المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بصورته، بل بالمعجزة، فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله.   وإنما - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بصورته، بل بالمعجزة، فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله.   وإنما

بصورته، بل بالمعجزة، فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله.

وإنما أسرّوا ذلك لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه، وإطفاء نور النبوة، وقد جرت عادة المتشاورين في خطب عظيم أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، بل يجتهدون في طيّ سرّهم عنهم مَّا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، كما جاء في أمثالهم:(استعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود)

‌4

- فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم، فقال:{قل} لهم يا محمد {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} سرًّا كان أو جهرًا حال كون ذلك القول {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فضلًا عما أسرّوا به، وإذا علم القول علم الفعل؛ أي: قل لهم أيها الرسول: إنكم، وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فيَّ فإن ربكم عليم بذلك، وإنه معاقبكم عليه {وَهُوَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات {الْعَلِيمُ} بجميع المعلومات؛ أي: المبالغ في العلم بالمسموعات، والمعلومات التي من جملتها ما أسرّوه من النجوى، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. وفي هذا من التهديد، والوعيد، ما لا يخفى، وإنما آثر كلمة {الْقَوْلَ} التي تعمّ السرّ والجهر دون كلمة (السرّ) التي تقدمت في الكلام للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما في علوم العباد.

وخلاصة ذلك (1): أنه يعلم هذا الضرب من الكلام، وأعلى منه، وأدنى منه، وفي هذا مبالغة في علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم.

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وأيوب، وخلف، وابن سعدان، وابن جبير الأنطاكي، وابن جرير (2):{قَالَ رَبِّي} على معنى الخبر عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، وكذا في مصاحف الكوفيين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:{قل ربي} على الأمر لنبيّه صلى الله عليه وسلم.

‌5

- ولمّا ذكر سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: إنَّ ما أتى به سحر، ذكر

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 18

اضطرابهم في مقالاتهم، فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه بقوله:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} ؛ أي: ما أتى به أباطيل منامات لا يصحّ تأويلها لاختلاطها. والأضغاث (1): جمع ضغث بالكسر، والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس. وأضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها، لاختلاطها كما في "القاموس". والأحلام جمع حلم، والحلم بضم الحاء وسكون اللام الرؤيا. وضم اللام أيضًا لغة فيه، فالأحلام بمعنى المنامات، سواء كانت باطلة أو حقةً. وأضيفت الأضغاث بمعنى الأباطيل إليها، على طريق إضافة الخاص إلى العام إضافة بمعنى من، وقد تخص الرؤيا بالمنام الحق، والحلم بالمنام الباطل كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان". ثم إن هذا إضرابٌ من جهته تعالى، وانتقال من حكاية قول إلى آخر؛ أي: لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، وفي حق ما ظهر على يده من القرآن إنه سحر، بل قالوا: تخاليط أحلام؛ أي: أخلاط أحلام كاذبة، رآها في المنام {بَلِ افْتَرَاهُ}؛ أي: بل قالوا: افتراه، واختلقه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا، وقالوا:{بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وما أتى به شعر يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها.

أي: بل قال بعضهم: أخلاط أحلام قد رآها في النوم. وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله تعالى. وقال قوم: بل هو شاعر، وما أتى به شعر.

وخلاصة ذلك (2)؛ أنهم ما صدقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أقروا أنه من عند الله، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه، بل قالوا هذه المقالات.

وفي هذا الاضطراب منهم (3)، والتلوّن والتردد، أعظم دليل على أنهم

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

(3)

الشوكاني.

ص: 19

جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو، ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر، ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة، وقهره البرهان.

وقد ذكرت (1) هذه المقالات على هذا الوضع إشارة إلى ترقيها في الفساد، فإن كونها سحرًا أقرب من كونها أضغاث أحلام، قد يقال:"إن من البيان لسحرا" بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادعاء كونها مفترياتٍ أبعد وأبعد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق، إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور، وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يسهل له الشعر وإن أراده.

وفي "روح البيان": قوله تعالى حكاية عن الكفار: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كثير من المفسرين (2) حملوه على أنهم رموه بكونه آتيًا بشعر منظوم مقفى، حتى تأوّلوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظةٍ تشبه الموزون من نحو قوله:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ، وقوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، وقال بعض المحققين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغنام من العجم، فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبّر به عن الكذب، والشاعر الكاذب حتى سمّوا الأدلة الكاذبة بالشعر، ولكون الشعر مقرُّ الكذب قيل: أحسن الشعر أكذبه. فالمراد بقولهم: إنه شاعر: القدرة على إنشاء الكلام الموزون، وليس من مقتضاها التكلم.

ثم بعدما قدحوا في القرآن، طلبوا آيةً أخرى غيره فقالوا:{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} وهذا جواب شرط مقدر يدل عليه السياق، تقديره: إن لم يكن كما قلنا، بل كان

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 20