المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يعني إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: يعني إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير

يعني إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} ؛ أي: قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبًا عندكم، أو فاعلين هذه الأعاجيب، من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا. روي أن داود كان إذا مرّ يسمعه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. وقرىء (1){وَالطَّيْرَ} مرفوعًا على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: مسخر، لدلالة "سخرنا" عليه، أو على الضمير المرفوع في {يُسَبِّحْنَ} على مذهب الكوفيين، وهو توجيه قراءة شاذة.

ومعنى الآية: أي (2) وسخرنا الجبال والطير لداود، تقدس الله معه، بحيث تتمثل له مسبحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق في التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا، وإن كنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين في التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله في نظرهم مسبحًا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به، بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه. ونحو الآية قوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .

‌80

- {وَعَلَّمْنَاهُ} ؛ أي: وعلمنا داود {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} ؛ أي: عمل الدروع وإصلاحها والصنع (3) وهذا الصنعة إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، والصناعة حرفة الصانع كالكتابة والحياكة، وعمل الصنعة. واللبوس في الأصل: اللباس درعًا كان أو غيرها، وكانت الدروع قبل داود صفائح؛ أي: قطع حديد عراضا، فحلقها وسردها {لَكُمْ} أي: لأجل نفعكم يا أهل مكة فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار، كأنه طين، فهو متعلق بـ "علمنا"، أو بمحذوف هو صفة {لبوس} .

والمعجزة فيه أنه فعل ذلك من غير استعانة بأداة وآلةٍ، من نحو الكير والنار

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

(3)

روح البيان.

ص: 143

والسندان والمطرقة، وكان لقمان يجلس مع داود، ويرى ما يصنع ويهم أن يسأل عنها؛ لأنه لم يرها قبل ذلك، فيسكت، فلما فرغ داود من الدرع قام وأفرغه على نفسه، وقال: نعم الرداء هذا للحرب. فقال لقمان عندها: إن من الصمت لحكمة، قالت الحكماء: وإن كان الكلام فضة فالصمت من ذهب {لِتُحْصِنَكُمْ} ؛ أي: لتحرزكم وتحفظكم تلك اللبوس والدروع، وهو بدل اشتمال من {لَكُمْ} بإعادة الجار؛ لأن {لِتُحْصِنَكُمْ} في تأويل لإحصانكم، وبين الإحصان وضمير لكم ملابسة الاشتمال، مبين لكيفية الاختصاص، والمنفعة المستفادة من لكم {مِنْ بَأْسِكُمْ}؛ أي: من حرب عدوكم. والبأس هنا بمعنى الحرب، وإن وقع على السوء كله، وفي الآية دلالة على أن جميع الصنائع بخلق الله تعالى وتعليمه. وفي الحديث:"إن الله خلق كل صانع وصنعه".

والمعنى: أي (1) وعلمناه صنعة الدروع، وقد كانت صفائح، فجعلها حلقا فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم أذى الحرب، من قتل وجرح ونحوهما {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم. والاستفهام هنا في معنى الأمر؛ أي: فاشكروا الله تعالى على ما يسره لكم من هذه الصنعة، التي تمنع عنكم غوائل الحروب، وتقيكم ضررها وعظيم أذاها. والخطاب (2) فيه لهذه الأمة، من أهل مكة ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أخبر الله تعالى، أن أول من عمل الدروع داود، ثم تعلم الناس، فعمّت النعمة بها كل محارب، من الخلق، إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على هذه النعمة.

وقال بعضهم: الخطاب لداود وأهل بيته، بتقدير القول؛ أي: فقلنا لهم بعدما أنعمنا عليهم بهذه النعم، فهل أنتم شاكرون، على ما أعطى لكم من النعم، التي ذكرت، من تسخير الجبال له، والطير، وإلانة الحديد، وعلم صنعة اللبوس.

وقرىء (3): {لُبوس} بضم اللام، والجمهور بفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (4):{ليحصنكم} بالياء. وقرأ ابن عامر وحفص عن

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

(3)

زاد المسير.

(4)

البحر المحيط.

ص: 144