المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر، وأكثر الناس - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر، وأكثر الناس

أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر، وأكثر الناس عميان بصيرة القلب، لا يبصرون به أمر دينهم. والمعنى (1): إن عمى القلب، هو الضار في أمر الدين، لا عمى البصر؛ لأن البصر الظاهر بُلْغَةٌ ومُتْعَةٌ، وبصر القلوب، هو البصر النافع. ومعنى الآية أي: أفلم يسر (2) هؤلاء المكذبون بآيات الله، الجاحدون لقدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع أضرابهم، من مكذبي رسل الله، الذين خلوا من قبلهم، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وشعيب، ويروا أوطانهم، ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكروا، ويعتبروا بها، ويعلموا أمرها، وأمر أهلها، وكيف نابتهم النوائب، وغالتهم غوائل الدهر فيكون في ذلك معتبر لهم لو أرادوا، فينيبوا إلى ربهم، ويعقلوا حججه التي بثها في الآفاق، ثم أظهر اليأس من إيمانهم؛ لأن القلوب قد عميت فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية، فقال:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ؛ أي: إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها، فقد أصابهم عمى القلوب. والعمدة على الثاني، لا على الأول، فعمى الأبصار ليس بشيء، إذا قيس بعمى القلوب، والبصائر. وفي هذا تهويل أيما تهويل.

‌47

- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} ؛ أي: ويطلب منك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة المكذبون بالله وكتابه ورسوله، واليوم الآخر {بِالْعَذَابِ}؛ أي: بمجيء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه عجلة إنكارًا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله، وتعجيزًا له، واستبعادًا لمجيئه.

أي: يطلبون عجلتك بالعذاب؛ أي: أن تأتيهم به عاجلًا. وكانوا يقولون له كما تقول الأمم السابقة لأنبيائهم ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ثم بين أنه آت لا محالة، فقال:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَعْدَهُ} ؛ أي: لن يترك وفاء ما وعده لك من نصرك عليهم، وإنزال العذاب لهم في الدنيا. وقد أنجز الله وعده يوم بدر، فقتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون.

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

ص: 366

ثم ذكر (1) أن لهم مع عذاب الدنيا في الآخرة عذابًا طويلًا، فقال:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} من أيام عذابهم في الآخرة لشدة هوله، وأليم عذابه {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} من سني الدنيا في الثقل، والاستطالة وكثرة الآلام، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه. والخطاب فيه للرسول ومن معه من المؤمنين. كأنه قيل: كيف يستعجلون بالعذاب، ويوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنِتَكُم. إما من حيث طول أيام عذابه حقيقة، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة، كما يقال: ليل الفراق طويل وأيام الوصل قصار. ويقال: سنة الوصل سنة. وسنة الهجر سنة. اهـ "روح البيان".

وقيل معناه (2): أن يومًا عنده وألف سنة في الإمهال سواء؛ لأنه قادر متى شاء أخذهم، لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره.

ومعنى {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ؛ أي (3): وكيف ينكرون مجيء ذلك العذاب، وقد وعد الله به، وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم، يفعل بهم؛ لأن ذلك هو نهجه الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم.

ومعنى {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ؛ أي: وإن قلتم: إن العهد قد طال، ولم يحل بنا العذاب، فأين هو؟ قلنا: إن الله سبحانه حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفد وعده بعد أمد طويل عندكم، قريب عنده، كما قال:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدًا طويلًا فلا يكون في ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يومًا عندكم.

والخلاصة (4): أن سنتي لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين، أممًا وأفرادًا، في الدنيا والآخرة، أو عذابهم في الآخرة فحسب مع

(1) الواحدي.

(2)

الخازن.

(3)

المراغي.

(4)

المراغي.

ص: 367

الأكدار في الدنيا وهم لا يشعرون.

وقال أبو حيان (1): واختلفوا في هذا التشبيه، فقيل: في العدد؛ أي: اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمس مئة عام". فالمعنى: وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه والشدة؛ أي: وإن يومًا من أيام عذاب الله، لشدة العذاب فيه وطوله، كألف سنة من عددكم، إذ أيام الترحة مستطالة، وأيام الفرحة مستقصرة. وكان ذلك اليوم كألف سنة من سني العذاب والمعنى: أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه. وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته، وإنفاذ ما يريد كألف سنة. وقال ابن عيسى: يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد واقتصر في التشبيه على الألف؛ لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار. انتهى.

وقيل المعنى (2): وإن يومًا من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسًا. وجملة قوله:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} محلها النصب على الحال؛ أي: والحال أنه لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتمًا، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها. وعلى الأول تكون جملة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} إلخ مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها، مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال.

وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: {مما يعدون} بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. {وتستعجلون بالعذاب} واختارها أبو حاتم. ويكون فيه التفات. فعلى (3) العاقل أن يلاحظ أن كل آت قريب، ولا يغتر بالإمهال، فإن بطش الله شديد، وعذابه لا

(1) البحر المحيط.

(2)

الشوكاني.

(3)

روح البيان.

ص: 368