المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العذاب، إذ عليه وِزْر مَنْ عمل به؛ أي: ليصد المؤمنين - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: العذاب، إذ عليه وِزْر مَنْ عمل به؛ أي: ليصد المؤمنين

العذاب، إذ عليه وِزْر مَنْ عمل به؛ أي: ليصد المؤمنين بالله عن دينهم، الذي هداهم الله إليه، ويستنزلهم عنه. وبعد أن ذكر فعله وثمرته، ذكر ما أعد له عليه في الدنيا والآخرة فقال:{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} جملة مستأنفة (1) مبنية لما يحصل له بسبب جداله من العذاب المعّجل وسوء الذكر على ألسن الناس؛ وقيل: الخزي الدنيوي هو القتل، كما وقع في يوم بدر، والأسر والهزيمة، وقد أسر النضر؛ أي: لذلك المجادل في الدنيا إهانة، وذلك كفاء استكباره عن آيات الله، كما حدث من القتل والأسر بأيدي المؤمنين يوم بدر.

{وَنُذِيقُهُ} ؛ أي: ونذيق ذلك المجادل {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ أي: في الآخرة {عَذَابَ الْحَرِيقِ} ؛ أي: العذاب المحرق، وهو النار، والحريق قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: العذاب الحريق؛ أي: المحرق، كالسميع بمعنى المسمع. وقرأ زيد بن علي {فَأُذِيقُهُ} بهمزة المتكلم؛ أي: وسيصلى في الآخرة عذاب النار، ويحرق بلهبها،

‌10

- ثم بين سبحانه، سبب هذا الخزي المعجل والعذاب المؤجل فقال {ذَلِكَ} العذاب الدنيوي والأخروي {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}؛ أي: بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي؛ أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي في الدنيا، وعذاب الآخرة كائن بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي: وإسناده (2) إلى يديه لما أن الاكتساب عادة بالأيدي. ويجوز أن يكون الكلام من باب الالتفات، لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد، فكأنه قال: ذلك بما قدمت يداه.

ومحل (أن) ومعموليها في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: والأمر والشأن أن الله سبحانه وتعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. وقيل: علة لمحذوف تقديره وقد فعلنا (3) ذلك لأن الله لا يظلم عباده، فيعاقب بعض عبيده على جرم، ويعفو عن مثله عن آخر غيره،

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان.

(3)

المراغي.

ص: 254

وقصارى ذلك أنهم استحقوا هذا العذاب لما اجترحوه من الآثام والذنوب، والله لا يظلم أحدًا بغير جرم قد فعله، ومآل ذلك توبيخهم وتبكيتهم، بأنهم هم سبب هذا العذاب.

فإن قلت: الظاهر أن يقال: ليس (1) بظالم للعبيد، ليفيد نفي أصل الظلم، ونفي كونه مبالغًا مفرطًا في الظلم لا يفيد نفي أصله.

قلت: المراد نفي أصل الظلم. وذكر لفظ المبالغة مبني على كثرة العبيد، فالظالم لهم، يكون كثير الظلم، لإصابة كل منهم ظلمًا؛ لأن العبيد دال على الاستغراق، فيكون ليس بظالم لهذا ولا ذلك إلى ما لا يحصى. وأيضًا أن من عدله تعالى، أن يعذب المسيء من العبيد، ويحسن إلى المحسن، ولا يزيد في العقاب، ولا ينقص من الأجر، لكن بناء على وعده المحتوم، فلو عذب من لا يستحق العذاب، لكان قليلُ الظلم منه، كثيرًا لاستغنائه عن فعله، وتنزيهه عن قبحه.

وهذا كما يقال: زَلَّةُ العالم كبيرةٌ.

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" الحديث. أخرجه مسلم، ويقال من كثر ظلمه، واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه، وشر الناس من ينصر الظلوم ويخذل المظلوم. وفي الآية إشارة؛ إلى أن العبيد ظلّامون لأنفسهم، كما قال الله تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بأن يضعوا العبادة، والطلب والاستغاثة في غير موضعها.

فصل في مبحث الجدال

واعلم: أن جدال المنافق، والمرائي وأهل الأهواء والبدع والخرافات مذموم. وأما من يجادل في معرفة الله، ودفع الشبه، وبيان الطريق إلى الله تعالى، بالعلم، وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم، وشاهد نصّ كتابٍ منيرٍ، يظهر بنوره الحق من الباطل .. فجداله

(1) روح البيان.

ص: 255