الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
//الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة أربع عشرة وثمانمائة
فيها دخل الناصر إلى القاهرة في ثاني عشر المحرم وزار القدس في طريقه ولم يفقد أحد ممن كان صحبته إلا ابن الفريخ الحكيم فإنه اغتيل في الطريق، وفي يوم وصوله إلى القلعة عزل زين الدين ابن الدميري من الحسبة، واستقر شمس الدين يعقوب الدمشقي وكان قد صاهر إلى تقي الدين بن أبي شاكر، وفي سادسه دخل تغرى بردى نائب الشام.
وفي الثامن منه دخل الأميران شيخ ونوروز دمشق فتلقاهما نائب الشام، وتوجه شيخ من دمشق إلى حلب. وتوجه قرقماش من حلب يريد صفد، وتوجه نوروز يريد طرابلس، فوصلا إلى مقر نيابتهما وحكما بما أرادا فقدم الخبر على الناصر في ربيع الأول أنهما خالفا ما حلفا عليه وأخرجا الإقطاعات لمن أرادا وأرسل كل منهما يحاصر بعض القلاع التي لم تدخل في نيابتهما، فتغير خاطر الناصر لذلك.
وفي الرابع والعشرين من المحرم وصل بكتمر جلق إلى القاهرة فتلقاه السلطان وخلع عليه وعلى دمرداش نظر المارستان على العادة، ودخل الناصر البلد وهما معه بخلعتيهما فدخل مدرسة جمال الدين وكانت قد غيرت من اسم جمال الدين لاسمه، ودخل دمرداش المارستان ومعه القاضي فتح الله كاتب السر وعليه خلعة أيضاً، واستناب الأمير ولد ناظر الجيش صلاح الدين بن بدر الدين بن نصر الله في النيابة عنه في المارستان.
وفي حادي عشر منه صرف صدر الدين ابن العجمي عن مشيخة التربة الظاهرية واستقر حاجي فقيه عوضاً عنه. وقبض على صدر الدين فسلم للأستادار بسبب أن الناصر لما أراد التوجه إلى الشام أودع عند كل شيخ من المشايخ المشهورين الذين جرت عادتهم بالتردد
عشرة آلاف دينار فلما عاد أحضر كل أحد ما استودعه إلا صدر الدين واحمد بن اوحد وهو شيخ السرياقوسية، فأما ابن أوحد فضمن دركه ابن أبي شاكر فلم يلحقه عتاب، وأما صدر الدين فكان قد حج واستبضع بذلك المال بضاعة، فلما عاد قبض عليه وألزم ببيع تلك البضاعة فباعها بثمن بخس وبقي عليه من الوديعة قريب من ألفي دينار، فلم يزل في الترسيم إلى أن شفع فيه بعض الكبار فأطلق وبقي من المال زيادة على الألف فذهبت مجاناً.
وفي المحرم أراد الناصر بإشارة بعض القبط أن يأخذ من المدرسة الجمالية برحبة العيد ما بها من الرخام وكان عجباً في الحسن انتقاه جمال الدين من بيوت كبار وجعله فيها فعزم على ذلك فأشار عليه كاتب السر فتح الله أن يترك المدرسة على ما هي عليه لسوء السمعة في ذلك والتزم أن يصيرها ملكه ثم يوقفها هو فتنسب ويبطل منها اسم جمال الدين، فأصغى لذلك فتكلم فتح الله مع القضاة إلى أن صوروا له في ذلك صورة وحكموا بصحتها ومحوا اسم جمال الدين من المدرسة وأثبت اسم عبد الناصر وصارت الجمالية هي الناصرية، وذلك من أظرف ما يسمع، ولم يكن قصد فتح الله في ذلك إلا الخير على ما اطلعنا عليه من باطن القصة، ودخلها الناصر في أواخر المحرم وصلى بها وقرر من بها من المدرسين والطلبة على حالهم في الأغلب، واستقر دمرداش أتابك العسكر بالقاهرة وبكتمر جلق أميراً كبيراً بها وتكلم دمرداش هو وفتح الله في البيمارستان المنصوري.
وفي صفر جهز الناصر جماعة من الأمراء البطالين والمماليك إلى الشام على إقطاعات هناك ليكونوا عونا لنائب الشام فتوجهوا.
وفي حادي عشر منه استقر تقي الدين ابن أبي شاكر في نظر الخاص عوضاً عن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم الذي مات في السنة الماضية.
وفي الرابع والعشرين منه قبض على يشبك الموساوي وقنباي رأس نوبة وكمشبغا المزوق في آخرين وسجنوا بالإسكندرية، وعزل تمراز من الإمرة وصيره طرخاناً وقرر له شيئاً يكفيه وخيره بين الإقامة بالقاهرة أو دمياط فاختار دمياط فأرسل إليهاا.
وفي أواخر صفر وردت هدية من مانويلي صاحب القسطنطينية وتدعى اصطنبول، وقرينها كتاب يصف محبته ويوصي بالنصارى من أهل ملته.
وفي أوائل صفر استقر سودون بن عبد الرحمن في نيابة غزة. وفي سلخ صفر انقطع طوغان الدويدار عن الخدمة خوفا على نفسه من واش وشى به أنه يريد الركوب على الناصر، فأرسل يلبغا الناصري ودمرداش فلم يزالا به حتى أصعداه إلى الناصر فعاتبه واعتذر فسلم له غريمه وخلع عليه، وفيه ارتفع الطاعون عن دمشق وما حولها وكان ابتدأ من شوال فأحصى من مات من أهل دمشق خاصة فكانوا نحواً من خمسين ألفاً، وخلت عدة من القرى وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها.
وفي ربيع الأول أطلق أينال الساقي من سجن الإسكندرية وصرف شرباش كباشة عن الإمرة وأرسل إلى دمياط بطالا، وقبض الناصر على جمع كثير من المماليك الظاهرية ممن أتهمهم بالممالأة عليه وسجن جماعة بالبرج ثم ذبحهم بعد وقبض إلى خيرباك وقتل جماعة ممن سجن
بالإسكندرية ثم بالغ في القبض عليهم بأنواع الحيل حتى زادت عدة المسجونين في رمضان على أربعمائة نفس. وفي صفر توجه موسى بن أبي يزيد بن عثمان بعد استيلائه على مملكة أخي سلمان بعد قتله إلى مملكة أخيه فاستخلف كرسجي على بلاد أبيه مراد واستعد لقتال أخيه فالتقيا في شعبان من هذه السنة.
وفي أول ربيع الآخر زوج الناصر أخته بيرم من أسنبغا الزردكاش وسيره شاد الشربخاناه، وكان يقال إن اسمه محمد وإنه شامي، فغير اسمه وصار إلى ما صار.
وفي الثالث عشر منه قرر فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الذي كان ولي كاشف الوجه البحري ونائب قطيا في أستادارية الناصر وسلم له تاج الدين ابن الهيصم الأستادار وحواشيه، فبسط فخر الدين يده في الظلم وبالغ في ذلك كما سيأتي.
وفي هذه السنة دامت الحرب بين قرا يوسف وقرا يلك أكثر من شهر فقتل بينهما خلق كثير فخرب قرا يوسف بلاداً كثيرة لغريمه، وهرب غريمه إلى بعض الأماكن، فوصل الخبر إلى قرا يوسف بأن شاه رخ بن تمر قصد تبريز فترك أثقاله ورجع مسرعاً، فعاد قرا يلك فنهبها وتوجه لتخريب بعض بلاد غريمه، ووقع الفناء في شعبان في عسكر قرا يوسف فأرسل يطلب الصلح من قرا يلك، فلم يوافقه على ذلك ونهب سنجار وأخذ قفل الموصل وأوقع بالأكراد فافتدوا منه بمائة ألف وألف رأس غنم.
وفيها كانت الفتن والحروب بين التركمان، وغيرهم، فتوجه نائب عينتاب إلى قلعة الروم فقبض عليه طوغان نائبها واعتقله فلم يزل به شيخ نائب حلب حتى أفرج عنه
وقبض نائب صهيون على نائب اللاذقية فقتله، وحاصر بعض التركمان أنطاكية فأسر نائبها واعتقله، وحاصر نوروز قلعة صهيون فصالحه أهلها على مال، واجتمع نوروز وشيخ على قتال العجل بن نعير ففر منها فاستولى على عانة، فبعث ابن قرا يوسف عسكراً فكسره ومضى إلى الأنبار فتخوف أهل بغداد منهم فأرسل إليهم بالأمان، فنزل شيخ على سرمين ونوروز على جبلة وأرسل الناصر لما بلغه ذلك يعاتبهما وأرسل إلى شيخ يحذره بما فيه صنيعه وأمره أن يجهز يشيك العثماني وبردبك وقنباي الخازن دار محتفظاً بهم وأن يرسل سودون الجلب إلى دمشق فلم يوافق على ذلك فأرسل الناصر إلى دمشق يأمرهم بتحصين قلعة دمشق، فبالغ غرس الدين خليل أستادار الشام في المظالم بالشام وقرر الشعير على الجهات، واتفق شيخ ونوروز لما بلغهما تغير الناصر عليهما فأرسلا عسكر! إلى حماة لأخذها وراسلا قرا يوسف فسار أحمد الجنكي، أحد ندماء شيخ وبهلوان مملوك نوروز، فعاد جوابه في آخر شوال بما طاب به خاطرهما وأما الناصر فجد وعزم على السفر وبالغ في القبض على الناس في المصادرات ووقعت الشناعة بذلك وفحش أخذ أموال الناس بغير طريق ولا شبهة، وكل ذلك على يد فخر الدين الأستادار في ذلك على الحد، ثم أراد فخر الدين القبض على الوزير وناظر الخاص، فبادراه وقبضا عليه بعد أن استمالا الناصر على ذلك في حين غفلة منه، ففجيء الناس من الفرح مالا مزيد عليه، وكان فخر الدين قد استمال تاج الدين بن الهيصم الذي كان أستاداراً قبله وكلم السلطان فألبسه خلعة رضا، فلما قبض على فخر الدين قبض عليه أيضاً وأهين، فعوقب فخر الدين عند الوزير بأنواع العقوبات فلم يعترف بشيء ولم توجد له سوى ستة آلاف دينار وشيء كثير من جرار
الخمر، فباعوها كل جرة بنصف دينار فحصل منها جملة مستكثرة.
واستقر منكلى أستادار جركس في الأستادارية الكبرى.
وفي العشر الأخير من رجب قبض الناصر على جمع كثير من الأمراء والمماليك منهم عاقل وإينال الصصلائي وأرغون وسودون الظريف وشرباش وسودون الأسندمري وجانيك، وقتل جماعة ووسط جماعة وسجن جماعة وكان السبب في ذلك أن مملوكاً أحضر ورقة فيها خطوط جماعة من الأمراء والمماليك أرادوا الفتك به فقبض على من وجد اسمه فيها، وكان كبيرهم جانم فوجده حينئذ في إقطاعه بالوجه البحري فجهز طوغان الدويدار، فاقتتلا في البر ثم على ظهر النيل في المراكب فانتصر طوغان فألقى جانم نفسه في الماء فرمي بالسهام حتى هلك فقطع رأسه.
وفي شعبان أمر الناصر بالقبض بدمشق على يشبك بن أزدمر وجماعة من الأمراء الذين يخشى منهم الممالأة على الناصر مع نوروز وشيخ، وكان تغرى بردى قد ابتدأ به مرضه فأرسل إلى قرقماش نائب صفد، فحضر فقبض على تمرار الأعور وخشكلدي وغيرهما وسجنهم بقلعة الصبيبة وفر يشبك بن أزدمر إلى نوروز، فاتفق هو وسودون الجلب وقويا عزم شيخ ونوروز على المخامره ومضى ما كل مرتاب، واستمال شيخ محمد بن دلغادر أمير التركمان، فمال: أحضر له عساكره، فولاه عينتاب وأرسل خلعاً ومالاً، ثم توجه شيخ إلى قلعة عمه وعدى الفرات ليوقع بالعربان، فغرق طائفة من أصحابه فأنشأ مركباً بناحية الباب قريباً من حلب طوله نحو ثلاثين خطوة، فأرسل نائب قلعة الروم جماعة فأحرقوه، وقبض في شوال بدمشق على ناصر الدين ابن البارزي وعلى شهاب الدين الحسباني لكونهما يكاتبان شيخ بالأخبار، فسجنا بقلعة دمشق في سابع عشر شوال، فتوجه تاج
الدين محمد ابن الحسبابي إلى القاهرة يسعى في خلاص أبيه، فأمر بإطلاقه فأطلق في أواخر ذي الحجة، وقبض الناصر على جماعة من الأمراء والممالك فوسط بعضهم وشنق بعضهم، وذبح بحضرته مائة نفس من أكابر الظاهرية، منهم حزمان نائب القدس، وومغلباي ومحمد بن قشماش، وبالغ في ذلك حتى أنه ركب مرة إلى الصيد ورجع فأمر الوالي بقتل عشرة من مماليكه تخلفوا عن الركوب معه وعاد من الصيد فمر بشارع القاهرة وهو بثياب جلوسه في دون المائة وهو يطفح سكراً حتى يكاد لا يثبت على الفرس.
وفي أواخر ربيع الأول قبض على أحمد بن جمال الدين الأستادار وعلى أحمد وحمزة ولدى أخيه وعلى ناصر الدين أخي جمال الدين وجماعة من قرابتهم، فعوقبوا وطولبوا بالأموال، فمات ناصر الدين تحت العقوبة ولم يوجد له إلا شيء يسير، واستخرج من أحمد ابن أخيه ستة آلاف دينار، ثم خنق الأحمدان وحمزة ليلة السادس عشر من جمادى الأولى وقتل الثلاثة ظلماً.
وفي يوم السبت ثامن عشر شعبان كتب علم الدين ابن جنيبة أحد رؤساء الأطباء للناصر ورقة دواء مسهل، فأمره أن ينزل ويطوف على الأمراء والمباشرين ويعلمهم أن السلطان يشرب يوم الأحد دواء، فحمل كل منهم تقدمة فحمل الوزير ألفي دينار وأشياء كثيرة من المأكولات، وكذلك ناظر الخاص لكن دونه في النقد، والأستادار حتى المحتسب، وكان أول من سن ذلك من ملوك مصر واستمرت بعده في كل سنة عند دخول الورد؟
وفي شهر رمضان نادى المماليك بالأمان وأنهم عتقاء رمضان، فظهر منهم جماعة تزيد على الثلاثين فحضروا الخدمة فوعدهم بالخير، ووعدهم يوماً أن يخرج لهم خيولهم أو بدلها من الإصطبل، فلما اجتمعوا أمسكهم أجمع، وجلس يوماً آخر لتفرقة القرفلات فأمسك منهم جماعة، ثم ذبحوا في شوال.
وفي هذه السنة غلا الزيت الحار إلى بلغ الرطل تسعة.
وفي شوال توجه الناصر إلى الإسكندرية وشن الغارات على الجهات البحرية لنهب الأغنام والخيل والجمال حيث وجدت ودخل الناصر الإسكندرية في ثامن عشر شوال، فقدم عليه مشايخ تروجة بتقاديمهم فخلع عليهم، ثم أمسكهم وساقهم في الحديد واحتاط على أموالهم، فهرب باقيهم إلى برقة ورجع إلى القاهرة، وفي حال إقامته بالإسكندرية شكى المغاربة أنه يؤخذ منهم ثلث أموالهم في المكس ويؤخذ من الفريخ العشر، فغضب من ذلك وأمر أن لا يؤخذ من المغاربة إلا العشر، فشكر المسلمون له ذلك فكانت من حسناته النادرة وكانت حركته إلى الإسكندرية آخر سعده، فلما قدم وصل كتاب نوروز يعتذر عما بلغه عنه وقرينه فحضر آخر فيه شهادة أربعين رجلاً أنه مقيم على الطاعة، فلم يلتفت الناصر لذلك.
وفي نصف ذي القعدة أمر الناصر أن يكون الفلوس كل رطل باثني عشر درهماً، فغلقت الحوانيت فغضب السلطان وأمر مماليكه الجلبان بوضع السيف في العامة فشفع فيهم الأمراء فقبض على جماعة وضربوا بالمقارع وقتل رجلاً وشنقه بسبب الفلوس، ثم أنحل أمر الفلوس بعد النفقة
ونودي في سادس عشر ذي الحجة أن يكون بستة الرطل على العادة الأولى، وفي أواخر الشهر ضرب الناصر عنق أحمد بن محمد ابن الطبلاوي بيده، ثم استدعى بنت صرق وهي إحدى زوجاته فذبحها بيده ولفها مع ابن الطبلاوي في بساط وأمر أن يدفنا في قبر واحد، وكان قد وشى بها أنها تتنكر وتخرج من القلعة فتنزل إلى ابن الطبلاوي المذكور.
وأنفق الناصر لنفقة السفر وخرج الجاليش في سابع عشري ذي القعدة، وخرج الناصر في الثامن من ذي الحجة وقد تباهى في ملابس عسكره وجر ثلاثمائة جنيب بسروج الذهب الثقيلة وبعضها مرصع بالجوهر وكنابش الزركش والعرقيات الحرير واللجم المسقطة وزهاء ثلاثة آلاف فرس ساقها جشارا، وأعقبها عدداً كثيراً من العجل التي تجرها الأبقار وعليها آلات الحصار، وبعدها خزانة السلاح على ألف جمل، وخزانة المال مختومة على أربع مائة ألف دينار، والمطبخ وفيه ثلاثون ألف رأس من الغنم وكثير من البقر والجاموس، والحريم في سبع محفات، حتى بلغ عدة الجمال التي تحمل ذلك ثلاثة وعشرين ألف جمل، واستقر يلبغا الناصري نائب الغيبة واسنبغا نائب القلعة، وكانت نفقة المماليك لكل واحد سبعون ناصرياً، وصرف للأمير الكبير خمسة آلاف دينار ومثلها لبكتمر، ولغيرهما من الأمراء الكبار لكل واحد ثلاثة آلاف دينار، ونحر الناصر الضحايا بالتربة الظاهرية تربة أبيه -، ورحل من التربة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة في طالع اختاره له الشيخ إبراهيم بن زقاعة وسار
ليلة السبت ثالث عشرة وأتفق في هذا اليوم اجتماع نوروز وشيخ بحمص وفر إليهما جمع كثير، ونادى الناصر بأن أحداً لا يرحل قبله فبلغه أن واحداً رحل قبله فركب بنفسه ووسط بحضرته ونصب مشنقة ذهب بها معه، فما وصل إلى غزة حتى قتل عدة من الغلمان بسبب ذلك، فلما نزل بغزة وسط عشرين نفساً من الظاهرية وهو لا يعقل من السكر، ففر أكثر العسكر منه، فبلغه في تلك الساعة أن الجاليش الذي تقدمه خامر عليه، فركب وجد في طلبهم وكان أمراء الجاليش وصلوا إلى دمشق في سادس عشري ذي الحجة ودخلوا إلى تغري بردى وهو في غاية المرض فأعلموه بسوء سيرة الناصر وخوفهم منه واجتماع كلمتهم على اللحاق بالأميرين وتوجهوا في آخر الشهر إلى جهتهما فخالفهم شاهين الزردكاش فقبضوا عليه، وجد الناصر في السير فلم يلحقهم فالبس عسكره وقد ظهرت عليه علامة الخذلان، ودخل دمشق وقت الزوال من سلح السنة، وكان بعد ذلك ما سنذكره في حوادث السنة الآتية.
وفي هذا السنة مات السلطان المنصور ويقال له الصالح حاجي ابن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر وكان مقيماً بالدور السلطانية في قلعة الجبل منذ خلعه الظاهر في الثانية من سنة اثنتين وتسعين إلى أن مات في تاسع عشرة شوال بعد أن تعطلت حركة يديه ورجليه منذ سنين وعاش أزيد من أربعين سنة، قال العينتابي: كان شديد البأس على جواريه لسوء خلقه من غلبة السوداء ولم يزل مشغولاً باللهو والسكر.
وفيها قتل من الظاهرية مأتي أمير وخاصكي وجمدار وغيرهما نحو من سبعمائة رجل، أراد
الناصر بإزالتهم توطيد ملكه فانعكس الأمر وكان قتلهم في الحقيقة من أعظم الأسباب في توطيد ملك الملك المؤيد فسبحان من بيده الملك.
وفيها قتل الأمير تمراز الناصري الذي ولى نيابة السلطنة بالقاهرة قتل بالإسكندرية، وكان لا بأس به، وكان من خواص برقوق، وأمر أربعين في زمانه، ثم أمر تقدمة في سنة اثنتين وثمانمائة، ثم ثيابه الغيبة في فتنة اللنك ثم ولي نيابة السلطنة في سنة تسع وثمانمائة وناب في الغيبة في سنة اثنتي عشرة ثم قبض عليه في أوائل هذه السنة وسجن بدمياط ثم بالإسكندرية ثم قتل في عيد الأضحى، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويعتقد في الصالحين، وكان تركياً خالصاً حسن الصورة.
وفيها قتل خايربك وكان قد ناب في غزة وأعطى تقدمة. وفيها قتل يشبك الموساوي الأمير وكان أعطى تقدمة ثم ولى نيابة طرابلس وكان نائب غزة مدة طويلة، قال العينتابي: ظلم أهلها ظلماً فاحشاً وكان أفقم سبئ المعتقد رديء المذهب متجاهراً باللواط، قتل بالإسكندرية أيضاً. وفيها ناب الأمير جانم، كان قد أعطى تقدمة وناب في غزة وفي حماة وفي طرابلس، قال العينتابي: لم يشتهر عنه إلا كل شر، والأمير قزدمر الحسني كان أعطى تقدمة وتولى خازنداراً كبيراً ولم يكن به بأس - قاله العينتابي: وقنباي وأقبغا القديدي المعروف بدويدار يشبك كان مقدما عند يشبك ثم استقر عند الناصر دويدار صغيراً وأمره عشرة، وكانت له وجاهة ومعرفة ويقتدى برأيه في كثير من الأمور، قال العينتابي: كان يدعي الحكمة ووفور العقل مع خبث ومكر وحب لجمع المال ولم يشتهر عنه خير قط وحصل في أيام يشبك مالاً جماً، ثم لم يزل في ازدياد إلى أن مات في ليلة الخميس ثالث عشر شوال، وخلف شيئاً كثيراً تمول بعده منه جماعة واستولى السلطان على غالبه.
وفي رجب رجم رجل تركماني بدمشق اعترف بالزنا وهو محصن وذلك بدمشق فكتف تحت القلعة وأقعد في حفرة فرجم حتى مات. وفيها مات علي بن محمد الأخميمي فكان يدعي أنه شريف وأصله بغدادي وقد ولى الوزارة وشد الدواوين وغير ذلك -.
وفيها مات فيروز الطواشي وكان قد تقدم عند الناصر ومات في رجب، وكان شرع في مدرسة واشترى لها مكاناً بالغرابليين ليبني به ربعا وغيره فمات قبل الفراغ، فأقر الناصر وقفه ونقله من المدرسة إلى التربة وأضاف الوقف كله إلى مدرسته، فأخذ دمرداش العمارة بإنعام الناصر وشرع فيها ثم فجئه السفر، ثم آل أمرها إلى أن اشتراها زين الدين عبد الباسط في الدولة المؤيدية واسمها قيسارية وربعا فأتقن ذلك غاية الإتقان، وذلك في سنة 823 فما بعدها.
وفيها قتل سلمان - بضم السين المهملة - ابن أبي يزيد صاحب برضا وغيرها من بلاد الروم، واستولى على مملكته أخوه موسى بعد حروب وقعت بينهما.
وفي هذه السنة في ربيع الآخر قبض على أحمد بن جمال الدين وعلى أحمد وحمزة ابني أخت جمال الدين وعلى شمس الدين وناصر الدين أخوي جمال الدين فصودروا وعوقبوا إلى أن مات في العذاب ناصر الدين وقتل الأحمدان وحمزة خنقاً.
وفي ربيع الآخر وصلت طائفة من الجنوية إلى الإسكندرية فوجدوا طائفة من الكسلان فقاتلوهم، فخاف منهم أهل الإسكندرية وأغلقوا الأبواب، وبلغت عدة القتلى ألفي نفس، وأسر الكسلان من الجنويين رجلاً يقال له النساوي فأرسلوه إلى الناصر فألزمه بمائة
ألف دينار فذكر أن ماله تحت حوطة الجنويين فقبض على تجارهم بالإسكندرية، فغضبوا وساروا بمراكبهم إلى الطينة فسبوا نساء وصبيانا وكانت بينهم وقعة كبيرة، فخرج طائفة من أهل دمياط لنجدتهم وكبيرهم محيي الدين ابن النحاس وكان ملازماً للجهاد بثغر دمياط، وفيه فضيلة تامة، وجمع كتاباً حافلا في أحوال الجهاد، فقتل في المعركة مقبلاً غير مدبر، وغنم الفرنج من أهل الطينة مالاً كثيراً ثم مضوا.
وفي ذي القعدة في ثاني عشر منه نازل الفرنج الطينة أيضاً في أربعة أغربة، فقاتلهم المسلمون قتالاً عظيماً إلى الليل، فمضى الفرنج إلى الساحل القديم فنهبوا ما وجدوا فيه ورجعوا من الغد إلى القتال، فقدم في الحال غراب للمسلمين فاحتاط به الفرنج، فألقى من فيه من المسلمين أنفسهم إلى البحر فنجوا إلى البر بالسباحة، ثم وافى أناس من دمياط مقاتلة فتكاثر المسلمون على الفرنج واستنقذوا منهم الغراب المذكور بعد قتال شديد فانهزم الفرنج وقد قتل بعضهم - والحمد لله.
وفي جمادى الأولى أمر السلطان بهدم مدرسة الأشرف شعبان ابن حسين التي على باب القلعة وجد الهدم فيها وكانت من أعظم الأبنية، وكان جمال الدين قد اشترى من أولاد الأشرف كثيراً من الآلات التي بنيت بها لأن الأشرف مات قبل أن تكمل فبسط يده في تحويل بابها فأخذ الشبابيك والأبواب والبوابة وكثير من الحجارة حتى الكتب الموقوفة فاستعان بالجميع في مدرسته،
ثم جاء الناصر في هذه السنة فعكره مكان بقعتها، لأن المتغلبين صاروا يستعينون بها على حصار القلعة بالنزول فيها فهدمها، فصارت رابية عالية، وحول ما ينتفع به من حجارتها وأخشابها إلى الأمكنة التي يريدها، فبقيت كذلك إلى أواخر دولة المؤيد، فأمر بعمارتها مارستانا وسكن به بعض المرضى، ومات المؤيد فحولوه بعده جامعاً ومنزلاً للواردين، وأمر في هذا الشهر أيضاً بهدم الدور الملاصقة لصور القلعة تحت الطبلخاناة وغيرها، فهدمت من ثم باب القرافة وتشتت سكانها.
وفيه ختم على جميع الحواصل التي يظن أن بها فلوسا بالقاهرة، وندب الناصر لذلك أحمد بن الطبلاوي والي القاهرة قبل قتله ومجد الدين سالم بن سالم قاضي الحنابلة ففتحا حواصل الناس ونقلا ما فيها من الفلوس وأعطيا لكل واحد ثمن فلوسه ذهبا في كل قفة ثلاث ناصرية وكان قيمتها يومئذ ثلاثة وثمن، فجمع منها شيء كثير، فكان ذلك هو السبب في مناداته عليها في كل رطل باثني عشر درهما! كما تقدم، ويقال إن الذي أخبره برخص الفلوس وإن قيمتها قبل ذلك كانت تقتضي أن يكون كل رطل بعشرين درهماً الشيخ سراج الدين البهادري أحد الأطباء، فجره إلى ذلك الطمع الكامن في نفسه قبل ذلك إلى أن نادى عليها باثني عشر، فلم يمش له ذلك إلا بالمشقة فترك بعد أن حصل من البلاد ما حصل.
وفيها كانت بين الحجاج من أهل دمشق وبين العرب بناحية زيزا محاربة، فجرح أمير الحاج ومات من تلك الجراحة.
وفيها مات صاحب الهند غياث الدين أبو المظفر أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين صاحب بنكاله.
وفيها قتل وزيره يحيى بن عرب شاه ويلقب جان جهان. وفيها مات مرجان زمام الملك الأشرف ثم الناصر صاحبا اليمن وقد ولي إمرة زبيد.
وفيها قتل وبير بن نخبار بن محمد عقيل بن راجح بن إدريس ابن حسن بن قتادة الحسني أمير ينبع، وليها أزيد من عشرين سنة وقتل أخوه مقبل وابنه على قتلى كثيرة ممن اتهموهم بقتله لأنه قتل غيلة، واستقر في إمرة ينبع بعده أخوه مقبل منفرداً، واستمر إلى أن خلع بعده بضع عشرة سنة، واستقر عقيل ابن وبير مكانه كما سيأتي.
وفيها كان السعيد محمد بن أبي فارس بن عبد العزيز بن أبي سالم إبراهيم المريني يحاصر فأس وبها أبو سعيد بن أحمد بن أبي سالم، فهزمه أهل فأس بعد شهرين وذلك في صفر منها ووقع الإفساد في الزروع وقوى القوى على الضعيف واشتد الغلاء وكان الأردب عندهم بربع دينار فارتفع بعد ذلك أضعاف مضاعفة، ثم رجع السعيد إلى حصار فأس وقد انتهبت الأعمال والنواحي في ربيع الآخر وحصرها نحواً من عشرين يوماً ثم هزموه فتوجه إلى سلا ثم جمع عسكراً ورجع في شعبان وحصر البلاد وبنى مقابلها مدينة سماها المنصورة وانقضت السنة وهو على ذلك تم ملك البلد، ثم قام عليه عبد الواحد بن أبي حمو واسمه موسى، وفر السعيد إلى تونس فهلك ببلد العناب، وطالت مدة عبد الواحد وسنذكر أمره في سنة سبع وعشرين