكريم .. أخذت - بعون الله - في تفسير الجزء السابع عشر منه، راجيًا من الله التوفيق، والهداية فيما نحن بصدده إلى أقوم الطريق، فقلت:

‌سورة الأنبياء

مكية، قال القرطبي: عند جميع المفسرين. وعدد (1) آياتها مئة واثنتا عشرة آية، أو إحدى عشرة. وعدد كلماتها ألف كلمةً، ومئة وثمان وستون كلمة. وعدد حروفها أربعة آلاف حرف، وثمان مئة وتسعون حرفًا.

فضلها: ومما ورد في فضلها (2):

ما أخرجه البخاري، وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، والأنبياء، من من العتاق الأول، وهن من تلادي".

وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم، في "الحلية"، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه الرجل، فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا ما في العرب، وادٍ أفضل منه، وقد

(1) الخازن.

(2)

الشوكاني.

ص: 7

أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك، ولعقبك من بعدك. فقال عامر: لا حاجة لى في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم (1): "من قرأ {اقترب} حاسبه الله حساباً يسيرًا، وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن" ولكن لا أصل له. وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها.

الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم: في سورة الأنبياء آيتان منسوختان:

أولاهما: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية (98).

وثانيتهما: الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى:{وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} (99). وهاتان الآيتان نسختا كلتاهما بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية (101) من سورة الأنبياء، انتهى.

المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (2): أن السورة السالفة ختمت بأن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنةً، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها، وأمره بالصلاة والصبر عليها، وأن العاقبة للمتقين، وبُدئت هذه السورة بمثل ما حنتمت به السالفة، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون، وقلوبهم لاهية عنه.

والله أعلم

* * *

(1) البيضاوي.

(2)

المراغي.

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} .

ص: 9

المناسبة

مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة قد مرّ بيانها آنفًا.

وقال أبو حيَّان (1): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر في آخر السورة السَّالفة {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} قال مشركو قريش: محمد يهدّدنا بالمعاد، والجزاء على الأعمال، وليس بصحيح، وإن صحَّ ففيه بعد، فأنزل الله تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} ، انتهى.

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف إنكارهم لأن يكون الرسول بشرًا بقولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أجاب عن هذه الشبهة بأن هذه سنة الله في الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ليس ببدع بينهم، وإن كنتم في ريب من ذلك، فاسألوا أهل الكتاب من قبلكم، ثم ذكر أنَّ الرسل كسائر البشر في سنن الطبيعة البشرية، يأكلون الطعام، ولا يخلدون في الأرض، بل يموتون كما يموت سائر الناس، وقد صدقهم الله وعده فينجيهم، ومن آمن بهم، ويهلك المكذبين لهم، وأعقب ذلك بأن في القرآن عظةً لهم لو كانوا يعقلون ما في تضاعيفه من مواعظ، وزواجر، وأجر ووعد ووعيد.

قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (2) إهلاكه للمسرفين في كفرهم بالله، والعاصين لأوامره، ونواهيه .. بيَّن هنا طريق إهلاكهم، وكثرة ما حدث من ذلك في كثير من الأمم، ثم بيّن أنه أنشأ بعد الهالكين قومًا آخرين، وأنهم حينما أحسوا بأس الله، فرّوا هاربين، فقيل لهم على ضرب من التهكم والسخرية: فلترجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعيم، وإلى تلك المساكن المشيّدة، والفرش المنجَّدة، فلعلكم تسألون عما جرى عليكم، ونزل بأموالكم ومنازلكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، ثم بعد أن يئسوا من الخلاص، وأيقنوا

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 10

بالعذاب قالوا: هلاكًا لنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا، مستوجبين العذاب بما قدّمناه، وما زالوا يكرّرون هذه الكلمة، ويردّدونها، وجعلوها هجيراهم، حتى صاروا كالنبات المحصود، والنار الخامدة.

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ

} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (1) مطاعنهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك المقالات التى سلف ذكرها قفى على ذلك بذكر فساد تلك المطاعن، وبيان أن من أنكر نبوته فقد جعل تلك المعجزات التي ظهرت على يديه من باب العبث واللعب، تنزّه ربنا عن ذلك، فإنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلَّا لعبادته، ومعرفته، ومجازاة من قام بهما بالثواب والنعيم، ومن لم يقم بذلك بالعقاب الأليم، ولن يتم علم هذا إلَّا بإنزال الكتب وإرسال الرسل، صلوات الله عليهم، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لهوًا ولعبًا، تعالى خالقهما علوًا كبيرًا، ثم أردف هذا بالرد على من ادَّعى أنَّ المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، بأنه لو اتخذ ولدًا لاتّخذه من الملائكة، وعقّب على هذا بأن الغلبة للحق دائمًا، مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السموات والأرض كلهم عبيده، لا يستكبرون عن عبادته، ولا يملّون.

قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ

} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمّا (2) بين في سابق الآيات، أن كثيرًا من الأمم المكذّبة لرسلها قد أبيدت، وأنشىء بعدها أقوام آخرون، وأنهم حين أحسّوا بالبأس، ارعووا وندموا حيث لا ينفع الندم، ثم أردف ذلك ذكر أن من في السموات والأرض عبيده، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يكلّون ولا يملون منها .. ذكر هنا أنه كان يجب عليهم أن يبادروا إلى التوحيد، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل فعلوا ضدّه، فكانوا جديرين بالتوبيخ، والتعنيف، ثم أقام البرهان على وحدانيته، وأنه لو كان في السموات والأرض إلهان لهلك من فيهما،

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

ص: 11